السرب

خلاصة تاريخية

إن السربيين أصلهم سلاف استوطنوا البلقان، وعظم شأنهم بعد ضعف مملكة بيزانس التي كانت مالكة بلادهم، ولا سيَّما بعد وفاة الإمبراطور يوستينيانوس الكبير في القرن السابع، فلمَّا قووا وكثر عددهم طردوا الأقوام الغريبة، مثل اللاتين والتراس والأروام والأرناءوط من هذه البلاد، وحملوها على الرحيل إلى جهة بحر الأدرياتيك. وكانوا قد اقتبسوا بعض ظواهر التمدُّن عن البيزانتيين، وتعلَّموا منهم الديانة الأرثوذكسية على يد راهبين من الأروام، هما كيرلس ومتيديوس، وذلك في القرن التاسع، ولم يكن لهم يومئذٍ حكومة أو رئيس عام، ولكنهم انقسموا قبائل شتى لا تقلُّ عن مائتي قبيلة، لكلٍّ منها رئيس وعوائد خاصَّة بها، حتى إذا دخلت سنة ١٠٥٣ رَأَسَ هذه البلاد ميحايلو (مخايل أو ميشيل)، ونُودي به ملكًا في سنة ١٠٧٧، وخلفه غيره من الملوك، امتاز منهم نمانيا، وكان تقيًّا ورعًا بنى الكنائس والأديرة ثمَّ ترهَّب، وخلفه ولده ستيفان في سنة ١٢٢٣، وهذا استقلَّ في كنيسته عن سلطة بطريرك القسطنطينية، وعيَّن الأساقفة في مراكزهم واتخذ لنفسه رئاسة الأساقفة، وخلفه ابنه رادوسلاف، وكان له إخوة وأبناء عم كثيرون تنازعوا على الملك زمانًا حتى فاز أحدُهُم، وهو دارجوتين بمساعدة حماته ملكة المجر، وهي تنازلت له عن البلاد المجاورة لأنهر الطونا والساف والدرينا. وكان في جملة هذه البلاد البوسنة (البشناق)، ولا بدَّ لي من القول هنا إن تعداد هذا الإقليم الذي كلَّف دولة النمسا حكمه بمقتضى معاهدة برلين وضمَّته إلى أملاكها نهائيًّا بعد إعلان الدستور العثماني فيه مليون نفس، معظمهم من السربيين الأرثوذكس، والباقون يعدُّون أنفسهم سربيين أيضًا، ويريدون الانضمام إلى مملكة السرب. وقد خلَف دارجوتين ملوك، امتاز منهم الملك دوزان، وهو الذي سنَّ قانونًا للمملكة وأزال كلَّ أثرٍ بقي لدولة بيزانس، واتخذ لنفسه لقب تزان أو قيصر في ١٣٥٥، وخلفه ولده أوروس، وكان فاترَ الهمَّة جُزِّئَتْ بلاده أقسامًا على عهده، وكان ذلك علَّة احتلال التراك لهذه البلاد رغمًا عن مقاومة السربيين الذين حاربوا متفانين، حتى إن الدولة جرَّدت عليهم مائتي ألف عسكري.

