مالطة

خلاصة تاريخية

احتلَّ هذه الجزيرة أجدادنا الفينيقيون الذين اشتُهروا بمتاجرهم، وأطلقوا عليها اسم أوجاجية، وهو لفظ معناه الملجأ، وليس العلم بتاريخ استيلائهم على مالطة ميسورًا؛ لما أنَّ تاريخهم كله غامض قليل الآثار، وربَّما كان ذلك في أواخر القرن الثاني عشر قبل المسيح ثمَّ أخذها منهم الرومانيون في سنة ٣١٦ قبل المسيح وأقاموا فيها ٧٠٠ سنة. قال ديودور المؤرخ الشهير إن الجزيرة نَمَتْ وتقدَّمت في تجارتها وثروتها مدَّة الرومانيين نموًّا عظيمًا، وقد ورد ذكرها في الإنجيل، حيث قيل إن بولس الرسول كان مسافرًا في سفينة جنحت به عند هذه الجزيرة في خليج اسمه خليج مار بولس إلى الآن، وهم يحجُّون إليه ويتباركون من الاغتسال بمائه، وكانت حادثة هذا الرسول على عهد طيباريوس قيصر رومية في سنة ٥٨ مسيحية، وهو أقام في الجزيرة ثلاثة أشهر، وأدخل إليها الدين المسيحي ونَصَبَ فيها أسقفًا يُدْعى بوبليوس. وبقيت مالطة في حوزة الرومان قرونًا — كما تقدَّم — ثمَّ انتقلت إلى سلطنة القسطنطينية سنة ٣٥٥ مسيحية على يد قايد بيزانتي اسمه بليزاروس، وأطلق عليها في ذلك العهد اسم مليتة — أي العسل — لكثرة هذا النوع فيها يومئذٍ، ثمَّ دخلت الجزيرة في حوزة العرب سنة ٨٧٠، فتحها قائد اسمه محمد بن الأغلب وأَطْلَقَ قومه عليها اسم مالطة بدل مليتة، فهو اسمها عندنا إلى اليوم. وقد فَتَكَ العرب يوم هذا الفتح بأهل الجزيرة فباعوا من نسائها وأولادها عبيدًا بقيمة ٥٠٠٠ أوقية ذهب، وبنوا حصونًا جديدة فيها لردِّ هجمات الأعداء. وقد بقيت مالطة للعرب إلى سنة ١٠٩٠ حين قام الملك روجر وأكْرَهَ حاكمها العربي على الرحيل بأولاده وأهل بيته. ولمَّا كانت سنة ١١٩٤ اقترن هنري الثاني إمبراطور ألمانيا بالأميرة كونستانس بنت الملك روجر، فأهداها أبوها جزيرة مالطة مهرًا. وأصبحت الجزيرة بعد ذلك من أملاك قياصرة ألمانيا، وظلَّت على ذلك ٧٢ سنة تقدَّمت في خلالها ونَمَتْ، حتى إنها قويت على جمهورية بيزا ودمَّرت أسطولها. وفتحها في سنة ١٢٦٦ الأمير شارل إنجو شقيق لويس التاسع ملك فرنسا، فبقيت في يد الفرنسويين حتى سنة ١٢٨٤ حين فَتَحَهَا الإسبانيون وبقوا فيها إلى سنة ١٥٢٠، وكان ملك إسبانيا يومئذٍ وإمبراطور ألمانيا معًا كارلوس الخامس المشهور تنازل عن مالطة لفرسان مار يوحنا، وهم أَشْهَرُ مَن استولى على هذه الجزيرة، وأبقى فيها من الآثار، فنحن نورد زُبْدَة تاريخهم هنا موجزين.

كان في القدس رهبان بنوا مستشفى للمرضى، وكانوا أبدًا عُرْضَة للاعتداء من المسلمين حين مَدَّتهم رومية بنجدة من الرهبان المسلحين عُرِفُوا بالرهبان الفرسان، كثروا وبعُدت شهرتهم، حتى إن أهل أوروبا كانوا في كلِّ بلد يوقفون لهم الأموال والأملاك، فزادت ثروتهم زيادة كبرى، ولكنهم قوي عليهم المسلمون وطردوهم من القدس، فساروا تحت قيادة زعيم لهم اسمه فولك دي فيلاري إلى جزيرة رودس سنة ١٣١٠، واستولوا عليها بعد معارك شديدة بينهم وبين المسلمين واليونان معًا، فبقيت في حوزتهم قرنين. وهاجمهم السلطان محمود الثاني بأسطوله سنة ١٤٨٠، فمات قبل أن ينال منهم منالًا، ولكن السلطان سليم الثاني ردَّ الكرَّة عليهم سنة ١٥٢٢ بجيش عرمرم يزيد عن مائة ألف مقاتل، ودام الحصار الشديد خمسة أشهر، استغاث رئيس الفرسان في آخرها بملوك أوروبا، فلم يُغِثه غير كارلوس الخامس الذي ذكرناه مرارًا؛ فإنه تنازَلَ للفرسان عن جزيرة مالطة، فخرجوا من رودس وأتوا مالطة في العام المذكور، ولكنَّ الأهالي لم يسلِّموا للفرسان إلا بعد أن أقسم قائدهم — وهو يومئذٍ فيليه آدم دي ليل — ألا يعارضهم في لغتهم وامتيازاتهم، وكان هذا القَسَم فرضًا على كلِّ رئيس بعده للفرسان.

وزاد غِنَى الفرسان في أوروبا الكاثوليكية في هذا العهد من الأوقاف الكثيرة حتى بلغ ٥٠ ألف جنيه في السنة، وهو إيراد كبير جعل الجزيرة دولة قوية بثروتها وجنودها وسفنها وأسلحتها، فجعلت تسطو وتحارب وتوسِّع نطاق ملكها، وشنَّت الغارة على جزائر الغرب، وهي قريبة منها، وسيرت أسطولًا لضبط السفن العثمانية التي كانت تمخر بين الآستانة وتونس، حتى اضطرَّت السلطان سليمان أن يهمَّ للانتقام منها، فجرَّد عليها سنة ١٥٦٥ جيشًا وأسطولًا تحت قيادة مصطفى باشا، ومعه ١٨٠ مركبًا و٣٨٣٠٠ محارب و٦٢ مدفعًا، وكان قائد الفرسان في ذلك العهد شجاعًا باسلًا اسمه لافاليتا، له دراية بفنون الحرب ومعه ٤٧٤ فارسًا من إخوانه، و٨١٠٠ محارب يعضدهم الأهالي.

