الحكومة والمجتمع في مصر

قد عرِّف المجتمع بأنه: «نسيج من العلاقات الإنسانية المتداخلة أو المتفاعلة بعضها مع بعضها الآخر.» وعرفت الحكومة بأنها: «ممارسة السلطة من جانب صاحب السلطان، ووكلائه أو مندوبيه؛ لتنظيم تلك العلاقات أو التفاعلات في مجتمعٍ ما.» وهناك ارتباط وثيق بين أوضاع الحكم وأغراضه في مجتمعٍ معين، وبين ما يعتنقه أعضاؤه من آراء ومعتقدات عن أصل مجتمعهم، فإذا اعتقد قومٌ — مثلًا — أنَّ مجتمعهم هو من صنع الآلهة، عندئذ يكون للآلهة أو سلالة الآلهة السلطان الأعلى عليهم، ويكون زمام الحكم في أيديهم.

تلك كانت عقيدة قدماء المصريين عن أصل مجتمعهم، وهكذا كان السلطان والحكم في أيدي الملوك الآلهة، وسادت في مصر بعد اعتناق أهلها المسيحية مذاهب أخرى، وتغيرت — تبعًا لذلك — مدلولات كلمتي المجتمع والحكومة.

ومنذ سنوات وضع الأستاذ «ديبوار بشار» — من أساتذة كلية الحقوق بالجامعة المصرية — بحثًا ممتعًا، مثيرًا للتأمل، في موضوع: «تطور الحكم وأصوله في مصر، منذ أقدم عصورها»، ونشره له المعهد المصري، وقد فرق الأستاذ «ديبوار بشار» بين أطوارٍ ثلاثة:
  • أولها: ظهور حكومة الملوك الآلهة، سواء الفراعنة الأصليون، أو خلفاؤهم البطالمة المقدونيون والقياصرة الرومان.
  • وثانيها: طور الحكومة، يسودها قانون مستمد من شريعة سماوية، مسيحية كانت أو إسلامية.

    وينتهي هذا الطور في عصر الثورة الفرنسية.

  • أمَّا الطور الثالث أو الحالي فهو: طور الحكم على قواعد من وضع العقل البشري.

وهذا التمييز مفيد، وإنْ كان مما يحتمل الجدل أنَّ مجتمعًا ما أو حكمًا ما يخضع خضوعًا خالصًا للعقل وحده، ويكون كل تصرف فيه مما يمكن وصفه بأنه تصرف معقول، فلنتبع — بعد هذا التقديم — أطوار المجتمع والحكومة على وجه الإجمال، ولنحاول أنْ نحذو حذو «أرسطاطاليس» في منهجه التحليلي التسلسلي، ولعلكم تذكرون كيف بدأ بالمنزل، وانتقل منه إلى القرية، ثم المدينة.

والمدينة تتوج التسلسل، وفيها وحدها يتاح للإنسان آخر مجال لاكتمال طبيعته، فهي «طبيعيَّة» بالنسبة إليه، وهو مدني بالطبع، وبينما المدينة وليدة مقتضيات الحياة، فإن بقاءها مما تقتضيه الحياة الطيبة. هذا، وإذا أوغلنا — في أقدم ما تمليه الحيطة من عصورنا التاريخية — وراء تحديد نقطة البدء في حياتنا المدنية؛ وجدناها في مواطن الجماعات المصرية الأولى التي أصبحت فيما بعد «كور» مصر في الاصطلاح اليوناني، ثم العربي المصري، أو مديرياتها — إلى حدٍّ ما — في اصطلاحنا نحن المعاصرين، ويجب علينا أنْ نتذكر دائمًا أنَّ كل واحدة منها كانت موطن جماعة من الناس تربطهم بعضهم إلى بعض صلات نسب، ومصالح، وأنها بدأت واستمرت متميزة بعضها عن بعض، عقيدة وموقعًا ومصالح، وأنَّ مصر كانت ثمرة اتحادها، فغلبت عليها بعد الاتحاد صفة كونها أقسامًا إدارية في مملكة.

