ولدي ألا تعود

وماذا يهمني من أمره ما دمت أنت لي ويداك الصغيرتان تعرفان طريقهما إلى وجهي ولسانك المضطرب الصغير يعرف طريقه إلى قلبي.

ولدي، لماذا يا ولدي؟ لماذا، أنت كل شيء في حياتي، وليس في حياتي معنًى أعيش له وبه إلا أنت، أنت كذلك منذ عرفتك، ومنذ عرفت أنت الحياة؛ فقد جئت إليَّ يا بني وأنا أضيق بحياتي مع أبيك؛ فقد تزوجته على غير رغبة مني، أنت تعلم ذلك؛ نعم تعلمه، لقد أخبرتك بقصة زواجي من أبيك، نعم وكنت تضيق بها وأرى ضيقك في عينَيك كلما أعدت عليك القصة، ولكن لماذا تضيق؟ ولمن أقول إن لم أقل لك؟ وعلى من أُعيد قولي إن لم أعده عليك؟ حملتك تسعة أشهر وحملت عبئك اثنين وعشرين عامًا وخمسة أشهر، ألا تحتمل أنت في مقابل هذا الكثير الذي بذلته وأبذله لك أن تستمع إليَّ أكرر قصة يريحني أن أكررها.

أخبرني بربك، أكنت تضيق بهذه القصة لو كانت ميرفت هي التي ترويها لك وتكرر روايتها، لا أظن. قد رأيتك وهي جالسة أمامك تتحدث — وعلى فكرة — هي لا تجيد الحديث، ورأيتك أنت تستمع لحديثها بعينَيك ووجهك وكل ومضة في جبينك، وكل ابتسامة على فمك، لكم كرهت ميرفت وهي ابنة أختي، بل لكم كرهت أختي، لماذا تنال منك ما لا أستطيع أن أنال؟ أنا التي لم أعرف حياتي إلا يوم عرفتك، والتي لا أعرف لحياتي معنًى إلا بك؛ فقد تزوجت أباك كما قلت لك وأنا لا أحبه؛ فقد كان أبي يعمل في وزارة المالية وكان يتوق إلى زواجي بأي إنسان. فكان أباك. كان زميلًا له في المكتب وقد رُقِّي بعد عامين رئيسًا لأبي وقد كان أبي يكبره بسنوات وسنوات، وكانت حجة الحكومة في تعيين أبيك رئيسًا لأبي حجة عجيبة تدعو للدهشة؛ فقد قيل يومذاك إن أباك حاصل على الشهادة العالية في حين لم يكن أبي حاصلًا إلا على الابتدائية، ولعل هذا كان صحيحًا ولكن الحكومة نسيت في ذلك الحين أن الابتدائية التي حصل عليها أهم بكثير من الشهادات العالية مهما تكن عالية. ولكن الحكومة أرادت أن أتزوج من أبيك فجعلته رئيسًا له.

وفي يوم اجتمع أبي وأمي ليجهزا لزواج أختي — خالتك — وكان أبي يرى أن الظروف المالية تقتضي أن يقتصر الزواج على الزواج وحده بغير شيء حوله، ولكن أمي وقد كانت قوية الحجة بارعة في التأثير على أبي أصرَّت على الفرح. وما أقرب الحجة إليها! أول فرح يدخل بيتي، أول ابنة نزوجها، إن لم نفرح بها ولها فبمن نفرح ولمن؟ وتقرر الفرح، وتقرر معه أن نشتري فساتين جديدة لي ولأمي، واشتريت الفستان، كنت أفكر في هذا الفستان كثيرًا قبل موعد الفرح، حتى إنني لم أكن محتاجة للبحث حين أخذت أمي ثمن الملابس من أبي. كنت أعرف المكان وأعرف ما أريد، واشتريته. يا ليتك رأيتني يومذاك. لا تقل ميرفت ولا غير ميرفت.

جمال طبيعي لا يحتاج إلى يد تصنعه، شعر مرسل وعينان واسعتان وفم صغير أحمر، ودماء في وجنتي تزري بأحمر هذه الأيام الباهت، وشباب وفرح. جمال لم تعرفوه أنتم يا أبناء هذه الأيام. حتى إنني — وهذا سر بيننا — خشيت أن تغار مني أختي وهي العروس، بل إنه يخيل إليَّ — وهذا أيضًا بيننا — أنها فعلًا كانت تغار مني؛ فكنت أختفي عن عينَيها كلما تلاقينا أثناء الفرح. ولكن ماذا كان بيدي أن أفعل؟ كانت العيون جميعها مصوَّبة إليَّ لا تريد أن ترتفع عني، حتى لقد كنت أريد أن أقول للناس. عيب بصُّوا للعروس فلست أنا العروس، ولكن كنت واثقة أنني مهما أقل لهم فلن يفيد قولي شيئًا. كانوا يا حسن يا ابني مشدودين إليَّ بعيونهم كأنما هو السحر. كلام بيننا، كنت فرحة بهذا الاهتمام، وكنت زعلانة في الوقت نفسه أن تغضب خالتك، ولكن ما يهم. لقد كانت آخر ليلة لها معي؛ فقد كانت في طريقها إلى بيت زوجها. وكنت أحسب في ذلك اليوم أنه ليس في العالم شخص يستحق هذا الجمال الذي كنت عليه.