فلمَّا وصل الأتراك بدءوا بمحاصرة الجزيرة في الحال وإطلاق المدافع عليها، ففتحوا الحصن الأول بعد شهر، ورفعوا عليه راية آل عثمان، وعدُّوا ذلك دليل الفوز التامِّ، ولكنه ورد على مالطة نجدات قوية من إسبانيا وإيطاليا، فارتدَّ الأتراك عنها بعد حصار وحرب داما أربعة أشهر، ورجع مصطفى باشا إلى الآستانة وهو يقول إن هذه الطفلة — أي مالطة — لا تعادل الخسارة الكبرى التي لحقت بجيشه؛ لأنه قُتِلَ من عساكره نحو ٢٥ ألفًا ومن الفرسان ٢٠٠ ومن بقية جنود مالطة ٣٠٠٠ ومن أهل الجزيرة ٧٠٠٠.

ولمَّا انتهت هذه الحرب رمَّم رئيس الفرسان الحصون فبنى لنفسه قصرًا جميلًا على إحدى ربوات مالطة، وفعل بقية الفرسان فعله، وتمثَّل بهم الأهالي أيضًا، فما مرَّت أعوام حتى قامت فوق تلك الأكمَة فاليتا عاصمة مالطة الآن، واسمها من اسم هذا القائد المشهور، وقد تُوفِّي هذا القائد بالرعن في شهر مارس من سنة ١٧٥٠، ودُفِنَ في كنيسة مار يوحنا، فبكاه الجميع. وخلفه بطرس دل مونته في القيادة، وهو ردَّ الأتراك عن الجزيرة مرة أخرى؛ لأنهم هاجموها في السنة الأولى من حكمه، وحاصروها، ولكنَّ قائدهم رَجَعَ في الحال حين علم أنَّ المدافع في حصون مالطة وأسوارها تُعَدُّ بمائة وستين مدفعًا كبيرًا من النحاس. وفي سنة ١٥٩٠ جاءت سفن من الشرق ورَسَتْ في مالطة، فأدخلت الطاعون إليها وفَتَكَ بأهلها، فكان عدد الوفيات به ٤٠٠٠. وفي سنة ١٦٢٢ تُوفِّي قائد الفرسان ألوفيو، وحُصِرَت تركته الخصوصية فكانت ٢٠٤٦٠ جنيهًا و٢٠٠٠ خادم وخادمة. وكان رئيس الفرسان إذا ذهب في عيد أو موسم إلى الكنيسة يركب مركبة تجرُّها ٦ بغال تكسوها أقمشة مزركشة بالذهب، ولها قيمة كبرى ويسير بموكب عظيم أمامه ١٦ فتًى من أبناء الأشراف، لا يزيد عمر أحدهم عن ١٦ سنة على الجياد المطهمة، ووراء المركبة ٤٠٠ من الفرسان على الأقدام، وغير هذه من آيات الفخر والأبَّهة التي لم يأتِها ملك أو قيصر كبير، وكأنَّ ذلك أوجب البابا أن يقول إن هؤلاء الفرسان نسوا أو تناسوا أنهم رهبان.

وقد اشترى الفرسان في سنة ١٦٥٠ أملاكًا واسعة في أوروبا، فتنعَّموا بإيرادها زمانًا، ولكنَّ الطاعون عاد إلى الجزيرة سنة ١٦٧٥ فقَتَلَ من أهلها أحد عشر ألفًا، وتلاه زلزال في سنة ١٦٩٣ دمَّر وزاد الخراب. وكانت مراكب الأتراك والمغاربة تُكْثِر الاعتداء على مالطة في ذلك الزمان، حتى إن المراكب التركية التقت سنة ١٧٠٩ بسفينة الأميرال المالطي وفيها ٥٠٠ نفس فأغرقتها بمَنْ فيها، وكان في مالطة نحو ٤٠٠٠ مسلم تخلَّفوا فيها من قدم فلمَّا علموا بانتصار إخوانهم عقدوا اجتماعًا سريًّا تعاقدوا فيه على أن يقوموا في ساعة معينة ويذبحوا جميع الفرسان، وجعلوا عيد بطرس وبولس موعد هذه الفِعْلَة؛ لأن الفرسان يجتمعون يومئذٍ في الكنيسة، ولكنَّ مكيدتهم ظهرت؛ لأن ابنة فلَّاح جاءت من مزرعتها وأخبرت الفرسان بالمكيدة، فقبضوا على ٦٠ من المتآمرين وأعدموهم.

وفي سنة ١٧٦٨ أَمَرَ قائد الفرسان — وهو يومئذٍ بنتو — بطرد الجزويت من مالطة وضبْطِ أديرتهم وأملاكهم، فلمَّا وصل المطرودون إلى فرنسا وأخبروا رهبان طريقتهم بما جرى لهم أضمروا السوء لرهبان مار يوحنَّا، ونشأ عن مساعيهم المتواصلة أنَّ مجلس الشورى في باريس قرَّر سنة ١٧٩٢ إبطال طريقة الفرسان ومحو آثارها من فرنسا، فضبطت الحكومة أملاك الفرسان، وكانت خسارتهم كبيرة؛ لأنَّ أوقاف طريقتهم كانت شيئًا يستحقُّ الذكر في بلاد الفرنسيس، وإيرادها لا يقلُّ عن ٥٠ ألف جنيه في العام. واقتَدَت الدول الأخرى بفرنسا، مثل ألمانيا ونابولي وإسبانيا، فكلُّها ضبطت أملاك الفرسان، وكذلك إنكلترا البروتستانتية، فأثَّر ذلك في رهبان مالطة أشدَّ تأثير وأوقعهم في الارتباك؛ لأنهم كانوا في حاجة إلى إيرادهم من تلك الممالك؛ ولذلك عَمَدوا إلى أخذ الأواني الذهبية من الكنائس وضربوها نقودًا رغمًا عن معارضة الأتقياء من أهل مالطة الذين بدءوا يتضجَّرون من حكم الفرسان، ولا سيَّما بعد أن أَوْقَفَ الفرسان صرف الرواتب.