يُرْوَى عن حبِّهم للاستقلال أنَّ أحدهم — واسمه عندهم البطل ميلوش أو بيلش — تقدَّم في موقعة كوسوفو إلى خيمة السلطان مراد، وطعنه في بطنه بخنجر فقتله. وخلف الملك أوروس عدَّة أمراء سربيون حاربوا عساكر الدولة على غير فائدة، حتى استولى محمد الفاتح على القسطنطينية (الآستانة) في سنة ١٤٥٣، فبطلت كل حركة عدوانية من طرف السربيين، واحتلَّت الدولة العليَّة جميع البلاد السربية، واستولت على بلاد الأرناءوط، وفتحت ولاية بوسنة (البشناق) في سنة ١٤٦٣، ثمَّ ولاية هيرزوجوفين (الهرسك) في سنة ١٤٨٢، فولاية زيتا سنة ١٤٩٦. فما دخل القرن الخامس عشر إلا وجميع الولايات البلقانية، كرومانيا والسرب والبلغار في قبضة آل عثمان، ولكنَّ حكومتها في البلقان كانت سيئة وجنودها — ولا سيَّما الباشبزوق منهم — أهل جور وقسوة، ظلموا الناس واغتصبوا أراضيهم وممتلكاتهم، وهم يقولون لهم إن هذه الأراضي أصبحت جميعها مِلْكًا لهم، وكانوا يأخذون أيضًا أولاد المحكومين وبناتهم لخدمة الحكام ورؤساء العساكر، حتى إن قسمًا كبيرًا من السربيين هجروا بلادهم وذهبوا إلى المجر وكرواسيا، ولجأ بعضهم إلى الجبال العالية، وانتحل بعضهم دين الإسلام حتى عُيِّنَ منهم الحكام، وكان هؤلاء الحكام أشد وطأةً وجورًا على أبناء أمتهم من الآخرين.

بقيت بلاد السرب في يد الدولة العليَّة إلى القرن السابع عشر، حين تنفَّست الصُّعَداء قليلًا لمَّا أنَّ النمسا استخلصت المجر من قبضة الدولة، ولكن الإكليروس النمسوي والمجري — وهم على المذهب اللاتيني — اضطهدوا السربيين؛ لأنهم من أهل المذهب الأرثوذكسي، حتى إن قسمًا كبيرًا منهم رَحَلَ إلى روسيا. وكان من وراء هذه المحن أنَّ روسيا حاربت الدولة من أيام بطرس وكاترينا، وأنَّ السربيين عادوا إلى طلب استقلالهم وحريتهم منذ سنة ١٨٠٤ بواسطة أحد كبارهم المدعو جورج بيتروفيش أو هو قراجورج (جورج الأسود). وحكاية هذا الرجل أنه كان راعيًا، وأراد أحد عساكر الأتراك أن يأخذ منه رأس غنم بالقوَّة، فضربه على رأسه بالعصا ضربةً أودت بحياته، حتى إنه فرَّ إلى الجبال خوفًا على نفسه. واشتدَّت بعد ذلك وطأة الحكام الأتراك على السربيين حتى دفعوهم إلى الثورة العامَّة، وعند ذلك ظهر فراجورج من جديد، وأُطلق عليه لقب محرِّر السرب، ولكنه قُتِلَ غدرًا وهو نائم في خيمته في سنة ١٨١٧، وقيل إن قتله كان خيانة من أحدِ الزعماء، وهو ميلوش أوبرونوفيش، بإيعاز من الدولة التي جعلته حاكمًا جزاء فعله، ولكن البعض من كبار السربيين أجبروه على التنازل عن الرئاسة في سنة ١٨٣٩، وأقاموا بدلًا منه ولده ميحايلو أوبرونوفيش الذي تنازل لاعتلال صحته، فعادت الرئاسة إلى عائلة قراجورج الأولى، فتولَّاها إسكندر قراجورج ابن قراجورج الذي سبق ذكر حكايته من سنة ١٨٤٢ إلى سنة ١٨٥٨. وقد تمكَّن بحسن تدبيره من إصلاح حالة بلاده، وأدخل فيها التمدُّن، ولكنَّ ذلك لم يحلُ لآل أوبرونوفيش، فظلُّوا على النزاع والدسائس حتى أسقطوا إسكندر المذكور عن عرشه. وعليه اجتمعت الجمعية العمومية، وقرَّرت إعادة الرئاسة إلى ميلوش أوبرنوفيش السابق ذكره، وكان قد بلغ من الكبر عتيًّا، ثمَّ تُوفِّي وخلفه ابنه ميحايلو، وأقام في الرئاسة من سنة ١٨٥٨ إلى سنة ١٨٦٨ اجتهد في خلالها أن ينيل السربيين الاستقلال، ولكنه قُتِلَ في حديقة طوبجي درة في بلغراد (سنتكلم عنها)، وخلفه ابن أخيه ميلان أوبرنوفيش من سنة ١٨٦٨ إلى سنة ١٨٨٩، وكان يوم ارتقائه قاصرًا، فكُلِّفَ بمهام الحكومة ثلاثة من ذوات العاصمة يحكمون حسب قانون سُنَّ لهذه الغاية.

