معرض باريس العام

سنة ١٩٠٠

لمَّا أوشك قرنُ الحضارة والاختراع على الختام، خَطَرَ لأمة الفرنسيس أن تَجْعَلَ عامهُ الأخير ممثِّلًا لآياته جامعًا لكلِّ حسناته، فتقيم في باريس الحسناء معرضًا عامًّا لتسابق الأمم فيه إلى عرض النفائس والبدائع، وتتجلَّى آيات التقدُّم الباهر في كلِّ أبواب العمران والارتقاء، فنادت أممَ الأرض تدعوها إلى الاشتراك في هذا المعرض العظيم ولبَّتْهَا الشعوب متوافدة على عاصمتها البهيَّة من جميع الأمصار قادمةً بما أنْتَجَتْ قرائح نوابغها من فنون هذا الزمان ومصنوعاته وعلومه واكتشافاته، حتى إذا فُتِحَتْ أبواب هذا المعرض المشهور كانت القصور المنيفة قائمة في جوانب أرضه الرحيبة بين ما مهَّدوا من بهيِّ الطرق وبديع الحدائق والمشاهد التي تختلب العقول، وقد مُلِئَتْ هاتيك القصور بآثار الأوائل والأواخر، ونُسِّقَتْ غرائب التقدُّم الحديث من مبتكرات الأقوام المختلفة، فبدتْ جميعها آيات بيِّنات تشهد بمقدرة الإنسان وارتفاع درجة العمران في ذلك القرن العجيب؛ لأن المعرض كان صورة للأرض مصغَّرة ولكنها بديعة الإتقان وافية البيان ساحرة للأذهان، ما أتى الناس بمثلها في جميع الأزمان.

وما اشتُهر في الأقطار بناء هذا المعرض حتى بدأ كلُّ ذي قدرة على الذهاب يتحفَّز استعدادًا لرؤية محاسنه وبدائعه؛ لأنَّ المعرض مدرسة للمرء تزيده علمًا واختبارًا، وتمثِّل لديه ما صَنَعَ الأولون والآخرون وما أدركوا من أسرار الطبيعة، وما سخَّروا من عناصرها، وما أنجزوا لترقية حالة الأفراد والأقوام في كلِّ زمانٍ ومكان، وما يمكن أن يكون قد بلغه بالخبر ولم يظهر أمامه بالعيان، ولا سيَّما هذه المخترعات التي لا تُعَدُّ، وقد تناولت معظم ما في الأرض وغيَّرت شكلهُ تغييرًا يكاد يُحْسَب من خوارق المعجزات، مثل البخار الذي أودى بالأبعاد وقرَّب البلاد من البلاد، حتى إنه يمكن أن يسير المرء في أيامه حول الأرض في أقلِّ من أربعين يومًا لو استمرَّ على المسير، وما كان ذلك فيما قبل بالأمر الميسور، ومثل التلغراف الذي جعل الأرض أصغر مما صغَّرها البخار، حتى إن الواقف في أطراف الشمال يمكن له العلم بأخبار النائي في أقاصي الجنوب والوقوف على أحوالِ كلِّ صقع سحيق ساعة بعد ساعة، وأصبح الأمر الذي كان يلزمه صبر الأعوام حتى يصلَ بعض المواقع المتباعدَّة يذيع حال وقوعه وينتشر بين جميع الأقوام، وأغرب ما في هذا النوع تلغراف ماركوني الذي ينقل الأخبار بلا سلك ولا موصل عبر دقائق الهواء، تدفعها آلته الكهربائية أمواجًا تلو أمواج في الفضاء حتى إذا بلغت موضع آلة أخرى من هذا النوع نقرت عليها نقرًا خفيفًا وطبعت إشارات مثل إشارات التلغراف المألوف، فيقرأها القارئون وهم لا يرون مصدرها ولا واسطة وصولها.

وقد أصبح أهل أوروبا وأميركا يتناقلون درجات الحرارة وأخبار الهواء ومجاريه في الأوقيانوس الأتلانتيكي، ويعلمون حقيقتها قبل أن تبلغ شطوط أرضهم بهذا التلغراف العجيب، حتى إذا ظَهَرَ لهم أنَّ إعصارًا أو عصفًا كبيرًا قادم عليهم استعدُّوا له ولم يخاطروا بالسفن في ساعة البلاء الكبير، وأهمُّ من هذا أنَّ السفن ترسل أخبارها إلى الشواطئ، وهي في عَرْضِ البحر على بُعْدِ ألف وخمسمائة ميل عن البرِّ، فيدري الناس بأخبارها، وتعرف كلَّ أخبار الناس وهي بعيدة عنهم هذا البُعْد، حتى إذا وقعت إحداها في مصاب أمكن لها أن تخابر أقرب الشواطئ بأمرها فتأتيها النجدة بدل أن تستسلم للقضاء وتَغْرق في البحار، ثم هم جعلوا الآن يطبعون جرائد تصدر في البواخر كل يوم مدَّة سيرها وتستقي أخبارها ساعة بعد ساعة على طريقة ماركوني من الشطوط، فلا يحسب المسافر نفسه منقطعًا عن العالم وأهله مدَّة السفر؛ لأنه يعلم ما يريد بهذا الاختراع البديع. هذا وكثير غيره يراه المرء في المعارض موضحًا من نشأته إلى آخر درجاته، ويدرك بالعيان ما يلْزَم لإدراكه في الكتب طويل الأعوام.

ولو شئنا أن نعدَّ غرائب العصر الحديث التي مُثِّلَتْ في هذا المعرض لضاق دون عدِّها المقام؛ لأنهم طيَّروا الأصوات بتلفونهم وأنطقوا الجماد بفونوغرافهم، وولَّدوا غرائب الصناعة بهذه المجاري الكهربائية التي تُعَدُّ أساس الاختراعات الأخيرة وقاعدتها، حتى إنهم بدءوا يستعيضون بها عن البخار ويستخدمونها لكلِّ غاية من أمثال ما ذكرنا، ولا بدَّ أن يكون شأنها عظيمًا في المستقبل القريب، ففائدة المعارض الجامعة في هذه الأبواب ظاهرة، ولكن الخبر ليس كالعيان، هذا غير أنَّ المعارض تُعَدُّ أندية لأهل القول ورجال العلم والعمل، ومجامع لكلِّ فنٍّ ومطلب يختلف إليها زعماء الأفكار وينتابها المجدُّون العاملون على ترقية درجة الحضارة في الشرق والغرب، فيتبادلون الآراء ويتناقلون أخبار علومهم واكتشافهم، وينشرون آيات اختبارهم وفوائد بحثهم على العالمين.

ولقد كان من حظِّ العالم العربي أنَّ معرض باريس الأخير انتابه اثنان من الكُتَّاب المجيدين، ونشروا على الجمهور خلاصة ما رأوا فيه بألطف أسلوب وأجلى بيان، هما حضرة الفطِن الذكي أحمد بك زكي اتفق مع صديقه حضرة الدكتور ألفريد عيد صاحب مجلة طبيب العائلة، وأَرْسَلَ رسائل رنَّانة عن المعرض طَبَعَهُ كتابًا اسمه الدنيا في باريس، ووُزِّع على قُرَّاء تلك المجلة بلا ثمن فكان تحفة، عدد صفحاته ٢٧٢ مزيَّنة بجميل الرسوم تستحقُّ الذكر بين مفيد المطبوعات إلى آخر الزمان، وثانيهما حضرة العلَّامة المشهور الدكتور يعقوب صرُّوف صاحب مجلة المقتطف الغرَّاء؛ فإنه طبع في مجلته سلسلة مقالات بَلَغَتْ غاية الأرب في متانة عبارتها وبديع تنسيقها وصدق معانيها، حتى إنه لم يُكْتَب بلغة العرب أحسن منها في كثير من الفصول، هذان الكاتبان المُجيدان سبقا كلَّ سابق في كتابة المواد عن المعرض، حتى إنِّي لمَّا بدأت بتسطير هذا الفصل عوَّلت في كثير من أجزائه على مقالاتهما وأصبح شكرهما واجبًا بلا مراء.

ولقد عنَّ لي أن أُلْقِي دلوي في الدِّلاء فأزور هذا المعرض الأكبر، وأسجِّل ما يدور في خاطري عن بعض مشاهده وآياته، فاجتزتُ البحر إلى مرسيليا يوم ٢٩ يونيو سنة ١٩٠٠، وسرنا ذلك اليوم، فلمَّا كان الغد ظهرت جزيرة كريت ودَنَت الباخرة منها، فكانت تسير على مَقْرُبَةٍ منها وهي إلى الجهة اليُمْنَى حوالي ١٢ ساعة؛ لأنها جزيرة طويلة لا تقلُّ عن ١٥٠ كيلومترًا من طَرَفٍ إلى طرف. ثم دخلت الباخرة البحر اليوناني أطلقوا عليه هذا الاسم لوقوع الجزيرة اليونانية فيه، وفي جملتها الجزر التي كانت لدولة الإنكليز ثم تنازلت عنها لحكومة اليونان في بَدءِ حكم الملك جورج الحالي سنة ١٨٦٤، وظهرت في اليوم الثالث جزيرة «سيسيليا» إلى جهة اليمين وجبال كلابرا إلى جهة الشمال، وكلاهما من الأملاك الطليانية، ثم بلغنا خليج مسينا، وهو مضيق من الماء تنحصر فيه الأمواج وتكثُرُ أهوال السفر فيه بسبب الأنواء، وقد بُنِيَتْ على شاطئه مدينة مسينا المعروفة بجمال منظرها وحسن موقعها، فكنَّا نرى شوارعها من الباخرة وأعمدَّة قناديلها نظرًا إلى اقترابنا منها. وفي اليوم الرابع مَرَرْنَا بجزيرة كورسكا على الجهة اليمنى، وهي الجزيرة التابعة لفرنسا، وقام منها نابوليون الكبير، ثم جزيرة سردينيا وهي تابعة لإيطاليا، مَرَرْنَا بها وهي إلى الجهة اليسرى وظَلَلْنا على هذا السفر المتوالي حتى بلغنا مدينة مرسيليا في اليوم الخامس من أيام السفر، وأقمنا ١٢ ساعة في القطار.

وأقمتُ في باريس شهرًا كاملًا أتردَّد يومًا بعد يوم على معرضها العظيم، فرأيتُ أنَّ الذي يريد العلم الصحيح بكلِّ ما فيه يلْزَمُ له أن يقيم على ذلك مدَّة المعرض بأكملها وقد لا تكفيه، حتى إن أصحاب المعرض أنفسهم لا يعلمون — فيما أظنُّ — كلَّ ما يعرضون فيه من الأشكال، وتاريخ هذه المعارض يرجع إلى الأسواق التي كانوا يقيمونها في المدائن والقرى مدَّة العصور الغابرة، ولكنها لم تصر شيئًا يستحقُّ الذكر إلا في أواسط القرن الماضي حين أقام الإنكليز معرضًا عامًّا سنة ١٨٥١ بناءً على اقتراح البرنس ألبرت والد جلالة الملك إدورد الحالي، وقد بقيتْ أجزاء هذا المعرض وحُفِظَ كثير من بقاياه في سدنام من ضواحي لندن واسمه قصر البلور، وهو من مشاهد لندن المعدودة إلى اليوم، ومساحة هذا المعرض ٧٣١٥٠ مترًا مربَّعًا، زاره مدَّة وجوده ستة ملايين نفس، وعُدَّ ذلك يومئذٍ نجاحًا كبيرًا، ثم بدأت فرنسا بإقامة هذه المعارض فأنشأت أولها سنة ١٨٥٥ بعد الانتهاء من حرب القرم المشهورة في ميدان شان ده مارس، وكانت مساحته ١٦٨٠٠٠ متر مربَّع ومساحة قصره ٣٢٠٠٠ متر مربَّع، ثم عادت لندن في سنة ١٨٦٢ وأقامت معرضًا آخر في حي كنزنتون، وهو من مساكن الأكابر في عاصمة الإنكليز وقصره باقٍ إلى الآن جعلوه معرضًا للمنحوتات والنقوش القديمة والحديثة، ونَقَلُوا إليه كثيرًا مما كان في المتحف البريطاني المشهور. وفي سنة ١٨٧٣ قامت دولة النمسا لمجاراة الرفيقات في هذا المضمار فأنشأت معرض فيينَّا، وتبعتها جمهورية أميركا، ففتحت معرضها الأول سنة ١٨٧٦ تذكارًا لمرور مائة سنة على إعلان حريتها واستقلالها، وعلى أثر ذلك أصدرت حكومة فرنسا قرارًا بإقامة معرض عام في عاصمتها كل عشر سنين؛ لأن جمال باريس الفتَّان واتساع ضواحيها وميادينها وتوسُّط مركزها وشهرتها بالمحاسن عامَّةً تضمَّن إقبال الناس على معارضها — ولو كثرت — فأقامت معرضًا سنة ١٨٧٨ وبقي منه إلى الآن قصر ألترو كاديرو، وأقامت المعرض التالي سنة ١٨٨٩ تذكارًا لمرور مائة عام على سقوط الباستيل في يد الشعب الفرنسوي وسقوط الاستبداد ونشأة الحكومة الجمهورية في فرنسا، فكان معرضًا عظيم الشأن، وكانت جمهورية الأميركان أبدًا في تقدُّمٍ كبير، فرأت بعد ذلك أن تبرز أدلَّة تقدُّمها الباهر للعالمين، وأقامت معرض شيكاغو سنة ١٨٩٣ وجعلتهُ أكبر ما تمَّ من نوعهِ إلى ذلك الحين وانتهت بإقامة معرض سان لويس الأخير سنة ١٩٠٤، فكان أوسع المعارض طُرًّا في مساحة أرضهِ وزادت نفقاتهُ عن عشرة ملايين جنيه.

وأمَّا فرنسا فإنها عادت إلى العمل بقرارها السابق، وأرادت أن تخلِّدَ ذكر القرن التاسع عشر بتمثيل غرائبهِ، وجعلت المعرض في سنة ١٩٠٠ آخر سني القرن المذكور، وهو موضوع كلامنا الآن.

أُقيم هذا المعرض على ضفَّتَي نهر السين في ساحة شان دي مارس، وبلغت مساحة أرضه مليون وثمانين ألف متر مربَّع، منها ٤٦٠ ألفًا شُيِّدَتْ عليها الصروح الفخيمة والمباني الفاخرة ونحو مائة ألف متر زُرِعَتْ حدائق غنَّاء وروضات فيحاء تَشْرَح برؤيتها الصدور، وفي جملة ذلك زُهاء أربعين ألف متر فُرشَتْ بالعشب النضير بساطًا عديم المثال، ومثل هذا العشب السندسي كثير في جهات أوروبا ولونه كالزمرد البهي، وقد غَرَسُوا ٣٠٠٠ شجرة في جوانب هذا المعرض وجَعَلُوا بعضها حرجات في البهاء والرواء، وكان الرواء المزروع على أشكالهِ الكثيرة يشغل ٣٠٠٠ متر من الأرض وحدهُ غير بقيَّة الأشجار والأزهار، وجاءوا بنحو ٢٨ ألف قصعة أو برميل نَمَتْ فيها الشجيرات والأعشاب والأزهار المتنوِّعة ورصُّوها في طرق المعرض، وهم يتعهَّدونها يوميًّا ويسقونها ما يعادل ٣٠٠ ألف ليتر من الماء، وأقاموا كثيرًا من الأنصاب والتماثيل صُنِعَتْ من الرُّخَام يتدفَّق الماء منها على أشكال تروق للناظرين، يكفي للعلم بمحاسن هذه الأشجار والرياحين والأزهار أنه أُنْفِقَ عليها وحدها مبلغ ٢٣ ألف جنيه.

figure
معرض باريس العام.

وقد فُتِحَ للمعرض ٤٥ بابًا تتوارد جموع الناس منها كل يوم إلى أجزائه، وبنوا فوق نهر السين ٢٥ جسرًا أو قنطرة، لمَّا أن المعرض كان على ضفَّتي النهر كما تقدَّم الكلام، فكان الجسر لا يبعد عن الجسر إلا مسافة ٣٠٠ متر بوجه التقريب حتى لا يجدَ الناس عناءً في الانتقال من جزء في المعرض إلى جزء، وكانوا يفتحون هذه الأبواب كلَّ صباح لجماهير المنتظرين في الساعة ٨ من الصباح، ويوصدونها في الساعة ١١ من الليل، ولكن عمال المعرض وهم لا يقلُّون عن ٢٠٠ رجل، كانوا يهبُّون للعمل قبل فَتْحِ أبوابه بساعتين على الأقلِّ لكنسِ طرقه وجوانبه وإعادة رونقه ونظامه، ويلي ذلك توارد المكلَّفين بحفظ الأمن والنظام وهم ٢٠٠ من الشرطة و٦٠٠ من الحُرَّاسِ و٣٠٠ من الفرسان و٥٠٠ من الحرس الجمهوري و٤٠٠ من المراقبين على الأبواب لتذاكر الدخول، فمجموع هؤلاء العمال ٣٠٠٠ وهم المعيَّنون رسميًّا من الحكومة ولجنة المعرض للقيام بأعماله العمومية لا يدخل في عدادهم العمال الذين خصُّوا من داخل المعارض بخدمة أجزائه وهم يُعدُّون بالألوف. وكان هؤلاء يدخلون بعد العمال الرسميين الذين ذكرناهم فيتواردون أفواجًا من باب المطاعم والحوانيت وخدمة الحانات والمقاولين والمتعهِّدين والجزَّارين وباعة السمك والطير وعمال البريد والتلغراف والتلفون، ويليهم موظَّفو المعرض كلٌّ يذهب إلى محلِّه، حتى إذا جاءت الساعة ٨ والمراقبون على الأبواب فُتِحَتْ للداخلين وبدأت حركة الأعمال، وقد كان عناؤهم بمسألة الانتقال شديدًا حتى يسهِّلوا سبل الحركة والمسير على الزائرين، فما تركوا وسيلة حتى عمدوا إليها فأتوا بالشيء الكثير من العربات السيارة والترامواي الكهربائي والبخاري أو الذي تجرُّه الخيل والدرَّاجات والسيارات أو هي الأوتوموبيل على أشكاله، والباخرات تسير في نهر السين طول مدَّة العمل مملوءة بالزائرين، تأتي بهم من بعيد الجوانب، وكلُّ عربة أو سفينة قادمة تُنْزِل الرُّكَّاب عند أقرب الأبواب إليها، فكان عددُ الداخلين ما بين مائتي ألف وثلاثمائة ألف في اليوم، وزاد عن هذا المعدَّل كثيرًا في أيام الآحاد والأعياد؛ لأنه دخله يوم عيد العنصرة نصف مليون زائر، وفي غد ذلك العيد نحو ذلك، وزاد عددهم في يوم الأحد ٩ سبتمبر حتى بلغ ستمائة ألف نفس.

figure
البوابة الأثرية الفخيمة.

وقد أنشئوا مكاتب للبريد داخل المعرض ووضعوا ٧٦ صندوقًا للمراسلات يفرغها السعاة في أوقات معلومة، وأوجدوا أيضًا مكاتب للتلغراف والتلفون بَلَغَ عددها ٥٦ مكتبًا حتى إن الواقف في أرض المعرض كان يمكن له مراسلة أيَّة جهة أرادها من أقاصي الأرض وهو في مكانه، فكان في ذلك تسهيل كبير لأعمال المعرض وأصحابه وزائريه، وفتحوا ثلاثة فروع للبنوك المشهورة داخل أرض المعرض، فكان المرء يقبض المال إذا أبرز تحويله بلا مشقَّة الانتقال إلى مكان بعيد، وبلغ عدد المطاعم في جوانب المعرض مبلغًا كبيرًا، ولكن كثرتها لم تغنِ عن الزِّحام بالنظر إلى كثرة القادمين، فكانوا يدخلون الطالبين في أكثرها بموجب نِمَر يعطونها لكلِّ قادم في دوره فيقف الرجل وبيده النمرة حتى إذا خلا مكان على موائد المطعم دخل وتغذَّى فيه، فكان كثير من الناس يضْجَر من طول زمان الوقوف وانتظار أمر الخادم له بالدخول فينصرف وهو جائعٌ والمال في جيبهِ وفير كثير.