وساءت الحالة الداخلية كثيرًا حين ظهرت مراكب الدولة الفرنسوية أمام مالطة سنة ١٧٩٨ تحمل نابوليون وجيشه إلى مصر، وكان عددها ٣٦ سفينة حربية و٤٧٠ سفينة أخرى لنقل المهمَّات، هاجمت الجزيرة فقاومها الفرسان وعددهم يومئذٍ ٤٠٠ فقط وعدد جنودهم ٦٠٠٠، ولكنَّ القوات الفرنسوية تغلَّبت عليهم فدخَلَتْ جزيرتهم من ١٢ مكانًا في ١٠ يونيو سنة ١٧٩٨؛ فاضطربت مالطة بمَنْ فيها لدخولهم، واشتدَّ الهياج والقلق، ودام الفاتحون في مخابرة أصحاب الجزيرة من ساعة دخولهم في الفجر إلى آخر النهار حين سُلِّمَت لهم الجزيرة على شروط أُمضيت في السفينة الفرنسوية المسمَّاة لوريان — أي الشرق — وخلاصتها حفظ امتيازات المالطيين، ودفع مرتب إلى رئيس الفرسان — وهو يومئذٍ هوبش — وإلى رفاقه الفرسان عن سنة كاملة، على شرط ألَّا يذهبوا إلى فرنسا ولا يدخلوا أرضها في حالٍ من الأحوال. وكان في الجزيرة يوم احتلَّها الفرنسويون ١٢٠٠ مدفع و٤٠٠٠٠ بندقية ومليون ونصف رطل من البارود. وكان قائد الفرسان المذكور ضعيفًا فيما يُقال، وقد بلغ من العمر عِتيًّا فترك مالطة ومعه ١٢ فارسًا، وسافر في سفينة نمساوية إلى تريستة، ومنها إلى بطرسبورج، وماتت طريقة الفرسان معه بعد أن بلغت من السؤدد ما تقدَّم وصفه في هذا الفصل. وكان أول قائد للفرسان من حُكَّام مالطة فيليه آدم دي ليل، بدأ حكمه سنة ١٥٣٢ وآخرهم هوبش انتهى حكمه سنة ١٧٩٨، فمدَّة استيلائهم على الجزيرة ٢٧٦ سنة.

ولمَّا تمكَّن الفرنسويون في مالطة جعلوا يمحون آثار الفرسان، فاحتلُّوا قصورهم وأزالوا شعارهم، ثمَّ مدُّوا أيديهم إلى آنية الكنائس الذهبية، ولم يقم نابوليون في مالطة طويلًا؛ لأنه برحها في ٢١ من شهر يونيو المذكور بعد أن تَرَكَ فيها الجنرال فوبوا ومعه ٣٠٠٠ جندي وخمس بطريات من المدافع، وتقدَّم هو إلى الإسكندرية. وأساء الفرنسويون سلوكهم في مالطة بعد سفر نابوليون؛ لأنهم سلبوا كنيسة في المدينة القديمة، فقام الأهالي عليهم في ١٢ سبتمبر من تلك السنة وذبحوهم ليلًا وهم ٦٥ نفسًا حامية تلك الجهة، وأرسل الجنرال فوبوا من فاليتا نجدة تقتص من الأهالي حين بَلَغَه هذا الخبر، فاعترضت جنوده ألوف من الفلاحين في الطريق وأحاطت بها من كلِّ جهة، ولم يحدث قتال بين الفريقين، ولكنَّ المالطيين انتهزوا هذه الفرصة وأرسلوا للأميرال نلسون قائد الأسطول الإنكليزي الذي كان يتأثَّر أسطول نابوليون؛ فجاء حالًا وحصر الجزيرة وأطلق المدافع على حاميتها الفرنسوية. وكان المالطيون محيطين بالمدينة من كلِّ جهة ليمنعوا عنها الزاد، فأقام الفرنسويون على الحصار، ورأى نلسون أنه لا يمكنه الانتظار فترك قوَّة أمام مالطة تحت قيادة السير إسكندر بال، وسار بأسطوله وراء نابوليون حتى التقى بأسطوله عند أبي قير على مَقْرُبَةٍ من الإسكندرية، حيث حَدَثَت المعركة المشهورة التي دُمِّرَ بها أسطول الفرنسيس. وأمَّا السير إسكندربال فإنه أقام على حصار مالطة نحو سنة على غير جدوى، وأظهر الجنرال فوبوا الفرنسوي في خلال الحصار مقدرة وبسالة زادتا قدره، ولكنه رأى أنَّ الأهالي موالون للأعداء، وقد قطع الزاد والمدد عنه من البرِّ والبحر فسلَّم في أوائل أبريل سنة ١٧٩٩ للقائد الإنكليزي واسمه الجنرال بجوت. فلمَّا استولى الإنكليز على الجزيرة وزَّع بجوت إعلانًا على الأهالي قال فيه إن جلالة ملك إنكلترا لا يريد الاستيلاء على مالطة، ولكنه يقيم فيها حامية لحفظ الأمن والنظام، وتعهَّد بحفظ استقلال المالطيين وحريتهم في الدين واللغة والعوائد والأملاك، وأخبرهم أيضًا في هذا المنشور أنَّ إنكلترا أرسلت ٤٠٠٠ جنيه إلى الآستانة فكاكًا للأسرى المالطيين، فرضي الأهالي عن هذا الإعلان، ولمَّا جاء الأسرى فرِحوا بلقياهم فرحًا عظيمًا، وأظهروا كلَّ ولاء للإنكليز. على أنَّ إنكلترا ضمَّت هذه الجزيرة رسميًّا إلى أملاكها بعد ١٤ سنة بمقتضى البند السابع من معاهدة باريس سنة ١٨١٤.

وكان أول حاكم إنكليزي لمالطة السير إسكندربال السابق ذكره، تُوفِّي سنة ١٨٠٩ فأسِفَ الجميع لوفاته، وخَلَفَه الحكام في جملتهم السر بونسونبي سنة ١٨٣٥، اشتُهر بتأسيس المجالس المحلية. وخلفه السر فرال سنة ١٨٤٠، وهو الذي قال مالطة للمالطيين، وحَصَرَ وظائف حكومة مالطة بالمالطيين، ما خلا ثلاثة من المناصب الرئيسية. وتلاه لمرشنت فاهتمَّ لزيادة عدد المدارس في مالطة وتوسيع نطاقها. وفي سنة ١٨٦٢ ذَهَبَ جلالة الملك إدورد الحالي — وهو يومئذٍ ولي العهد — فزار مالطة، وقُوبل بالاحتفاء العظيم. وفي سنة ١٨٧٧ عُيِّن الديوك أوف كونوت شقيق الملك إدورد حاكمًا لمالطة، ورُزِقَ فيها بنتًا سمَّاها فكتوريا مليتة باسم الجزيرة القديمة، وهي الآن زوجة ولي عهد السويد، وقد توالى الحكام الإنكليز على الجزيرة، وكلهم من بعد الديوك أوف كونوت قُوَّاد عسكريون، وهم يحكمون باسم الملك وإرادة الشعب المالطي ونوابه الآن. هذا أشهر ما يُقال في تاريخ مالطة، نَسَقتُهُ تنسيقًا لا يملُّ القارئ من مطالعته، وقد جمعتُهُ من عدة قواميس ومؤلَّفات، والآن أتقدَّم لوصف هذه الجزيرة وما فيها، فأقول:

تتكوَّن مالطة من أربع جزر، أولها فاليتا على اسم مؤسِّسها — وقد تقدَّم ذكره — وفيها العاصمة وجزيرة غوسو سمَّاها العرب هودج؛ لأنهم شبَّهوها بالهودج، وهي على مَقْرُبَةٍ من فاليتا، وجزيرة كومينو سمَّاها العرب كمونة، وهي صغيرة واقعة بين الجزيرتين السابقتين، والرابعة فيلافلا سمَّاها العرب فلفلة لصغرها. طول هذه الجزر ٢٠ ميلًا وعرضها ١٢ ومساحتها ١١٧ ميلًا، وعدد سكانها مائتا ألف نفس، وهي مجموع أكمات يختلف علوُّها ما بين ٦٠٠ قدم و١٠٠٠ قدم، وأكثرها صخرية رملية لونها أصفر فاقع، وأبنيتها من الحجر الرملي، قائمة على الروابي وضفاف الماء وبعضها في الخلجان والكهوف. وقد تخلَّلت المياه أرض هذه الجزيرة فدخلتها من اليمين ومن الشمال حتى كوَّنت ثغورًا طبيعية واسعة ترسو فيها البوارج وبواخر التجار، فالواقف في أيِّ الأحياء في مالطة يرى البحر من أمامه ومن ورائه. وطرق الاتصال بين هذه الأحياء سهلة، إمَّا بحرًا بالوابورات الصغيرة والقوارب مسافة ٥ دقائق تقريبًا، أو برًّا بالعربات أو على الأقدام. ومالطة نظيفة يُعنى مجلسها البلدي بالرشِّ والكنس كثيرًا ولا سيَّما في زمان الصيف، حيث يكثر الغبار ويشتدُّ الحر، وإذا هبَّت الرياح في الشتاء كانت شديدة هوجاء يلجأ الناس منها إلى المنازل والحوانيت، حتى قال أحد المؤرخين إن مالطة مخزن الأهوية، ولكنها مع ذلك معتدلة الإقليم. ومع أنَّ الأرض صخريَّة فقد زَرَعُوا فيها العنب والصبير (التين بشوكة)، وهو مشهور بحُمْرَة لونه وحلاوته، وفيها بعض مزارع القمح والشعير. على أنَّ سوقها ملأى بكلِّ أنواع الفاكهة والخضر، تأتيها من صقلية من أعمال إيطاليا، وهي قريبة منها لا تزيد المسافة عن ١٢ ساعة، ويرِد منها باخرة كل يوم.

وأمَّا رابية العاصمة فإنها هرمية الشكل مثل قالب السكر نظموا في قمتها شارعين مهمَّين، أولهما اسمه ريالة — أي الشارع الملكي — والثاني مركانتة — أي الشارع التجاري — وبقية طرقها منحدرة تتصل من القمَّة إلى ضفَّة البحر، فهم جعلوها ملتفَّة معوجَّة حتى لا يتعب المرء من السير فيها، وهي طريقة التنظيم في كلِّ الجبال. وقد بنوا سلالم من الحديد والخشب في بعض جهاتها، حيث يكثر الانحدار تسهيلًا للصعود والنزول. وفي شارع ريالة — السابق ذكره — أحسن الأبنية للمنازل والفنادق والحوانيت والقهاوي والتياترو الكبير والمكتبة والبورصة والنادي والمجلس البلدي، وهنالك أيضًا قصر فاليتا قائد الفرسان مساحته ٣٠٠٠ قدم مربَّعة، وقد جعله الإنكليز مقام الحاكم العام، دخلته لأرى ما فيه من التحف وآثار دولة الفرسان، فولجتُ بابًا كبيرًا وصلت منه رَحْبة، ثمَّ رقيت سُلَّمًا من الرُّخام عريض الذرى واطئًا، يكاد المرء لا يشعر بمشقَّة الصعود عليه، ودخلتُ القاعة الكبرى التي كان الفرسان يجتمعون فيها، وقد جمعوا فيها أنواع الأسلحة القديمة وعددها ١٥٠ قطعة من كلِّ الأشكال، وفيها ملابس الفرسان وكسوة قائدهم فاليتا مزركشة بالذهب والقصب ومنظرها يروق للعيون. قال لنا الدليل: كان لهذه الكسوة سيف من الذهب مرصَّعة قبضتُه بحجارة الألماس الكبرى، وقد أخذه نابوليون الأول حين احتلَّ الجزيرة.

وفي وسط القاعة منضدة كبرى وُضِعَتْ فيها حلي الفرسان وجواهرهم مغطَّاة بالزجاج، وفي جملتها صولجان الإمارة للقائد فاليتا، وهو من الذهب في رأسه صليب، وحجة تملك الفرسان لمالطة من شارلكان، وهناك البوق الذي نفخوا فيه إعلانًا بالخروج من رودس حين تركوها للأتراك. وفي الجدران رسوم جميلة لمعارك الحصار التركي تمثِّل الأتراك في المراكب بسترهم الحمراء والعمامات البيضاء، وقد شهروا السيوف وهمُّوا بالنزول إلى البرِّ، وعلى الجدران أيضًا نقوش ورسوم أفريقية ذات قيمة واعتبار. وفي القصر نحو ٦٠ غرفة كبيرة للحاكم العام وعمال ديوانه وبعضها لعائلته، وهو يقيم فيه كل سنة حفلة راقصة يدعو إليها كبار الموظَّفين ووجوه الأهالي، وفيهم أصحاب الشرف ورتب الشرف، كالماركيز والكونت والبارون، وفيهم عدَّة أغنياء ورثوا الأموال الطايلة عن الآباء والأجداد. وفي قاعة الطعام رسوم كلِّ قُوَّاد الفرسان من أولهم إلى آخرهم. وقد أضاف المجلس البلدي رسوم الحكام الإنكليز من بدء استيلاء هذه الدولة عليها إلى الآن، فكلَّما جَدَّ حاكم وضعوا رسمه هنا، وما زال في مالطة سبعة قصور بناها الفرسان، أخذتها الحكومة الإنكليزية وأعطت بعضها للضباط، وأحدها للنادي العسكري، والأخرى لمراكز الحكومة. وقد قضيتُ زمانًا في هذا القصر، ثمَّ نزلتُ منه فرأيتُ في ردْهته الخارجية عربة من النوع القديم كانت لهومبش، وهو آخر قادة الفرسان، قيل إن نابوليون الأول رَكِبَ هذه العربة حين كان في مالطة، وقال بعضهم غير ذلك؛ أي إن نابوليون طلب إليه الركوب فيها، فقال إن مالطة لا تسع قدمه.

