عودًا إليك يا أبي

لقد كنت هناك في الحانة ولكن أصحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبَيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟

اليوم أبي، اليوم فقط أستطيع أن أجثو عند قدميك أسألك العفو والغفران، عفوًا وإن لم أرتكب ذنبًا، ولكني بحسبي من الذنب أنك غاضب، وبحسبي من الأيام سوادًا أن ألقاها وأنت عني غير راضٍ، سنوات يا أبي منذ تركتك، لم تغب عن ذهني لحظة، كنت أتمثَّلك في كل طريق أروده؛ فأنت الأصل الذي كنت أسعى إليه، لا شيء إلا أنت، أنت وحدك يا أبي، فما أطيق — وحقك — الحياة بغير تلك البسمة التي تشرق على وجهك وتشرق لنا بها الأيام والأزمان والآمال والمستقبل. لا أطيق.

تركتك لأضرب في الأرض فكانت ابتسامتك هذه أملي أراها أينما أدرت وجهي، لقد كانت قطعةً من نفسي، بل لقد كانت أغلى قطعة في نفسي، أبي إن أكن أصبت في الحياة نُجحًا؛ فلأنني كنت أطالع هذه الابتسامة دائمًا، كنت أراها عند الشدة الآخذة فينفرج من الأزمة ما كان مستحكمًا، وكنت أراها عند النصر فيزداد النصر عظمة وأزداد أنا تواضعًا، كانت ابتسامتك المصباح في الظلام وكانت عند الفجر مجلاه وإشراقته.

أبي أتراك تذكُر كم من الأعوام مرت لم ترني فيها؟ بل إنني حتى الآن لم أكتب إليك، عشرة أعوام كاملة، وقد قصدت أن أكتب إليك اليوم لأنني أحتفل اليوم بعيد مولدي، لقد وُلدت في نفس اليوم الذي غضبت مني فيه وطردتني، فأردت يا أبي أن أكتب هذا في نفس اليوم، يوم مولدي، فإنه يخيَّل إليَّ أنني وُلدت في هذا اليوم مرتين، مرة يوم التقيت بالحياة وعطفك يحيط بي، ومرة يوم التقيت بالحياة وحدي بلا عون حين طردتني.

أبي أتظنني غضبت أن طردتني، أتظن أنني انقطعت عنك طوال هذه المدة لم أعتذر ولم آتِ ولم أجثُ عند قدميك لأنني ذو كرامة؟ لا وحقك، فإنني عندك أنت لا كرامة لي، فأنا أعلم أن حبك يرعى من كرامتي ما لا أرعاه. لم يكن انقطاعي لشيء من هذا، وإنما لشيء آخر ستعرفه في نهاية هذا الكتاب.

أبي أتذكر يوم طردتني، نعم يا أبي، إنك تذكر ولكنك لم تعرف الحقيقة حتى اليوم ولم أشأ أن أخبرك بها؛ فقد كنت أخشى ألا تصدقني، وقد كنت وما زلت أحبك حبًّا يمنعني أن أخالف إشارة منك مهما تكن هذه الإشارة صادرة عن ظن لم يثبت، أو اعتقاد لم يتأكد. كنت وما زلت لا أجد لكلمة تصدر منك إلا الطاعة فأطعت، وخرجت، ومرت عشر سنوات. أما أنا فلم أكتب إليك لفكرة تسلَّطت على ذهني وألحَّت عليه وملكت عليَّ كل أمري، وأمَّا أنت فلم تسأل عن ولدك لأنك كنت تعرف من أمره كل شيء، وكنت تطمئن على حياته دون أن تظهر له ذلك.

نعم يا أبي، لقد كنت أعلم أنك واقف على كل خطوة في حياتي لا تخفى عنك خافية، وقد كنت أبيح لمن أعرف أنه يلقاك أن يعرف من أمري كل شيء.