دخلت هذا المعرض من البوَّابة الأثرية يُوصل إليها من ميدان الاتحاد (بلاس ده لاكونكورد)، وهي بناءٌ جميل علوُّها ٣٨ مترًا ومساحة بنائها ٥٠٠ متر، وقد فتحوا فيها ٧٦ طاقة أو نافذة لبيع التذاكر، و٣٨ مدخلًا يمكن أن يدخل منها ٢٠٠٠ شخص في آنٍ واحد أو ٦٠٠٠ شخص في كلِّ ساعة، بنوها من الطوب والحديد والخشب، وطلوها ببهيِّ الألوان الزاهية كالأخضر والأحمر والأزرق، ويتخلَّل خطوطها عروق الذهب، وتخفق في أعلاها وفي جوانبها الأعلام ورصَّعوها ترصيعًا بديعًا بالمصابيح الكهربائية الصغرى، إذا خَيَّمَ الظلام وأرْخَى الليل سدوله أناروها بالنور الكهربائي فتلألأت وضاءت كأنَّما هي نجوم الثريَّا في كبد السماء، أو عقود من الجوهر واللؤلؤ تَسْطَع وتَلْمَع في عنق غانية حسناء، ولها جمال فتَّان ورونق يذْهَبُ بالأفكار ويسترقُّ الأذهان، فدخلتُ من هذه البوَّابة البديعة على ما تقدَّم القول، وسِرْتُ في جنةٍ من الأزهار والرياحين تتدفَّق المياه من أنصابها وبِرَكِهَا البهيَّة حتى وجدتني أمام قصرين منيفَين وصَرْحَين فخيمَين شادتهما حكومة فرنسا من الممرِّ النفيس بناءً متينًا محكَمًا، وزيَّنْتهما بمنتهى ما وصل إليه حِذْق الصنَّاع من غرائب النقش والزخرف والتزويق، حتى إنها أنفقت عليهما مليوني جنيه، وكان بينهما شارع جميل يُوصل إلى جسر إسكندر الثالث، وهذا قليل من وصف هذين القصرين الفخيمَين:
  • القصر الكبير: فأمَّا القصر الكبير فكان معرض الفنون، وما تمَّ في بابها مدَّة السنين العشر التي مضت قبل افتتاح المعرض بلغت ساحته ٤٠٠٠٠ متر مربَّع أو أقل من عشرة فدادين بالشيء القليل، وَجَمَعَ بين متانةِ البناء وفخامته وبين غرائب الزخرف ودقَّة الصناعة وبهاء الألوان، ولم ينهج مهندسوه منهجًا واحدًا في بنائه، ولكنهم جمعوا بين الأساليب اليونانية والأوروبية الوُسْطَى (رنيسانس)، وهم يريدون بهذا الاسم تجدُّد الحضارة على عهد لويس الثالث عشر، ولويس الرابع عشر من ملوك فرنسا في القرن السابع عشر. وقد جعلوا عُمُد هذا البناء العجيب مضلَّعة وَنَقَشُوا بين ضلوعها ورق السنديان وثمرهُ على المرمر النقي، وجعلوا هذا النقش بلون السنديان الطبيعي، فكان لمنظر تلك العُمُد البهيَّة تأثير يُفْرِح النفوس، وزخرفوا واجهته بالتماثيل والأنصاب، وجعلوا له بوَّابة واسعة ذات عُمُدٍ رخامية تُوصِل إلى رواقين، قام كلُّ رواق منهما على ١٤ عمودًا، وهما يتصلان بفناء رحيب طوله ٢٠٠ متر وعرضه ٥٥، وقد سُقف بالزجاج، فعرضت دولة فرنسا في هذا الفناء ما صنعه النحَّاتون والمصوِّرون من أبنائها من النَّقْشِ والحفر على الرُّخَام والحجر والجبس أشكالًا لا تُعَدُّ، هي رسوم رجال أو نساء من المشاهير ووحوش ضارية وطيور، فكان عدد هذه القطع أكثر من ألف، واشتركت بقيَّة أمم أوروبا مع فرنسا في عرض هذه الأنصاب والتماثيل، فكان لمجموعها منظر رهيب ولا سيَّما إذا رآها المرء بمفرده في الليل، وقد تفنَّن الصُّنَّاع في نقش بعض التماثيل فجعلوا بدن التمثال من الرُّخَام الأبيض وشعره من الأسود وملابسه من الرُّخَام الملوَّن مثل تمثال الطبيعة، وهي شكل فتاة أسفرت عن وجهها وكشفت ستارها، جسمها من الرُّخَام الأبيض وثوبها من الرُّخَام المعرَّق بالأحمر والأصفر وشعرها من الأشقر الذهبي ورداؤها ضارب إلى الصُّفرة، وغير هذا مما يُحْدِثُ فتنةً في نفوس الناظرين.

    ولقد صعدنا الدور الثاني من هذه الفُسْحَة على سُلَّمٍ بديع الصنع من الحديد، جعلوا له أشكالًا يشتغل بها الفكر دون سواها مدَّة الصعود، فإنهم صنعوا الحديد على شكل الأوراق والأغصان الطبيعية وطلوها باللون الأخضر تمثيلًا للشكل الطبيعي، وقد خُصَّ هذا الدور الثاني بالفنون الجميلة أو «التصوير بالقلم»، وهو مطلبٌ له عند الغربيين قدر وقيمة، حتى إن نفقات هذا القسم في المعرض بلغت ١٢ مليون فرنك، وكان فيه ٤٠ قاعة جميلة عالية السقوف عريضة الجدران محلَّاة بعروق الذهب، وقد عُلِّقَتْ في جدرانها الرسوم النفيسة فلم تقل عن خمسة آلاف رسم، نصفها من صُنْعِ مصوِّري فرنسا والنصف من بقيَّة الأمم. وقد رأيتُ بين هاتيك الرسوم البديعة ما يمثِّل كل حالة في الأرض وأهلها، ففيها رسوم الليل والنهار، وصور الضاحك والباكي والشيخ والفتى والحب والهجر والجبال والبحار والمعارك والمؤتمرات والملوك والكبراء، وبقيَّة الأحوال على أشكالها، فكانت أفواج الزائرين تقف متأمِّلة ممعنة معجَبَة بتلك المحاسن التي أظهرتها فنون المصوِّرين، وحانت مني التفاتة إلى صورة في القسم الروسي، فألفيتُها تمثِّل ملك الحبشة في مجلسه الرسمي واقفًا ويده على رأس نمر، ورأيت صورة القيصر بطرس الأكبر وبيده طفل هو لويس ملك فرنسا العظيم؛ لأنه لمَّا ذهب بطرس لزيارة باريس كان لويس طفلًا فأخذه بين يديه وقال: إنِّي الآن أحمل فرنسا كلها بيدي، وهنالك صور أفراد بالشكل الطبيعي لا تستره الملابس، وهو منظر لم تأْلَفْه الأذهان الشرقية، ولكنهم تعوَّدوه في بلاد الغرب فترى صغارهم وكبارهم من النوعين يتفرَّجون عليها ولا يبالون، مثل صورة الريشة، وهي على شكل فتاة لم تلبس غير قميص يستر بدنها ومنكبيها، وحول وسطها منطقة تتدلَّى منها الحمائل وقد عقصت شعرها ولفَّتْهُ في أعلى الرأس غدائر متوالية صعدًا، ثم عصبت هذه الغدائر الحسناء بعصابة من الذهب مرصَّعة باللؤلؤ والجوهر، وقد أمسكت ريشة زرقاء بيسارها فكان ذلك علَّة اسمها.

    ومن ذلك صورة الزهرة، وهي أيضًا على شكل فتاة غضَّة الشباب بهية الإهاب، أرخت بعض ذوائبها على جبين لها وضَّاح يزري بنور الصباح، وقد كلَّلت رأسها الجميل ببديع الأزهار والرياحين، وأمسكت بيمينها عرقًا من هذه الأزهار. وغير هذا كثير.

  • القصر الصغير: وأمَّا القصر الصغير فما أُطلق عليه هذا الاسم لصغر فيه أو قلَّة في موادِّه؛ لأنه كان كثير الجوانب واسع الغُرَف جامعًا لكلِّ أثر من آثار الإنسان في أدواره السابقة جميعها، فترى فيه أدوات الحروب القديمة كالسيوف والخوذ والدروع والتروس، مما كانوا يحاربون به قبل السلاح الناري، وفيه الساعات القديمة والنقود على أشكالها، والأقفال والأمواس والسكاكين والآنية الفخارية، ورياش البيوت كلها وضعت على نَسَقٍ يريكها لمَّا كانت في أول الحالات كيف تحسَّنت وارتقت إلى أنْ بلغت مبلغها الحالي؛ لأنهم جمعوا موادَّ الحياكة والنسج كلها ليراها الرائي، ويتضح له كيف يُنْسَجُ الثوب، ثم كيف يُفصَّل، ثم كيف يُخاط، إلى غير ذلك، وسيبقى هذان القصران في جملة معارض باريس الدائمة إتمامًا للفائدة، وضنًّا بكنوزهما من التَّلَفِ، ذلك مع أن عاصمة الفرنسيس ملأى بالمتاحف، مثل: اللوفر والترو كاديرو، ولكنها أبدًا تطلب المزيد في مثل هذا الأمر المفيد.
جسر إسكندر الثالث: بعد الفراغ من هذين القصرين تركتهما وذهبت مارًّا على جسر إسكندر الثالث، دُعِيَ باسم القيصر الروسي السابق؛ تخليدًا لذكر التحالف بين دولتَي روسيا وفرنسا وقد وَضَعَ أساسه القيصر الحالي، وهو يومئذٍ ولي العهد لمَّا زار مدينة باريس سنة ١٨٩٦ واستُقْبِلَ استقبالًا بالغًا منتهى العظمة والفخامة ما زال الناس يذكرونه إلى الآن. والجسر من غرائب الصناعة الحديثة ومشاهد باريس المعدودة، قليل نظيره في جمال شكله ورقَّة زخارفه وإتقان صُنْعِهِ، هو عبارة عن قوس واحد نُصِبَتْ فوق نهر السين طوله ١٠٧ أمتار من ضفَّة إلى ضفَّة، وعرضه ٤٠ مترًا، وقد أنفقوا عليه سبعة ملايين فرنك وزيَّنوا طرفيه بقباب شاهقة مموَّهة بالذهب في أعلاها أشكال النسور الروسية، وهم ينيرونه كلَّ ليلة بمئات من الأنوار الكهربائية، فيكون منظره غاية في الجمال.
البنايتان: وأقاموا في منتهى هذا الجسر بنايتين عظيمتين كلٌّ منهما ذات دورين، واحدة إلى اليمين وواحدة إلى الشمال، وطولها ١٥٠٠ متر، وعرضها ٣٠٠ متر، يفصلهما طريق الإنفاليد الذي يوصل إلى طريق قبر نابوليون الأول، فالبناء القائم على الشمال عبارة عن معرض تامٍّ لجميع مصنوعات فرنسا ومعاملها، تجد فيه كلَّ أداة تصنعها معامل الفرنسيس من المكانس إلى الجواهر، ومن الإبر إلى أخفِّ الأطالس. وقد قسَّموا هذا البناء أقسامًا، ووضعوا فيه النِّمَر ليسهل الاطلاع على محتوياته، وكتبوا اسم المعمل على كلِّ سلعة أو صنعة حتى إذا أراد المرء أن يشتري شيئًا من فرنسا قَصَدَ هذا المعرض، وعرف أين توجد أحسن معاملها. والبناء الثاني القائم على اليمين فيه مصنوعات الأجانب، قُسِّم لكلِّ أمةٍ قسمًا، وأقام فيه العمال الساهرون يستقبلون القابلين باللطف ويشرحون. وأجمل ما في هذا المعرض خريطة فرنسا في القسم الروسي لمَّا رأيتُهَا كان حولها جمع متألِّب من المتفرِّجين يحدق ويعجب، وكانت أجزاء هذه الخارطة تسطع وتلمع فتفرح بمَرْآها القلوب، وقد صُنِعَتْ كلها من نفيس الجواهر ترصيعًا بديعًا ما له في صناعة الناس نظير، خُطِّطَتْ فيها الأقاليم وظَهَرَت المدن بألوان الجواهر المختلفة، مثل باريس، وضعوا موضعها في الرسم ألماسة عظيمة تبهر النظر بأنوارها، ومرسيليا أشاروا إليها بحجر من الزمرد الأخضر، وروين بلؤلؤة، وليون بياقوتة، وقِسْ عَلَى هذا ما جرى مجراه، فكانت هذه الخارطة هديَّة القيصر لحكومة فرنسا؛ تخليدًا لذكر معرضها والصداقة الكائنة بين الأمَّتين، وهي أجمل الهدايا وأنْفَسِها في العصر الحديث. وقد ورد في جريدة روسيا الرسمية أنهم أنفقوا على هذه التحفة الثمينة أربعة ملايين فرنك، وقضى الصُّيَّاغ في صُنْعِها ثلاث سنين، هذا في قسم روسيا. وأمَّا الأقسام الأخرى فكانت مجموع محاسن تستحقُّ الذكر، من ذلك القسم الأميركي فيه غرائب الاختراعات، وتميزه عن سواه مروحة كبيرة ميكانيكية تدْفع الهواء الساكن فتصيره هبوبًا شديدًا كان الناس في حاجة إليه يومئذٍ والحر شديد، ورأيت فيه الآلات التي تَصْنَع الحذاء في ثلث ساعة، فإذا أوصيت عليه وأنت واقف فصَّلوا الجلد بدقيقة واحدة وخاطوه بسبع دقائق، ووضعوه في القالب ٧، وعملوا النعل في ٦، وأتمُّوا بقيَّة اللوازم في ١٠، فمجموع ذلك ٣١ دقيقة. وهنالك قسم الصين يحَار العقل مما فيه من صناعة العاج الدقيقة حتى كأن العظم في يد الصينيين حرير يوشونه ويطرزونه على أدقِّ الأنواع، وفيه أيضًا موكب إمبراطورة الصين بكلِّ بهائه وزخرفه ممثَّل نقشًا على العاج.

ولمَّا انتهيتُ من هذه الأقسام صعدتُ الدور الأعلى من البناء، ولكن الصعود كان على طريقة تُعَدُّ من ألطف غرائب الصناعة؛ ذلك أننا لم نَرْقَ سلمًا في الصعود، بل وَقَفْنَا على بساط عرضه متر واحد، وهو أبدًا يدور ويلتفُّ على أسطوانة تديرها الكهربائية ولا نهاية له فيما يرى الراءون، فإذا وَقَفَ المرء على هذا البساط العجيب وأمسك بيمناه حبلًا من القطيفة يستعين به على الثبات جعل البساط السحري يلتفُّ من نفسه تحت الأرجل، ويرفع الواقف عليه بسير رويدًا حتى يوصله إلى الدور الأعلى، فكأنَّما هو بساط الريح الذي توهَّمته عقول الأولين فيما نشروا من الحكايات والأساطير. ولمَّا بلغت الدور الأعلى رأيتُ جماهير الخلق محتشدة ما بين البنايتين، وعلمتُ أنهم ينتظرون قدوم جلالة شاه إيران متفرِّجًا على المعرض، فنزلتُ ووقفتُ مع الواقفين، ورأيتُهُ حين أقبل مع بعض الكبراء، فإذا هو كما يمثِّله الرسم الشائع، ولكن الاصفرار ظاهر في عينيه، وقد خطَّ الشيب عارضيه، فنزل من العربة وسار من ورائه حاكم إقليم السين، ورئيس المجلس البلدي وياور رئيس الجمهورية، ولم يرجع من حيث تمكُن رؤيته؛ لأنه كان يؤثر التواري يومئذٍ بعد أن حاول أحد الفوضويين قتله في اليوم السابق.