كان أبوك طبعًا ضمن المدعوين. ورآني في ذلك اليوم؛ الفستان الجديد في لونه الزاهي الخاطف للعيون، والشباب يملأ الحياة من حولي، والعيون كأنما هي جزء من تفصيلة الفستان لا تنفصل عنه. أحبني، لم أحس به في ذلك اليوم. إلا أنني اضطررت أن أقدم إليه الشربات تنفيذًا لأوامر والدي، وكان شكله، ماذا أقول؟ أخاف أن أقول لك إنه لم يكن جميلًا فتظن أن ذلك ليس صحيحًا، أو أنني أقوله لأنه هجرني قبل موته، ولكن هذه هي الحقيقة. لم يكن جميلًا — أعجبك قولي أم لم يعجبك — فأنت دائمًا تغضب كلما ذكرت أباك بما لا يرضي حبك له، قل لي، لماذا تحبه؟ النهاية، أنت دائمًا ناكر للجميل، وهل أدلُّ على ذلك من تركك لي الآن؟ لم أحب أباك في النظرة الأولى. وقد كانت الطامة الكبرى حين جاء أبي في اليوم التالي وهو لا يستطيع أن يتمالك نفسه من الفرح وأخبرني أن أباك خطبني. لم يكن رفضي ذا قيمة. وتزوجت أباك. ولم أعرف الفرح في يوم فرحي ولم أعرفه في الأيام التالية. كنت أعتقد أنني أستحق من هو خير من أبيك، أعلم أنك ستقول في نفسك الآن كما كنت تقول دائمًا، ليس هناك خير من أبي. نعم كنت دائمًا تقاطعني بهذه الجملة التقليدية كلما بلغت من حكايتي إلى هذا الموضع. ولكن ماذا يهم رأيك؟ إن رأيي أنا هو المهم، أنا التي عاشرته وتزوجته فلم أرَ منه يومًا أحكي عنه. لم يقل يومًا كلمة تشرح قلبي، أُجمِّل نفسي ما وسعني الجهد فلا يقول إلا كلمة عابرة، أنت حلوة من غير تجميل، ويسكت أو يتكلم في موضوعات أخرى. كنت أرى جمالي في المرآة ولا أجد منه ما يؤكد رأيي في نفسي. ولكن حين كان يجد تقصيرًا مني في شئون البيت كان يغضب كل الغضب، ويتهمني بأني لا أهتم بغير جمالي، ولو كان يفهم — لا تغضب — لعلم أن جمالي هذا شيء عظيم يستحق كل ما كنت أبذله للمحافظة عليه. كانت حياتي جحيمًا حتى جئت أنت، فعرفت الحياة يوم جئت أنت. كم كنت أحبك وكم أحبك! أذكرك ويداك الصغيرتان على وجهي ولسانك يشوِّه الحروف ويجمِّلها وتقول في براءة: «أنت حلوة، حلوة حلوة يا ماما.» كنت حياتي. حتى لم يعد يهمني غضب أبيك في كثير أو قليل. وماذا يهمني من أمره ما دمت أنت لي ويداك الصغيرتان تعرفان طريقهما إلى وجهي ولسانك المضطرب الصغير يعرف طريقه إلى قلبي، أفرغت فيك حبي جميعًا، حبي كله، حب الطفولة في أحلامها الباكرة الغريرة وحب الشباب في أوهامه المجنونة، وحب الماضي الذي ادَّخرته ولم أجد من أقدمه له، وحب المستقبل الذي كنت أفكر فيه فترتاح نفسي من ضوضاء أبيك وشجاره. وأردتك لي، لي وحدي لا يشاركني فيك أحد. كم كنت أحسد مريم العذراء لأنها أنجبت المسيح بغير أب، وكم كنت أرجو في وهمي — وأنت بين يدي ووجهي بين يديك — لو كنت مثل المسيح بلا أب أنت أيضًا!

وحين ذهبت إلى المدرسة، كان أبوك يريد أن تذهب ماشيًا، شأنك شأن الطلبة جميعًا، ولكني رفضت وأصررت على أن تأتي إليك عربة كل يوم لتذهب بك إلى المدرسة. وجاءت العربة. وجئتني تبكي لأمنع العربة وأجعلك مثل إخوانك لأنهم يسخرون منك ومن هذه العربة، ولكني كنت أعلم أنك صغير لا تعرف مصلحة نفسك، نعم لم أقبل رجاءك في هذا اليوم؛ فقد كنت أخشى عليك عوادي الطريق. وكان لا بد لي أن أكون أنا عقلك ما دمت لم تعد بعدُ ذا عقل يعرف الخير لك. وكان هذا السبب نفسه هو الذي جعلني أرفض أن تخرج في رحلات مع الطلبة، كيف كان يمكن أن أتركك إلى حيث لا أدرى؟ لقد ذهبت إلى المدرسة لأني لم أكن أستطيع أن أمنعك عنها، أما أن تذهب إلى الرحلات أيضًا، فهذا ما لم أكن أستطيع أن أقبله مهما تكن الدموع التي تسيل منك غزيرة كبيرة.