أبي، أتراني جاحدًا لأني انقطعت عنك طوال هذه الفترة، أبي، أتراني ظالمًا لحق الأبوَّة إن لم أقصد إليك هذه السنوات جميعها، أتراني أبي كذلك؟ لا، وحقك لم أكن.

أبي، طوال عشر سنوات كنت أراك في كل أسبوع مرة أو مرتين أو ثلاثة، كنت يا أبي أتخفَّى وراء الجدران في مواعيد خروجك من المنزل وأطمئن وأترقبك وأزوِّد نفسي بمُحياك ثم أعود إلى الحياة وحدي، ولقد مرضت يا أبي فكنت أرسل إلى عمي زيدان خادمك الذي تولَّى أمري بعد وفاة أمي، كنت أرسل إليه وأنا خارج الدار أعرف دقائق مرضك، وأنصرف بعد أن أستحلفه بأغلظ الأيمان ألا يخبرك بمقدمي، نعم يا أبي، أدري أنك كنت تتمنى في لحظات مرضك هذا أن تراني، ولكن هذه الفكرة التي تسلطت على ذهني ووجداني منعتني أن أفعل، منعتني أن أنتهز فرصة مرضك لأستمنحك الرضا وأسألك الغفران، تذكُر يا أبي أنك طردتني في اليوم ذاته الذي ظهرت فيه نتيجة الليسانس وكنت ناجحًا بتفوق، طردتني يومذاك وأنا عائد إلى المنزل في الهزيع الأخير من الليل، رأيتني قبل عودتك أجلس إلى مائدة في حانة أشرب الخمر، وأنت رجل يخاف الله، وأغضبك أن يشرب الخمر ابنك الذي تعرفه يقيم الصلاة في مواقيتها، كبر في نفسك أن يخادعك ولدك فيصلي في البيت ويشرب الخمر في الحانة. أعرف أن فكرة مخادعتي هذه هي التي أثارتك، أعلم ولكن …

أبي وحياتك لم أشرب الخمر، لم أشربها يومذاك ولم أشربها حتى اليوم، ولكن أكنت تصدقني حينئذٍ لو دفعت التهمة عن نفسي، لقد رأيتني رأي العين فكيف ينهض إنكاري دون رؤيتك.

لقد كنت هناك في الحانة ولكن صحابي هم الشاربون وكنت جليسهم، أصدقاء الدراسة وأرادوا أن يحتفلوا بنجاحهم بالشراب وأبَيت أن أشاركهم، ورأيتني فماذا أقول لك وماذا أصنع؟

طردتني يومذاك وأعلم أنك كنت تُقدِّر أنني سأغيب عن البيت بضعة أيام أعود بعدها، وإلا فأين أولِّي وجهي وأنا خريج جديد بلا مال ولا مأوى ولا وظيفة، كان تقديرك معقولًا حكيمًا، وقد أردتني أن أحس سوء الذنب الذي ظننت أنني ارتكبته، ذنب المخادعة ولكنك حين طردتني يا أبي أردت أن أثبت لك حبي كاملًا خالصًا عميقًا متينًا فكانت هذه الفترة الطويلة التي لم ترني فيها.

كان في جيبي تلك الليلة خمسة جنيهات هي كل مالي، قضيت الليل سائرًا وكان الصيف عطوفًا حانيًا فلم أكن في حاجة إلى مكان أبيت فيه، قضيت الليلة مع أريكة في حديقة، عجيبة، نعم أنا ابنك الذي كنت ترعاه رعاية مرهفة مدللة، ابنك الذي كانت له حجرة خاصة منذ لا يذكر متى، والذي كان يسعى بين يديه الخدم، ابنك هذا قضى ليلته مع أريكة في حديقة.

وفي الصباح الباكر قصدت صديقًا أبوه من كبار المحامين ورجوته أن يلحقني بمكتب أبيه، ورحب بي المحامي الكبير وجعل لي راتبًا ظنه هو رمزيًّا، واعتبرته أنا حياتي التي لا حياة لي إلا به.