وليس من اليسير علينا أنْ نقدر الآن أثر تحدُّر جماعات الكور الأولين من سلالة بشرية واحدة في التقريب فيما بينها، والثابت: أنها تعرضت من حيث تكوينها الجنسي لمؤثرات مختلفة، فالمواطن التي تتاخم البادية — مثلًا — أو التي تقع على خطوط المواصلات الكبرى أو قرب قلب أفريقية زاد اختلاط أهليها — بعناصر بدويَّة، أو أفريقية، أو أسيويَّة، أو غير ذلك — عن غيرها، وهكذا. وفضلًا عن ذلك كان لأنواع البيئات المصرية أثره في إيجاد فروق كبيرة بين الجماعات، فالدلتا غير الصعيد، وما جاور البحيرات أو البحر أو الصحراء له أثره العميق، بالإضافة إلى اختلاف عناصر المناخ، ومزايا الموقع الجغرافي الحربية والتجارية، وما إلى ذلك.

ومهما كان الأصل أو المنشأ أو الظروف فإن نصيب «الكور» في تكوين المجتمع المصري أمر بالغ غاية الأهمية، بل إنَّ اتحاد مصر لم يبطل تأثيرها العظيم، وآية ذلك التأثير أنَّ انتقال الحكم من أسرة أو من مجموعة من الأسرات إلى مجموعةٍ أخرى إنْ هو إلَّا توكيد متصل؛ لاحتفاظ نواحي المملكة بعصبية محلية قوية تستند إلى أساس من التقاليد والواقع، وأنَّ هذه العصبية المحلية تعمل — إذا ما واتتها الظروف — على أنْ يمتد نشاطها إلى المملكة بأسرها.

وقد تم تكوين الوحدة المصرية، أو المجتمع المصري عن طريق الفتح، والمشهور أنَّ الأمر استقر على تكوين مملكتين، وانتهى بإيجاد المملكتين أو الأرضين.

وكلمة «فتح» قد نسيء فهمها؛ فالغالب أنَّ الفتح لم يَعْدُ أنْ يكون حمل جماعة من الجماعات، على أنْ تقبل ارتباطًا ظهرت مزاياه لها ولغيرها، ولا شك في أنه بعد أنْ اتخذت الأقلية الخالقة «التي أشرت إليها في الحلقة الأولى تلك الخطوة الحاسمة؛ خطوة الاستجابة لتحدي الجفاف بمغادرة المرتفعات الآخذة في الجفاف والجدب، والاستقرار في مستنقعات الأحراش في أسفل الوادي، وتحويل تلك المستنقعات إلى النسق الذي نألفه، من حقول مزروعة تشقها مجاري الري والصرف، لم يكن أمامها مناص من وضع النهر كله تحت إشراف موحد مركز، ويصح جدًّا أنْ تكون القوة هي التي استخدمت لبلوغ هذا، ولكن القوة كانت — بالنسبة إلى عملية التوحيد والاتحاد — كلها أقل الوسائل المستخدمة أهمية.

وقد آمن المصريون بأن تكوين مصر على النحو الذي به تكونت، وتوحيدها على النحو الذي به توحدت، لأعظم من أنْ يكون أثرًا من آثار عبقرية فرد أو طائفة، بل هما أجل قدرًا من أنْ يتما إلَّا على أيدي الآلهة؛ فالآلهة هي التي عملت بالفعل، ولم تكتف — كما يصح أنْ نتصور — بإلهام البشر أو هدايتهم، وما الملوك البشريون إلا سلالتهم.

ومما ينبغي ألا نغفل عنه، أنَّ وحدة مصر اتخذت مظهر التركيب أو المزاوجة، فالتاج تركيب من تاجين، ومن الآلهة تتركب تراكيب ثنائية أو ثلاثية أو تساعية، وما إلى ذلك، وهذا كله له دلالته، وله أيضًا آفته؛ فإن ما تركب يجوز أنْ يتفرق ويتحلل، فكان لا بُدَّ من خلق أدوات تصون المجتمع، ومن أهمها إنشاء الخدمات العامة التي تدعو إلى العجب والإعجاب.