قصور الممالك: لم تكتفِ الأمم الأجنبية بما كان لها من الأقسام في البناء العمومي الذي سبق ذكره، ولكنها شيَّدت قصورًا منيفة في شارع عظيم يمتدُّ على ضفَّة السين سُمِّي بشارع الممالك، وقد كانوا في بعض الأحيان ينظرون إلى بهاءِ منظر القصر من الخارج وزخارفه أكثر من نظرهم إلى ما فيه من المصنوعات، وكان قصر إيطاليا أجمل هذه القصور طُرًّا، أنفقوا عليه أكثر مما أَنْفَقت إنكلترا وأميركا على قصريهما، مع أنهما أشْهَر بكثرة النضار وسعة اليسار، حتى إن القصر الطلياني كُلِّفَ عشرة ملايين فرنك، ولعلَّ الداعي إلى هذا سياسيٌّ يدلُّ على عود إيطاليا وفرنسا إلى المجاملة والصفاء بعد أنْ طال بينهما التنافر والجفاء، وهذه أسماء الممالك التي بَنَتْ قصورها على ضفَّة النهر في الشارع المذكور: إيطاليا – تركيا – أميركا – النمسا – المجر – إنكلترا – بلجيكا – النورويج – ألمانيا – إسبانيا – السويد. أمَّا روسيا والهند والصين فَبَنَتْ قصورها في شارع التروكاديرو.
قصر إيطاليا: تأمَّلْتُ هذا القصر كثيرًا قبل أن ولجتُهُ، وحدَّقت بما فيه من نقش دقيق ورسْمٍ أنيق، وما في بنائِهِ من الحُسْنِ الظاهر للعيان، وقد بنوا هذا القصر دورين ونَقَشُوا على واجهته رسومًا وصورًا اشتغل بها مَهَرة الصُّنَّاع والمصوِّرين، حتى إنها لو رُسِمَتْ على القماش بدل تلك الجدران لكانت من أحسن ما تَزْدَان به معارض الرسوم. ودخلت الدور الأول من هذا البناء الفاخر فإذا به متَّسع القاعات بهي الجوانب علَّقوا فيه المصابيح والثريات الكبرى من أجمل ما تصنع معامل الزجاج في البندقية، وهي ملوَّنة ببهي الألوان، ووضعوا هنالك أنواعًا شتَّى من صناعة البندقية المشهورة بمعامل الزجاج، نسَّقوها على مناضد طويلة، وهي مختارة من كلِّ معمل أرسل إليها أجود ما عنده، فكانت مناظرها بهجة للعيون.
قصر تركيا: بُنِيَ هذا القصر ومن فوقه في الدور الأعلى منه مَلْهًى أو تياترو، وقد أُنفق على بناء الدورين مليون ومائة ألف فرنك، وله ردْهَة فسيحة تطلُّ على نهر السين، ويرى الواقف فيها كثيرًا من أبنية المعرض وأجزائه، وكان الازدحام كثيرًا تجاه هذا القصر، ومنظره مع ما فيه يفكِّر المرء بالآستانة، ولا سيَّما منظر هذه الأبضعة المتراكمة من المنسوجات الحريرية يحيكونها بالأنوال في حمص وحماة ودمشق، ومن الأقمشة المطرَّزة بالقصب على النسقِ التركي المعروف، وطنافس نفيسة من صنع أزمير، ومن معمل هيريكة السلطاني في الآستانة، وكان فيه كثير من الأدوات التي تُصْنَع في القدس، وهي مصنوعات شتَّى من الخشب ومن الصدف وعرق اللؤلؤ، وفيه أيضًا أنواع جميلة من الحلي والمصاغ الذهبي والفضي على رسوم أكثرها شرقية تختلف اختلافًا ظاهرًا عن صياغة الفرنجة، فكان المتفرِّجون على هذه البدائع كثيرين، وفي جملة ما عَرَضُوا هنالك الدخان الاستامبولي وبعض لوازمه من الأفمام والشبوقات، بعضها من الكهرمان والبعض من موادَّ أخرى. وأمَّا الملهى الذي بنوه في الدور الأعلى من هذا القصر فكان فيه خليط من الممثِّلين والعُمَّال من الأتراك والسوريين والأرمن وسواهم، يرقصون ويلعبون ألعابًا شتَّى، ويغنُّون الأغاني الشرقية ويطربون. وقد كان العثمانيون والشرقيون عامةً يجدون في القصر التركي شيئًا تميل إليه النفوس، ولا وجودَ له في غير هذا الموضع من باريس، هو القهوة العربية على مثل ما تُصْنَع في مصر والشام، فكان ذلك من حَسَنَاتِ القصر التركي.
قصر أميركا: أنفقوا على بناء هذا القصر خمسة ملايين فرنك، وكان يختلف عن بقيَّة القصور في إدارة أموره الداخلية؛ لأنه كان ناديًا للأميركيين الذين يؤمون باريس مدَّة المعرض، وقد جعلوه ثلاثة أدوار، في الأول منها مكتب للاستعلام يرأسه شاب أميركي وُلِدَ في باريس وهو من الأذكياء، كان يقضي النهار كله في مجاوبة السائلين على كلِّ ما يخْطُرُ لهم الاستعلام عنه في دائرة المعرض، وكثيرًا ما يسألون عن غيره أيضًا، فكنت أرقُّ لحالة هذا الشاب إذ أراه أبدًا في إيضاح ومجاوبة لا ينتهي من سائل أو سائلة حتى يبدأ بمجاوبة فردٍ جديد، وعادة النساء الأوروبيات والأميركيات في الاستعلام واستقصاء الأمور مشهورة، ولا سيَّما إذا وَجَدْن عاملًا مثل هذا عرف المطلوب كله، وقد انقطع لخدمة السائلين، وفي هذا الدور أيضًا مكتب للبريد القادم من أميركا بأسماء الذين لم يعرفوا موضع إقامتهم حين قاموا من بلادهم، فأوصوا أن ترسل إليهم الرسائل إلى القصر الأميركي في المعرض، ويليه مكتب آخر تُباع فيه طوابع البريد وأدوات الكتابة، تسهيلًا للذين يريدون أن يحرِّروا الكتب والرسائل من ذلك المكان، ووضعوا أيضًا صندوقًا للرسائل، وأنشئوا غرفة للجرائد الأميركية من كلِّ ولاية، وكانوا يسجِّلون أسماء القادمين إلى المعرض من أميركا، فيكتبون الاسم ومحل الإقامة ويوم الوصول إلى باريس ويوم ذهابهم منها، والجهة التي ذهبوا إليها والفندق الذين ينوون الإقامة فيه حتى إذا ورد على أحدهم شيء من بلاده بعد أن يبرحَ باريس يرسلون الشيء إليه في محلِّه الجديد، أو إذا أراد أحد الأصحاب أن يعرفَ مقرَّ صاحبه عَرَفَ ذلك في الحال، وكانوا يعلنون في هذا المكتب أخبار العالم الواردة بالتلغراف، وأسعار البورصة في نيويورك، أمَّا الدور الثاني من هذا القصر فأعدُّوه لمندوب جمهورية أميركا في المعرض ومَنْ معه من العمال والمساعدين، والدور الثالث خُصَّ بالحفلات الراقصة أو الجمعيات الأدبية، ولهذين الدورين آلة رافعة تصعد من الدور الأول، وفي الدور الثاني عُمَّال يأخذون بطاقة كلِّ قادم يريد أن يوصل اسمه إلى المندوب، فكان كلُّ أميركي يدخل هذا القصر في المعرض يشعر أنه في وطنه ومنزله من حُسْنِ التدبير.
قصر النمسا: أُنْفِقَ على هذا القصر سبعة ملايين فرنك وعُرِضَتْ فيه مصنوعات بلاد النمسا وبعض ما ميَّزتها به الطبيعة من المياه المعدنية التي يستفيد منها أهل الأقطار جميعهم، مثل مياه الينابيع المشهورة في مارينباد وكارلسباد وغيرهما، ولها شهرة ذائعة في الأقطار، وقد كانت هذه المياه سبب اشتهار المدن المذكورة ونمائها؛ لأنها قامت بسبب وجودها وتوارد الناس من كلِّ صوب للانتفاع بمائها، وقد أصبحت مثابة الألوف ومعظمهم من الأغنياء والأكابر في كلِّ عام.
قصر المجر: صرفوا على هذا القصر مليونَي فرنك ونصف مليون، وجعلوه خاصًّا بمملكة المجر وحدها، فلم يضمُّوه إلى معرض النمسا؛ لأنَّ المجرَ مملكة مستقلَّة قائمة بنفسها، ولها أحكام وسياسة وقوانين ووزارة ومجلس نواب غير التي في بلاد النمسا، فلا رابطة بين المملكتين فيما سوى أنَّ ملكهما واحد، هو الإمبراطور فرانس يوسف الحالي. والمجر حريصون جدًّا على إظهار انفصالهم عن النمسا واستقلالهم، فجعلوا هذا القصر خاصًّا بهم ولا محلَّ لوصف ما كان فيه من المصنوعات المجرية؛ لأنَّنا لم نفسح المجال في هذا الفصل لوصف بقيَّة المصنوعات.
قصر إنكلترا: أَنْفَقَ الإنكليز على بناء هذا القصر مليون وثمانمائة ألف فرنك، وأنفقوا كثيرًا غير هذا على بناء الأقسام والمعارض للمستعمرات الإنكليزية، مثل كندا وأوستراليا ونيوزيلاند وأفريقيا الجنوبية، وهي أشغلت نحو ٧٠٠٠ متر من أرض المعرض غير الذي أنفقوه أيضًا على قصر الهند، وسيأتي ذكره. وقد كان القصر الإنكليزي — مثل كلِّ عمل إنكليزي — جميلًا مع قلَّة الزخارف، وكان الترتيب سائدًا على ما فيه وعلى أعماله أيضًا حسب المعروف عن هذه الأمة، فإنهم أوقفوا ضابطًا على باب القصر يشير إلى الناس بالوقوف والامتناع عن الدخول حتى إذا اجتمع منهم ٨٠ أو ٩٠ أشار إليهم بالدخول؛ إذ يكون الذين سبقوهم — وهم بمثل هذا العدد تقريبًا — قد خرجوا من باب آخر، فلا يختلطُ حابلُهم بالنابل من تَكَاثُرِ الأفراد في قاعات القصر، ولا يحدث اضطراب وقلق للعُمَّال أو للزائرين.
قصر بلجيكا: بَلَغَ المال الذي أُنْفِقَ على هذا القصر مليون فرنك، وكان معرضًا بديعًا لصناعة هذه البلاد الراقية التي سبقت الممالك العظمى في كثير من المصنوعات، ولا سيَّما الحديدية منها، كالسلاح والآلات الزراعية والمنسوجات وسواها. وتمتاز المصنوعات البلجيكية بمتانتها وجودتها، وقد تقدَّمت في السنين الأخيرة تقدُّمًا عظيمًا، حتى إنها حلَّت محلَّ الصناعة الإنكليزية في كثيرٍ من أسواق الأرض، واشتُهرت الشركات البلجيكية بالهمَّة والتفنُّن في إنجاز الأعمال.
قصر السويد: كانت جملة المال الذي أُنْفِقَ عليه مليون وثمانين ألف فرنك، وقد صُنِعَ كلُّهُ من الخشب على نَسَقٍ بديع يشهد بالبراعة لصانعيه، فإنهم قطعوا ألواح الخشب في ستوكهولم وأتقنوا نجارتها وجعلوه على القياس المطلوب للبناء، ووضعوا لها نِمَرًا ثم أرسلوها في سفينة شراعية إلى مرسيليا، فما بَقِيَ على بناء القصر السويدي في المعرض غير أن تُرَكَّبَ تلك الألواح بعضها إلى بعض حسب نمرها، وأنْ تُطْلَى بالألوان بعد ذلك، فهم اكتفوا بعدد قليل من العمال والنجَّارين في باريس لإتمام البناء، لم يزد عددهم عن ١٢ نجَّارًا ومهندسًا، وقد كان هذا القصر أحسن مثال لبلاد السويد وحالتها، ولكن القوم لم يكتفوا بعرض الحاصلات والمصنوعات فيه، بل إنهم مثَّلوا هيئة بلادهم في الشتاء حين تتراكم فيها الثلوج وتطول الليالي، وفي الصيف حين يطول النهار فيشرق القمر والشمس معًا في وسط النهار، وهي من الحوادث الطبيعية الناشئة عن مركزِ الأرض تجاه الشمس، لا تُرَى إلا في الأقاصي الشمالية، مثل بعض روسيا وبلاد السويد والنورويج. وقد أعادوا هذا القصر برُمَّتِهِ إلى ستوكهولم بعد انتهاء مدَّة المعرض في باريس؛ لأنهم فكُّوا تلك الألواح ونقلوها، ولا بدَّ أنهم استعملوها لأغراض أخرى بعد ذلك.
قصر النورويج: يُقال في السويد والنورويج مدَّة هذا المعرض ما قيل في النمسا والمجر من حيث العلاقة السياسية، فإن المملكتين كانتا دولة واحدة ثم انفصلتا على ما رأيت في تاريخهما، وقد أنشأ أهلُ نروج معرضهم الخاص في باريس لهذه الغاية وأنفقوا عليه نصف مليون فرنك، وعرضوا فيه حاصلات بلادهم ومصنوعاتهم، وأهمُّ ما يُقال في هذا القصر أنه مثَّل قوة أهل النورويج على التجارة وصناعة السفن؛ لأن لهم امتيازًا بذلك جعلهم من أهل الطبقة الأولى بين الأمم. ومما شَهِدتُ في هذا القصر تمثال نانسن، وهو رحَّالة نورويجي مشهور ذَاعَ اسمه في الأقطار؛ لأنه بَلَغَ في سياحاته إلى نواحي القُطْبِ الشمالي شأوًا لم يدركه السابقون فكان أعظم مكتشفٍ لدائرة القُطْبِ قبل بيري، وقد ذَهَبَ الرجل في باخرة قوية بناها لهذا الغرض، وسمَّاها فرام، والاسم نورويجي معناه «إلى الأمام»، واستصحب معه الدرَّاجات التي تسير على الثلج، والكلاب التي لا يمكن السير بدونها في تلك الأصقاع المتجمِّدة، ومئونة ٣ سنين حتى إذا لم يعد السير ممكنًا في الماء تَرَكَ الباخرة وتقدَّم زَحْفًا على الجليد إلى آخر ما بلغهُ يومئذٍ، فأفاد أهل العلم فوائد كبرى وعاد على الزحافات، أمَّا الباخرة فإنه تركها محبوسة في الجليد، فلمَّا أشرقت الشمس طويلًا وذاب بعض الجليد نزلت الباخرة من نفسها مع تيَّار الماء فوجدوها في ثغور النورويج وجعلوا يوم وصولها مثل الأعياد. وأمَّا نانسن نفسه فإنه نال غاية العزِّ والإكرام بعد رجوعه، وقابَلَ الملوك والعظماء وخَطَبَ وكَتَبَ كثيرًا عن سياحته، فجَمَعَ مالًا طائلًا جزاء مخاطرته في خدمة العلم والاكتشاف.
قصر إسبانيا: لم يكن لهذا القصر نظير بين قصور الدول؛ لأنه مثَّل كثيرًا من حالة العرب على عهد امتلاكهم لبلاد إسبانيا، فكان منظره وما فيه يلذُّ للشرقي ويعيدُ إلى الذهن ذكر أحسن أيام الدول العربية الزاهرة في الأندلس، فقد رأيتُ فيه قباء أبي عبد الله آخر سلاطين الأندلس من بني الأحمر وأسلحته وجرابَين كان يضع فيهما نسختين من القرآن، ورأيت عمامة حربيَّة من النُّحاس كان يلبسها أمير البحر خير الدين باشا، وهو الذي يعرفه الإفرنج باسم بارباروسا أو ذي اللحية الحمراء، وكان في هذا القصر كثير يمثِّل الأزياء الإسبانية الحالية ومصنوعات تلك البلاد.
قصر ألمانيا: اهتمَّت أمَّة الألمان بإقامة هذا القصر ونحو ٢٠ موضعًا غيره في أجزاء المعرض العام؛ لأنها خَطَتْ في الصناعة والتجارة مدَّة الأعوام الأخيرة خطوات واسعة، فنَمَتْ معاملها وتعدَّدت مصنوعاتها وجعلت ترسل المندوبين منها إلى سائر الأقطار يعلمون حاجة الناس ويوصون على الأشياء التي تفي بحاجاتهم حتى إن المتاجر الألمانية عمَّت، وأصبح كثير من أسواق الأرض خاصًّا بالألمانيين دون سواهم؛ ولهذا كان الاهتمام لعرض المصنوعات الألمانية في معرض الدول عظيمًا، فإنهم أنفقوا على بنائه ستة ملايين وستمائة ألف فرنك، وكان بناءً بديعًا فخيمًا، دُهِنَ بتراب الرُّخَام حتى يُخيَّلَ للرائي أنه مبنيٌّ من الرُّخَام برمَّته. وكان هذا القصر الألماني ممتازًا بين أمثاله من معارض الدول في أنَّ له شرفة طويلة في الدور الثاني يظْهَر منها المعرض كله، وأمَّا الأشياء التي ضمَّها هذا القصر فكثيرة لا يسهل عدُّها على القارئ، نذكر منها آلات جديدة لصبِّ الحروف المستعمَلة في الطباعة، وصورة جوتمبرج — وهو ألماني مرَّ ذكره في فصلٍ آخر من هذا الكتاب، كان أول من اخترع الطباعة بالحروف على النسقِ الحديث — وغير هذا كثير.

هذه سلسلة القصور التي بُنِيَتْ على ضفَّة النهر تمثِّل حالة الدول والأمم تمثيلًا يجعل المتنقِّل بينها كأنه ساح من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، ورأى زُبْدَة ما يستحقُّ الذكر في كلٍّ من تلك الأقطار، وأمَّا قصور الدول الأخرى التي بُنيت في شارع تروكاديرو فهي كما يجيء:

قصر روسيا: معلومٌ للجميع أنَّ هذه الدولة الضخمة السلطان مشهورة باتساع مواردها وكثرة كنوزها وحاصلاتها، ولها مزيَّة بكثير من المصنوعات والحاصلات ليست لبقيَّة الأمم، مثل الفرو يُصدَّر أكثره من بلاد الروس ويُصْنَع في مدائنهم، وقد كان لهذا النوع قسم كبير في القصر الروسي استلفت أنظار المتفرِّجين ولا سيَّما السيدات منهم، وقد أتقنوا عرض هذه الفراء الثمينة فوضعوا أشخاصًا من الخشب كالرجال والنساء والأولاد وألبسوها أنواع الفرو الثمين مفصَّلة على جميع الأزياء، هذا لملابس السيدات داخل المنازل، وهذا للخروج في أيام الشتاء، وهذا للحفلات وهذا للاستقبال، وكان بين تلك الأزياء شكل سيدة خارجة من حفلة وهي لابسة جُبَّة من أثمن أنواع الفرو، وهو يُقدَّر بأضعاف قيمته من الذهب لندرته وجماله المفرِط وصعوبة الحصول عليه، وكان هنالك قطعة من فرو السمور الأسود لم أرَ لها نظيرًا في جمال سوادها الساطع اللامع ونعومتها، فلا عَجَبَ إذا بلغ ثمنها ٧٥٠٠٠ فرنك، وقد كُتِبَ عليها هذا الثمن الكبير، وقد مثَّلوا في هذا المعرض أيضًا حالة الصياغة الروسية، ولا سيَّما ما خُصَّ منها بالآثار الكنائسية؛ فإنهم جاءوا بالصُّيَّاغ من روسيا كانوا يصيغون أفاريز من الفضة تُطْلَى بالذهب وتُوضَع فيها الأيقونات، كذلك صنع الطلاءِ المعروف بالمينا، وهو مما امتاز به الروس وكان له قسم في القصر الروسي. وكانا في هذا القصر خارطة الشرق البعيد، وفي وسطه سكَّة الحديد العظيمة التي توصل روسيا من أطرافها عند بطرسبِرْج بأقصى ملاكها في الشرق عند فلادفستوك، والأرض التي قامت بسببها أكبر الحروب الحديثة بين دولتَي روسيا واليابان.
قصر الصين: بُنِيَ القصر الصيني إلى يمين القصر الروسي، وقد جعلوا له مدخلًا يحكي البوابة الكبرى التي قامت في أول حي الإمبراطور في مدينة بكين عاصمة الصين، أشغل هذا القصر أرضًا واسعة من المعرض؛ لأنهم لم يقتصروا فيه على عرض الأشياء الصينية، بل هم جاءوا بالعُمَّال من بلاد الصين، وقد رأيتُ فيه الصُّيَّاغ يصيغون جميل الأشكال والنجَّارين والخرَّاطين والنحَّاتين كلٌّ يعمل بحرفته، ولهم صبر غريب على نقْشِ الزخارف الدقيقة في العاج والخشب والمعادن، واشتُهرت بها صناعتهم من قِدَمٍ، وكذلك رأيت النسَّاجين يحيكون الحرير وغيره بالأنوال على الطرق الصينية، فكأنَّما هذا القصر كان معملًا لصنْعِ البدائع الشرقية، يودُّ الزائر لو يقيم فيه زمانًا يتأمَّل أولئك الصُّنَّاع وما يصنعون.
قصر الهند: إذا دخل المرء هذا القصر حسب نفسه متنقِّلًا في بلاد الهند العظيمة؛ لما يرى في جوانبه من أنواع المنسوجات الشرقية والأسلحة القديمة والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة من نحاس وذهب وفضة وغيرها، كلُّها منقوشة أجمل نقش وقد قُطِّعَ العاج أشكالًا شتى كثيرة الزخرف والإتقان، ويُذْكَرُ في هذا الباب أيضًا قصر جزيرة سيلان المشهورة؛ لأنها من أجزاء السلطنة الهنديَّة، وهي معروفة بما يُصدَّر من أرضها كل سنة من الشاي والأفاوية والرصاص الذي تُصْنَع منه الأقلام المعروفة، فإن قيمة المتصدَّر من هذا الصنف وحده كل سنة لا تقلُّ عن ١٢ مليون فرنك. ولمَّا كانت المصنوعات الهندية مشهورة في هذا القُطْر فلا نطيل في وصف قصرها ومصنوعاتها في معرض باريس.
المستعمرات الإنكليزية: أشْهَرُ المستعمرات الإنكليزية التي أقامت لها القصور الخاصَّة وعرضت مصنوعاتها وحاصلاتها في هذا المعرض مستعْمَرَة كندا، وهي قُطْرٌ واسع عظيم واقع في أميركا الشمالية، كانت مِلْكًا لدولة الفرنسيس بعد اكتشاف أميركا، ولكن إنكلترا استولت عليها في سنة ١٧٦٠ بالحرب، وما زالت هي أهمُّ مستعمراتها، وأهلها خليط من مهاجري الإنكليز والفرنسيس، وهم على درجة عُلْيا من التقدُّم والارتقاء، وقد أظهروا بين معروضاتهم في قصر كندا أنواع الشكر الكبير الباسق الذي يكثر في غياض تلك البلاد، وكثيرًا من الحاصلات الزراعية التي يصدِّرونها إلى بعيد الأقطار.

ومن هذا القبيل قصر أوستراليا — أي القارة التي مَلَكَتْهَا إنكلترا برُمَّتها، وهي تزيد خمسة وعشرين ضعفًا عن مساحة أمِّها إنكلترا — وقد عرضوا في هذا القصر أنواع الذهب الأوسترالي، وهو أهمُّ حاصلات البلاد الطبيعية، وكان المُسْتَخْرَج منهُ في السنوات الخالية مقدارًا عظيمًا، فهم بنوا في هذا القصر هرمًا ورقموا عليه السنين التي اشتغلوا فيها بإخراج الذهب من أرض أوستراليا، ومقدار ما أخرجوا كل عام، وقد بَلَغَ الذي استخرجوه قبل عام المعرض — أي في سنة ١٨٩٩ — مليون أوقية ونصف مليون، بلغت قيمتها ٦ ملايين جنيه.

ومن هذا القبيل أيضًا قصر الترانسفال، وكانت يومئذٍ جمهورية مستقلَّة ولم تكن مستعْمَرَة إنكليزية كما هي الآن، وكانت الحرب سجالًا بينها وبين إنكلترا في أيام المعرض، فأراد أهلُهَا أن يظهِروا قوَّتهم على ما هم من قلَّة العدد وبراعتهم في مقاتلة دولة عظيمة جرَّدَتْ عليهم ٢٦٠ ألف مقاتل، قُتِلَ منهم وجُرِحَ نحو ٤٥٠٠٠ وأُنْفِقَ عليهم وعلى لوازم تلك الحرب ٢٣٠ مليون جنيه بعد حربٍ دامت ٣٠ شهرًا، وكان في صدْرِ القصر يوم دخلتُهُ صورة كروجر آخر رؤساء جمهورية البوير، وفيه نساءٌ وأولاد من البوير يظهِرون طرق استخراج الألماس من بلادهم وتنقيته والبحث عنه في الأتربة والحصى، وهنالك جدول بمقدار ما استُخرج من هذا الجوهر سنة بعد سنة، وجدول آخر بمقادير الذهب التي استخرجوها من مناجم جوهانسبرج، وكانت أهمية الترانسفال يومئذٍ منحصرة في الذهب والألماس والحرب التي أدَّت إلى تظاهر كثير من الزائرين.

بقيَّة القصور: وقد ضاق بنا المقام، فليس يمكن الإسهاب في وصفِ بقيَّة القصور، فنشير إليها موجزين. من ذلك قصر اليابان، أشْهَر ما وضعوا فيه اللؤلؤ الأسود، وقصر موناكو يمثِّل أشهر ما فيها، وهو الكازينو الذي فاق كلَّ أماكن المقامرة في الوجود، وقصر البورتوغال بُنِيَ من دورين وامتاز بوجود جوق على بابه من الموسيقيين الزنوج، وهم جنود بملابسهم الرسمية تحت قيادة ملازم من جنسهم جاءوا بهم من مستعْمَرَة سان توماس، وكان إقبال الناس عظيمًا على هذا القصر؛ ليروا هؤلاء الجنود وما بهم من اعتدال في القَدِّ وتناسبٍ في الملامح؛ وليسمعوا الأنغام.

على أنَّ الأمم لم تكتفِ بهذه القصور كما تقدَّم القول؛ فإن إنكلترا عَرَضَتْ أشياءها المتعدِّدة في ٢١ مكانًا غير قصرها في الأبنية العمومية، مثل قصر الآلات الميكانيكية، وقصر البحرية والحربية والمعادن والخمور. وأميركا أشغلت ٢٠ مكانًا بمعروضاتها، والنمسا وألمانيا ١٩، وبلجيكا ١٧ وإيطاليا ١٥، وكلٌّ من إسبانيا والسويد والنورويج ١٣، فكان تمثيل حالة الأمم ظاهرًا في كلِّ جزءٍ من أجزاء هذا المعرض العظيم.