اسمع يا حسن لقد كان أبوك يغار منك ولهذا كان يريدك أن تبتعد عني ما وسعه الجهد، لهذا كان يريدك أن تذهب إلى الرحلات، ولهذا كان يريدك أن تخرج لتلعب مع من كان يسميهم أصدقاءك؛ ولهذا كان يحاول أن يوقع بيني وبينك حين نذهب لنشتري ملابس فكان يريدك أنت أن تختار ويمنعني أنا أن أختار لك؛ فقد كان لا بدَّ لي أن أكون أنا ذوقك ما دمت لم تعد ذا ذوق يعرف الجميل اللائق بك.

ولما أعيت أباك الحيل تركني. نعم تركني لأني كنت أحبك ولم أكن أحبه. ولما تزوج هذه المرأة التي تزوجها أراد أن يغيظني ولكن ماذا يهمني من أمره ما دمت أنت قد بقيت لي.

وظللت طوال أيام دراستك، أنا التي أعد لك مأكلك وأنا التي أشتري لك ملابسك وأنا التي أختارها — وأنت تعرف ذوقي — وأنا التي لا أتركك وحدك أبدًا حتى في المذاكرة. نعم، لم أكن أقبل أن تذهب إلى أحد لتذاكر معه. وحتى حين كان أصدقاؤك يأتون إليك ليذاكروا معك كنت أحاول أن أكون معكم طول الوقت، ولا أدري لماذا كفَّ أصدقاؤك في الأيام الأخيرة من دراستك أن يحضروا إلى البيت؟ الشيء الوحيد الذي لم أستطع أن أثنيك عنه هو إصرارك على الدخول إلى الجامعة في حين كنت أنا قد أعددت لك وظيفة بالبكالوريا ساعدتني على تهيئتها لك صديقة العمر تفيدة، ولكنك أصررت وكنت أعلم أنك ستدخل إلى الجامعة سواء رضيت أنا أو لم أرضَ؛ فأبوك في ذلك الحين كان قد مات وأصبح المجلس الحسبي هو أبوك الجديد، وكنت أعلم أن أباك هذا الجديد سيؤيدك فيما تريد فقبلت على مضض، ولكن لعلك اليوم ترى أنني كنت على صواب؛ فلو كنت قبلت الوظيفة لكنت اليوم متزوجًا من زهيرة ابنة تفيدة، وكنت موظفًا مهمًّا، ولكنك ركبت رأسك فسكت، وتزوجت زهيرة؛ الفتاة الوحيدة التي كنت أحب أن تتزوجها، فهي مثلك ربيتها على يدي، وكنت تقول إنها لا تعجبك ولكني كنت واثقة أنك ستقبل الزواج بها أخيرًا.

المهم، ما فات فات فقد دخلت إلى الجامعة وحصلت على ليسانس الآداب كما كنت تحب، ولكني رأيت منك بعد ذلك عجبًا؛ فأنت تحب أن تخرج من البيت وتحب أن تذهب إلى بيت خالتك، وأتممت المصيبة بأن طلبت مني أن أخطب لك ميرفت ابنة خالتك. أتظن أنني أرضى لك هذا؟ قلت لك لا، ورحت أبحث، ولكنك فجأة ودون أن أعرف سببًا تركت البيت ولم تعد، لماذا؟

ماذا فعلت أنا حتى تتركني؟ أي أم في العالم كانت تفعل لابنها ما فعلته أنا لك. لقد حملت عنك عبء الحياة جميعًا، ولو كان في استطاعتي أن أذاكر بدلًا منك لذاكرت عنك، ولكنك كأبيك تجحد المعروف وتنكر ما حباك الله به من نِعم، فلو كان يعلم أي زوجة يضمها بيته ما ترك بيته وتزوج غيري، ولو كنت تعلم أي أم متفانية أنا لما فعلت ما فعلت. ماذا فعلت لك حتى تتركني، ماذا فعلت؟ أمن أجل ميرفت؟ لا أظن. فأنا أعلم أن أمها لن تقبل أن تزوجك بها إلا إذا وافقت أنا، وأنا لن أوافق، بل إن أمها حين علمت برفضي أقسمت ألا تزوجها لك على أية حال، فما دام الأمل في زواجك منها قد انقطع فلماذا تتركني؟ ومن يرعى شأنك اليوم؟ من يختار لك ملابسك في الصباح؟ ومن التي تستطيع أن تعرف أي لون من أربطة الرقبة يتفق مع الحُلة التي ترتديها؟ بل من سيشتري ملابسك؟ ومن سيعد طعامك ويصنع لك من الأصناف ما تحب، ومَن؟ ومَن؟ ولدي عد إليَّ، فأنا وحدي في هذا العالم أنا التي لا ترى العالم إلا أنت، حسن، هل تعود؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