وقد حدثت مدَّة حكم ميلان أمور مهمَّة، منها أنَّ السربيين حاربوا الدولة العليَّة من سنة ١٨٧٦ إلى سنة ١٨٧٨، ونالوا استقلالهم بمقتضى معاهدة برلين المشهورة، ونُودي باسم البرنس ميلان ملكًا في سنة ١٨٨٢، ومنها أنَّ الملك ميلان كان في خصامٍ دائم مع زوجته نتالي، حتى تَنَازَلَ عن كرسي الملك في سنة ١٨٨٩ وخَلَفَه ابنه إسكندر الذي وُلِدَ في سنة ١٨٧٦، وإذ كان قاصرًا شُكِّلَتْ لجنة من رجال الحكومة للوصاية حتى يبلغ الملك سن الرشاد، ولكنَّ إسكندر كان ذا أثرة، فإنه أبعد اللجنة واستبدَّ بالأمر قبل نهاية مدَّة الوصاية. واقترن هذا الملك بامرأة من سيدات الشرف عند والدته في سنة ١٩٠٠ ضد إرادة والده ووالدته ورجال حكومته؛ فاشتدَّ كره الناس له حتى تآمَرَ عليه بعض رجال الجيش ودخلوا قصره في إحدى الليالي عنوةً فقتلوا الملك وزوجته، وكان ذلك سنة ١٩٠٣. ثمَّ اجتمع مجلس الأمَّة السربية، وقرَّر تولية الملك الحالي، وهو حفيد قراجورج راعي الغنم السالف الذكر تحت اسم بطرس الأول، والملك الحالي وُلِدَ في بلغراد في سنة ١٨٤٤ واقترن في سنة ١٨٢٣ بالأميرة ذوركا ابنة أمير الجبل الأسود، ماتت سنة ١٨٩٠، وله منها بنت وولدان، أكبرهما اسمه جورج والثاني اسمه إسكندر وُلِدَ في سنة ١٨٨٨، وهو الآن ولي العهد من بعد تنازُلِ أخيه الأكبر.

والملك الحالي محترم ومحبوب من رعيَّته، وسهران على تقدُّم بلاده ونجاحها. والسرب واقعة إلى جانب النمسا يفصل بينهما نهر الدانوب شمالًا، ويحدُّها من الشرق رومانيا، ومن الجنوب تركيا، ومن الغرب بلاد البوسنة والهرسك، يفصلها عنهما نهر درينا، وتعدادها الآن ثلاثة ملايين نفس، جميعهم أرثوذكس ما عدا ألوف قليلة من اليهود والألمان والمجر. ويمكن للسرب أن تجرِّد من العساكر ٣٥٢٩٢٢ محاربًا. وقد اشتُهرت العساكر السربية بالبسالة والإقدام. وتقرب إيرادات هذه المملكة من أربعة ملايين جنيه كل سنة ومصروفاتها كذلك، وقيمة صادراتها عام ١٩٠٧ بلغت مائة مليون فرنك، ومعظم الصادر منها حاصلات زراعية ولحوم، وهواء البلاد يوافق زراعة الدخان، فهو عندهم كالدخان التركي، وهم يعتنون بزراعة الأشجار المثمرة، فيصدِّرون من القراصيا الناشفة (برون) ما قيمته ١٥ مليون فرنك في السنة. وعندهم مراعٍ واسعة، فهم يصدِّرون مليونَي رأس من البقر كل سنة إلى النمسا والمجر وتركيا والقطر المصري، و١٢ مليون خنزير. ويصدِّرون من الدقيق ما قيمته مليونا فرنك، ومن البيض ما تزيد قيمته عن ٤ ملايين فرنك. وطبيعة البلاد جبليَّة، فيها ٢١ جبلًا يختلف ارتفاعها من ١٠٠٠ متر إلى ٢٠٠٠، وفيها ٢١ نهرًا، منها نهر الدانوب ونهر الساف، تمخر فيهما البواخر الكبرى، ونهر مورافا تمخر فيه السفن أيضًا طوله ١٢٠ كيلومترًا، وطول جميع أنهرها ٢١٥٨ كيلومترًا تخترق البلاد.