وتجاه القصر ميدان القِدِّيس جورجيوس، وكان اسمه ميدان الفرسان؛ لأنهم كانوا يجتمعون فيه ليراهم الرئيس من الشباك، وكان المرور غير مباح للأهالي في هذا الميدان، فجعله الفرنسويون حرًّا، وأطلقوا على الموضع اسم ميدان الحرية، وأقاموا يوم ١٤ يوليو حفلات فيه وزينات دعوا إليها الأهالي، وهنا أعدم الفرنسويون أيضًا الذين تآمروا عليهم ووالوا الإنكليز مدَّة الحصار الذي جاهد فيه الجنرال فوبوا. والميدان هذا أحسن مواضع مالطة لأنْ تَصْدَح الموسيقى فيه أحيانًا فيتألَّب الناس لسماعها جمهورًا كبيرًا. وعلى مَقْرُبَةٍ من هذا الميدان ساحة نُصِبَ فيها تمثال الملكة فكتوريا فوق العرش، وعلى رأسها تاج الملك وبيدها اليمنى صولجان الملك، والتمثال كله من الرُّخام الأبيض.

وهناك قهوة يجتمع المالطيون فيها، كنت أنتابُهَا أحيانًا؛ لأسمع لغتهم الغريبة، وهي خليط من العربي والطلياني. وعلى مَقْرُبَةٍ من هذه الساحة كنيسة يوحنَّا المعمدان، وهي من كنائس أوروبا المشهورة، طولها ١٨٧ قدمًا والعرض ١١٨ والعلو ٦٣، دخلتُهَا فوجدتُ فيها جمهورًا من الأهالي في غير وقت الصلاة للتحدُّث والمباحثات الدينية ومشاهدة الرسوم، وهم لا يشبعون من ذلك. وقد قلَّت تحف هذه الكنيسة عما كانت في أيام الفرسان؛ لأنه كان يُفرض على كلِّ فارس يرتقي درجة أن يهدي الكنيسة شيئًا، وكانت هدية الرئيس عند تنصيبه ٥٠ أوقية من الذهب؛ فلهذا كانت كلُّ آنية الكنيسة من الذهب، حتى إن بابها كان يغشاه الذهب. وقد راح معظم هذه التُّحَف في أيام الاحتلال الفرنسوي ما عدا بعض آثار قديمة عظيمة القيمة حُفِظَتْ في صندوق من الحديد من أقدم أيام النصرانية، وفي جملتها يد القديس يوحنَّا المعمدان، كانت في بدء أمرها في إحدى كنائس أنطاكية ونقلها القيصر يوستنيانوس إلى القسطنطينية.

وحَدَثَ بعد هذا أنَّ نجل السلطان بايزيد مرض مرضًا ثقيلًا فأتوا لمعالجته بفارس من فرسان رودس اشتُهر بالطب، ولمَّا شُفي الأمير على يده طلب أن يكافئه السلطان بيد يوحنَّا المعمدان، فلمَّا طُرد الفرسان من رودس أخذها رئيسهم معه إلى مالطة حيث ألبسها غشاء من الذهب ووضعها في صندوق ذهبي، وحفظ هذا الصندوق في خزانة الحديد التي ذكرناها، بقيت إلى أن وصل نابوليون وفَتَحَ هذا الصندوق فوَجَدَ في أصابع اليد خواتم ذات حجارة ثمينة من الألماس، فأخذ الحجارة، وأعطى اليد للقائد هومبش ثمَّ طرده من مالطة كما سبق البيان. وسافر هومبش بهذه اليد إلى تريسلة، ومنها إلى بطرسبورج واليد باقية إلى اليوم في القصر الشتوي لقياصرة الروس ملبسة بغشاءٍ من الفضة، وقد ذكرت أنِّي رأيتُهَا عند الكلام على عاصمة الروس. وكنيسة مار يوحنَّا التي نحن في شأنها جميلة، أرضها مبلَّطة بنحو ٤٠٠ قطعة من الرُّخام الكبير، وكلُّ قطعة منها مرصَّعة بقطع أخرى من جميع ألوان الرُّخام. وفي جدران هذه الكنيسة وسقفها نقوش بديعة ورسوم حوادث الإنجيل كلها وافية الإتقان، ولا سيَّما المختصَّة منها بحياة مار يوحنَّا المعمدان، وفيها أيضًا مدفن رؤساء الفرسان الذين تُوفوا ما بين سنة ١٥٣٤ وسنة ١٧٧٦، وفي جملتهم فاليتا مؤسس عاصمة مالطة الحالية.

