مصر والمسيحية

يدخل في تكوين مصر عنصر مسيحي هام كل الأهمية، وليس مرد ذلك إلى أنَّ المسيحية عقيدة فريق من أبنائها فحسب؛ بل لأن المسيحية في عالم مسيحي، هي التي كونت النظرة الروحية لأبنائها كافة.

وقد كانت مصر التي حمل إليها يوحنا مرقص المبشر بالإنجيل رسالة المسيحية — كما جاء في الرواية المتواترة — خليطًا من طرازين مختلفين من البيئة؛ فمن ناحية كان هناك سكان المدن الذين يتكلمون باليونانية وبخاصة في الإسكندرية، وهم من الإغريق والمصريين المشبهين بالإغريق واليهود، وهؤلاء جميعًا تأثروا بالمؤثرات الدينية والثقافية السائدة في المدن الهيلينية في القرن الأول من العهد المسيحي، وتأثروا من الناحية الأخرى بطراز البيئة المصرية الصميم.

أما في البيئة الحضارية التي كانت تضم ذلك الخليط من الطوائف الذين ذكرناهم، فقد كان القوم في تلك الآونة ينشدون تلك الوحدة التي كانت لأمراء يستمدون وجودهم من وراء مختلف الآلهة وعباداتهم، كما كان القوم يسعون أيضًا نحو الحصول على طهارة الأنفس، وقد احتوت الديانة المسيحية — بالإضافة إلى شخصية السيد المسيح — على شيئين حيويين خلت منهما الديانة الهيلينية، ففي تلك الديانة بوجهٍ عام، لم يكن يؤمن بعقيدة الخلود في عالم آخر إلَّا قلة من الأخيار المحسنين، أو جماعة من المطلعين على أسرار بعض الديانات ذات الطقوس السرية، التي تعلق بها الناس إذ ذاك؛ أي لم تكن عقيدة الإنسانية عامة، ولم يكن حب الإنسانية أساس أية عقيدة هيلينية، كما لم تحمل واحدة منها رسالة إلى البائس، والمسكين، والخاطئ، والمسيء.

وقد كان مذهب الرواقيين أقرب المذاهب إلى ذلك المثل الأعلى الإنساني، ولكننا لا نجده يفسح مكانًا للمحبة، ولذا لم يكن للعاملين المرهقين المثقلين إلَّا أنْ يضعوا الرجاء في شيءٍ آخر، لم تستطع العقائد الهيلينية أنْ تقدمه إليهم، ولكن ينبغي علينا أنْ نذكر في الوقت نفسه إسهام التفكير الإغريقي والتفكير اليهودي بنصيبٍ وافر في ميدان الفلسفة والتصوف، في المحاولة التي قام بها الآباء المسيحيون الأولون في مدينة الإسكندرية وغيرها، لعرض الحقائق المسيحية، إسهامًا يقوم على النظر العقلي، ويستسيغه العقل، لا لتعليم المؤمنين المسيحية فحسب، بل لتعليمها الوثنيين الذين أشربوا الفلسفة اليونانية أيضًا.

ويكفينا أنْ نذكر في هذا الصدد مدرسة التعليم الديني الشهيرة بالإسكندرية، والاسمين اللذين طبقت شهرتهما الآفاق: «كليمنت وأوريجين»، ويجدر بنا ألَّا نغفل أهمية ما أسدته اللغة اليونانية في سبيل نشر المسيحية، فالكلمات الأساسية كافة في العقيدة المسيحية يونانية الأصل: المسيح (كريست)، والتعميد «بابتيزم»، والأفخارستي والدياكون والقس (برست)، والمطران (بيثوب)، والرسول (أبوسل) والإنجيل.

وسأشرح بعد قليلٍ ما كان لليونانية من أثرٍ في تكوين اللغة القبطية والكنيسة القبطية.