figure
بطرس الأول ملك السرب.

وللسربيين شهرة بالتديُّن، فهم لا ينقطعون عن الصلاة، وقد سمعتُ في كنائسهم نغمات الترتيل، ينشدها رجال وأولاد على غاية الضبط. وما زالوا متمسِّكين بعوائدهم القديمة من جهة الأعياد؛ مثال ذلك أنَّ كلَّ رجل له عيد باسمه من أسماء القدِّيسين، وأهمهم هنالك مار نقولا ومار جرجس وميخائيل وجبرائيل، فإذا جاء عيد القديس الذي يوافق اسمه اسم صاحب البيت كان ذلك اليوم عيدًا تشترك فيه زوجة الرجل وأولاده، واسم هذا العيد عندهم «سلافا»؛ أي عيد قدِّيس البيت. وفي اليوم المذكور يأتي الخوري ومعه في إناء صغير ماء مصلًّى عليه، وباقة من الريحان يغمسها في الماء، ويرشُّ أصحاب البيت والغرف ويبخر صورة القديس، ويعطي أهل البيت قربانًا أو خبزًا مصلًّى عليه وقد طُبِعَ بعلامة الصليب في وسطه. وفي هذا اليوم يمتنع صاحب العيد عن العمل، ويستقبل أقاربه وأصحابه، وهم إذا دخلوا لمعايدته قالوا «سترينا سلافا»؛ أعني كل عام وأنتم سالمون، فالرجل يقبِّل الرجل والامرأة تقبِّل الامرأة، ثمَّ يُقدَّم للضيوف المربى، فيقضون نهارهم في المسرات والصلوات. أمَّا العيد العظيم عندهم فهو عيد الميلاد، ومن أمثالهم «لا يوجد يوم إلا ويظهر معه النور، كما أنه لا يوجد عيد الميلاد إلا ومعه المسرات»، ويكثر بينهم الذين يصومون صيام الميلاد كل أيامه، نراهم ينتظرون العيد بفروغ صبر ليأكلوا الخرفان المشويَّة، وهم يشكون هذه الخرفان ساعة شيِّها بقضبان يقطعونها من الشجر بعد الصلاة، ومتى بدءوا بذلك بذر صاحب البيت قليلًا من حَبِّ القمح، طالبًا من الله تعالى أن يديم لهم القمح في منزلهم. ثمَّ إن الوالدة والأولاد يدورون في جهات البيت، فالوالدة تقلِّد نغمة الدجاجة، والأولاد نغمة الفراخ طالبين من الله ألَّا يحرمهم منها، وإذا جلسوا لمناولة الطعام بدءوا بصلاة وجيزة، ثمَّ إن ربَّ البيت يأخذ في يده ثلاث جوزات، ويقول على اسم الأب فيرمي إحداها في الشرق، ويرمي الثانية لجهة الغرب، وهو يقول هذه على اسم الابن والثالثة على اسم الروح القدس ويرميها لجهة الجنوب. وبعد هذا يرسمون الصليب على وجوههم ويبدءون بمناولة الطعام، وفي آخره يستحضرون قرصًا من القمح المجبول بالعسل، فيه قطعة من النقود فيقتسمون هذا القرص فيما بينهم، والذي يجد قطعة النقود منهم في حصته يعدُّ سعيدًا على مدار السنة. والأفراح في العيد الكبير لا تقلُّ عن عيد الميلاد؛ لأنهم يصبغون البيض ألوانًا، ويدور بعضهم بها لنوع من المقامرة، فكلُّ مَنْ كسر بالبيضة التي في يده بيضة أخرى ربح البيضة المكسورة، وهي عادة معروفة في الشام وكثير من الأقطار الشرقية والغربية في العيد الكبير.