figure
الأمير بشير الشهابي.
قلعة سان إلمو: لمَّا خرجتُ من كنيسة مار يوحنَّا التقيتُ بضابط مالطي عرفتُهُ في مصر، فذهب بي إلى قلعة سان إلمو، وأراني ما بها من المدافع الكبرى وأنواع السلاح القديم والحديث. ورأيت ركامًا من الكرات التي قَذَفَهَا الأتراك على مالطة مدَّة الحصار. ثمَّ دخلتُ ثكنة الجنود وكلهم من أهل الجزيرة، فأشرفنا منها على المدافع الهائلة المصوبة إلى البحر، ورأينا ما فيها من البوارج الراسية. وفي هذه القلعة قبر السر إير كرومبي، وهو القائد الإنكليزي الذي حارب نابوليون الأول وقُتِلَ على مَقْرُبَةٍ من الإسكندرية. وخرجتُ من القلعة إلى شارع ريالة، وفي آخره باب كبير يفصل المدينة عن الخلاء وإلى يمينه تمثال فيليه آدم دي ليل، وهو رئيس الفرسان الذي دَافَعَ عن رودس، وإلى الشمال تمثال فاليتا مؤسس المدينة. وعند خروجنا من هذا الباب ألفينا نفسنا في الخلاء، ورأينا المخازن المبنية تحت الأرض التي كان الفرسان يذخرون بها الزاد والمئونة مدَّة الحصار، ولها فوَّهات تشبه فوَّهات الآبار والصهاريج، وهي تؤجرها الحكومة الإنكليزية للتجار يخزِّنون فيها الغلال والمحصولات. وقد أنشئوا في هذه الأرض حديقة جميلة دخلتها مع حضرة المركيزة تيستا فراتا، فقالت لي إن سيدات المدينة يعنين بها كثيرًا؛ ليكون لهن بعض الأزهار فيها. ثمَّ ذهبتُ إلى ضاحية سان أنطونيو، وهي تبعد أربعة أميال عن العاصمة فقصدتُّها بالعربة في طريق منحدر حسب طبيعة الأرض، فكنت أرى المالطيين قاعدين أمام أبواب منازلهم الكائنة في الطريق وكلها ذات دور واحد، وربَّما كانت عادة الجلوس على الأبواب في أهل مالطة شرقيَّة الأصل. ولهذه الضاحية حديقة فيها نحو ٥٠٠ شجرة برتقال زرعوها في تراب نقلوه من إيطاليا؛ لأنَّ أرض الجزيرة كلها رملية صخرية — كما تقدَّم القول — فرأيت في الحديقة عددًا من القسوس والرهبان يتنزهون، وعددهم يزيد عن عدد الآخرين، ولا عجب فإن مالطة فيها ٢٠٠ كنيسة و١٤ ديرًا. وفي طريق الحديقة قصر بناه دي بولا رئيس الفرسان في سنة ١٦٢٥ فصار قصرًا صيفيًّا لخلفائه، وقد أقام فيه الملك إدورد السابع لمَّا زار مالطة على عهد أمِّه، وكان مسكن الأمير بشير اللبناني حين اعتزل في هذه الجزيرة زمانًا وسمَّاه بعضهم بعد ذلك بالمالطي.
المدينة القديمة: هي ثغر كانت عاصمة الجزيرة قبل بناء فاليتا، سمَّاها العرب المدينة، وكان اسمها قبلُ نوتابلي، وأهل الجزيرة يعرفونها باسم المدينة العتيقة على حدِّ مصر العتيقة. وفي هذه المدينة آثار الدول والشعوب التي تداولتها، ففيها معابد جونو وأبولو، وتلك الكهوف التي جعلهَا المسيحيون كنائسهم وملاجئهم أيام الاضطهاد في بدء النصرانية. وهنالك حدثت المعارك الكثيرة والحصار المتوالي لمَّا هاجمها العرب والأتراك والفرنسويون والإنكليز. وقد مدُّوا سكَّة حديدية سنة ١٨٨٣ بين العاصمة والمدينة القديمة هذه، واشترتها الحكومة الإنكليزية من الشركة التي مدتها في سنة ١٨٩٢، وطول هذه السكَّة ٨ أميال، وهم يتوصَّلون إلى المحطَّة من سرداب طوله ١٠٠٠ متر، وعرضه ٧٠. وقد جعلوا للسرداب نوافذ يدخل منها النور والهواء، فذهبنا منه إلى المحطَّة وسافرنا في القطار إلى المدينة العتيقة فبلغناها بعد الوقوف في محطَّات كثيرة، وتوجَّهنا توًّا إلى قصر اللورد جرنفل، وهو يومئذٍ حاكم الجزيرة كان في القصر الصيفي مثل كثير من الذين يقضون أشهر الحر في هذا المكان؛ نظرًا لكونه قائمًا على ضفَّة البحر، ولمَّا علم جنابه من الحديث أنَّني أريد الكتابة عن مالطة أمر سكرتيره — وهو اللورد توين — أن يسير معي في القصر ليدلَّني على تُحَفِهِ وآثاره، فبدأ هذا الشاب النبيل يقول لي إن القصر بناه فيروال رئيس الفرسان في سنة ١٥٨٢. وأخذني بعد ذلك إلى سرداب تحت الأرض بلغتُهُ على سُلَّم لولبي، قال لي إنه كان سجن الفرسان بأمر الرئيس، والسجن عبارة عن غرفة واسعة لها أربع نافذات، ولها جدران سميكة وأرضها مبلَّطة، دلَّني اللورد إلى بلاطة عليها رَسْم الشطرنج، كان المسجونون من الفرسان يقضون الأوقات باللعب عليها فيما يظهر. وأخذني السكرتير بعد ذلك إلى سطح القصر حيث رأيت مالطة بأوضح الأشكال، وكان الرجل يسألني في خلال ذلك عن بعض إخوانه من ضباط الإنكليز في مصر. ولمَّا انتهيت من القصر شكرت اللورد جرنفل وودَّعته وسِرْتُ إلى غابة قريبة من القصر فيها نحو ١٠٠ شجرة من الأزدرخت والصفصاف والتوت والخروع زُرِعَتْ بلا نظام، وهي نامية بماء عين يجري تحت الأرض. ورأيتُ في هذه المدينة كنيسة عظيمة لا مثيل لها في مصر أو الشام، كل جدرانها من الرُّخام الأبيض أتوا به من إيطاليا، وعُمُدها ضخمة من الرُّخام السماقي الأحمر، وفيها أعمدة من الرُّخام الأصفر، والذهب كثير في سقفها وجوانبها، ولها قُبَّة شاهقة نقشوا عليها الصور الدينية، وفوق الهيكل صليب طوله ٣ أمتار أتى به الفرسان من رودس، وفي خارج الكنيسة بعض المدافع القديمة. وذهبتُ بعد ذلك إلى كهوف النصارى الأُول، وقد تهدَّم كثيرٌ منها، فأوقد الدليل شمعة، وجعل يشرح لي ما يعلمه عنها. ومن حكاياته أنَّ معلِّمًا دخل مع تلاميذه يومًا ليتفرَّجوا عليها فاختفى الكل، ولم يقف أحدٌ على أثر لهم من ذلك الحين، وقالوا إنه دخلها خنزير يومًا فوجدوا بعد ثلاثة أيام أنه خرج إلى شاطئ البحر كأنما هي متصلة به. وشاهدتُّ بعد هذا تماثيل جونو وأبولو، ثمَّ عُدْتُ إلى العاصمة في الطرق المنحدرة والأراضي الصخرية والرملية، كالذي تَقَدَّمَ عنه الكلام.
سليمة: من الأحياء الجميلة في مالطة حي بُني على شاطئ البحر اسمه سليمة، وربَّما كان أصل الاسم عربيًّا يمكن الوصول إليه من العاصمة، وقد قصدتُّه من شارع ريالة بالطرق الملتفَّة المنحدرة، ووجدتُ في الطريق أكمةً حفروا تحتها سردابًا وله نوافذ يدخُلُ منها النور. فلمَّا خرجتُ من هذا السرداب ظهر البحر، وفيه الباخرات الصغيرة والقوارب على أشكالها، وهي أبدًا تمخر بين سليمة والعاصمة كل خمس دقائق، والمسافة بينهما لا تزيد عن عشر دقائق بين الجهتين. وقد كان حي سليمة شاطئًا مهجورًا من سنين، فأصبح الآن من أجمل الأحياء، له حديقة طويلة غُرِسَ فيها بعض الأشجار والزهور، على يمينها البحر وعلى الشمال منازل السكان وأكثرها لطيف المنظر، وتحتشد الجماهير في هذه الجهة كل مساءٍ من أهل هذا الحي وغيره، يأتونها بعد الغروب لاستنشاق الهواء النقي، ولا سيَّما في الليالي المقمرة، حيث تَصْدَح الموسيقى ويكثر القاعدون في القهاوي المحدقة بهذا المتنزَّه الجميل.
لغة مالطة: ما زال أهل العلم والآداب حتى الساعة في ريب من أصل اللغة المالطية، وهي خليط ظاهر من العربية والطليانية، قال بعضهم إنها لغة إيطاليا مكسرة، وزعم غيرهم أنها لغة أهل لبنان. ولكن الغالب على الظنِّ أنَّ القوم ركَّبوا لغتهم من لسان إيطاليا ولسان تونس، وكلا القُطْرين قريب من مالطة لا تزيد المسافة عن ١٤ ساعة، ولفظهم العربي قريب من لفظ أهل تونس، وهم يكسرون الألف كالياء، فبدل أن يقولوا فارس يقولون فيرس. واللغة المالطية لا تُكْتَب، فهم يتعلَّمون الطليانية في مدارسهم، ويكتبون بها في كلِّ حالة، وقد طبعت الجمعيات الدينية أسفارًا من الإنجيل والتوراة بلسان المالطيين بحروف إفرنجية يخالطها بعض الحروف العربية. فالقوم يتكلَّمون بهذه اللغة المستغرَبَة ولكنهم يكتبون بالطليانية، وأكثر المتعلِّمين منهم يعرفون الإنكليزية؛ لأنها لغة الحكومة، ولكن عامَّتهم لم يأْلَفوها مع أنه مضى أكثر من قرن على احتلال الإنكليز، وربَّما كان السبب نفور القوم من لغة الأمة الفاتحة، وهو شأن كلِّ أمة خضعت لغيرها قهرًا، مثل بولونيا وفنلاندا والألزاس واللورين وغيرها، وهذا أنموذج من لغة مالطة:
عربي مالطي
دخلت بستانكم وقطفت من رمانكم. دخلت فلجردين تبعكم وقطعت من الرومين تبعكم.
مالطة ظريفة زهرة العالم. مالطة صبيحه فلور دلموندو.
كيف حالكم اليوم؟ كيف احنا الوم؟
وهذا أنموذج من شعرهم:
كل من يحب في هذه الدنيا لياليه دائمًا مقلقة كول من يحوب فدين الدنيا ليلو دجم بلا مستريحه
المحبة تضيع له نعاسه ولا تكون أفكاره رائقة آل محبة أتلفوا نعاسه قط محَّه تحلِّيه مرتاحه

