حيرة

وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسًا إلى فهيمة ويمتِّع عينيه بفهيمة التي طالما أُعجب بها وطالما تمنى أن تكون زوجته.

استيقظت نفيسة مع الفجر وراحت تسخِّن العيش وتُعدُّ الفطور لزوجها صميدة ثم قصدت إليه فوكزته فتقلَّب في فراشه بين اليقظة والنوم فما هي إلا الوكزة الثانية كان صاحيًا يسأل: ما لك؟

– لا شيء. الشمس طلعت.

– وما شأني بها إن طلعت، هل أنا خفير على باب الشمس؟

– والله فايق على الصبح، قم، غيِّر ريقك واذهب إلى المكتب.

– المكتب؟

– نعم المكتب، أليس اليوم موعدك مع إسماعيل أفندي لترى حسابك؟

– آه، صحيح، ولكن إسماعيل أفندي لا يذهب إلى المكتب قبل الساعة العاشرة.

– وما البأس، انتظره حتى تأخذ حسابك قبل أن يجيء الفلاحون الآخرون ويعطلونك.

– يا ستي وماذا ورائي، وما البأس أن يعطلوني وهل سأذهب إلى المحكمة؟

– المحكمة، العفو، لا يا فالح لن تذهب إلى المحكمة ولكن ستذهب إلى البندر.

– البندر؟ ماذا أفعل في البندر؟

– ماذا جرى لعقلك؟ ألا تدري ماذا ستفعل في البندر؟ أنا أريد جلبابًا وملابس وبنتك تريد أن تُجهَّز، أنسيت؟ لقد واعدنا حسنين أننا سنزوجه منها بعد القطن مباشرة، وابنك علي لا بد أن يذهب للدكتور، لن يعيش إذا تركناه بهذا الحال.

– أمن أجل ضعف بسيط يذهب إلى الدكتور؟

– أهذا ضعف بسيط، الولد لا يستطيع أن يمشي خطوتين، وأنت في كل يوم تقول إنك ستأخذه إلى الدكتور بعد القطن، أجننت؟!

– هيه وماذا أيضًا؟

– وأنت تريد ملابس، الشتاء داخل علينا وليس عندك شيء يدفئك.

– والفلوس تكفي لكل هذا؟

– ولماذا لا تكفي؟ أم ترى يكفينا من الساقية نعبرها، تزرع أربعة أفدنة وتشقى طول السنة ثم لا تجد ما يكفي لهذه الأشياء البسيطة، تكفي، لا بدَّ أن تكفي الفلوس.

– وإن لم تكفِ ماذا أفعل بها، أرجعها لإسماعيل أفندي؟

– يا أخي قم وجعت قلبي على الصبح.

– وهل هذا صُبح؟

– ألا يعجبك؟

– أيعجبك أنتِ؟

– وما الذي لا يعجبك يا سي صميدة؟ ماذا تغير علينا؟ ألست أنا أنا نفيسة التي حفيت رِجلاك لتتزوج مني؟ أصبحت لا أُعجبك اليوم، والله عِشنا وشُفنا.

– أنا، أنا حفيت رجلاي؟

– لا أنا، أظن أنا التي خطبتك، هه، انطق.

– أعوذ بالله، يا شيخة اتقي الله، ألا تُكفِّين عن النكد أبدًا؟! ارحمي، ارحمي، أنا لحم ودم.

– والله أعلم لحم فقط، بلا دم، أين الدم عند أب لا يريد أن يعالج ابنه المريض.

– أعوذ بالله، أين السم الهاري؟

– على الطبلية، قم ألقِ حبة ماء على وجهك وتسمم وتوكل على الله.

– أتعرفين الله أنتِ؟

– الحمد لله، أصلي الفرض والسنة، وشريفة ونظيفة ولا يستطيع أحد أن يقول عني كلمة، أما أنت.

– نعم، مالي أنا؟

– ألا تعرف، الحشيش قاطع نفسك وكل يوم تجري وراء امرأة وذيلك نجس.