بلغراد

هي عاصمة السرب، لا يزيد سكانها عن مائة ألف نفس، ولكنها عظيمة الحركة؛ لأنها يؤمُّها خلقٌ كثير يأتون إليها من القرى الكثيرة في الضواحي. وموقعها جميل جدًّا، فإنها بُنِيَتْ على جبل يُشْرِف على نهر الدانوب ونهر ساف من كلِّ جهاتها، فأحياء العصمة بعضها على قمَّة هذا الجبل، وبعضها على لحفه من هنا ومن هنا، فكلُّ مناظرها بالغة الجمال تقرب من مناظر الآستانة على البوسفور. والذي يقف في الأحياء الواقعة على رأس الجبل يرى الشوارع ممتدَّة وإلى جانبيها الأشجار تحدُّها المنازل، وهي منحدرة في الوادي حتى ضفَّة النهر لا يظهر آخرها للعين بسبب طولها. وهنالك ترى العربات أو الترامواي نازلة إلى النهر أو صاعدة كأنها خارجة منه. ومن بعض هذه الأحياء تظهر شطوط المجر والبعض من قراها، ويظهر أيضًا الجسر العظيم الذي يمرُّ عليه قطار سكَّة الشرق آتيًا من باريس إلى بلغراد. وفيها مبانٍ عمومية مهمَّة، مثل قصر الملك وبنك السرب والتياترو، وفندق موسكو وهو أحسن من فنادق رومانيا وبلغاريا. ومن المشهور أن للسربيين غيرة زائدة على أبناء جلدتهم، حيث كانوا — وهم يحبون بعضهم بعضًا — كالإخوة، فالجنسية السربية وجهتهم وضالَّتهم في كلِّ حين.