ومع أن المالطيين عامةً أهل ولاء للدولة الإنكليزية وهم يفخرون بالانتماء إليها، إلا أنهم لم يتمثَّلوا بالإنكليز في شيء من عوائدهم وأخلاقهم، وقد ظَهَرَ هذا للمستر تشامبرلن سنة ١٩٠٠ حين زار مالطة، وهو وزير المستعمرات الإنكليزية، وساءته قلَّة المتكلِّمين بلغة قومه في بلاد لهم من زمان طويل، فأصدر أمرًا بإكراه المالطيين على استبدال الطليانية بلغة إنكلترا في الرسميَّات، وجعل موعدًا لهذا الإبدال آخره بعد ثلاث سنين، فاشتدَّ هياج المالطيين لذلك، وقام كبار الموظفين منهم كالقضاة والمحامين والمأمورين الذين لا يعْرِفون الإنكليز، وكثرت آيات اعتراضهم في المجالس البلدية والمظاهرات ضد الحاكم العام والوزير تشامبرلن مدَّة سنتين، حتى اضطرَّ هذا الوزير إلى الرجوع عما أراد مع اشتهاره بمضاء العزم وميله الشديد إلى توحيد المصالح واللسان في كلِّ المستعمرات الإنكليزية، وكانت جرائد إيطاليا كلها معضِّدَة للمالطيين في نفوذهم وهياجهم حتى إذا اشتدَّت الأحوال، قال الوزير تشامبرلن في مجلس النُّوَّاب إنه رأى أن منشوره قد يعكِّر صفاء الوُدِّ بين إنكلترا وإيطاليا، فهو أبطله محافظةً على وداد الدولتين ومراعاةً لأميال المالطيين، فَهَدَأ بالُ أهل الجزيرة وشكرت حكومة الطليان لوزارة إنكلترا هذا الصنيع الودِّي على لسان السفير. وفي هذه الحادثة دليل على استقلال نفوس المالطيين، وحبهم الشديد للوطن ولتقاليد الآباء والأجداد، وهم اشتُهر عنهم قول معناه أنَّ مالطة حلوة، وهي زهرة العالم وبالمالطية «مالطة حنينه فيور دل موندو»، وعندي أنَّ عدم سيادة الآراء الإنكليزية في هذه الجزيرة ناشئ عن تنحِّي الإنكليز من الاختلاط بالآخرين، فلو أنَّ حكوماتهم وجمعياتهم عُنيت بإنشاء المدارس الإنكليزية في مالطة، ولو أنهم أكثروا من الاختلاط بأهلها، لما بقي هذا البُعْد الباعد بين الحاكمين والمحكومين.