واختراع الكتابة، ومحاولة بلوغ الوحدانية على نحوٍ يجمع — في مهارةٍ وحذق، وفي سذاجةٍ وطيبة أيضًا — بين الولاء المحلي، والولاء القومي الدينيين.

وقد قارن «المسيو رينان» بأسلوب لا يخلو من الفكاهة، حكومة مصر الفرعونية بحكم تمارسه أكاديمية العلوم السياسية والخلقية، والأصح أنْ نقول: إنها كانت حكومة الفنيين، والفنيون يكونون إذن أول طوائف مجتمعنا المصري.

ولكن يجب أنْ نلاحظ أنَّ هؤلاء الفنيين لم يقتصروا على ممارسة فنون المادة، بل مارسوا أيضًا فنون الروح — إنْ صح التعبير — وهم جميعًا كهنة؛ فلم يكن الكاهن رجل دين فقط بالمعنى الذي نعرفه، بل كان كل ذي شأن كاهنًا من نوعٍ ما: من الملك إلى من هو أدنى؛ ولذا فإن لي أنْ أقسِّم المجتمع المصري بين قلةٍ من الحكام الكهنة الفنيين، ورعية تعمل في الإنتاج، كما أنَّ لي أنْ أسمي حكم مصر بحكم الملك الإله، يمارس حكمه بواسطة فنية.

ومما لا شك فيه أنه كان من الطبيعي أنْ يحاول أولئك الفنيون أنْ يتألهوا وأنْ يؤبدوا نفوذهم في ذريتهم، وأنْ يوصدوا الأبواب دون الدخلاء، إلَّا أنَّ ثمة عاملين حالا دون ذلك:
  • أولها: عامل الاختيار والفناء الطبيعيين، وهو يحول دائمًا دون إيصاد الأبواب في وجه الدخلاء من الخارج.
  • والعامل الثاني: هو أنَّ «فرعون» كان يعمل دائمًا على أنْ يبقى هو وحده «منبع التشريعات كلها، ومنبع الهبات كلها»، وعلى هذا الأساس كان جد حريص على أنْ يرفع حديثي النعمة — كما نقول اليوم — كلما أمكن له ذلك.

ومما هو جدير بالنظر أنَّ هؤلاء الفنيين عملوا على ألَّا يسمحوا لأنفسهم بحرية استخدام مواهبهم — طبيعية كانت أو مكتسبة — للتجديد أو الابتكار المطلق إلا في فترات الثورات، كما لم يكن لهم أنْ يخرجوا عن ممارسة الوظائف المخصصة لهم وفقًا للقواعد «السائدة».

هذا شأن القلة، أما الرعية من المنتجين، فخير ما نفعل لمعرفة شأنهم، هو أنْ نتصورهم جماعات منظمة من الفلاحين والصناع يعملون في ضياع التاج، أو المعابد أو ما إلى ذلك.

وقد عنيت الحكومة أدق عناية بحاجاتهم الروحية؛ فنظمت شئون العبادات العامة، ووضعت القوانين الخلقية المستفيضة؛ لكفالة حسن السلوك والسيرة القويم، ولم يترك لهم — في الواقع — إلَّا متاع الحياة العائلية، وكانوا في فترات اليسر والرخاء راضين قانعين، وأظن أنَّ هذا كان كل ما هنالك.

ولقد كان في وسع مجتمع مشيد على هذا النحو أنْ يشهد أيام عظمة ومجد ورخاء، وأنْ يخلف ميراثًا من جليل الأعمال، ولكنه كان في معظم الأحايين، كما لو ذاق الموت.