أخذنا ترجمانًا من الفندق للتفرُّج على ما في هذه العاصمة، وكان معه كشف ببيان المحلَّات التي يجدر بالسائح أن يراها، ومن الضروري الاستعانة بالترجمان في بلاد يجهل السائح لغتها، فالترجمان يقلِّل العناء والنفقات؛ لأنه يرشد الغريب في يوم واحد إلى ما يعسر على الغريب رؤيته في أيام، وكانت هذه عادتي في كلِّ سياحاتي. فلمَّا خرجنا من الفندق وجدنا نفسنا في بولفار أو شارع ممتد في قلب البلد سُمِّي ميحايلو على اسم الملك الوارد اسمه في المقدِّمة التاريخية. وقد أُقيم لهذا الملك تمثال من البرونز في ميدان بالقرب من الشارع راكبًا جوادًا، مثل تمثال إبراهيم باشا في أزبكية مصر، فوق قاعدة من حجر الصوَّان الأحمر، وفي هذه القاعدة رسوم معركة حربية، فيها نساء سربيات بيدهنَّ أطفال تتوسَّل إلى عساكر الأتراك بطلب الرحمة. وفي هذا الميدان البنك العقاري السربي والتياترو الكبير، كلاهما من الأبنية الجميلة. وشارع ميحايلو هذا كثير الاتساع، إلى جانبيه منازل عظيمة للبنوك والشركات، تحتها الحوانيت يُباع فيها كلُّ ما يشتهي المرء وقهاوي وحانات. وفي آخر هذا الشارع قره ميدان، والاسم تركي هو اليوم الحديقة العمومية للأهالي، وهي حديقة لطيفة جدًّا فيها الزهور وبِرَك الماء والأشجار المتنوِّعَة يخطرون فيها زرافات ووحدانًا، ويسمعون أنغام الموسيقى. وفي آخرها لجهة نهر الدانوب القلعة، دخلناها من باب يُدْعَى قبو استامبول، وهو مثل باب قلعة مصر تمامًا مصفَّح بالحديد والمسامير. وقد مشينا مسافة طويلة بعد هذا الباب حتى بلغنا بابًا آخر على شاكلته، يليه ميدان ثانٍ وباب ثالث أيضًا، وقد صُنِعَ الكل على طريقة هندسية حربية لصدِّ هجمات الأعداء، قال لنا الترجمان إنه لغاية سنة ١٨٦٠ كانت العساكر العثمانية محتلَّة هذه القلعة والبلد في يد السربيين. فلمَّا وصلنا الميدان الثالث — واسمه قلعة ميداني — رأيتُ فيه مدافع تركيَّة كثيرة العدد قديمة العهد، وكرات كبيرة وصغيرة مرصوصة بعضها فوق بعض على شكل هرمي، عدا المدافع الموجودة في الطوابي والاستحكامات، وهي محْكَمَة الوضع حول القلعة. والقلعة هائلة الاتساع، فإنِّي سِرْتُ مسافة طويلة جدًّا ما بين كلِّ باب من الأبواب الثلاثة حتى وصلتُ آخرها، ومنها رأيت نهرَي الدانوب وساف كأنَّهما تحت الأقدام في هذا المكان. وقد رأيتُ هنا بعض قرى المجر، وهي يفصلها نهر الدانوب عن السرب، ورأيتُ على بعض المدافع شعار الدولة قمرًا ونجمة، وفي غيرها نُقِشَت الطغراء العثمانية، وعلى بعضها كتابات تركيَّة جميلة عليها اسم محمود. وفي الميدان المذكور جامع تخرَّب، والمئذنة هي الآن منارة. وفي هذا الميدان المتحف، وهو عبارة عن قاعة فسيحة مستديرة، جُمِعَ فيها كثير من الأسلحة والرايات التي غنمها السربيون في الحروب، منها بنادق طويلة مزخرفة بنقوش دقيقة، وقبضاتها مرصَّعة بحجارة المرجان، وسيوف تركيَّة عوجاء، منها سيف شفرته مرصَّعة بالجوهر، وعليها كتابات بحروف جميلة جدًّا، أمسكتُهُ بيدي بعد الاستئذان، وقرأت عليه هذه العبارة: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ» وعلى الوجه الآخر: «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار.» ورأينا في هذا المتحف قُبَّعة الملك ميلان الذي ذكرناه في المقدِّمة التاريخية. هذا أهمُّ ما يُرَى في هذا القسم من شارع ميحايلو لحد حديقة قره ميدان.

والقسم الآخر من هذا الشارع على يمين فندق موسكو يُعْرَف باسم ميلان، وفيه قصر الملك، وهو جميل بأعلاه العلم وأمامه عساكر الحرس، وعلى مَقْرُبَةٍ منه نِظَارة الخارجية، وفي آخره ميدان سلافيا يتفرَّع منه خمسة شوارع عريضة، غُرِسَ إلى جانبيها الأشجار ومن ورائها المنازل ذات دور واحد، وهي جميلة المنظر لكلٍّ منها حديقة ومعظمها للموسرين. ومع أنَّ بلغراد ليست من العواصم الكثيرة السكان، فإنها لها موقع طويل، وقد سِرْنَا من شوارعها السابقة الذكر إلى فراتشار، وهو موضع حدثت فيه المعركة الحربية بين عساكر الدولة والسربيين، وكان الفوز فيها لرجال السرب بعد أن قُتِلَ منهم خلق كثير، وهناك قبورهم عليها الصلبان وتمثال بأعلاه صليب كُتِبَ عليه تاريخ سنة ١٨٠٠، وفي هذا الموضع كثير من القرى والمزارع والمعامل دليل حياة القوم السربيين.