وأهلُ مالطة على الجملة سُمر الألوان كالطليانيين، ولكنهم ذوو نخوة وحِدَّةٍ غريبة يتأثَّرون لأقل ما يمس النفوس، ولهم شهرة بالورع والتديُّن وكثرة الصلاة، يظهر ذلك من تعدُّد كنائسهم؛ فإنها لا تقلُّ عن ٢٠٠ كنيسة في جزيرة لا يزيد أهلها عن ٢٠٠ ألف، وفيها أيضًا ١٤ ديرًا، فكيفما اتجهت لقيتَ الرهبان والقسوس، وهم يميل أهل الجزيرة إلى محادثتهم ومعاشرتهم، ويدعونهم إلى كل جمعية عائلية، وقلَّ أن يخلو حديث لهم من موضوع الدين كما أنه ليس يخلو منزل لهم من الأيقونات تُوقَدُ أمامها الشموع، وليس فيهم شخص إلا وهو على اسم أحد القِدِّيسين، ولا سيَّما القديس يوحنَّا المعمدان، وهم يذهب كل يوحنا منهم إلى كنيسة هذا القِدِّيس يوم عيده مع أفراد عائلته، حتى إذا رجع منها توارَدَ عليه المهنِّئون بهذا العيد، وهي عادة سار عليها معظم النصارى في مصر والشام، وأكبر الإهانات في مالطة أنَّ أحدهم يسب اسم قديس خصمه، وأعظم آيات المجاملة تمجيدًا للقِدِّيس الذي سُمِّي الرجل باسمه، ويندر أن تمرَّ بضعة أسابيع لا ترى فيها موكبًا لأحد القديسين. وقد رأيتُ مدَّة إقامتي موكبًا يوم عيد السيدة العذراء، فكان جمعًا حافلًا خرج من الكنيسة وأمامه فريق من القسوس والرهبان يتقدَّمهم حامل الصليب، وفي أيديهم الشموع والمباخر، ومن ورائهم جموع الناس معهم صورة العذراء صُنِعَت من الجبس وتردَّت بثوب أزرق، وعلى رأسها إكليل من الذهب، وقد حملوا تلك الصورة على كرسي فوق أكتاف الرجال، وكان أسعد الناس حالًا الذين حملوا ذلك الكرسي. ورأيتُ وراء كرسي السيدة بحرًا أسود متلاطمًا عجاجًا من النساء المالطيات، وهنَّ يلبسن فوق ملابسهنَّ نوعًا من الإزار الأسود (حبرة) يسمُّونها فديتا، ومنظرها يقرب من منظر الحبرة المصرية المعروفة، غير أنَّ القسم الأعلى من الفديتا يُصْنَع على شكل مظلَّة تضعه المرأة فوق رأسها؛ للاستظلال والوقاية من الشمس والمطر، غير أن سيدات مالطة من أهل الطبقة العليا يلبسن الآن ملابس الأوروبيات، وهنَّ مثل الرجال يقلُّ فيهنَّ زرقة العين، وللمالطيات شهرة بالعفَّة وبراعة في تدبير المنازل، ويُقال على الجملة إن مالطة قسم من أوروبا، وإن أهلها لا يختلفون عن الأوروبيين، وكانت إقامتي في هذه الجزيرة خمسة أيام لمَّا انقضت ركبت باخرة إنكليزية وسِرْتُ فيها إلى القُطْرِ المصري.

وختام القول أنِّي أرى كثيرًا من السائحين بين أهل هذا القطر يذهبون كلَّ سنة إلى أوروبا عن طريق مرسيليا ويعودون من هذا الطريق، مع أنَّهم يمكنهم الرجوع عن طريق الجزائر وتونس فيرون أقطارًا عربية يفيدنا الاختلاط بأهلها، ولا يكلِّفهم ذلك مالًا أو زمانًا غير القليل، وذلك سهل إذا سافر المرء في باخرة من شركة ترانس أتلانتيك في مرسيليا، وهي يقوم منها كل أسبوع أربع بواخر، أجرة السفر فيها ١٠٠ فرنك، والمسافة إلى عاصمة الجزائر ٢٦ ساعة، والسفر منها إلى عاصمة تونس هيِّن بسكَّة الحديد وبأجرة ١٠٠ فرنك أيضًا، والمسافة ٢٠ ساعة تقريبًا، ومن تونس إلى مالطة بحرًا بأجرة ٤٠ فرنكًا والمسافة ١٤ ساعة، ومن مالطة بالبواخر الإنكليزية إلى الإسكندرية ثلاثة أيام والأجرة ١٢٥ فرنكًا، فالمسافة بين مرسيليا وإسكندرية بهذا الطريق ٧ أيام والأجرة ٣٦٥ فرنكًا، ترى نفع هذه الخطة من أنَّ الذين يعودون إلى إسكندرية عن طريق مرسيليا يقضون ٥ أيام في البحر ويدفعون ٣١٥ فرنكًا، فبهذا الفرق — وهو ٥٠ فرنكًا ويومًا — يرى المسافر بلاد الجزائر وبلاد تونس، ويشاهد كثيرًا من جبالها وأنهارها غير العاصمتين، ويرى جزيرة مالطة أيضًا وهو فرق صغير لا يُذْكَر في جنب هذا النفع الكبير. وإذا أقام المسافر في كلِّ من العواصم التي ذكرتها أيامًا كان النفع أظهر وأتم.

ورأيي على المسافر الذي يتبع هذه الخطَّة أن يجعل سفره في أشهر الخريف، وهو يكفيه ٤٠ أو ٥٠ يومًا لكل ما يريد؛ لأنه يذهب من مرسيليا بحرًا إلى وهران، وهي ثغر في غرب الجزائر وبعدها ٣٨ ساعة عن مرسيليا، ويسير منها بسكَّة الحديد إلى تلمسان عند حدود مراكش ومسافتها ٥ ساعات، ومن تلمسان إلى عاصمة الجزائر، وهي إلى الشمال على بعد ١٧ ساعة، ومنها إلى قسنطينة في الجنوب على بعد ١٥ ساعة، ومنها بسكَّة الحديد إلى عنَّابة في الشمال الشرقي على بعد ٨ ساعات، ومنها يدخل القطار ولاية تونس ويبلغ عاصمتها في ١٠ ساعات، فمجموع الساعات ٩٢، وبيان المشاهد في هذه الجهات كلها مبيَّن فيما تقدَّم من فصول هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