معرض الآلات: لا ريب أن التمدُّن الحديث قائم بآلات الصناعة على أشكالها، وأنَّ معارض الحضارة تزيد أهميتها بزيادة ما فيها من هذه الآلات؛ فقد أجمع الكُتَّاب على اعتبار ذلك نقطة الأهمية في كلِّ معرض؛ لأنه الدليل الأكبر على درجة تقدُّم الأمم، وأنا أعدُّ قولهم صوابًا. والآلات الميكانيكية التي يقوم بها التمدُّن الغربي لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، منها ما هو صغير تكاد لا تراه إلا إذا قربت منه، ومنها ما هو كبير بحجم الآكام الكبرى، ولكلِّ آلة غرض معلوم، فمن الأغراض ما هو نافعٌ مثل إنماء الزراعة وإتقان الصناعة، ومنها ما يضرُّ وقد أُوجِدَ للهلاك، مثل آلات القتل والفتك في الحروب البحرية والبرية، وهي كثيرة عندهم متنوِّعة الأشكال، حتى إنها حَوَتْ خلاصة علوم البشر في الهندسة والطبيعيات وسواها، وقد تفنَّنوا بها في هذه الأيام تفنُّنًا غريبًا، وكان في معرض الآلات الذي نحن بصدده أدوات كثيرة من هذا القبيل، ولكن القسم الأكبر من هذا المعرض المهم كان للآلات النافعة، مثل المحاريث وبقيَّة الآلات الزراعية الحديثة، والآلات الرافعة والدارسة والطاحنة والكاسرة، والعازقة والراوية والقاطعة والناشزة أشكالًا تحار في دقَّتها الأفكار. وقد اشتركت جميع الممالك في هذا القسم من المعرض، وأتت كلُّ أمَّة بما عندها من الأشكال لكلِّ نوعٍ من أنواعِ الآلات الميكانيكية، فكنت ترى من آلات الحرْث مثلًا عشرين نوعًا على الأقل، ومن الطلمبات أكثر من ذلك، وقِسْ على هذا في الباقي، فكان بناء الآلات شغلًا شاغلًا للزائرين يبقون على التنقُّل في جوانبه والتفرُّج على ما فيه ساعات متوالية حتى تملَّ النفوس، ولا تنتهي العين من رؤية جميع الأشكال. وإنِّي وقفتُ زمانًا مثل بقيَّة الواقفين، وجعلتُ أتأمَّل أدلَّة الحضارة الحديثة، مثل معاصر القصب من معامل البلجيك وآلات الحرث بالبخار من إنكلترا وأميركا، وقاطرات سكَّة الحديد من فرنسا وبعضها من أميركا، وهي العربات المعروفة باسم مخترعها بولمان، لا ريب أنها أحسن عربات سكك الحديد وأقلها رجرجة، وأنسبها للسفر وراحة المسافرين، ومعدَّل ثمن العربة منها أربعة آلاف جنيه. وبين الآلات الكبرى التي رأيتها في هذا المعرض عيار لرفع الأثقال من صُنْعِ المعامل الألمانية وزنه ٢٥ ألف كيلو، وآلة تدير غيرها من الآلات بقوَّة البخار لها قوَّة ٢٠ ألف حصان من صُنْعِ المعامل الفرنسوية، وغير هذا كثير لو شئتُ أن أشيرَ إليه موجزًا لطال المقام.
قصر الكهرباء: ومعلومٌ أنَّ عصرنا عصر البخار والكهربائية، وأنَّ التمدُّن الحديث يظهر بأبهى مظاهره في أبواب الآلات البخارية والكهربائية، فأمَّا البخارية فقد تقدَّم بعض الكلام عليها، وأمَّا الكهربائية فإنهم جعلوا لها في المعرض بناءً خاصًّا كان من تُحَفِ الدهر وغرائب هذا المعرض العظيم، ولا سيَّما لأنَّ أجزاء المعرض كلها كانت تُنَار بالمصابيح الكهربائية، وبعض أثقالها يُجَرُّ بالقوة الكهربائية أيضًا، وكلُّ هذه الأنوار وهذه القوى تتولَّد من الآلات الموجدة لها في بناءِ الكهربائية الذي نحن الآن بشَأْنِهِ وتتوزَّع منه إلى بقيَّة الأجزاء حتى إلى رأس برج إيفل المشهور، وكان طول هذا البناء ١٣٠ مترًا، وارتفاع سقْفِهِ عن الأرض ٧٠ مترًا، وهو كما تقدَّم القول ينير المعرض ويدير بعض آلاته حتى إذا اضطرب سير هذه الآلات في قصر الكهربائية بَطَلَ كثيرٌ من الحركة في أجزاء المعرض وساد الظلام بدل النور البهي، وقد كانوا في آخر مدَّة التفرُّج من كلِّ ليلٍ يفعلون ذلك، أي إنهم يوقفون الحركات ويطفئون جميع الأنوار بزرٍّ صغير يضغطون عليه فينقطع المجرى الكهربائي، وينتهي دور العمل في ذلك اليوم.
قصر الجيوش: مثَّلوا في هذا القصر حالة الجيوش البرِّيَّة والبحريَّة في جميع الممالك حسب طرقهم الحديثة والنظامات المتَّبعة الآن عند المتمدِّنين، وقد اشتركت فيه كلُّ الممالك الكبرى، فلَزِمَ لعرض أشكاله أن يكون البناء واسعًا؛ ولهذا بلغت مساحة هذا القصر ٤٦١٠ أمتار مربَّعة، وكان مثابة الألوف كل يوم من الزائرين؛ لأن آلات الحرب ومعدَّات القتال ما زالت من قِدَمٍ ساحرة للأفكار جاذبة للنفوس. ولقد كان في هذا القصر كافَّة ما في جيوش الأقطار المتمدِّنة من أدلَّة التقدُّم والارتقاء، مثل مستشفى عسكري لنحو ٣٠٩ من الجنود جاءوا به من ألمانيا، وصنعوه على نَسَقِ المستشفيات المعوَّل عليها في الجيش الألماني، ووضعوا فيه أيضًا أنواعًا من الآلات البخارية التي يستعملونها لتدفئة الثكنات في الشتاء، وأنابيب تمتص الهواء الفاسد من غُرَفِ الجنود وتدْفَعُهُ إلى الخارج، وتأتي بدله بالهواء، وهنالك مثال المستشفيات النقَّالة لساحات الحرب وطرق التمريض، وبعض الآلات العلمية التي تفيد في الاكتشاف والاستطلاع، غير الأسلحة التي اشتُهر أمرها، ولكلِّ دولة منها أنواع.

وقد عرضوا في هذا القصر أيضًا أمثلة من البارجات الحربية على أشكالها، فكنتَ ترى المدرَّعة الكبرى مثالًا أمامك واقفًا على قاعدةٍ من الخشب، وقد ظهرت في هذا المثال أجزاء المدرَّعة إلى أعلاها بكلِّ وضوح، حتى إنهم صنعوا تماثيل الضباط واقفة تدير حركة البارجة وقد أعدُّوها للحرب والقتال أو للسفر إلى بعيد الثغور، فكان إعجاب الزائرين كثيرًا بما في هذا القصر الجميل.

سكَّة الحديد: ذكرتُ فيما مرَّ الوسائل التي عوَّلوا عليها لنقل الزائرين إلى المعرض، وقد بقي علي أن أذكر ما استنبطوا من الطرق لنقل الناس من جهةٍ إلى جهةٍ في جوانب المعرض من داخل أبوابه، ويعلم القارئ أنَّ اتساع هذا المعرض العظيم جعل تسهيل سُبُل النقل والحركة أمرًا محتَّمًا؛ لأنه أشغل أرضًا مساحتها مليون وثمانون ألف متر كما تقدَّم، فكان الانتقال من طرف في داخله إلى طرف عسيرًا لولا ما دبَّروا من وسائل التسهيل، وفي جملة ذلك سكَّة الحديد تكاد تحيط بأطراف المعرض كله، وطولها ٣٢٦٥ مترًا، كانت الأرتال تجري عليها بسرعة ١٧ كيلومترًا في الساعة، وجعلوا لهذا الخطِّ البديع داخل أرض المعرض خمس محطات يقف القطار في كلٍّ منها، وملؤه الأفراد من الذين يتنقَّلون بين هذه المحطات البهيَّة برخيص الثمن لا يزيد عن نصف فرنك، يحسبها المرء قليلة في جنب اللذة التي يشْعُرُ بها من ركوب قطار كهذا في أجمل مواضع الحضارة وبين أبهى المناظر وأفخم آيات الارتقاء، ولكنَّ هذه السكَّة مع غرابتها وجمال المشاهد المحيطة بها لم تكن أحسن ما ابتكروا من طرق الانتقال في أرض المعرض، بل إنهم صنعوا طريقة أغرب منها وأعظم تَرَى بيانها فيما يجيء: «الرصيف المتحرِّك» هو آيةُ الغَرَابَة الكبرى، ودليل التفنُّن البديع في وَصْلِ أجزاء المعرض بعضها ببعض وتقريب المسافات بينها ونَقْل الأفراد من جانب إلى جانب، كان نزهة النفوس وجاذب الخواطر وموضوع الحديث والاستحسان في جميع الأوقات. ولقد تسابقت أقلامُ الأُدَبَاءِ والبارعين إلى وَصْفِ هذا الرصيف المتحرِّك وبعض محاسنه، ولكنَّ الذي نُشِرَ منه بالعربية إلى الآن لم يكفِ لتصوير الحقيقة بتمامها حتى يفهمَ القارئ معنى هذا الرصيف البديع وكيفية حركته التي كانت شاغلًا للأكثرين.

ولبيان ما تقدَّم عن هذه الآية الكبرى من غرائب المعرض أقول: إنه شُكِّل في باريس شركة بَنَتْ جسرًا (كوبري) من خشب، طوله ٣٣٧٠ مترًا، ولكنه كان مع هذا الطول له منظر يقرب من الاستدارة، وقد أقاموا هذا الجسر على عُمُدٍ متينةٍ ضخمة من الحديد والخشب، وكان علوُّه سبعة أمتار عن سطح الأرض، وبنوا فوق هذه العُمُد رصيفًا من ألواح الخشب رُصَّتْ بعضُها إلى بعض حتى كأنَّها لوح واحد من الخشب، وركَّبوا تحت هذه الألواح عجلات صلبة، مثل عجلات السكك الحديدية تدور بقوَّة المجرى الكهربائي، وأنت لا ترى حركتها من تحت قدميك ولكنك ترى نفسك واقفًا فوق الرصيف أو جالسًا إلى أحد الكراسي الموضوعة عليه، وقد قسَّموا هذا الرصيف ثلاثة صفوف أو أرصفة، أحدها إلى جانب الآخر، ولا يبعد الرصيف منها عن التالي له إلا مقدار قيراطين، وكان الرصيف الأول أو هو الصف الأول من هذا الرصيف المتحرِّك ثابتًا لا يتحرَّك، وعرضه متر وعُشْر المتر، وأمَّا الرصيف الثاني وعرضه متر وتسعون سنتيمترًا، فكان يتحرَّك سائرًا بسرعة ٤ كيلومترات في الساعة، والثالث وعرضُهُ متران يتحرَّك أيضًا بضعْفَي سُرْعَة الرصيف الثاني — أي ٨ كيلومترات في الساعة — فكان الرُّكَّاب إذا أرادوا الذهاب على الرصيف المتحرِّك من مكانٍ في المعرض إلى مكانٍ يشترون تذكرة الانتقال من الرصيف، ثم يخطون إلى الرصيف الثاني المتحرِّك بالسرعة المعتادة، وهي سرعة الماشي في الطريق، ويتقدَّمون إلى الرصيف الثالث السريع، فإذا شاءوا وقفوا وإن شاءوا جلسوا إلى الكراسي، ويُخيَّل لهم أنَّ المكان ثابت بهم؛ لأنهم لا يرون له حركة ولا يشعرون بقلقلة ولا رجرجة ولا ضجَّة ولا غوغاء، ولا تصفير ولا عثير مثل الذي ينشأ عن الركوب في أرتال سكَّة الحديد، كلُّ ذلك والرصيف سائرٌ بهم يتنقَّل على ضفَّة السين ما بين هاتيك المباني الفخيمة والمشاهد العظيمة والحدائق الغنَّاء والقصور الشمَّاء والزخارف الحسناء، فهي سياحة قصيرة ليس لها نظير فيما تجتازه أرتال السكك الحديدية في جميع الأقطار.

ولقد كان الراكبون في الرصيف المتحرِّك يرون المعرض برُمَّتِهِ تقريبًا خلافًا للواقف في جانب منه ويمرُّون بالبواخر السائرة في النهر فتزيد المشاهد التي تُعْرَض عليهم في هذا السفر الشهي، وكان الرصيف المذكور دائم التحرُّك لا يبطُلُ انتقاله في جوانب المعرض من الصباح إلى المساء والناس تنتابه ألوفًا، هؤلاء يصعدون على الطريقة التي تقدَّم وصفُهَا، وهي طريقة التدرُّج من الرصيف الثابت إلى المستعجل، وهؤلاء ينزلون على عكس الطريقة المذكورة؛ أي إنهم ينتقلون من الرصيف الأخير إلى الثاني ومنه إلى الأول الثابت حيث يريدون النزول. وقد جعلوا حركة هذا الرصيف في أبهى بقاع المعرض وأعظم جوانبه، وكان يجتاز هذه المسافة في ٢٥ دقيقة، ويمكن أن يقفَ عليه ١٣٤٠٠ شخص في آنٍ واحد، وكان إقبال الناس على هذا الرصيف الجميل عظيمًا، وكثر حدوث النكات والحوادث المضحكة عليه في كلِّ يوم، فإن زُمَرًا من الناس كانت تجيء معًا للانتقال عليه، فإذا انتقل بعض الرفاق قبل غيرهم إلى الرصيف المستعجل سبقوا رفاقهم الذين يسيرون بسرعة الرصيف البطيء، فتنقسم الزُّمَر ويبعد الرفاق عن الرفاق، وهم لا يرون حركة توجب هذا الانفصال. ويقوم المتأخِّرون منهم عدْوًا حتى يدركوا المتقدِّمين، وكان بعضهم — ولا سيَّما الصغار — يركضون إلى الوراء فوق الرصيف — أي في جهة تخالف جهة سيره — فيتعبون من الجري، وهم على ما يرون ما زالوا في مواضعهم لا ينتقلون، وكان لهذا الرصيف تسع محطات، ولكنه لم يجعل تلك المحطات للوقوف؛ لأنه كان دائمَ الحركة، إنما الرُّكَّاب كانوا يدخلونه أو يخرجون منه في تلك المحطات، وكان المتفرِّجون من الكبار والصغار مئات على جوانبِ هذا الرصيف، والمصوِّرون أبدًا هنالك يأخذون رسوم الراكبين، وقد عرضوها بعد أيام المعرض بالسنماتوغراف، أو هي طريقة الصور المتحرِّكة في كثير من الأقطار، فكان الناس يرونها كأنَّما هم في أرض المعرض واقفون أمام الرصيف المذكور.

figure
الرصيف المتحرِّك.

هذا أهمُّ ما يُقال في الرصيف المتحرِّك، وهو بدعةُ المعرض ونقطة بهائِهِ، وقد بَنَتْهُ الشركة التي بَنَتْ سكَّة الحديد الكهربائية وكان رأس مالها أربعة ملايين فرنك.

وقد فطنوا إلى طرق أخرى كثيرة غير هذه لتسهيل الانتقال على الزائرين، ووضعوا ألوفًا من المقاعد والكراسي في شوارع المعرض وميادينه وطرقه، كان الذين يتعبهم الانتقال الطويل يستريحون عليها بزهيد الأجرة، وكان في هذه الطرق نوعٌ من الكراسي المتحرِّكة يجلس إليها المرء مستريحًا ومن فوقه المظلَّة تقيه من المطر أو حر الشمس، ومن ورائه خادم يدفع الكرسي فيسير على عجلات صغيرة إلى حيث يريد الراكب الوقوف. وعلى الجملة فإنهم أظهروا مزيد الاهتمام براحة الزائرين، فلم أسمع بشكوى مدَّة هذا المعرض العظيم.