وفي هذا اليوم ذهبتُ إلى الكنيسة الكبرى ورأيتُ أن صورها من أحسن صناعة، منها صورة المسيح عند باب الهيكل بيده الكرة الأرضية فوقها الصليب، وفي الكنيسة مقاعد مذهبة للعائلة المالكة، وقد قال لنا الخادم إن جلالة الملك لا ينقطع عن الحضور إلى الكنيسة في كلِّ أحد وفي كلِّ عيد كبير خصوصًا في هذا اليوم، وكان يومئذٍ عيد مار إلياس، ولو لم يكن مريضًا لرأيناه في كرسيِّه، وفي هذه الكنيسة أيضًا قبر ميحايلو من الرُّخام الأبيض. ومن الكنيسة ذهبنا بشارع ميحايلوش — أعني ابن ميحايلو — وفيه نظارة الحربية والمدرسة الحربية ومستودَع المدافع لا يجوز الدخول إليه، والمتحف التاريخي، رافقنا الدليل وكان الترجمان يترجم لنا كلامه عن الآثار، وعددها لا يُحْصَى، وهي متنوِّعَة الأشكال والأجناس متَّسعة في دهاليز وأروقة وغرف كثيرة العدد مُلِئَتْ بما يسرُّ الناظر، ويمثِّل حالة الأشخاص من رجال ونساء وبنات سربيات بالقد الطبيعي من الشمع كأنها تنطق بلسانها، وتنظر إليها بعيونها لابسة اللباس السربي، وتليها تماثيل بنات تركيَّات بالسترة والسراويل الحريرية الواسعة مزركشة بالقصب، وعلى رأس كلِّ واحدة عزيزية مقصبة مائلة قليلًا إلى جهة الشمال تزيد منظر الفتاة دلالًا، ولها صدور مكشوفة، وقد حُليت هذه التماثيل بالمصوغات والنقود التركية من الذهب والفضة، وأكثره ليرًا مجيدية وأنصافها وأرباعها، وقد صنعوا أيضًا من هذه النقود تيجانًا للرأس وعقودًا وأساور وأحزمة للوسط. وإلى جانب هذه التماثيل الحسناء آلات الطَّرَب التركية، مثل العود والقانون والقيثار وبعض الأقمشة الحريرية للملابس والمفروشات. وفي هذا المتحف أيضًا تماثيل الرجال على رءوسهم اللبد البيضاء مطرَّزة بالعروق الزرقاء وقد تقلَّدوا الطبنجات في حزامهم والسيوف على أجنابهم.