– وما شأن الحشيش بالدين؟

– اخرس، وأنت ماذا تفهم في الدين يا ضلالي، قُم، وخلِّ لها نهاية.

– وإن لم أخلِّ لها نهاية ماذا ستفعلين؟

– هه، سأترك لك المكان لتستريح.

وخرجت نفيسة من الحجرة وقال صميدة: غوري، امرأة نكدة، أهذا صباح يا عالم، الله يقطعك يا نفيسة ويقطع من أشار عليَّ بك، قال تملك فدانين، وصدَّقت، وكنت عبيطًا مجنونًا، الفدادين تملكها أمها، أم ممسكة حريصة، بلغت التسعين وترفض أن تموت، قال تملك فدانين صدَّقت، وحسبت الأم ستموت عن قريب ولكن الظاهر — والله أعلم — أننا جميعًا سنموت وستظل أمها بهانة على ظهر الدنيا تملك الفدانين وتخرج لنا لسانها ونحن في الآخرة.

وقبل أن يكمل دخل إلى الحجرة ابنه علي، ضعيفًا هزيلًا لا يكاد يُقيم مشيته. واستقبله الأب باشًّا أول الأمر ولكنه ما لبث أن قطَّبَ جبينه وأحس قلبه كأنما تعتصره يد شديدة البأس قوية: مالك يا علي؟

وصمت علي وعاد الأب يقول: لا والله يا ابني إنك مريض فعلًا، يا نفيسة. وجاءه صوت امرأته ثم ما لبثت أن تبعت صوتها إلى الحجرة: مالك، ماذا تريد؟

– جهِّزي علي، سآخذه إلى الدكتور اليوم.

– أزغرد لك.

– الولد مريض جدًّا.

– ألم أقل لك؟ إنه لا يأكل شيئًا مطلقًا.

– جهِّزيه.

وخرج صميدة إلى الطريق وما لبث ذهنه أن ترك مرض علي وفكَّر في زوجته هذه التي تأبى إلا أن تصبَّ عليه السخط في كل يوم، ثم عاد يفكر فيما ينتظره من حساب عند الكاتب، ماذا سيدفع لهذا الكاتب في عامه هذا، تُرى ماذا سيبقى له، إنه يزرع أربعة أفدنة إن بقي له أقل من مائة جنيه فلا شك أن الكاتب سرقه، مائة جنيه على الأقل، ماذا أفعل بالمائة جنيه؟ أولًا أهيَّص الليلة، أذهب إلى عبد الباقي أبو سليمان وأشتري نصف قرش، لا بل قرشًا، أنا لم أدخن قرشًا في حياتي أبدًا، سأدخن الليلة قرشًا، وسأمر بطبيعة الحال على فهيمة العضلة وسأجدها واقفة بباب بيتها كعادتها وقد شمرت عن ذراعين ينسكب عليهما ضوء المصباح فهما في لون العسل النحل ذي الشمع الصافي، ويلي من ذراعيها، لماذا لم أتزوجها، الفدانان، قطع الله من أشار عليَّ بها وبالفدانين.

كانت فهيمة أولى، جمال كجمال الصور في الجرائد، ترى هل الحور العين في الجنة سيَكنَّ في جمال فهيمة؟ وأنا من يوصلني إلى الجنة؟ أنا عاصٍ، أمن أجل الحشيش، إنما الخمر والميسر، الخمر، الخمر، وما صلة الخمر بالحشيش، كل مسكر خمر، كلام مشايخ، وهم ألا يشربون الحشيش، إنهم كالأطباء يحرِّمون الدخان ويشربون مائة سيجارة في اليوم، يهيَّأ لي أن المشايخ ضمنوا الدخول إلى الجنة فهم يفعلون ما يريدون، وما لهم لا يضمنون الدخول إليها وهم يرشدون الناس إلى الصراط المستقيم، أهم يرشدون؟

وقطع عليه تفكيره صوت فتوح البرموني وهو يقول له: صباح الخير يا صميدة.