المعرض المصري: كان في أرض المعرض العام غير القصور الرسمية التي تقدَّم ذكرها معارض أخرى خصوصية شُكِّلَتْ شركات شتى للقيام بها، وأهمها وأوفرها إتقانًا المعرض المصري بَنَتْهُ شركة رأس مالها ٤٠ ألف جنيه على شكل هيكل مصري قديم في خارجه، وعلى شكل خان أو وكالة من الداخل، مثل خان الخليل في مصر لبيع الحُلِي والمصاغات العربية، وكان فيه مرسح عربي على شكل قاعة في هيكل مصري قامت على أعمدة ضخمة، مثل عُمُد هيكل دندرة في قنا من مديريات القُطْرِ المصري، أو هيكل بعلبك من بلاد الشام، وزُيِّنَتْ بالألوان المصرية على يد ذوي خبرة بهذا الفن، وكان مسطح هذا المرسح وحده ١٠٠٠ متر يمثَّل به الرقص المصري. على أنَّ هذه الشركة وشركات أخرى سواها خسرت في هذا المعرض بدل الربح المنتظر؛ ذلك مع أنَّ المعرض المصري كان عظيم الإتقان، حتى إنه عُدَّ بين قصور الممالك، ولكن الخسارة جاءت من كثرة ما في هذا المعرض من المشاهد والمعارض واتساع جوانبه، حتى إن الناس كانوا يملُّون بعد رؤية الأشياء العمومية، أو لا يبقى لديهم وقت لبقيَّة الفروع، وقد حدث لي ما أيَّد هذا الظن في ذهني، فإنِّي يوم وصلت باريس قصدتُ رؤية المعرض المصري قبل كلِّ الأشياء، فحال دون مرادي ألف منظر فتَّان، وألف موضع بديع سبقت إليه، فلم أتمكن من دخول القسم المصري إلا في زيارتي الثالثة لأرض المعرض، ولا ريب أنَّ غيري تخلَّفوا عنه لمثل هذا السبب، فكان ذلك داعيًا إلى الخسارة كما تقدَّم القول.
باريس القديمة: من المعارض الخصوصية التي بَنَتْهَا الشركات معرض باريس القديمة، بنَوها في أرض لا تقلُّ مساحتها عن ٦٠٠٠ متر مربَّع، وأقاموا فيها أشكال البناء والتنظيم لتمثيل حالة باريس كما كانت من مائة سنة، فكان في جملة ذلك الكنائس والأسواق والمنازل على شكلها في أول القرن التاسع عشر تمامًا، ووضعوا هنالك أيضًا زوارق وسفنًا شراعية، مثل التي كانت تمخر في نهر السين في ذلك الحين. كذلك المراسح أقاموها على المثال القديم، وقام الممثِّلون والممثِّلات بتشخيص الروايات التي كانت شائعة يومئذٍ وعلى طريقة ذلك الزمان وأزيائه، والمدارس القديمة على نَسَقِ العصر الغابر كان الأولاد فيها بملابس القدماء، فكان ذلك كله فُرْجَة للناظرين تقاطَرَ عليه الناس بالألوف وعشرات الألوف، وكان فيه لذَّة لطلبة العلم بأحوال الناس من قِدَمٍ وتذكَّر الآباء والأجداد على الحالة التي دَرَسَت الآن، فما بقي لها ذكر إلا في مثل هذا المعرض أو في كتب التاريخ.
القرية السويسرية: ومن أجمل ما جادتْ به القرائح وولدتْهُ علوم المهندسين في هذا المعرض قرية سويسرية خطر لاثنين من أهل مدينة جنيف أن يشيِّداها في أرض المعرض وساعدتْهما حكومة سويسرا على إتمام هذا الاقتراح البديع؛ لأنه كان بمثابة إعلان لمحاسن سويسرا المشهورة يشوِّق الناس إلى زيارة تلك البلاد وزيادة عدد السائحين، وبالتالي زيادة الأرباح لحكومة سويسرا وأهلها مما ينفق أولئك السائحون، وهو نظر أولي الحصافة ورجال التدبير وشأن كلِّ حكومة ساهرة على مصلحة البلاد. وقد تمَّ بناءُ هذه القرية على أبدع منوالٍ، فجاءت مثالًا ساحرًا لما في بلاد سويسرا من السهول والأودية والجبال والبحيرات والشلالات والبيوت، وكانت القرية السويسرية في المعرض كأنها قطعة حقيقية من أرض سويسرا، تَسْرَحُ الأبقار الضليعة والماشية في مراعيها، وتَمْرَحُ الصِّبية والفلاحون في ربوعها، وتنحدر المياه العذْبة من شلالها، حتى إن الناظر لا يميِّز بينها وبين قرى سويسرا المشهورة بجمال مناظرها البهيَة، وآيات محاسنها الطبيعية التي ذاعت أخبارها في الخافقين. وقد صنعوا المراعي وجاءوا لها بالبقر والغنم والماعز تَرْعَى فيها على الطريقة الطبيعية، وأتوا بالفلَّاحين عيالًا وبيوتًا برُمَّتها من أهل سويسرا أقاموا في تلك القرية الصناعية كأنهم في الوطن المحبوب، وأنشئوا معملًا للجبن على أشكاله مما يُصْنَعُ في قرى سويسرا، ومحلًّا لبيع اللبن الشهي يغنِّي فيه ثلاثة من رعاة سويسرا أغاني بلادهم الجبلية، وبيتًا يمثِّل البيت الذي بات فيه نابوليون العظيم في حملته المشهورة على إيطاليا عن طريق جبال الألب في سنة ١٨٠٠، وأنشئوا أيضًا محلًّا لمصارعة الرعاة السويسريين على طريقة بلادهم، وكثيرًا من المناظر التي يمكن أن يتصوَّرها ذهن القارئ إذا رَجَعَ إلى الفصول السابقة عن هذه البلاد. وفي طَرَفِ هذه القرية مثال من جبال الألب جاءوا لها بحجارة صُنِعَتْ على مثال صخور الألب ولونها، ورصَّعوها بالزرع والنبت مما نَمَا في سويسرا نفسها، ونقلوه بترابه في البراميل وأوجدوا نوعًا من الشلَّال ينصبُّ ماؤه من قمة الجبل إلى وادٍ بديع المنظر، وكان في ذلك الجبل مثال من مراعي سويسرا الخصيبة وبُقولها الخضلة وماشيتها الضليعة وحرجة من الشجر، وغير هذا مما بلغت نفقاته أكثر من مليون فرنك، وكان في جملة المشاهد المعدودة بين غرائب المعرض الكبير.
قصر الأزياء: كان المعرض على وجه الجملة ممثِّلًا للبشر في حالتهم الحديثة يوم إنشائه، وفي الحالات السابقة أيضًا، فهو أعظم مدرسة نشأت في الأرض للعلم بأمور الإنسان في جميع الأزمان؛ ولهذا أوجدوا بين أجزائه جزءًا يُعْرَف بقصر الأزياء جمعوا فيه نُصُبًا وتماثيل للرجال والنساء من أهل كلِّ عصرٍ وملَّة، وألبسوا تلك النُّصُب ملابس الأمم المختلفة حسب أزيائها في كلٍّ من العصور المشهورة حتى إذا دخل الزائر رأى البشر أمام عينه من قرون وأجيال على أشكالهم، كأنما هو ساح الأرض في زمانه وفي زمان الأقدمين معًا بزيارة هذا المعرض العظيم، وقد نسَّقوا تلك الأزياء حسب أجناس أصحابها ووضعوا كلَّ فئة في غرفٍ فَرَشُوها برياش يشبه رياش الأيام التي وُجِدَتْ فيها تلك الأزياء، وأكثر ما عرضوا في هذه الغُرَف أزياء النساء ما خلا قليل منها، مثل نابوليون الكبير بزيِّه وشكله الطبيعي، وهنري الرابع ملك فرنسا وغيرهما. وكان في الدور الأول من هذا القصر غرفة للأزياء المصرية القديمة على يمين القادم طُلِيَتْ بالألوان المصرية، وفيها امرأة تردَّت بثوب رقيق يتلاءم بهواء مصر وحرها، وشكلها مصري من النوع القديم المعروف، وقد جعلتْ تحدق بحاوٍ أمامها يقلب الحيَّات بين يديه والثعابين، وتجاه الغرفة المصرية غرفة لأزياء الرومانيين القدماء، وفيها النساء الرومانيات بجلابيبهنَّ الضافية وشعرهنَّ المعقوص وشكلهنَّ البديع، وقد وجَّهن الأنظار إلى خطيب يلقي عليهنَّ القول البليغ على عادة الرومانيين القدماء. وفي الدور الأعلى قاعة للأزياء الرومية على عهد مملكة القسطنطينية، وفيها مثال ملكة من ملكات القسطنطينية بملابسها الفاخرة تستقبل الضيوف من السيدات، وهنَّ بأزياء ذلك العصر المشهور بكثرة الزخارف الألوان. ويلي ذلك أزياء الفرنسيس أنفسهم في العصور الماضية كلها، وأمثلة من شهيرات النساء في هذه العصور بملابس أزمانهنَّ، ومن أشهرهنَّ جوزفين زوجة نابوليون الأولى، مثَّلوها هنا بثوب التتويج، وهي تخيط سلعة وأمامها قرينها يتأمَّل ويفكِّر، وملابسها فاخرة نفيسة أكثرها بيضاء موشاة بالذهب رسومًا تشبه النحل، وعلى كمَّيها صفوف من الألماس، وثمن هذا الرِّداء عشرة آلاف فرنك، وكان فوقه رداء آخر من القطيفة الحمراء مبطَّن بفرو غالي الثمن من روسيا قيمته مائة ألف فرنك، وقيمة تطريزه بالذهب ١٦٨٠٠ فرنك، وحذاؤها قطيفة بيضاء مطرَّز بالذهب أيضًا. وقِسْ على هذا بقيَّة الأزياء في كلِّ أدوار التاريخ الفرنسوي حتى أيام المعرض، والمقام ضيِّق عن الإسهاب في وصفها والتطويل.
مثال البندقية: وقد صنعوا مثالًا في المعرض لمدينة البندقية في إيطاليا، فأنشئوا الترع وفيها الزوارق الخاصَّة بتلك المدينة الحسناء (جوندولا)، وأقاموا من حول هذه التُّرَع أبنية وشوارع كأنها البندقية نفسها، مثل قصر الدوجات، أو هم الحكام القدماء لتلك المدينة، وكنيسة مار مرقص والميدان الفسيح الكائن أمامها، وحوانيت شتى يُباع فيها الزجاج الملوَّن آنية مختلفة الأنواع من صُنْعِ المعامل المشهورة في البندقية، وكان بعض الصُّنَّاع يصنعون شيئًا من هذه الآنية في الحوانيت المذكورة على مرأى من الزائرين.
بعض الغرائب: ومن هذا القبيل أنهم صنعوا كرة طول قطرها ٤٦ مترًا، جعلوها على شكل الكرة الأرضية ومن حولها القمر والكواكب تدور في أفلاكها وحول محورها الدورات المعلومة، وكلُّ ذلك بواسطة آلات، مثل آلات الساعات، وصَنَعُوا أيضًا نظَّارة عظيمة مقرِّبة للأشباح كانوا يرقبون القمر بها ويرونه كأنَّه على مَقْرُبَةٍ من الناظرين، وهنالك قاعة القلب ملأوها بالمرائي التي تعكس المنظر مقلوبًا، أسفله أعلاه، وأعلاه أسفله، فكنتَ ترى كلَّ شيء في هذه الغرفة مقلوبًا حتى الأشخاص، أرجلهم من فوق ورءوسهم من تحت، يرون ذلك ويخرجون ضاحكين مقهقهين. وقاعة الرقص كان فيها جماعات شتى من الراقصين والراقصات على كل الأنواع، منها الرقص القديم لليونان والرومان والمصريين والعرب والصينيين، وهؤلاء كانوا إذا انتهى دورهم بالرقص أبدوا للحاضرين التحيَّة على طريقتهم؛ أي إنهم يركعون ويقبِّلون الأرض وينصرفون، خلافًا للغربيين الذين يكتفون بالانحناء المعلوم. ومن هذا القبيل أيضًا صورة السَّفَر حول الأرض في مكان جمعوا فيه رسوم الأقطار، وكانت المناظر المتتابعة تمرُّ أمام الرائي من داخل نظَّارات متوالية تمثِّل جهات الأرض، كان الرائي متنقِّل بنفسه يرى مختلف الديار، مثل مرسيليا تمرُّ أمامه بمينائها، وما فيها من بواخر التجار، وطولون في مائها البارجات الحربية وعدن وبومباي ونيويورك، وغير هذا يتمثَّل أمام المتفرِّج على أهون سبيل. ومن هذا أيضًا معرض الفواكه والخمور جَمَعُوا فيه خمورًا وأثمارًا من كلِّ الأقطار، حتى إنِّي رأيتُ رابية فيه من تفاح أستراخان في بلاد الروس. وكان هذا المعرض كبيرًا وله سقف مرتفع من الزجاج، وفيه لكلِّ مملكة قسم تُعْرَضُ فيه أهمُّ الخمور التي تُصْنَع في تلك المملكة، مثل الوسكي لإنكلترا والنبيذ الحلو لإسبانيا، والبيرا للنمسا والشمبانيا والكونياك لفرنسا، وهم يعرضون عليك خمورهم هنا ويقدِّمون منها مثالًا ويعطونك جداول بما عندهم وأثمانها ترويجًا لبضائعهم على عادةِ التُّجَّار الغربيين.
المعرض في الليل: إذا كان المعرض مجموع غرائب وبدائع في النهار، فإنه كان آية البهاء في الليل وفتنة للأنظار، وإن أنواره المتلونة التي لا تُعَدُّ كانت عجيبة ساحرة للأفكار، ما رأى الراءون أبهى منها ولا أحسن في جميع الأقطار، كانوا إذا غابت الشمس وأرخى الليل سدولَه يعوضون عن أم الأنوار بألوف وعشرات الألوف من المصابيح الكهربائية في كلِّ موضع من جوانب المعرض، وقد نسَّقوا هذه الأنوار على طرق بلغت غاية ما تروم النفوس من الجمال الفتَّان حتى إنك إذا تنقَّلت بين هاتيك الصروح المَنِيفة والآثار المرصوفة والنفائس الحسناء والحرجات الغضيضة الفيحاء والطرق الباهرة الغنَّاء، وجدتَ الكل في حُلَلٍ من الأنوار التي تعشقها العين والنفس، وقد تفاوتت ألوانها وتبدَّلت من حينٍ إلى حين تتبدَّى لك المناظر من دونها صورًا متغيِّرة من عالم الغيب، فما أنت إلا في أرض مسحورة تتجلَّى لك الغرائب فيها من حيث لا تدري، وتنطبع في ذهنك من هاتيك الآيات البيِّنات صور ورسوم لم تخطر لك من قبل في بال، وليس ينسيها مرور الأعوام عليك والأحوال.

كان برج إيفل غريبة من غرائب الدهر في الليل؛ لأنك إذا رأيتَهُ في النهار حسبتَهُ طَودًا من الحديد، وأمَّا في الليل فإنه كان قطعةً من الذهب الوضَّاح رُصِّعَتْ بالجوهر الوهَّاج؛ لأنهم مدُّوا الأسلاك الكهربائية وأوصلوها بالمصابيح الملوَّنة في جميع أجزائه من أسفله إلى قمَّته الباسقة على علوِّ ٣٠٠ متر عن سطح الأرض، فكانت تلك الأنوار تتألَّق وتسطَعُ كأنها الكواكب في كبد السماء، وكذلك البوَّابة الأثرية أبدعوا وأجادوا في تنسيق مصابيحها الملوَّنة وعددها ٣٠٠٠ نور، وقنطرة إسكندر الثالث زيَّنوها بنحو ١٢٠٠ نور، وفعلوا مثل ذلك في كلِّ صرح وحرجة وبِرْكَة وطريق، فما كنتَ ترى في الليل إلا أنوارًا وراء أنوارٍ ترتاح إليها نفسك ويَعْجَزُ عن وصْفِ بهائها اللسان.

قصر الماء: ولقد كان لهذه الأنوار أبدع المناظر وألطف أنواع التأثير؛ إذ تسطَعُ من قصر الماء الغريب، حتى إن كثيرين من الذين زاروا هذا المعرض حسبوا قصر الماء في الليل أغرب غرائبه، وأبهى آيات محاسنه التي لا تُحْصَى ولا تُعَدُّ، ولا عَجَبَ فإن قصر الماء هذا كان من مُدْهِشَات الأمور، ومما يسْحَر الألباب ويدعو إلى التأمُّل بمحاسن الطبيعة ومقدرة الإنسان، وأنَّه كان غريبة من غرائب هذا المعرض بلا مراء. ولقد تفنَّن الكاتبون بكلِّ لسان في وصفِ هذا القصر العجيب، ولست بذاهب أنِّي أقْدِرُ على الإجادة في الوصف أكثر مما فعلوا، وهم مع كلِّ الذي قالوا لم يفوا هذا المنظر المدهش عُشْر حقِّه من دقَّة الوصف والإطناب؛ ذلك أنَّهم بنوا قصر الماء هذا على شكل قوسٍ طولها ١٣٠ قدمًا وارتفاعها ٧٠ قدمًا، وصنعوا لها كثيرًا من الأبواب والمخارج والكوى والنوافذ، وطلوها كلها ببهيِّ الألوان، ورصَّعوا كلَّ هذه الجوانب بالمصابيح الكهربائية، فكان عددها ٥٠٠٠ مصباح، إذا جاء الليل وأُطْلِقَ فيها النور سَطَعَتْ ولمعت كأنها الجواهر الغالية الحسناء أو الكواكب اللامعة في السماء. على أنَّ هذا لم يكن منتهى الإعجاز في قصر الماء، بل إن الماء نفسه عُدَّ غاية الغرابة والإتقان ومعجزة الجمال في هذا المنظر الشهي؛ لأنهم بنوا قصر الماء على أَكَمة من الأرض، وجعلوا لها درجات ومساطب صخرية يخرج الماء من أعلاها فيتدفَّق في هذه الجوانب عن علوِّ ٢٠ مترًا وبعرض عشرة أمتار، ثم ينصبُّ في بِرْكَة واسعة ومقداره ١٩٠٠ لتر في كلِّ دقيقة.

وفي وسط هذه البركة نحو ٦٠ أنبوبة يتصاعد الماء منها، ثم يعود وينصبُّ في البِرْكَة، وفي دائرها وجوانبها تماثيل وحوشٍ من الرُّخَام يخرُجُ الماء أيضًا من أفواهها، فما كنتَ ترى إلا مياهًا متدفِّقة بين تلك المناظر الحسناء. ثم إذا جاءت الساعة التاسعة من الليل بدأ موعد السِّحْر الحلال وآية الجمال الذي يُحْدِثُ في النفوس فتنة ويشرح الصدور؛ ذلك أنهم كانوا في هذه الساعة ينيرون قصر الماء بالأنوار وعددها ٥٠٠٠ في جوانبه، ويطلقون الماء فيتدفَّق في تلك العيون والنوافذ التي ذكرناها، ثم يبدءون بإرسال الألوان الشهيَّة البهيَّة على تلك المصابيح، وعلى الماء المتساقِط أيضًا من جميع الجوانب فترى القصر وماءه حينًا كله أخضر ثم يبدلون اللون، فإذا هو أحمر فإذا هو أزرق فإذا هو بنفسجي؛ ولهذا التغيير تأثير ساحر ومنظر لا يعْرِف قدره إلا من يراه؛ لأنك ترى جداول الماء أمامك تتدفَّق وهي حمراء أو خضراء، وقد يجعلون بعضها أحمر والبعض أخضر، أو يجعلون النقط المتساقطة من موضع واحد ألوانًا تُفرح القلوب وتدعو إلى الطَّرَبِ والإعجاب؛ ولهذا كان الناس يتسابقون إلى رؤية هذا المنظر الفتَّان من قبل موعده، ويتألَّبون ألوفًا شاخصة عيونها إلى قصر الماء حين تدنو ساعة هذه الأنوار وهذه الألوان، فما ترى إلا استحسانًا ولا تسمع إلا استصوابًا وإعجابًا من الواقفين، وقد بنوا هذا القصر البديع في شارع تروكاديرو، وهو الذي قام في وسطه برج إيفل وفيه خمسون ألف نور، وفي الطرف الآخر قصر التروكاديرو لا تُعَدُّ أنواره، فكنتَ ترى الناس كلَّ ليلة في هذا الشارع تُعَدُّ بعشرات الألوف، وقد عنَّ إليها أن تنتقلَ من بؤْرَةِ المحاسن الباهرة وتَبْرَح هذا المكان العجيب.

قصر خداع البصر: هو موضع أجادوا في تسميته باسم الأوهام أو خداع البصر؛ لأنه كان من آيات التفنُّن التي تَخْدَع الأبصار ولكنها تَسرُّ النفوس، بنوه قصرًا وراء قصر الكهربائية، وله قُبَّة كبيرة تحكي قبة الجامع، وقد صنعوا هذه القُبَّة وجدران القصر كلها من الداخل قطعًا من المرايا الصغيرة لصقوا بعضها إلى جانب بعض، فكان الناس يدخلون إليها وهم لا يعلمون الشيء الذي سيظهر لهم، وأذكر أنِّي لمَّا دخلتُ هذا الموضع كان المتفرِّجون معي نحو ٢٠٠ نفس على الأقل، فلمَّا دخلنا وتكامَلَ عددُنا أضاءوا المكان بالنور الكهربائي، فكان كلُّ نور ينعكس في كلِّ مرآة وفي بقيَّة المرائي وصور المتفرِّجين تعدَّدت تعدُّدًا هائلًا؛ لأنها كثرت بهذا الانعكاس فكنت تظنَّ أن أهلَ الأرض جميعهم حُشِرُوا من وراء تلك المرائي وما هم إلا تكرار صورة الواقفين معك، ويُخيَّل لك أنك ترى فضاءً واسعًا أو عالمَّا جديدًا كله أنوار في أنوار لا نهاية لها إلى آخر ما ترى العين، وهو منظر جميل مؤثِّر في النفوس.
قصر البلور: ويُذْكَر من هذا القبيل قصر البلور أيضًا بُنِيَ كله من الزجاج السميك بأرضه وسقفه وجدرانه وسُلَّمه ودرجاته وجميع أجزائه، وقد بَنَتْه شركة من أصحاب معامل الزجاج، وكان أكبر آيات التفنُّن فيه أنهم كانوا ينيرونه من تحت الزجاج، فترى الجدران والكراسي والسقوف والأرض وجميع ما في هذا القصر زجاجًا منيرًا، كأنَّ النور يخرج من الزجاج؛ لأنك لا ترى مصدره، أو كأنَّك جالس في وسط مادة جديدة شفَّافة لامعة يصدر النور منها وأنت في حيرة من هذا التفنُّن الغريب، وكانت أجرة الدخول إلى هذا المكان فرنكًا، وإقبال الناس عليه يستحق الذكر.
معرض الأندلس: شُكِّلَتْ شركة مهمة للقيام بعمل يمثِّل حالة بلاد الأندلس حين كانت في يد العرب، واستأجرت هذا المكان ومساحته ٥٠٠٠ متر مربَّع من أرض المعرض، وَبَنَتْ له بوَّابة للدخول طويلة العماد على شكل باب القصر العربي في إشبيلية من بلاد الأندلس، ويلي هذا الباب حوش أو رحْبَة، مثل حوش السباع المشهور في قصر غرناطة، وفيه النقوش العربية نقلًا عما في القصر المذكور، يضيء من ورائها النور الكهربائي حتى يرى المتفرِّجون تلك الرسوم والكتابات العربية بأجلى بيان، وقد أقاموا في هذا المعرض الأندلسي مرسحًا (تياترو) للراقصات الأندلسيات والإسبانيات، وعددهن أكثر من خمسين راقصة تتهادى بملابس الإسبان البهيَّة، وترقص وهي تنقرُ على الصنج في يدها، أو تلوِّح بمنديل وتنشد الأنغام المطربة أو الحماسيَّة على الطريقة الإسبانية المشهورة. ويلي هذا مرسح عربي واسع زخرفوه بالأشكال العربية، وكانوا يمثِّلون فيه حالة العرب أيام استيلائهم على إسبانيا، من ذلك حفلة عرس عربي، وفي جملة فصوله موكب الزوج قادم، وفيه رجال بالملابس العربية المقصَّبة وقد ارتدوا الرداء المعروف بالبرلس من الحرير، واعتقلوا الرماح والأسلحة الأخرى، وركبوا الجياد العربية بسروجها العربية المذهبة، ويتبع ذلك موكب الزوجة وهي داخل هودج يحمله جملان زُيِّنَا بالجوخ الأحمر المقصَّب والصدف تحت قيادة رجال من العرب، وكان الممثِّلون يدورون مرارًا داخل المرسح بهذين الموكبين، حتى يرى الناس جليًّا صورة الأعراس العربية القديمة، وينتهي بذلك الفصل الأول من فصول التشخيص في المرسح الأندلسي. وأمَّا الفصل الثاني فكانوا يمثِّلون فيه حربًا بين العرب والإسبان بملابس القومين في زمان تلك الحروب، وكان المكان محاطًا بالحوانيت، والطرق بُنِيَتْ ضيِّقة على الشكل العربي، حتى إن المرء لا يخرج منه إلا وقد ارتسمت في ذهنه صورة من حالة العرب في أيام دولهم الزاهرة وعزهم في بلاد الإسبان.
وليمة المشايخ: رأتْ حكومة فرنسا أن تعملَ بالكرم الفرنسوي المشهور في سنة المعرض وتكرِّم مشايخ البلاد وعُمَدَها؛ فدَعَتْهُم ليشهدوا محاسن ذلك المعرض، وأولمت لهم وليمة عظيمة كبيرة لا بُدَّ أن تبقى في التاريخ من ولائم البشر المعدودة؛ لأنها لم يحدث لها نظير في التاريخ الحديث، وقد لبَّى الدعوة يومئذٍ ٢٢٩٩٥ شيخًا تواردوا إلى باريس من كلِّ جهات فرنسا، وأُعِدَّت لهم الوليمة في حديقة التويلري المشهورة، حيث ضُرِبَت المضارب والسرادقات وصُفَّت الموائد صفوفًا صفوفًا، ولكلِّ مديرية من مديريات فرنسا صفوف معلومة وُضِعَتْ في موضع من الحديقة يضاهي موقعها في خارطة فرنسا، وكُتِبَتْ أسماء المديريات والجهات أمام كلِّ قسم من هذه الموائد حتى يهتدي المدعوون إلى مواضعهم في ذلك الزحام الشديد، ولو أنَّ تلك الموائد وضعت صفًّا واحدًا لما كفاها شارع كبير من شوارع باريس؛ لأنَّ طولها يبلغ إذ ذاك ٧٠٠٠ متر على الأقل، ولا حاجة إلى القول بأنَّ الخادمين والطُّهَاة والنُّدُل وسواهم بلغوا في هذه الوليمة عددًا عظيمًا لا يقلُّ عن ٣٠٠٠، منهم ٣٠٠ طاهٍ و١٥٠ رجلًا اشتغلوا يومين من قَبل الوليمة في إعداد أدوات الطعام كالشِّوَك والملاعق والسكاكين، ولزِمَ لهم أن يمدُّوا تلفونًا بين الموائد والمطبخ تسهيلًا لطلب الألوان، وقد بَلَغَ عدد الصحون التي استعملوها في هذه الوليمة ١٧٦ ألف صحن و٥٠ ألف ملعقة وقُدِّم في خلال تناول الطعام ٦٦ ألف رغيف و١٥٠٠ ديك و٢٥٠٠ بطة و٢٥٠٠ كيلو من السمك و٣٠٠٠ كيلو من لحم البقر و٤٠٠٠ طير، وقد شرب المدعوون ٢٢ ألف زجاجة من النبيذ الاعتيادي و١١ ألف زجاجة من النبيذ الفاخر و٧٠٠٠ زجاجة من الشمبانيا و١٠ آلاف زجاجة ماء. والظاهر أنَّ هذه الخمور لعبَتْ برءوس أصحابنا المشايخ حتى إنهم لمَّا انتهوا من الطعام والشراب؛ ذهبوا إلى المعرض وقد وضعوا جدول الألوان الذي يضعه الغربيون على الموائد، هذا في قُبَّعته وهذا في زرِّ سترته، وساروا على هذا الشكل كأنما هم يعلنون ما أكلوا وما شربوا، فكان ذلك داعيًا إلى تضاحُكِ الجمهور وتبادُلِ النكات الهزلية، مثل الدعاء بطول العمر للمشايخ، وطلب اللذَّة لحضراتهم فيما يأكلون، وغير هذا من النِّكات التي اشتُهر بها القوم الفرنسيس.
عيد ١٤ يوليو: معلومٌ أن يوم ١٤ يوليو هو يوم الجمهورية الفرنسوية وعيد الحرية لتلك الأمة المجيدة؛ لأنه تذكار يوم تخلَّصت الأمة من الحكم الاستبدادي في سنة ١٧٨٩ وسادت قوَّة الشعب، حين ثار الشعب على حكومة الملك لويس السادس عشر وحارب جنده، فتمكَّن في يوم ١٤ يوليو من تلك السنة من فَتْحِ قلعة الباستيل والاستيلاء عليها، وكانت تلك القلعة سجنًا للمجرمين السياسيين الذين يُزَجُّون بأمر الحكومة الاستبدادية وموضعًا للظلم، فلمَّا سقطت بين يدي الشعب عُدَّ سقوطها يوم النصر لمبادئ الجمهورية، فيومه عيد الحرية إلى الآن، والفرنسيس يحتفلون به في كلِّ مكان، وهم يقيمون الزينات الفاخرة في حديقة الأزبكية في مصر يومئذٍ — كما يذكر القُرَّاء — ويفعلون ما في الإمكان أينما كانوا في البرِّ أو في البحر يوم ١٤ يوليو المذكور. وأمَّا الاحتفال السنوي في باريس فإنه أبهى من كلِّ ما يصنعون في المدن الأخرى لما أنها عاصمة الدولة ومركز العز والحضارة، فهم احتفلوا بهذا العيد في سنة المعرض احتفالًا زاد في الأبَّهة والفخامة عن كل ما تَقدَّمه؛ لأن السنة كانت مشهورة، وباريس يومئذٍ مثابة أهل الأرض أجمعين، فما كنتَ ترى في تلك المدنية الزاهرة في ذلك العيد إلا الراية الفرنسوية كبيرة فوق الدُّور والحوانيت والأشجار، أو صغيرة في رءوس الرجال والنساء والأولاد وملابسهم، سواء كانوا من الفقراء أو الأغنياء، وما مرَّت عربة أو حافلة ولا ظَهَرَ منظر في ذلك اليوم إلا وفيه راية الجمهورية احتفالًا بهذا العيد، وقد استعرضوا قسمًا من الجيش في ساحة لونشان المشهورة، وحَضَرَ الاستعراض رئيس الجمهورية وأكابر دولته وسفراء الدول، ورُصِّعَتْ تلك المساحة بالسرادقات البهيَّة الفخيمة ومُلِئَت الطرق والجوانب بالعربات وأفراد الناس حتى إن الأشجار لم تخلُ من المتسلِّقين الذين أقاموا فيها لرؤية الاستعراض.