أما البيئة الأخرى، بيئة الإيمان المصري الخالص، والرجاء المصري الصميم، فتختلف كل الاختلاف عن البيئة الحضارية التي وصفتها، فقد كان شغلها الشاغل إقامة الشعائر التي تطلبتها عبادة أوزيريس. وتقوم تلك العقيدة على توجيه الإيمان، وتوجيه الطقوس؛ للحصول على البعث بعد الموت بفضل أوزيريس، الذي بعث حيًّا بعد أنْ أرداه الشر قتيلًا؛ ولذا كان هم المؤمن المصري أنْ يؤدي الطقوس السحرية التي بها تغلب أوزيريس على الموت، ولو أنَّ الوازع الخلقي لم يغب عن المؤمنين المصريين، فقد آمنوا أيضًا بالحساب والميزان يسبقان نعيم الأخرى، فلم يكن عجبًا إذن أنْ تلقى المسيحية، وقد نادت بالمخلص الذي قهر الموت أذنًا صاغية ولقاءً حسنًا، وكان من عظمة المسيحية أنها لم تجتذب إليها الطبقة الوسطى الدنيا، والطبقة الوسطى العليا فحسب، بل إنها كانت العقيدة التي اعتنقها عامة الشعب في الحضر والريف بحرارة وإيمان.

ومن دلائل سرعة انتشار الرسالة المسيحية بين المصريين، الحاجة الماسة إلى ترجمة كتب العهد الجديد إلى اللهجات القبطية السائدة في البلاد، ويبدو أنَّ اللهجة المسماة «بالبحيرية» هي التي أصبحت اللهجة الرسمية للكنيسة القبطية.

ولكن إلى جانب الكتب المقدسة الرسمية، نبتت وفرة كثيرة من الكتابات الدينية غير الرسميَّة، كان يقصد بها أولًا وقبل كل شيء إيجاد مادة قراءة الشعب، كسير العذراء ومناقبها، وروايات تتعلق برسالة المسيح وعذابه. هذا، وإنا لنستطيع الإسهاب في موضوع استمرار الروح المصرية — وخاصة روح الفلاح — وطموحها وأمانيها الروحية، ولكن يكفينا في هذا أنْ نقتبس تلك الجملة من كتابات هارناسك مؤرخ العقيدة:

إنَّ المسيحية قد لاءمت في مصر بين خصائصها وبين خصائص الدين القديم الأساسية لمدى أوسع مما شهدناه في أي بلدٍ آخر، اللهم إلَّا إذا استثنينا بلاد اليونان، فإن كان أكثر المصريين قد أصبحوا عند منتصف القرن الرابع مسيحيين، فمرد ذلك إلى أنهم خلقوا لأنفسهم دينًا قوميًّا من المسيحية، وذلك بأن لقحوا هذه الديانة ببقايا معتقداتهم القديمة وآمالها.

هذا وبالإضافة إلى تكوين اللغة القبطية بمعونةٍ من اليونانية، يجب ألَّا نغفل نمو الفن القبطي، أو بمعنى أدق الفن المصري المسيحي، الذي وصلت بعض طرائقه وأساليبه من إيران عن طريق سوريا، والذي يمتد انتشاره جغرافيًّا إلى مدى فسيح يسترعي النظر، فقد ذكر «دالتون» في الدليل الذي وضعه عن أقدم الآثار المسيحية والبيزنطية في المتحف البريطاني، أنه عثر على آنية برونزية من طراز قبطي في مقابر إنجليزية سكسونية. هذا ولا يقل إشعاع الفن القبطي زمنيًّا عن انتشاره في أقطار الأرض، إذ إنَّ طرائق الفن القبطي وأساليبه كانت عاملًا من العوامل المؤثرة في فنون مصر الإسلامية وصناعاتها، وهذا دليل آخر على أهمية العنصر المسيحي في تكوين مصر.

هذا وإذا كان الفن القبطي تعبيرًا عن الخصائص الدينية لمصر المسيحية، فإن نشأة حياة الرهبنة ونموها لهي وجه آخر من أوجه التعبير، يعتبره العلماء أكثر ما ساهم به الشعب المصري بروزًا وجلاءً في تراث المسيحية.