– صباح الخير يا فتوح، هل جاء إسماعيل أفندي إلى المكتب؟

– نعم.

– أكنت هناك؟

– نعم.

– هل تحاسبت؟

– أنا غلطان يا صميدة.

– لماذا؟

– لأني قلت لك صباح الخير.

– لماذا، ماذا فعلت لك؟

– مائة سؤال، يا رجل حرام عليك، ألا تعرف كيف يكون الحال بعد الحساب؟

– آه، والله لك الحق، سلام عليكم.

– وعليكم السلام.

وفي عزمة القادم على الخطير من الأمر حثَّ صميدة أقدامه أن تُسرع فأسرعت ودخل إلى إسماعيل، وكأنه يهاجم قلعة عصية الأبواب وقال في زئير مضطرب بعض الشيء: السلام عليكم.

ونظر إليه إسماعيل أفندي طويلًا، طويلًا، وكلما طالت النظرة من إسماعيل خمدت الحدة من صميدة حتى إذا أجاب إسماعيل أفندي: وعليكم السلام.

في صوت يجمع إلى السخرية عدم المبالاة والهزء. كان صميدة وقد أصبح أقرب إلى الخوف منه إلى اعتدال المزاج أو الجرأة لا قدر الله.

فإن إسماعيل أفندي هذا على كل شيء قدير، وقال صميدة في صوت أصابه كثير من التخاذل: هل حسابي جاهز يا إسماعيل بك؟

وقال إسماعيل أفندي في صوته الساخر لا يزال: نعم يا خلف الحبايب.

وحاول صميدة أن يستمد من مزاح إسماعيل أفندي بعض الشجاعة فقال في صوت يتأرجح بين الرهبة والجرأة: تُشكر، كم بقي لي؟

وأمسك إسماعيل أفندي بدفتره الكبير وراح يردد: صميدة عبد التواب، صميدة عبد التواب، ها هو ذا يا سيدي، جملة ما له مليم خمسمائة وجنيه مائتان وستة عشر جنيهًا.

وحينئذ صفق قلب صميدة من الفرح، ثروة، إذن فسيدخن قرشين من الحشيش، قرشين وإن فقد الوعي بعدها سنة بأكملها.

وتابع إسماعيل قراءة الحساب: منه يا سيدي منه، منه، أربعون جنيهًا قسط شراء، وستة وستون جنيهًا وأربعمائة مليم إيجار، وأربعون جنيهًا وسبعون مليمًا كيماوي، وثمانية جنيهات خفر، وثمانية جنيهات رَي، وثمانية جنيهات مقابل استخدام آلات، وسبعة جنيهات مقابل إدارة: المجموع يا سيدي مائة وسبعون جنيهًا، وأربعمائة وسبعون مليمًا.

وسقط صميدة مشدوهًا هلعًا على الكرسي.

– ماذا!

ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي تابع حسابه: يكون مجموع ما بقي له يا سيد، تسعة وعشرون جنيهًا وثلاثون مليمًا.

وعاد صميدة يقول في لهفة: ماذا؟

ودون أن ينظر إليه إسماعيل أفندي قال: انتظر.

ثم أخذ يهمهم بالأرقام همهمة لا تكاد تفصح ثم قال: تمام تسعة وعشرون جنيهًا وثلاثون مليمًا.

– سنة أسود من الحبر يا أولاد، كم يا إسماعيل أفندي، كم؟

كشَّر إسماعيل أفندي عن أنيابه في غضبة مستأسدة: ما سمعت، إن كان هذا جميعه من أجل الجنيه الذي آخذه منك كل سنة فلا داعي له.

– وتريد جنيهًا أيضًا يا إسماعيل أفندي.