ولمَّا أقبل الرئيس لوبيه في الساعة الثالثة بعد الظهر بموكبه الحافل خفَّ الوزراء والقُوَّاد من سرادقاتهم لاستقباله، فلمَّا استقرَّ في مكانه رَفَعَ علم الجمهورية فوق رأسه، وأُطْلِقَت المدافع، وهتفت جماهير الناس بالدعاء له وللجيش، ثم بدأ الاستعراض بأمرٍ من وزير الحرب، وجعلت فرق المشاة والفرسان تمرُّ تباعًا بأزيائها المختلفة ونظامها البديع، وكلَّما وصلت فرقة أمام موضع الرئيس حيَّتْهُ، وكان رجال المدافع في آخر الجنود المستعرضة فلمَّا مرُّوا بعرباتهم الثقيلة ومدافعهم الفخمة ضجَّ الناس بدويِّ الاستحسان لهم، وكان منظر الفِرَق عامَّة غاية في الجمال والانتظام، ثم انتهى الاستعراض وجعلتْ هذه الفرق تعود إلى ثكناتها أمام كلِّ فرقة منها الموسيقى العسكرية، وعاد رئيس الجمهورية إلى قصره وهو في كلِّ موضع يحيِّي الجمهور ويحيُّونه بالهتاف ورَفْع القُبَّعَات، وبقي الناس كل ذلك النهار في هَرَجٍ وحماس وطَرَبٍ عظيم، حتى إذا جاء الليل وأُضيئت الأنوار التي لا تُعَدُّ في المعرض والمدينة، كانت باريس كأنها شعلة من نار تتوقَّد بما فيها من بدائع السحر الحلال، ومُدَّت الموائد في أطراف الطرق والرحْبات، فكان الناس ينتابونها للأكل والشرب وسماع الأنغام، ويقوم كثيرٌ منهم للرقص والمخاصرة في وسط الميادين، وقد بَطَلَ النقد وعمَّ السرور، وسار حكم العيد على الجميع. وكان في أجمل مواضع باريس في تلك الليلة بعد المعرض ساحة الكونكورد (الاتحاد) المشهورة، حيث اتجهت الأنظار إلى تمثال الألزاس واللورين، وهما الولايتان اللتان سُلِخَتَا من فرنسا وملكتهما ألمانيا بعد حرب سنة ١٨٧٠، وقد أقامت لهما الجمهورية هذا التمثال بعد الحرب على شكل أختَين متعانقتين، وغطَّى الجمهور شكلهما بالسواد إشارةً إلى الحداد على فَقْدِهما وضياعهما من قبضة فرنسا. وكان نشيد المارسليين الحماسي المشهور يُنشد حول هذا التمثال في كلِّ حين، والناس ينشدونه متأثرين متحمِّسين، وقد اشتدَّ زحام الناس مدَّة الليل في شوارع باريس وطرقها؛ لأن الناس رأوا أنَّ الليل صار نهارًا بما ضَاءَ من الأنوار في كلِّ منزلٍ وحانوت وسكَّة، فخرجوا بألوفهم يتمشَّون ويشاركون الآخرين في الفرح بالعيد ويتفرَّجون على تلك الأنوار والمشاهد التي تسحر الناظرين.

وإنِّي في الختام أقول إني شهدتُ معارض شتَّى في هولاندا وأميركا وفرنسا، والذي أرى أنَّ المعارض الباريسية تزيد رونقًا وأهميةً عن كلِّ المعارض التي تُقَام في المدن الأخرى، ولا عِبْرَة باتساع المعارض الأميركية الأخيرة؛ فإن ذلك الاتساع لم يجعلها أهمَّ من معارض باريس ولا أجملَ، وباريس نفسها تُعَدُّ معرضًا عامًّا لأنواع الحضارة وطوائف البشر؛ فهي أبدًا مثابة الكبراء والموسرين ومتنزَّه السائحين من كلِّ قُطْرٍ وملَّة، ليس يمكن أن تجاريها مدينة أخرى في هذه المزيَّة؛ نظرًا إلى ما اشتُهر عن باريس من المحاسن، وإلى قرب مركزها البديع من أكثر ديار المتمدِّنين.

فيشي

هي المدينة التي اشتُهرت بمياهها المعدنية على اختلاف الأشكال، تُوزَّع منها على سائر الأقطار، وينتابها ألوف الناس في كلِّ عام من كلِّ صوب، وبعضهم من أهل هذا القُطْر لمعالجة داء المعدة والكبد بمياهها، إمَّا شُرْبًا أو استحمامًا حسب شور الأطباء. ذهبتُ إليها من باريس والمسافة بينهما بسكَّة الحديد سبع ساعات، فإذا بها مدينة قامت في سهل فسيح منبسط يحكي أراضي القُطْر المصري، لا حَزَنَ فيها ولا وادٍ، وقد بُنِيَتْ على ضفَّتَي نهر اسمه آليه، يتدفَّق ويسيل في الشتاء من ماء المطر، فإذا جاء الصيف جفَّ أكثر الماء، ورأيت قاعه وما فيه من حصى ورمل مثل كثير من الأنهر التي تفيض بماء الأمطار. ومعظم ما نعلم عن تاريخ هذه المياه المعدنيَّة في فيشي، أنه كان في هذه الجهة دير لرهبان السيلستين، كانوا يعرفون نفع المياه التي تخرج من تلك الينابيع، بعضها بارد وبعضها حار، ويعالجون مرضاهم وبهائمهم بهذه المياه، فاتصل الأمر بأطباء باريس وعرفوا مزية ماء فيشي، حتى إن أطباء الملك لويس الرابع عشر استحضروا منها مقادير بالبراميل، وعولوا عليها في شفاء الأمراض، فثبت حينئذ نفعها، وبدأ الناس يعرفون طرق الانتفاع منها، وزاد في شهرتها أن مدام سفينيه الكاتبة المشهورة زارت فيشي سنة ١٦٧٦، وطفقت ترسل منها الرسائل الرنَّانة الشهيَّة بإنشائها اللطيف، فلمَّا شاعت تلك الرسائل أصبحت فيشي كعبة المستشفين. ولمَّا كانت أيام نابوليون الأول أَمَرَ هذا القائد الذكي ببناء مستشفى في مدينة فيشي وحمَّامات لجنوده، وبنى الإمبراطور نابوليون الثالث قصرًا فيها لقرينته الإمبراطورة أوجيني أقامت فيه زمانًا، وما زال القصر على حاله، وهو الآن مِلْك أحد الأطباء.

أمَّا ينابيع هذه المدينة المعدنية فثمانية، بعضها بارد والبعض حار، من ذلك نبع الكران كريل، ماؤه حار بدرجة ٤٤ سنتغراد، وماء أوبيتال وهو دافئ بدرجة ٣١، وماء سيلستين بارد درجته ١٢. وقد أظهرت الحكومة عناية كبرى بتحسين هذه المدينة، فأنشأت من زمان طويل روضة غنَّاء في وسطها، لها سور من الحجر علوُّه نحو متر، ولها أبواب عديدة لا تُقْفَل، وقد غَرَسُوا في جوانبها باسق الشجر الجميل من الصنوبر والكستناء، ونُظِّمَت الطرق البهيَّة في وسطه لتمشي فيها جماهير الناس والأفراد بعد شُرْبِ المياه أو تستريح على مقاعدها، وفي القهاوي الكثيرة الموجودة فيها، ويحيط بهذه الروضة دائرة من الفنادق لا يقلُّ عددها عن أربعين، وهي متلاصقة متوالية يتَّصل أحدُهَا بالآخر اتصالًا، فكلَّما جاء الصباح خَرَجَ المستَشْفُون من هذه الفنادق، وسار كلٌّ منهم إلى النَّبْعِ الموصوف لدائه، وأكثر الينابيع على مسيرة عشر دقائق من دائرة هذه الفنادق، وقد أحاطوا بعضها، مثل الكران كريل وأوبيتال التي تُبَاع مياهها في كلِّ الصيدليات بجدار من العُمُدِ الثخينة منفصل بعضها عن بعض، ومن داخلها بنات يمشين على القباقيب العالية؛ حذرًا على أرجلهنَّ من البلل، وهنَّ يأخذن من الناس أقداحهم؛ إذ يقف الناس خارج دائرة العُمد المذكورة فيملأنها بالماء ويناولنها للشاربين من طاقات صغيرة صُنِعَتْ لهذا الغرض، وإذا لم يكن مع الشارب قَدَح أعطينه الماء بقدح من عندهنَّ. ويتَّبع الناس في مقدار الماء المشروب وكيفية شُرْبِهِ أَمْرَ الأطباء، حتى إن بعضهم يشرب من نبع قبل الظهر ومن نبع آخر بعده، وإذا كان الماء حاميًا مثل الذي درجته ٤٤ شربوه مصًّا، كما يُشْرَب الشاي والقهوة. وأكثرهم يتحتَّم عليهم التمشِّي ساعات معلومة بعد شُرْبِ هذه المياه وتناوُل الطعام، وإذا جاء أحد الشاربين بشيء للفتاة التي تخدمه في هذه الينابيع، أخذت الفتاة ماله ووضعته في علبة ليُقسم المجموع كله على الرفيقات بالسواء في آخر النهار.

الحمَّامات: إن ماء فيشي يفيد في الشرب وفي الاستحمام أيضًا، فهم بنوا عدَّة حمَّامات على مَقْرُبَةٍ من الينابيع التي سبق ذكرها، وجعلوها ثلاث درجات؛ حتى يتمكَّن الأغنياء والفقراء من الانتفاع بمائها، ومع أنَّ هذه الحمامات بُنِيَتْ من وقت قريب؛ فإن الحكومة الفرنسوية أعدَّت مشروعًا لهدمها وإعادة بنائها لتوسِّعَها وتزيد معدَّات الراحة فيها للمستشفين، وهي — أي الحمامات — مِلْكُ الحكومة تؤجرها للشركات. وفي هذه الحمَّامات أنواع كثيرة، فمنها البِرَك ومنها المغاطس الباردة والحارَّة، ومنها الراشَّات المختلفة ينام العليل تحت إحداها على سرير فيتساقط عليه الماء رشًّا، ويصيب كل جسمه مدَّة عشر دقائق تقريبًا، يدأب فيها الخادم على دَلْكِ الجسم حتى إذا انتهى ذلك، وَقَفَ العليل وصوَّب إليه الخادم أنبوبة كبيرة ذات ثقوب يندفع الماء منها بقوَّة شديدة، والواقف أبدًا يدور، فإذا انتهى من ذلك سار إلى خادم آخر ينشِّف الجسم ويمدُّه على الطريقة المشهورة عند الفرنجة باسم «مساج»، وهو لفظ منقول عن العربية؛ لأن التمسيد والمسح والدلك وما يشبه هذا من عوائد العرب في الحمَّامات. وإليك إحصاء يظْهَر منه مقدار النفع من حمَّامات فيشي وينابيعها؛ فإنه قَدِم في سنة ١٨٥٢ إلى هذه المدينة ٦٨٢٣ نفسًا بقصد الاستشفاء، فلمَّا جاء عام ١٨٦٢ صار عدد القادمين ١٧٤٠١، وزاد بعد عشر سنين فصار ٢٥٥٢٤، وفي سنة ١٨٨٢ بلغ ٤٢٧٠٢ حتى إذا جاءت سنة ١٨٩٩ كان عدد الزائرين ٨٠٠٠٠، وهو تقدُّم مستمر ظاهر للعيان.

وفي هذه المدينة معامل يُصْنَعُ فيها الملح والأقراص من موادِّ مياهها المعدنية، وتُبَاع في جميع الصيدليات، وفيها مواضع كثيرة للتصدير تُمْلأ الزجاجات فيها بالماء المعدني مئات وألوفًا كثيرة كل يوم، وترسَلُ في القطارات إلى جميع الأقطار، وعدد الذين يذهبون للفُرْجَة على هذه المواضع ليس بقليل. وفي هذه المدينة من المتنزَّهات والملاهي ما يجعل السكن فيها هيِّنًا على المستشفين؛ أهمُّ ذلك الكازينو، وهو بناءٌ فخيمٌ على بُعْدِ خطوات قليلة عن الحديقة يمكن أن يضمَّ ١٠٠٠ متفرِّج وتُمثَّل فيه الروايات المفرحة والهزلية. وهنالك قاعة للرقص فسيحة أناروا سقْفَها بعشرات من المصابيح الكهربائية، فهي تَسْطَع كالنجوم في قُبَّة السماء، وهنالك أيضًا قاعات مشهورة للعب الميسر وقاعات للجرائد والكتابة، وعندهم جريدة تَنْشُرُ أسماء القادمين إلى فينشي كل يوم وأخبار السياسة والتجارة. وللكازينو ميدان واسع يشرف على الروضة التي سبق ذكرها، وفيه كثير من المقاعد والكراسي يجلس الناس إليها ويسمعون الموسيقى كل يوم بعد الظهر، وليس هذا كل ما في فيشي؛ لأنها أصبحت مثابة المتنزِّهين ومُلْتَقَى المتفرِّغين من عناء الأعمال، كما أنَّها مقصد الطالبين للعلاج، فهي فيها — غير ما تقدَّم ذكره — روضة أخرى أُنْشِئَتْ في أيام نابوليون الثالث، وفيها شجر الكستناء والصنوبر والدلب، وقد نُظمت هذه الروضة على ضفَّة النهر، وأُنْشِئَتْ بها مغارس الأزهار اللطيفة يعنون بها شديد العناء، فالناس يختلفون إلى هذه الروضة الحسناء ألوفًا يتمشَّون كلَّ يوم بين صفوف الشجر أو يجلسون إلى المقاعد القائمة في وسط الأزهار البهيَّة والرياحين. وهم يقيمون حفلة لسباق الخيل مرة كل عام في فيشي، فيأتيها المتفرِّجون من باريس وسواها لرؤية هذا السباق. وقد كان وصولي إلى فيشي في يوم ١٥ أوغسطس، وهو يوم عيد السيدة العذراء، عمَّ الناس فيه دليل السرور، فرأيتُ أنَّ زيارة هذه المدينة على الجملة تملأ البدن عافيةً والنفس سرورًا، ولا يخرج المرء منها إلا شاكرًا ما لقي من أسباب الصحة، والصحة أساس الحياة وهناء الوجود.

بين فيشي وجنيف: برحت فيشي في قطار قام في الساعة العاشرة صباحًا، فبَلَغَ جنيف بعد ٩ ساعات — أي الساعة السابعة بعد الظهر — وكان ذلك على طريق ليون، حيث ينتظر القطار نصف ساعة؛ لتمرَّ الأرتال الذاهبة إلى باريس ومرسيليا، فدخل بعض الرُّكَّاب قاعة الطعام، وأخذ بعضهم من المطعم سلالًا صغيرة خفيفة من القشِّ النظيف الجميل، في كلٍّ منها اللحم والدجاج، ونصف زجاجة من النبيذ والخبز وأقراص الحلوى والفواكه نوعين، وأقراص الشوكولاتة بدل القهوة، وأقراص النعنع بدل الشراب، وأدوات الأكل من شوك وسكاكين وصحون وفوط من الورق النظيف، كلُّ ذلك بأربعة فرنكات فقط، تأكله وترمي بقيته من نافذة القطار وهو سائر.

أمَّا مناظر الطريق بين هاتين المدينتين، فإنها مما لا تملُّ النفس رؤيته؛ فكلُّها بدائع طبيعية كالتي سبق وصفها في كثير من فصول هذا الكتاب، وصفوف من الشجر غُرِسَتْ على طرق هندسية تروق للناظرين، ولا سيَّما حين كان القطار يقرب من ضفاف الرون. ولمَّا قربنا من حدود فرنسا وسويسرا عند مدينة بل جارد تنوَّعت ألوان الغرس والزهر، فكانت الأرض جنَّات تجري من تحتها الأنهار، والأعشاب والأزهار كأنَّها الجواهر الحسناء تُبْهِرُ ببهائها الأنظار، وجبل سافوا يزيد في جمال هذه المناظر والوقار. ولمَّا بلغت مدينة جنيف ذهبتُ توًّا إلى فندق البوسطة، ونزلتُ في غرفة تطلُّ على بحيرتها المشهورة، وكان الليل قد أرخى سدوله فبِتْنَا ليلتنا فيها. فلمَّا أصبح الصباح عليَّ في تلك الغرفة فَتَحْتُ شباكها فتجلَّى لديَّ منظر بديع فتَّان لم أرَ أشهى منه وأبهى في كلِّ سياحاتي؛ لأنَّ البحيرة النقية البهيَّة كانت تحت طاقة غرفتي، وفيها الباخرات الجميلة تنقل ألوف السائحين والمتفرِّجين، ومن ورائها مباني جنيف وحدائقها الموصوفة، ويلي ذلك مناظر جبال جنيف مما ترى وصفه في الفصل الذي يجيء.

جنيف

هي قاعدة سويسرا الفرنسوية، ويُعَدُّ تاريخها جزءًا من تاريخ سويسرا العام، فنكتفي هنا بالقول إنها تولَّاها أمير ألماني حين دخلتْ في حوزة ألمانيا في القرن العاشر، فوقع النفور بين هذا الأمير وبين الأسقف؛ لأن الأمير استقلَّ بالأحكام فأغضب الأسقف وهو يومئذٍ ذو نفوذٍ عظيمٍ، فَوَقَعَ معظم الضرر من هذا التنافس على الأهالي الذين سئِمُوا الحالة ودعوا الكونت سافوا — وهو أمير جبل سافوا المجاور لجنيف — ليريحهم من الاثنين، فلبَّى الرجل الدعوة وقد لُقِّبَ خلفاؤه بلقب دوك سافوا، ومن نسله أمراء البيت المالك في إيطاليا الآن، أُطْلِقَ عليهم اسم موطنهم الأصلي، وهي عادة البيوت المالكة في أكثر الممالك الحديثة، مثل آل كوبرج وآل أورليان وآل هوهنزولرن، وغير هذا كثير ومعروف.