كان مرتبي عشرة جنيهات في الشهر، وعملت. عملت بكل جهدي وبكل ضميري وبكل إحساسي، وأشهد يا أبي أنك نشَّأتني فأحسنت، فكان العمل عندي واجبًا مقدسًا، لا أتخلف عن أقل دقائقه شأنًا، وقرأت وتأملت القضايا وكنت أطالب بالمزيد منها، فما مرَّ عامان حتى كان اسمي معروفًا لدى المحاكم، وحتى كان مرتبي ثلاثين جنيهًا، ولكني رجوت أستاذي أن يسمح لي بتركه لأفتح مكتبي الجديد، وفتحته وثابرت واجتهدت وقرأت اسمي يا أبي في الجرائد مرات عديدة؛ فقد أصبح الناس يعتبرونني من أحسن المحامين. وأنني أملك اليوم ثروة تغنيني إلى المدى الطويل، وأنا ما أزال في بواكير الشباب الأولى، وأني أحب عملي ولا أتركه.

لهذا يا أبي أجدني خليقًا بأن أجثو عند قدميك أطلب الصفح والغفران فهل تراك تصفح؟ كنت أعيش هذه السنوات مع كفاح، لا أمل لي إلا في هذه اللحظة التي أنا فيها الآن؛ أن أراك تقرأ خطابي الذي كتبته وقدمته لك بيدي وأنا راكع عند قدميك حتى تقيني بيديك.

أبي أردت أن أقصد إلى رحابك وأنا غني من المال قادر على مواجهة الدنيا لا أحتاج من كريم يديك إلا لمسة الأب، وإلا هذه الابتسامة التي شققت بها وإليها طريقي.

إن هذا الخطاب الذي بين يديك قديم، وُلد في ذهني وفي قلبي يوم طردتني، وما زلت أكتبه كل يوم وأعيد كتابته، فهو أملي.

لم يكن أملي منذ ذلك اليوم أن أنجح، لا ولا أن أكون غنيًّا، لا ولا أن أصبح بين المشاهير، وإنما كان أملي أن أركع في مكاني هذا عند قدميك وأنا غني ناجح مشهور لا ألتمس منك إلا الصفح والرضا والأبوة، وإنها لكثير.

أردت أن أعوذ بك أنت لا أن أعوذ بمالك، وأردت أن ألجأ إليك، إليك أنت لا إلى بيتك، أردت أن أطلب صفحك ورضاك وأنا في غنًى عن الحاجة المادية، فأنا أحبك حبًّا ما كنت لتدريه لولا هذه السنوات، كيف كنت تدري مدى حبي لك إن لم ترني مرتميًا عند أعتابك أطلب حبك في غنًى عن مالك.

حرمت نفسي منك عشر سنوات وحرمتك مني هذا السنوات من أجل هذه اللحظة، أبي إني أرى هذه اللحظة تعدل العمر جميعه، ألا تراها أنت كذلك؟

فكرة — أهي مجنونة أم حكيمة؟ — لا أدري، وإنما سيطرت عليَّ منذ طردتني، أقسمت ألا أعود إليك إلا بعد أن أستطيع القيام بأمر نفسي ولا أطلب الصفح إلا من أجل رضاك وحبك.

إن تكن صفحت يا أبي عن هذه السنوات التي حرمتك مني، وإن تكن راضيًا فمد يديك أقبِّلها وضمني إليك، وإن لم فدعني إذن في مكاني حتى ترضى، فما أحب أن أظل عمري جميعه في مكاني هذا منك وأنت في مكانك هذا مني.

•••

وبيد بللتها الدموع أقام الأب ولده، وبقلب يفيض بالشوق ارتمى الفتى على يد أبيه يقبِّلها ويضمها، ذخره وحياته وأمله وأبوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