– أنت حر، وعلى كل حال السنوات القادمة أكثر من الفائتة، لا تغضب في السنة القادمة إن جعلت غيرك يقدم عليك في الري أو أخرت عنك الكيماوي أو إذا … وقاطعه صميدة: وتريد جنيهًا أيضًا يا إسماعيل أفندي.

وقال إسماعيل أفندي في جراءة وعدم مبالاة: يا أخي قلت لك أنت حر، قم، قم.

– أمرك يا إسماعيل أفندي، أمرك، خذ الجنيه يا إسماعيل أفندي.

– لا أبدًا، لا لزوم له.

– أنا غلطان يا إسماعيل أفندي.

– أبدًا، لماذا؟

– هات رأسك، أبوسها.

– لا، لا، أنا لست بزعلان، خذ، هذه هي نقودك.

– وهذا هو جنيهك، لا تكن غضبانَ يا إسماعيل أفندي، سلام عليكم.

وقال إسماعيل أفندي بلهجته الساخرة الهازئة: وعليكم السلام يا سيدي ورحمة الله وبركاته.

وخرج صميدة إلى الطريق، أهذه هي نتيجة الشقاء لمدة عام بأكمله، ماذا أفعل الآن، أظن الولد هو أهم شيء الآن، الولد، مسكين علي.

وقصد صميدة إلى بيته وصحب ابنه إلى البندر.

وفجأه الطبيب هناك بأن الطفل مريض بالزائدة الدودية ولا بد أن تُجرى له عملية لاستئصالها.

– وكم تكلف هذه العملية؟

– عشرة جنيهات.

ولم يزد: حمل ابنه على كتفه ولم يشترِ شيئًا مما أرادته زوجه أن يشتري وعاد إلى القرية، ماذا سيفعل، عشرة جنيهات، للعملية وجهاز البنت، هذه هي السنة الثالثة في خطبتها، كيف يؤخر زواجها بعد الآن؟ لقد قبض مهرًا ثلاثين جنيهًا لا بد أن يقدم جهازًا بأربعين جنيهًا على الأقل، من أين لي بالأربعين جنيهًا؟ ونفيسة تريد ملابس وأنا أريد ملابس، ماذا سأفعل بهذا المبلغ؟

سار يفكر تقوده قدماه إلى حيث لا يدري له مقصدًا أو إلى حيث تحدد رغبة خفية اتجاهه ومقصده، كان يقصد بيت عبد الباقي، وقبل أن يبلغه تصدت له فهيمة وهي تقول: ماذا بك يا صميدة؟

وصحا صميدة على صوت فهيمة فإذا هو ينفض عن نفسه كل ما هي فيه من حيرة: لا شيء يا فهيمة، لا شيء.

– لماذا لا تزور؟

– أنا خدام.

– تعالَ.

– أشتري نصف، أشتري قرشًا من عبد الباقي وأجيء حالًا.

– وأنا ألهب الفحم في انتظارك.

وكأنما اهتدى صميدة إلى النجاة من حيرته؛ فما هي إلا دقائق غير معدودة حتى كان جالسًا إلى فهيمة ويمتع عينيه بفهيمة التي طالما أُعجب بها وطالما تمنَّى أن تكون زوجته، وما هي إلا أنفاس قلائل حتى قال: فهيمة، أتتزوجينني؟

– وكم تدفع مهرًا؟

– وكم يرضيكِ؟

– ثلاثون جنيهًا.

– لا أملك إلا خمسة وعشرين.

– لأجل خاطرك، لقد كنت عزمت بعد المرحوم ألا أتزوج أبدًا. ولكن أنت، أنت، لا أستطيع أن أرفض لك أمرًا.

– متى نتزوج؟

– متى تشاء.

– الآن.

– الآن.

وجاء المأذون وخرج، واطمأن صميدة بعد حيرة؛ فلم يعد يحاول أن يفكر كيف سيواجه المطالب المتزاحمة حوله، لقد انتهت حيرته، لا لم يعد حائرًا، لم يعد حائرًا على الإطلاق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