ولمدينة جنيف مأثرة على الإنسانية وفضلٌ على أهلها؛ لأنها نشأت فيها الحركة التي أدَّت إلى وجود جمعيات الصليب الأحمر، وهي مركز هذه الجمعيات إلى الآن؛ فقد كان جرحى الحروب في أوروبا إلى سنة ١٨٤٦ يُعامَلُون معاملة سيئة، ويقاسُون مُرَّ الآلام، فعُقِدَ في تلك السنة مؤتمر جنيف الأول، وسُنَّ فيها قانون خفَّف ويلات الحروب وقلَّل متاعب الجرحى والمرضى، وهو الآن سُنَّة كل الدول في حروبها الحديثة، نذكر هنا أهم بنوده زيادة في البيان، ومنها ما يجيء:
  • (١)

    تُعْتَبَر جميع المستشفيات الثابتة والنقَّالة في الحرب على الحياد، فيلزم على الجانبين حمايتها ومراعاتها ما دام فيها جريح أو مريض.

  • (٢)

    أنَّ رجال الدين والأطبَّاء وخَدَمَة المستشفيات عامة يُعدُّون على الحياد.

  • (٣)

    يجوز لخَدَمَةِ المستشفيات أن يبقوا على عملهم في معالجة المرضى والجرحى بعد أن يخرج جيشهم من موضع وجودهم ويحتله العدو، وإذا شاءوا الانسحاب بعد ذلك ساعدهم قائد العدو على الخروج، ولا يأخذون معهم في هذه الحالة غير أمتعتهم الخصوصية.

  • (٤)

    يجب المحافظة على جميع المرضى والجرحى والاعتناء بهم، بقطع النظر عن جنْسِهِم أو دينهم، ويحقُّ للقواعد أن يسلِّموا الجرحى والمرضى بعد الاتفاق بين الفريقين، حينما تَسْمَح الأحوال.

هذه أهمُّ الشروط التي اتفقوا عليها سنة ١٨٤٦، وقد جعلوا الصليب الأحمر علامة هذه الجمعيات؛ لأنه علامة جمهورية سويسرا التي ابتكرت هذا النظام، والشعار المذكور كثير في مصر يلبسه عمال المستشفيات في الجيش الإنكليزي ويُطْبَعُ على عرباتهم، وقد أُبْدِلَ بالهلال الأحمر في الجيش المصري ومستشفياته، وقد جَرُوا على هذه السُّنة في كلِّ حرب حتى إنه كلَّما نشبت حرب تألَّفت جمعيات الصليب الأحمر من أهل الأقطار الباقية على الحياد، وأَرْسَلَتْ عمالها وبواخرها وأدويتها لخدمة المتحاربين على السواء.

وسكان جنيف مع ضواحيها نحو ٨٠ ألفًا، نصفهم من البروتستانت، وكلهم يتكلَّمون الفرنسية، والسبب في تكاثر البروتستانت هنا مذبحة يوم برثلماوس المشهورة التي حَدَثَتْ في فرنسا سنة ١٥٧٢، حين هَرَبَ جون كالفن وبعض الذين أصابهم اضطهاد وخيم، وقام هذا الرجل خطيبًا في المدينة يُلْقِي الأقوال الحماسية حتى ضمَّ الأهالي إلى رأيه وحمَلهم على اعتناق مذهبه وطرد أسقفهم الكاثوليكي، فكثر أهل هذا المذهب من ذلك الحين. والمدينة على الجملة جوهرة من جواهر سويسرا، وهي من أجمل مدائنها، يحدُّها من الشرق والغرب والجنوب إقليم سافوا الذي ذكرناه، وقد كان مِلْكًا لأمراء سردينيا — وهم ملوك إيطاليا الحاليون — فأهْدَتْهُ حكومتهم لفرنسا سنة ١٨٦٠ جزاء مساعدتها لفكتور عمانوئيل الثاني على توحيد إيطاليا، وجعلها مملكة واحدة له ولنسله من بعده. وقد امتاز أهل جنيف من قِدَمٍ بصياغة المعادن والجواهر وبعمل الساعات؛ فهم يصدِّرون منها كل سنة ما تبلغ قيمته ١٠ ملايين فرنك أو تزيد، وأول ما صُنِعَ من الساعات التي تُدَار بلا مفتاح كان في هذه المدينة. ولها شهرة بمدارسها أيضًا؛ لأن التعليم فيها على قواعد قويمة حتى إن الطلبة يؤمُّون مدارسها من جميع الأقطار. وهي من قِدَمٍ مثابة الأدباء، نبغَ فيها الكاتب الفرنسي المشهور جان جاك روسو، وأقام فيها الشاعر الإنكليزي اللورد بيرون والقصَّاص الفرنسي لامارتين، وكتبوا فيها كثيرًا من ذائع مؤلَّفاتهم.

وقد بُنِيَ قسم من جنيف — وهو الأهمُّ — على ضفَّتي بحيرتها المشهورة التي سنُفْرِدُ لها فصلًا خصوصيًّا. وأمَّا القسم الآخر فبُني على نهر الرون الذي يخرج من طرف البحيرة وعليه ٨ جسور أو قناطر، أهمها جسر مون بلان، يذهب الناس عليه إلى الأحياء المبنيَّة على ضفة البحيرة أو النهر. وجنيف مثابة السائحين والزائرين، قلَّ أن يذهب امرؤ إلى سويسرا إلا ويقصدها؛ لأنَّ موقعها بديع وهواءها طيِّب، وأسباب المعيشة فيها هيِّنة، وليس فيها مع كلِّ متنزَّهاتها وملاهيها عيوب المدن الكبيرة الداعية إلى الانهماك وإضناء القوى. والجبل القريب منها مرصَّع بالضياع العامرة والفنادق الحافلة بالزائرين، قد تقيم فيها العائلات برخيص الثمن، وتتمتَّع بلذيذ المأكول الذي لا يدخله غشٌّ؛ فإن لبنَها وعسلها مما تُضْرَبُ به الأمثال، وإذا أردتَ أن ترى شكل المدينة عامَّة فقِفْ على جسر مون بلان الذي سبق ذكره ترَ البحيرة البهيَّة تمْخر فيها الباخرات المزخرفة، وإلى الضفتين صفَّان من شجر الدلب، تليهما الفنادق والمنازل الحسناء. ومن وراء هذا الجسر يرى الواقف كيف يخرج نهر رون الذي يروي قسمًا عظيمًا من أراضي فرنسا، فإذا سار المرء قليلًا من هذا الجسر إلى الضفَّة اليمنى رأى تمثال دوك برنسوك، وهو من أفْخَرِ آثار الصناعة الحديثة في أوروبا كلها، كان سبب إنشائه أنَّ هذا الأمير الألماني جارَ برعاياه فطردوه سنة ١٨٣٠، فلجأ إلى جنيف وأقام فيها بقيَّة أيامه، حتى إذا تُوفِّي سنة ١٨٧٣ وهب المدينة عشرين مليون فرنك، فأقاموا له هذا الأثر الجميل بمليونَي فرنك داخل حديقة صغيرة، وصُرِفَ الباقي في تحسين المدينة. ويليه الكورسال، وهو مثابة النزلاء والسائحين، فيه مواضع للمقامرة، ووراءه متحف إريانا فيه آثار سويسرية. وكلُّ هذا الطريق يرى السائرُ إلى يمينه البحيرة وباخراتها، وإلى يساره صفوف البناء المنسَّق والحوانيت الملأى بصناعة السويسريين، مثل الحلي والجواهر على أنواعها، ويمكن الوصول من هنا إلى قصر البارون روتشلد وحديقته بتذكرة تُعْطَى في الفنادق مجانًا. وفي هذا القصر من بدائع التماثيل الرُّخَامية ما يستوقف الأنظار.

هذا مُجْمَل ما في الضفة اليمنى. وأمَّا الضفة اليسرى من البحيرة فلا بدَّ للذهاب إليها من الرجوع إلى جسر مون بلان واجتيازه؛ حيث يرى المرء عند طرفه قهوة كورون يختلف إليها الناس ألوفًا، وجماعة النزلاء المصريين على نوعٍ أخص. وعلى مَقْرُبَةٍ منها تمثال الاتحاد الوطني، وهو عبارة عن فتاتين ضَمَّت إحداهما الأخرى تمثِّلان ولاية جنيف وبقيَّة الولايات السويسرية حين انضمامها سنة ١٨١٥ بعد سقوط نابوليون الأول الذي استولى على جنيف في جملة أملاكه. وبقرْبِ التمثال حديقة تُعْرَف بالحديقة الإنكليزية، وهي من بدائع الموجودات تَصْدَح الموسيقى فيها عصاري كل يوم، وتُقَام حفلات راقصة في الليالي المقمرة يأتيها أهل الطَّرَبِ من جميع الأنحاء؛ ليمتِّعوا الأنظار بمنظر البحيرة وفسقيات هذه الحديقة، وهي يخرج الماء من نحو ٣٠ حنفية فيها، ويندفع من صخور صناعية إلى علوِّ ٦٠ مترًا، وقد يلوِّنون الماء ليلًا فيكون له منظر يطْرِب النفوس. وفي هذه الحديقة منظر يمثِّل شكل مون بلان (الجبل الأبيض)، يرى الناس فيه هذا الجبل وغرائبه بالمنظار إذا لم يمكنهم المسير إليه. ويمكن المسير من هذه الحديقة إلى متنزَّه أوفيف، وهو مجموع مطاعم وحدائق ومناظر شتَّى، تروق للألوف الذين ينتابونها في الليل والنهار.

وقد انتهينا الآن من وصف المناظر القائمة على ضفَّتَي البحيرة، فعُدْ إلى جسر مون بلان لنَصِفَ ما قام في مدينة جنيف على ضفَّتي نهر الرون، وهي متصلة بهذه القناطر أو الجسور. وأول ما تجد في طريقك ميدان مولار تُباع فيه الأزهار على أنواعها، وفيه المحطة العمومية للترامواي الممتد إلى أطراف المدينة. واستمِرَّ على المسير من هنا تَبْلُغ محلًّا بُنِيَ فيه توربينٌ، وهي آلات ميكانيكية لها قوة ٤٢٠٠ حصان، تدور من جرْيِ الماء عليها وضغطه، فتُوزَّع منها المياه على المدينة، وتُنار بالكهربائية وتُدَار بعض المعامل، وكلُّ هذا بالقوَّة الكهربائية المتولَّدة من الحركة التي يولِّدها دفع الماء على هذه الآلات. ويمكن الوصول من هنا إلى موضع مُلْتَقى النهرين، وهما نهر الرون الذي نحن بشأنه، ونهر آفر يجري معه، ويفرق بين النهرين لونهما؛ لأن الرون ماؤه أزرق كالفيروز الشهي، ونهر آفر أغبر فإنه يخرج من الجبل، ويجرف كثيرًا في سبيله من المواد فيتعكَّر ماؤه. ويمكن المسير من هذا الموضع إلى متنزَّه الباستيون، وهو جميل كثير المراسح والملاعب والمناظر الحسناء، وهو من المواضع التي تُقْضَى فيها الأوقات ولا تملُّ النفوس، والانتقال من طرف في جنيف إلى طرفٍ هيِّن يسير؛ لأن فروع الترامواي كائنة في كلِّ جانب، والعربات كثيرة أينما سِرْتَ.

جبل ساليف: هو أبهى ضواحي جنيف، لا يأتيها سائح إلا ويقصده، وقد جعله الأهالي مثابتهم في أيام الآحاد؛ لأنهم يبلُغُونَه بسهولة وأجرة قليلة بعربات الترامواي إلى سفحه، ثم بقطار سكَّة الحديد إلى أعلاه. وقد ذهبتُ إليه في الصباح في رتل الترامواي مارًّا بين الحارات والأحياء داخل المدينة، وكروم العنب وبساتين الفواكه في ظاهرها حتى بلغت محطة أترامبية، وهي بَدءُ سكَّة الحديد، فدخلتُ القطار وسار متعوِّجًا متعرِّجًا ملتفًّا بين هاتيك الصخور والأعشاب، وكان منظر البحيرة من دوننا بهيًّا، ورائحة العطر تتضوَّع من أشجار الصنوبر والكستنا، وحرجاتها كثيرة في تلك الوديان التي أشْرَفْنَا عليها من القطار، وبلغنا المحطة الأولى في الجبل واسمها مونتيه وهي على علوِّ ٧٥٠ مترًا عن سطح البحر، فيها الفنادق الفاخرة تُشْرِفُ على الوادي يقيم فيها المصطافون وينزلون منها إلى المدينة متى أرادوا، أو يصعدون أعلى الجبل في القطار، كما فعلنا حين عاد القطار إلى التثنِّي والتعوُّج بين تلك المناظر الساحرة، حتى بلغنا محطة الثلاث عشرة شجرة، وهي آخر المحطات في أعلى الجبل ارتفاعها ١١١٢ مترًا، تفرَّق الرُّكَّاب منها في أراضٍ فُرِشَتْ بالعشب السندسي، ولم تُخطَّط فيها الشوارع؛ محافظةً على جمال الطبيعة. وكان بعضهم يجمع رواميز من أعشاب ذلك الجبل وفراشه؛ ليحفظَ منها مجموعًا يفخر به مثل مجموع طوابع البوسطة. وعندهم في هذه المحطَّة خيل وحمير لمن أراد التنقُّل وانتياب أعلى المواضع. والمشي في الجبل كله هيِّن؛ لما أنه متدرِّج الانحدار، فليس فيه مشقَّة في الصعود والنزول، وقد جعلوا له طريقًا آخر إلى المدينة رجعت بها حتى أرى بقيَّة المناظر المحيطة بهذا الجبل البهي. وكان القطار يسير على حافة لا يفصلها عن الوادي غير مترين، وقد اجتاز نفقًا رأيت النور فيه خلافًا لأمثاله؛ لأنهم جعلوا له نوافذ إلى الوادي يدخُلُ منها النور والهواء، ولمَّا انتهينا من هذا النَّفَقِ وصل القطار إلى منبسَطٍ من الأرض فتركناه وعُدْنَا بعد الظهر إلى المدينة، فكان يوم هذه النُّزْهة من أجمل الأيام، وهي تستغرقُ يومًا كاملًا.
بحيرة جنيف: ويُقال لها ملكة البحيرات، طولها ٤٥ ميلًا وعرضها ٨ أميال ومساحتها ٢٢٥ ميلًا، وماؤها أزرق نقي كماء البحار الكبرى، ولا مثيل له في البحيرات الأخرى. وهذه البحيرة تنقص في الشتاء وتزيد في الصيف مما يذوب وينصبُّ فيها من جليد الجبال، وتمخر فيها الباخرات والسفن على أشكالها. وقد قامت على جوانبها ١٦ مدينة بهيَّة زاهرة، بعضها في فرنسا والبعض في سويسرا، وسيأتي الكلام عنها. وفي هذه البحيرة أسماك شتَّى يأتون ببعضها من بعيد في البراميل ويُلقونه فيها لينمو ويتكاثر، هذا غير طيور الماء التي تحوم حول البحيرة وتحط فيها، ولمنظرها بهاءٌ معروف. والبحيرة هذه هي مدينة جنيف، كما أنَّ البوسفور هو الآستانة — وقد قلتُ ذلك في حينه — وهي فاصلة بين سويسرا وفرنسا، فالباخرات تنتقل بين هذه المدائن من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، كما تنتقل بواخر البوسفور من الشاطئ الأوروبي إلى الشاطئ الآسيوي. وقد أنجزتُ السياحة في هذه البحيرة فكانت على النسقِ الذي يجيء.

ركبتُ باخرة كبيرة من الرصيف الذي قُتِلَتْ فيه إليزابيث إمبراطورة النمسا في ١٠ سبتمبر سنة ١٨٩٨، يدلُّونك إلى المحلِّ الذي حصلت الواقعة فيه مؤشَّرًا عليه بعلامة. ولهذه البواخر مقاعد في الطبقة العليا منها، وهي أبدًا ملأى بالمسافرين والمتنزِّهين، هذا يتأمَّل مناظر البلاد، وهذا يحدق بنظره في بعض الأشياء، وهذا يقرأ أو يسمع قول الدليل، والكلُّ في حديث دائم بكثير من ألسن الأمم المتمدِّنة. والناس في البرِّ يتأمَّلون هذه البواخر ومَنْ فيها أيضًا، حتى إن السفر في هذه البحيرة يُعدُّ من ألذِّ النزهات. وقد قامت الباخرة الساعة ٩ صباحًا محاذية للشاطئ السويسري، فوقفت في فيرسوا (١)، وهي قريبة من جنيف تكثر فيها الفنادق الصغيرة الرخيصة للعائلات، وكلها هادئة أمامها الحدائق المنظَّمة، وقامت الباخرة بعد ذلك إلى كيوبيت (٢)، ومنها إلى سيلي (٣)، ثم إلى مينون (٤)، وكلُّ هذه المدن تبدأ من طرف الشاطئ وترتفع ارتفاعًا متدرِّجًا، وفيها كثير من كروم العنب والفواكه، حتى إنه لا يخلو بيت من حديقة له صغيرة، ولمجموعها منظر جميل من البحيرة يأخذ بمجامع القلوب. ودارت الباخرة بعد ذلك فانتقلت إلى الشاطئ الفرنسوي، ووقفتْ في تولون (٥)، ثم سارت إلى إيفيان (٦)، ثم رجعتْ إلى الشاطئ السويسري ورَسَتْ في لوزان (٧)، وكان المسافرون يصعدون وينزلون في كلِّ بلد، ولحركتهم لذَّة يشعر بها الركاب. وتقدَّمت الباخرة بعد لوزان إلى فيفة (٨)، ثم إلى مونترو (٩)، ثم إلى شيلون (١٠)، وهي في طرف البحيرة عند حدود فرنسا وسويسرا. وقد وُضِعَ عَلَمُ كلِّ جمهورية في جهتها، ثم دارت الباخرة على اليمين إلى شاطئ فرنسا فوقفت في بوفرة (١١)، فمدينة سان جنجولف (١٢)، ثم ميلري (١٣)، ثم تورون (١٤)، ثم أمفون (١٥)، ثم دوفين (١٦)، وهي آخر محطة رجعنا منها إلى جنيف فبلغناها الساعة ٩ من المساء، فكأنَّما هذه السياحة استغرقت ١١ ساعة، وكانت نزهة لا تملُّ منها النفوس. وفي البواخر أطعمة ومشروبات من كلِّ الأنواع، وفي البرِّ ما بين ضفة البحيرة والمرتفعات طرق بهيَّة جميلة، زُرِعَتْ فيها صفوف الدلب، والناس يتمشَّون فيها أو يسيرون بالعربات والدرَّاجات بين الأغصان الملتفَّة والمناظر البديعة، ولهم خطوط ترامواي في هذه الطرق أيضًا تسهِّل الانتقال.

ويجدُرُ بكلِّ سائح في هذه المواضع الجميلة أن يقضي يومًا في البحيرة متنقِّلًا على مثل ما قدَّمنا، ثم يزور مدينتَي لوزان وإيفيان، وهما أجمل ما رُصِّعَتْ به ضفاف البحيرة بعد جنيف. وقد فعلت ذلك وذهبتُ إلى لوزان، وهي في الجانب السويسري، سكانها نحو ٤٠ ألفًا، تُعدُّ من أجمل المدن منظرًا وهواءً وموقعًا، وقد بُنِيَتْ على تلال وهضبات شهيَّة، وفيها المستشفيات والمدارس ودور العجزة وغير هذا مما اختاروها بسبب ما اشتهر عن حسن موقعها وطيب الهواء. وزُرْتُ مدينة إيفيان أيضًا، وهي فرنسوية مشهورة بمائها المعدني؛ فلذلك يكثر الذاهبون للاستشفاء بمائها — وقد وصفت غير مرة كيفية المعيشة في هذه المواضع، فلا حاجة إلى التكرار — ولا يقوم قطار من إيفيان إلا وفيه عربات عديدة من مائها يصدرونه إلى جميع الجهات. وأكثر الذين يأتونها من أهل فرنسا، وهي كثيرة القصور والحدائق الغَنَّاء، فيها دوالي العنب معلَّقة ما بين شجرة وشجرة، والعناقيد مدلَّاة ما بين تلك الأشجار، وفيها كثير من شجر التفاح والكمثرى وغيرهما، وفيها الفنادق الكثيرة تُقام فيها المراقص الحافلة، كما يجري في فنادق مصر مدَّة الشتاء. وقد زرتُ أحد ينابيعها المعدنية البهيَّة فألفيتُه مثل ينابيع النمسا وغيرها مما ورد ذكره وتفاصيله في فصولٍ أخرى من هذا الكتاب.