وإنا لنكتفي بالقول دون الدخول في التفاصيل أنَّ الرهبنة بدأت بفرار الأفراد إلى البرية هربًا من شرور العالم ورذائله، ثم أخذت شهرة بعض الصالحين النساك تجذب الناس إلى العيش بجوارهم، يلتمسون منهم الهداية، وكان ذلك حال «أنطونيوس» الشهير. ولكن يرجع الفضل في تنظيم الرهبنة إلى عبقرية «باخوميوس»؛ فقد كان للقواعد التي وضعها تأثيرٌ بالغ في نمو أنظمة الرهبنة في المسيحية الغربية وغيرها، ولكن الرهبنة في مصر لم تكن أمرًا روحانيًّا صرفًا، بل كانت عاملًا في التطور الاجتماعي، والتطور الديني، فأثرت تبعًا لذلك، في مصائر البلاد بأجمعها.

وقد انتظمت المسيحية في كنائس شكلت على طراز الأنظمة الرومانية الإمبراطورية، وتركزت الكنائس الرئيسية في مدن اشتهرت في التاريخ، كالإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية، وروما. وكان من شأن اختلاف الأمزجة القومية والمنافسات بين الأمم والأشخاص، أنْ نشأت اختلافات مذهبية، فنبت ذلك النقاش، وذاك الجدل الذي شاع وذاع بين أريوس وأثناسيوس في القرن الرابع، وانتهت تلك الجولة بأن قرر مجمع نيقية إدانة أريوس بالإلحاد (الهرطقة)، كما نشب خلاف آخر حول الأقاليم، كان من أثره انحياز الكنيسة المصرية — ومعها في ذلك كنائس شرقية أخرى — إلى رأي في طبيعة السيد المسيح يعرف بالمذهب المنوفيسي — أي الطبيعة الواحدة — وانحازت الكنيسة الإمبراطورية إلى قولٍ آخر، وعمل هذا النزاع المذهبي وما صحبه من اضهطادات وإحن واضطرابات، وتدهور اقتصادي، على إضعاف الصلة التي كانت تربط البلاد بالإمبراطورية الرومانية، عند حدوث الفتح الإسلامي في القرن السابع.

وقد فُسر المذهبان «المنوفيسي» و«النسطوري» على أنهما يمثلان احتجاج الشعوب الشرقية على السيطرة الهيلينية السياسية والاقتصادية والثقافية، وقد أشار هارناسك، الحجة الذي سبق لنا الاقتباس منه، إلى أنَّ بطارقة الإسكندرية لم يقتصر طموحهم على السيطرة على الكنائس الرئيسية الأخرى، بل تعدى ذلك إلى التطلع إلى أنْ يجعلوا من مصر دولة دينية مستقلة. ويؤيد هذا ما ذهبت إليه الآنسة رويار المؤرخة الثقة للإدارة البيزنطية، من أنَّ العرب الغزاة لم يروا في مصر إحدى ممتلكات بيزنطة، بل بدت لهم مملكة تكاد تكون مستقلة. هذا وبينما كان رهبان أديرة مصر من أبناء الفلاحين، يؤيدون الكنيسة القبطية في صراعها ضد أولي الأمر الحاكمين الأجانب، موظفين مدنيين وكنسيين، فإنه لا يمكن القول بأن تلك الأديرة كانت عنصرًا من عناصر النظام أو الاستقرار في حياة الكنيسة الوطنية ذاتها.

وبالاختصار هذا هو مجمل القول في هذا الموضوع الكبير، وسأحاول في حديثي التالي وصف ما خلفه تراث مصر المسيحية لمصر الإسلامية.

وآمل أنْ أبين حينئذٍ أنَّ خير طريق يسلكه اليوم مسلمو مصر ومسيحيوها على السواء لكي يفهموا أنفسهم، هو أنْ يعملوا على فهم الإسلام والمسيحية على حدٍّ سواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