ولما اعتلى البطالمة والقياصرة الرومان عرش «فرعون» تفككت عرى المجتمع المصري كما وصفناه؛ فالمجتمع في الظاهر هو هو، وفي الباطن شيءٌ آخر، فقد استقر الأغراب من الإغريق واليهود في القرى والمدائن هنا وهناك، ومارسوا شئون تجارة السلع وتجارة الفكر، ومبادلتها مع البلدان الأخرى وفقًا لمبادئ غير مصرية، واستنزفت دماء الأهلين إلى آخر قطرة، وهذا كله بالإضافة إلى عوامل أخرى جعل من المُحال استمرار النظام القديم، وسُلبت السلطة من يد الملك الإله، أو من يد الإله القيصر الغائب عن البلاد، ونشأ عهد إقطاع، وتكونت الضياع الكبيرة، وقويت نقابات أرباب الحرف، وعلا شأنها في المدن، ولم يبق في الأسر التليدة إلَّا أهل الريف، وهكذا ظل الريف يأكل ويهضم الغذاء الإنساني الذي يُقدَّم إليه، ولا يشبع نهمه.

وجاءت المسيحية بشيرة بالخلاص، بشيرة — على الأقل — برفع نير اليأس، ودان لها الحاكمون البيزنطيون، والمحكومون المصريون على السواء، ولكن الفرج لم يأت بعد؛ فالحكام أجانب، وأجانب لا يستغلون الموارد فحسب، ولكن يعملون أيضًا على فرض مذهب ديني معين، ونظام كنسي معين على الرعية، وانتصر المصريون فاحتفظوا بشخصيتهم، وشادوا بأنفسهم — ولأنفسهم فقط — صروح الفن واللغة والآداب والكنيسة، ولكن مجتمعهم انتقل من النظام الموحد — الذي عرفه آباؤهم — إلى مجتمعٍ يقوم على الطوائف والهيئات: سكان القرى، وسكان المدن، والطبقة الوسطى، والقساوسة والرهبان، تربطهم جميعًا رابطة من الدين والتقاليد.

وفي سطوع نور الإسلام نصل إلى العصر الثاني من عصري الحكم، الذي يسوده قانون مستمدٌّ من شريعة سماوية، وقد ظل المجتمع قائمًا على تنوع الطوائف والهيئات — كما كان من قبل — إلا أن ما بين تلك الطوائف والهيئات من فوارق وفواصل أوهنه وأضعفه إحساس قوي بالانتماء إلى «الأمة»، الأمة الواحدة، وهو أحساس سرى حقًّا في كل فرد وفي كل جماعة، أمَّا في دائرة الحكم فقد كانت مصر الإسلامية — شأنها في ذلك شأن غيرها من البلاد الإسلامية — تعترف بالحقيقة القائمة على التمييز بين الحكومة الشرعية حقًّا وحكومة الواقع.

وبهذا كانت تخضع عن طواعية إلى انتقال السلطة من أسرة حاكمة إلى أخرى، أو من عصبيةٍ إلى أخرى، بيد أنَّ الاعتراف بسيادة «الشريعة» كفل للعدالة وجودًا، كما أنَّ الإحساس القوي — الذي أشرنا إليه — بالانتماء للأمة، ويقظة الهيئة الدينية الشرعية أوجدا أداة عملية ناجزة لإحقاق الحق.

وبالإضافة إلى هذا كله كان للمجتمع الإسلامي أنْ يعتز بأنه هيأ لغير المسلمين مكانًا منه، يتبوَّءُونه عن حق ومشاركة جدية في نواحي الحكم والاقتصاد والثقافة.

وأخيرًا نصل إلى طور «الحكم وفقًا لأحكام العقل»، وسنتناول ذلك في الفصل الأخير الخاص بمصر والغرب، ونكتفي الآن بأن نذكر أنَّ الظروف، التي أوجدت ذلك الطور من أطوار الحكم، أدت إلى الانتقاض على المجتمع الإسلامي كما ورثناه، وإلى محاولة بناء مجتمع مصري جديد عن طريق التجريب، وعن طريق الارتجال، وأحيانًا تحت حكم الأهواء، وهذا ما يجب أنْ يكون، ما دمنا قد نصبنا العقل الإنساني على عرش السلطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