صخر ناي: هو صخر شاهق اشتُهر بهذا الاسم، وقد قام على جبلٍ باسقٍ، فعلوُّهُ عن سطح الأرض ٢٠٤٠ مترًا، ذهبتُ إليه بباخرة البحيرة عن طريق مدينة جليون في الشاطئ السويسري، وكان معي سُيَّاح كثيرون، في جملتهم حضرة الدكتور حبيب خيَّاط وقرينته من مصر. وهم يصلون إلى هذا الصخر في سكَّة من الحديد طولها أربعة أميال ونصف، يلْزَم لمسيرها صعدًا ساعة ونصف، وأمَّا النزول فيكفيه نصف ساعة، وقد نحتوا هذه السكَّة في الجبل من أسفله وأقاموا حواجز من الخشب (درابزين) إلى جانبَي هذه السكَّة في طول الطريق، والقطار يمشي فيها كأنه صاعد صعودًا عموديًّا، وإلى يمينه وشماله أودية عميقة لها منظر مهيب. وبعد أنْ سار هذا القطار زمانًا دخل في نفقٍ تحت الجبل، فخرج منه عند محطَّة كو، وهي على ارتفاع ١٢٠٠ متر عن سطح الأرض، أُقيمت فيها الفنادق الكبرى تُشْرِفُ على البحيرة وهاتيك الأودية والجبال، وينتابها الناس لقضاء أيام الحر الشديد. وسِرْنَا من هذه المحطة صعدًا والقطار يعرِّج فيها ويتعوَّج ويلتفُّ حتى دخل نفقًا آخر طوله ٨٢ مترًا، ثم خرج منه إلى محطة جامان وعلوها ١٥٠٠ متر، ثم عاد إلى المسير ودخل نفقًا ثالثًا طوله ٢٦٧ مترًا وخَرَجَ منه. وكان في كلِّ مسيره ملتفًّا متعرِّجًا مرتدًّا، تارةً يسير إلى اليمين وطورًا إلى اليسار، ونحن في داخله كأننا في قُبَّة طيارة حلَّقَتْ في الجو، فإذا هي بين الأرض والسماء، وقنن الجبال محيطة بنا عشرات عشرات من جميع الجهات، وشَعَرْنَا عند ذلك العلوِّ الشاهق بشدَّة البرد، ورأينا الضباب مخيِّمًا فوق الرءوس، فما عتمنا أنْ وصلنا المحطة الأخيرة حتى أسرعنا إلى الفندق لنشربَ شيئًا يدفئ الأبدان. وتفرَّجنا زمانًا على ذلك الصخر المرتفع وما يحيط به من المناظر، ثم رجعنا في القطار كأننا نهبط من علٍ حتى بلغنا أسفل الجبل، وركبنا الباخرة في البحيرة فعُدْنَا بها إلى جنيف، وكان زمان الذهاب والرجوع ١٣ ساعة، شعرنا في خلالها أنَّنا في أرض غريبة ومنظر عجيب فتَّان.
الجبل الأبيض: هو أعلى جبال أوروبا، ويُقَال له سلطان الجبال، ارتفاع قمَّته العليا ٤٨١٠ أمتار، وهو أبدًا تكسوه الثلوج، وله قمم كثيرة ما بين كلسية وصوانية وحجرية وترابية، يتخلَّلها أودية عظيمة تتراكم الثلوج فيها أيضًا، وتنصبُّ منها الجداول والشلالات. وقد كان أمر هذا الجبل مجهولًا إلى أوائل القرن الماضي، فَدَأَبَ الأفراد والجمعيات العلمية على انتيابه وقياس أبعاده واكتشاف مجاهله، وتسمية أجزائه والجبال التابعة له، وهي كثيرة، مثل جبل المسلة، وجبل قتب الجمل، وجبل الأهرام، وغير هذا، حتى أصبح الآن كله معروفًا، لا يجهل الناس منه شبرًا، وهم الآن في كلِّ سنة يصعدون أعاليه، فبعضهم يبلغ أعلاها والبعض ما دونها بقليل، وكلهم يأخذون الأدلَّاء معهم والمرشدين، ويمسكون بالحبال حتى إذا زلَّت القدم بسائرٍ في تلك القنن العسيرة لم يهوِ إلى حضيض أحد الأودية ويلقَ الفناء. وأكثر الذين يفعلون ذلك من الإنكليز؛ لأنهم اشتُهروا بهذه المخاطرات، وهم يتنافسون في تسلُّق هذا الجبل، فلا يمرُّ عام حتى تدوِّنَ الجرائد أسماء القتلى منهم الذين يروحون شهداء المخاطرة وحب العلم واكتشاف المجهول؛ فإن أسباب العَطَب هناك كثيرة، فإمَّا أن تزلَّ القدم أو تزلق على أملس الجليد، أو أن ينهال أجرف من الصخر أو التراب أو الجليد فيودي بمن يقع في طريقه، أو تنشق الأرض المتجمدة تحت الأقدام من ذوبان بعض جليدها فيغور الذي يطأ تلك الأرض. ومن أمثال هذه الحوادث المكدِّرة أنَّ شابًّا سويديًّا كان يرتقي إحدى هذه المرتفعات، فرأى زهرة أسرع ليقطفها ويبقيها معه؛ تذكار تلك الرحلة لوالدته، فزلَّت به القدم وهوى إلى هوةٍ عمق الثلج فيها ٥٠ مترًا وفارق الحياة. ولمَّا علمت والدة الشاب بهذا الخبر جاءت بنفسها وصعدت إلى محل حتْفِهِ والأدلَّاء معها، ثم تقدَّمت إلى تلك الزهرة حذرة متأنِّية، فقطفتها وعادت بها مع جثة ابنها إلى الوطن. وقد رسموا طرق السير في هذا الجبل من بَعْدِ هذه الحوادث، فالسُّيَّاح يمرُّون في الطرق المرسومة فوق الثلج المتراكمة في الوادي.

وقد التقينا في جنيف بحضرات سعاد بك وكيل دائرة دولة البرنس جميل باشا طوسن سابقًا، وراشد بك من أعيان مصر، فاتفقنا معهما على زيارة الجبل الأبيض مع ما في ذلك من العناء، فذهبنا في قطار وقف في عدَّة قرى سويسرية، ثم وَصَلَ مدينة لفايه بعد ٣ ساعات، وكان معنا سياح أكثرهم من الإنكليز والأميركان قاصدين رؤية الجبل الأبيض أيضًا، فتناولنا الغداء جميعًا في مطعم المحطة، ثم ركبنا عربة كانت تنتظرنا وتجرُّها ستة جياد قوية بدينة فقامت في طريق خُصَّت بهذه العربات، ولا تسع غير واحدة منها بعد واحدة، وكانت العربة تلفُّ وتتعرَّج وترتدُّ وتدور حسب المعتاد في كلِّ طرق الصعود إلى الجبال، فلمَّا مضى على هذه الحالة خمس ساعات بلغنا بلد شاموني، وهي في أسفل الجبل الأبيض، ولا حاجة إلى القول إن المناظر التي شاهدناها في هذه الساعات الخمس كانت من بدائع الطبيعة بلا مراء. والمسافة بين جنيف وشاموني ٨ ساعات، فهي قريبة من بلد الأُنْسِ، ولكنها كانت إلى عهدٍ قريبٍ — أي من نحو ٥٠ سنة — بلا ساكن فأصبحت الآن مثابة حسناء يقصدُها نحو خمسة آلاف زائر كل عام ليتقدَّموا منها إلى قمَّة الجبل، وقد قامت فيها الفنادق الكبرى، بعضها يلي بعضًا؛ لتفي بحاجات هؤلاء السائحين، وكثير منهم لا يتعدُّون هذه الجهة، بل يكتفون بما يرون أمامهم من القمم والمناظر الفتَّانة، ولكنني كنتُ من الذين عوَّلوا على رؤية هذه المناظر وبلوغ آخرها، فبتُّ مع الذين عزموا عزمي ليلة في شاموني، وقضينا ليلة أخرى للراحة والاستعداد ثم اشترينا الأحزمة وجوارب الصوف تُلْبَس فوق الحذاء منعًا للزلق، وأخذنا لكلٍّ منا عصًا في آخرها حديد كالحربة يُغرز في الثلج؛ حتى يتكئ السائر عليه ولا ينقلب فيحلُّ به العطب. واكترى كلٌّ منا بغلًا وكان معه دليل أيضًا، وفي صباح اليوم التالي تقدَّمْنَا على هذه البغال صعدًا بسير رويد، وكانت الطريق ضيِّقة لا تكفي لأكثر من جسم البغل، وكان مرورنا متعرِّجًا حسب العادة، والمناظر من دوننا في هذه الشِّعَاب والمسالك والأودية مما يخلب الأبصار، ولا سيَّما هذه الصخور الهائلة المقدار، منها حجر من الصوَّان أراه لنا الدليل وطوله ١٥ مترًا. وبَعْدَ أن سِرْنَا أربع ساعات على ظهور البغال بلغنا محطة مونتافير، وهي آخر ما يمكن الوصول إليه على المطايا، علوُّها ٦٤٠ قدمًا، وربما عجِبَ القارئ إذا ذكرنا له أننا وجدنا في هذه الطريق العسيرة المحفوفة بالبرد والأخطار بعضًا من السيدات — يغلب على الظنِّ أنهنَّ أميركيات — كنَّ سائرات في تلك المواقف على الأقدام، وهنَّ يفتخرن بمثل هذه المخاطرات، ويؤثرن المشي على الركوب مغالاةً في الفخر والمباهاة، والبرد هنا شديد والهواء يجلد الأبدان. وقد بنوا في مونتافير فندقًا صغيرًا تُبَاع فيه السلع الصغرى تذكارًا لهذا الموضع، وأكثرها من الخشب كالأفاريز الصغيرة وسكاكين الورق وحجارة الألماس الصخري، وهي باهرة اللمعان كأنها الجوهر الحقيقي وحجارة عين الهر، وفي سويسرا كثير من هذين النوعين يصوغونه بالذهب ويبيعونه في أشْهَرِ المدن. وقد التقينا في هذا الفندق ببعض مندوبي الصحافة قادمين من معرض باريس، وفي جملتهم حضرة الأمير أمين أرسلان مندوبًا من صحف البلاد العثمانية، وكان معه نواب صحف الصين واليابان وغيرهما، وأمَّا مصر فلم تندب صحفها أحدًا في ذلك المؤتمر. وكثير من السائحين يبلغون هذا المكان ولا يمرُّون فوق بحر الجليد.

وأمَّا بحر الجليد هذا، فهو موضع غريب على مَقْرُبَةٍ من مونتافير، وهو عبارة عن وادٍ عظيم ما بين جبلين شاهقين، وقد غطَّى الجليد أرضه فجعلها كالبحر منظرًا؛ ولذلك أطلقوا هذا الاسم عليه، وطول هذا الوادي أربعة أميال ونصف، وعرضه ميل وربع ميل، فلمَّا جاء وقتُ الذهاب إليه قمنا مع القائمين، وسِرْنَا في أول الأمر نحو ربع ساعة حتى إذا بلغنا طَرَفَ هذا البحر المتجمِّد لبسنا جوارب الصوف فوق الأحذية، وأمسكنا بالعصي التي في طرفها حراب يسارنا، وأمسك بنا الأدلَّاء باليمين، فسِرْنَا على هذه الطريقة فوق منبَسَطٍ من الماء المتجمِّد، وقد نقروا فيه مواضع صغيرة هي إشارات إلى حيث يلْزَم أن تُوضع القدم، وتأمَّلنا ساعتئذٍ منظر هذا الموضع، فإذا هو بديع يولِّد مهابة في النفوس، وهو بلا مثيل بين المناظر التي ينتابها السائحون، ولا سيَّما إذا تأمَّله الواقف في وسطه كما فعلنا حين بلغنا موضعًا يُقال له البئر، وهو مكان تشقَّق فيه الجليد وجرى من تحته الماء، والناس يجرون فوق هذا المنظر ويعجبون. وبينا نحن نتأمَّل هذه البئر العجيبة نبَّه السياح والأدلَّاء أذهاننا إلى منظرٍ بعيدٍ، هو جرف من التراب انهال من الجبل الأبيض على مرأى منا، وتطايَرَ غباره فكان كالغيم والضباب في ذلك الجوِّ الرفيع.

figure
المرور من بحر الجليد.

وظللنا على المسير حتى بلغنا الطرف الآخر بعد ثلث ساعة بوجه التقريب، وكانت الحجارة الصوانية الكبرى مبَعْثَرَة هناك، وهي متساقطة من جبل شابو القائم أمامنا، فجعلت أنتقل من حجر إلى حجر حتى وصلتُ آخر الجليد، وهو في الأرض بأسفل الجبل المذكور، ولكنني لحظت في تلك الساعة أن كلَّ السائحين عادوا من بئر الجليد السابق ذكرها إلى الفندق في نفس الطريق التي سلكناها ونحن قادمون، وبقيتُ أنا وحدي مع بعض من الرِّفاق فلم أُدْرِك العلَّة في ذلك لأول وهلة، وعُدْتُ مع رفاقي إلى المسير على الأقدام في لحف جبل شابو حتى التقينا بجبل آخر من الحجر الصواني الساطع يلمع كأنه المرآة، وقد قام على شكل عمودي تقريبًا كأنه الجدار أسفله في بحر الجليد وأعلاه في القمة، ولا بدَّ من اجتياز هذا الجبل العسر لإتمام الرحلة، فهم وجدوا طريقًا سمُّوها «موفه با» — أي المسلك الوعِر — وطريقهم هذه عبارة عن نقر في هذا الجبل، غرزوا به قضيبًا من نحاس، فكنتُ أسير على هذه الحفر وأُمْسِكُ بذلك الحديد وأنا على غاية من التأنِّي والحذر، وكان وجهي لا يبعد أكثر من نصف متر عن هذا الجدار، وورائي بحر الجليد، ولكنني لم ألتفت إلى الوراء عملًا بنصيحة الدليل. وقد أدركتُ في هذا الموقف الحَرِج سبب رجوع السياح من بئر الجليد؛ لأنَّ المسير هنا خطر على السائرين، وقد استغرق معنا في هذا المكان نحو خمس دقائق تقريبًا، فلمَّا انتهينا منه فرحنا بالفرج وحمدنا الرحمن الرحيم، ورأينا أمامنا خُصًّا تُباع فيه المشروبات، فاسترحنا قليلًا في هذا الخصِّ، وهو تُرَى منه الجبال المحيطة بهذا الموضع — وقد ذكرنا بعضها — ويُرى أيضًا منتهى بحر الجليد، وهو قائمٌ كالجدار يخرج منه نهر آفر وينحدِرُ بسرعة، وهو الذي يسير مع نهر الرون من جنيف وقد سبق ذكره، وعلوُّ هذا الجدار من ١٠ أمتار إلى ١٥ مترًا، وهو يزْحَفُ في بعض الأحيان ويتقدَّم من ثِقَلِ الجليد وراءه، فهم يضعون علامات من الحجر لمواضع انتقاله، وقد سِرْنَا من هذا المكان على الأقدام في طريق أُنشئ بلحف الجبل، وطوله نحو ثلث ساعة، والتقينا أثناء المسير هنا بجبل آخر صوَّاني، لون حجره أزرق، قام عموديًّا كالجدار أيضًا، وعلوُّه ١٢٠٠ متر، وعرضه ٤٠٠ متر تقريبًا، تنحدر من أعلاه مياه صافية كالزُّلال، وهي تجري على كلِّ عرضه، ولها منظر بديع، شربنا من هذه المياه بأيدينا؛ لأنَّ منظرها شهي، والشرب منها يحلو للنفوس. وما زلنا على المسير حتى انتهينا من المسالك العسيرة، ورأينا البغال واقفة بانتظارنا حسب اتفاق سابق مع الأدلَّاء، فركبنا ظهورها وسِرْنَا في وادٍ من شجر الصنوبر تلتفُّ أغصانُهُ بعضها على بعض حتى إنها تحجب نورَ الشمس في بعض أجزاء هذه الغيضة الحسناء. ولمَّا هبطنا على ظهور المطايا إلى سطح الأرض ظللنا على المسير بين عمائر السويسريين ومزارعهم وبساتينهم ومراعيهم الغضَّة، نمتِّع الطَّرْف بمنظر هذه الأكواخ التي قامت على عُمُدٍ من الخشب، ومن تحتها فراغ حتى إذا جَرَتِ السيول لا تجرف الأكواخ بما فيها، ولها سطوح من القرميد المتدرِّج في الصعود، لا تستقرُّ عليه المياه من الأمطار الكثيرة. وكنا نَعْجَبُ بالمواشي والأبقار الضليعة تتنقَّل بين هذه الأعشاب والمرابع البهيَّة حتى إذا جاءت الساعة ٧ مساءً عُدْنَا إلى شاموني بعد سفر ١٢ ساعة، وقد أعيانا التعب من المسير في أعسر مسالك أوروبا الجبلية، وأغرب مواقع الطبيعة الفخيمة التي تؤثِّر في الصدور.

وبقينا يومًا آخر في شاموني طلبًا للراحة، ثم عُدْنَا إلى جنيف من طريق غير الذي سلكناه في المجيء، فقمنا في حافلة مثل عربات الأمنبوس صعدت الجبل بنا متعرِّجة ملتفَّة حسب العادة، وأكثر مسيرها على ضفَّة نهر آفر الذي يخرج من بحر الجليد وقد مرَّ ذكره. ورأينا أنَّ النهر ضيِّق المَجْرَى، سريع كثير الصخور الزرقاء في مجراه، فهو سلسلة شلَّالات صغيرة لها دويٌّ عظيم. وكانت الحافلة تنساب بين هذه المشاهد الساحرة للعيان، وتدخُلُ من نفق إلى نفق، وكلَّما برزت من أحدها تجلَّتْ لنا المحاسن التي لا يصفها قلم أو لسان، أو تمر فوق جسور من الحديد عُلِّقَتْ من طرف في تلك المرتفعات إلى طرف حتى بلغنا جهة تُعْرَف باسم تريان، وهي في وادٍ شاهق علوُّه ٤٢٥٠ قدمًا، وقنن من الجبال المكسوَّة بالثلج من حولها تُعَدُّ بالعشرات، منها جبل يُدْعَى مسلَّة البرج علوُّه ١١٥٨٥ قدمًا، والثلج في جوانبه إلى أبعاد بعيدة له منظر كاللجين حتى أطلقوا عليه اسم الفضية لهذا السبب، ومن هنا تتصل الطرق بشعاب سان برنار المشهورة بديرها وكلابها التي تُنْقِذُ المسافرين من الموت تحت الجليد، وهي في الطريق الذي سَلَكَهُ نابوليون حين هاجم إيطاليا وَفَتَحَهَا في أوائل عهده بالحروب. وفي تريان هذه فندق أقمنا فيه ريثما استرحنا وتغذَّينا ثم أبدلنا خيل العربة وعُدْنَا في طريق يُعْرَف باسم الرأس الأسود، ومَرَرْنَا في طريقنا بجبل الطير فنبَّه الأدلَّاء نظرَنَا إلى قمَّته التي كنا عازمين على بلوغها، فإذا بالنسور محلِّقة من فوقه، وهو على علوِّ ٨٦٥٥ قدمًا. وكنا في كلِّ هذه الطريق نرى شجر الصنوبر منسَّقًا أحسن تنسيق صفوفًا فوق صفوفٍ، كأنها عُولجت بالمقراض، وبعض هذه الأشجار ينمو فوق الصخور. ولقينا في الطريق صغارًا من الصبية والبنات يبيعون أزهارًا برِّيَّة وفاكهة حتى بلغنا مدينة مارتيني، وهي تتصل بجنيف بسكَّة الحديد وبُعْدُها عن تريان ٤ ساعات وعن شاموني ٨، واجتزنا المسافة بين مارتيني وجنيف بسكَّة الحديد في ٣ ساعات مَرَرْنَا فيها بجبل سان موريس الشهير، وكانت مناظر الجبال والوديان والبلاد كلها بين شاموني وجنيف في طريق الذهاب والإياب معًا مجموع غرائب وبدائع طبيعية تخلب الألباب، وكثير من السياح يكتفون بالمناظر التي يمكن الوصول إليها بالعربة وسكَّة الحديد لحد شاموني فلا يعبئون بزيارة الجبل الأبيض مشيًا وركوبًا على البغال كما فعلنا؛ لأنَّ في ذلك مشقَّة لا تَخْفَى على القارئين.

من جنيف إلى مرسيليا: لمَّا انتهيتُ من هذه السياحة البهيَّة في ٣١ أوغسطس قمتُ من جنيف إلى مرسيليا في قطار سكَّة الحديد مخترقًا بلاد سافوا الجبلية، وهو يخرج من نفق ويدخل في نفق حتى اجتاز السابع، وبَلَغَ مدينة بيل جارد، وهي واقعة على حدود فرنسا وسويسرا — كما قلنا في فصلٍ غير هذا — وفيها جمرك فرنسوي يشدِّدون فيه ويدقِّقون في تفتيش عفش المسافرين؛ لأن أكثرهم يأتون بالأشياء المصنوعة في سويسرا، وهي عليها رسوم جمركية في فرنسا. وأمَّا الذي يتنقَّل في مدائن سويسرا فإنه يستريح من عناء الجمارك وتفتيشها أينما سار. وقد قام القطار من بيل جارد في أرض فرنسا فبلغ ليون في الساعة ٤ بعد الظهر، وجاء القطار السريع من باريس بعد نصف ساعة، فركبناه وسِرْنَا به إلى مرسيليا، حيث بلغناها الساعة ١٠ من المساء، فكانت مدَّة السفر من جنيف إلى مرسيليا عشر ساعات.

وكان الغرض من حضوري إلى مرسيليا أنْ أذهبَ منها إلى الجزائر، وهي بلاد عربية قديمة العهد، لها تاريخ ممتزج بتواريخ مصر والشام يهمُّ قُرَّاء اللغة العربية، وعليه عزمتُ على السياحة في بلاد الجزائر ووضعتُ لها خلاصة تاريخية حسب عادتي؛ ليكون المرء على بينةٍ مما يقرأ عنها، وهي خلاصة مفيدة، بدأتُهَا من عهد الفينيقيين فالرومانيين والفندال والروم والعرب والأتراك والفرنسويين، وأسهبتُ في الأسباب التي أدَّت إلى قيام وسقوط كلِّ دولة على حِدَتِهَا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