ومن هذا المتحف ذهبنا إلى مدفن إسكندر وزوجته دراجا — ذكرت مقتلهما في المقدِّمة التاريخية — فالمدفن الآن عبارة عن كنيسة صغيرة فتحها الخادم وليس فيها قبر من الرُّخام، بل إن الخادم أشار إلى أكاليل موضوعة على الحائط، وقال إن في هذه البقعة دُفِنَ كلٌّ من الملك إسكندر وزوجته دراجا، فأعاد ذلك إلى ذهننا غدرات الزمان وبطشه بالكبار والصغار على السواء. ولمَّا أردتُ أن أزور القصر الذي قُتِلا فيه وهو بالقرب من القصر الجديد للملك الحالي، قيل لنا إنه هُدِمَ وما بقي إلا أرضه من الآثار، والحكومة تبْنِي الآن في هذه الجهة بناءً فخيمًا جدًّا لمجلس البارلمان. ولبلغراد حديقة ثانية في طرفها من الشمال تُدْعَى طوبجي دره، والكلمة تركية معناها وادي الطوبجية، والطريق للوصول إليها من المتنزَّهات البديعة مسافة نصف ساعة بالعربة أو الترامواي، فيها الأشجار الباسقة صفوفًا على اليمين ووراءها المزارع ونهر ساف، وهو كنهر الدانوب تمخر فيه البواخر. وعلى الشمال تلال وهضبات فيها أشجار الصنوبر وكروم العنب حتى إنهم سمُّوا هذه الجهة بالكروم. وفيها قصور جميلة لكلِّ قصر منها حديقة فيحاء وهي للأغنياء وأرباب الوجاهة، منها قصر لناظر الحربية وآخر للسر تشريفاتي، وقد زُرْتُ هذه الجهة لمقابلة أحد الذوات فيها قبل هذه المرة، ولمَّا بلغنا حديقة طوبجي دره عجبنا فيها لاتساعها، ورأينا فيها الزهور وبِرَك المياه على شاكلة حدائق العواصم في أوروبا تَصْدَح فيها الموسيقى وتسير الناس بداخلها أفواجًا، وقد حانت مني التفاتة إلى شجرة دلب ما رأيتُ أطول من غصونها الممتدَّة في كلِّ سياحاتي، حتى إنهم أسندوها إلى عُمُدٍ من الحديد. ثمَّ عُدْنَا إلى فندق موسكو وله شُرْفَة واسعة تطلُّ على الطريق، وتَصْدَح فيها الموسيقى كل يوم بعد الظهر فيتوافد الناس للجلوس وشرب البيرا ومناولة الطعام والمسامرة والنظر إلى المارَّة في الشارع. وقد لحظتُ أنَّ العوائد الشرقية لم تبطل هنا كما بطلت في بعض بلاد الشرق، فإنه مرَّ أمامنا جنازة بطلت من أجلها الموسيقى ووقف الرجال وقد نزعوا القبَّعات احترامًا للميت، ولكن النساء كنَّ حسب العادة الشرقية القديمة ماشيات وراء النعش وأمامه الصلبان والمراوح، وأولاد يرتِّلون وهم بالجلاليب الحمراء عليها صلبان بيضاء وعلى رءوسهم قبَّعات مثل التي يلبسها الأقباط الأرثوذوكس، ثمَّ جوق المرتِّلين يرتِّلون وكان القسوس صامتين، فأشار عليَّ الترجمان أن نذهب للمقبرة بالترامواي، وهي تمرُّ من أمام باب الفندق. ولا يخْفَى على أحد أنَّ المدافن في أوروبا متنزَّهات خلافًا لما في بلادنا، فقبور الأغنياء في عاصمة السرب محاطَة بأسوار من الحديد المذهب أو الرُّخام الأبيض وبداخله عمود من رخام كُتِبَ عليه اسم المتوفَّى وتاريخ الوفاة، وأمام كلٍّ منها نور يُوقَد في الليل والنهار ومن حولها بِرَك الماء والأزهار، وقد رجعتُ بعد زيارة هذه المدافن إلى الفندق فألفيتُ الموسيقى تَصْدَح فيه.

ومما يُلْتَفت إليه أثناء التجوُّل في شوارع بلغراد الزي السربي في بعض الرجال والنساء، أمَّا الرجال فيلبسون اللباد الأبيض على شكل كبوت مشغول بالقيطان الأزرق وتحته سراويل واسعة، وطماقات لباد فوق حذاء بلدي عالي الرأس، بأعلاه شرابة وعلى رءوسهم قبعات، والنساء تلبس سلطة حريرًا أو قطيفة لحدِّ ظهرها وفسطانًا حريرًا، والصدر مكشوف يغطِّيه قميص من الحرير رفيع من صناعة البلاد، وعلى رأسها طربوش أحمر واطئ مثل الطاقية له شرابة (زر) حرير تُلفُّ عليه عصبة مزركشة، وشعرها مقصوص كالهالة حول رأسها وحذاء بلديًّا بأعلاه شرابة حرير، ويُرى ضباط العسكرية يخطرون في الشوارع بكساويهم ونياشينهم، فيهم روح النشاط والحرب، وقد اعتادت نِظَارة الحربية أن تأتي بأجود سلاح للحرب، فإذا رأت أنَّ المدافع الألمانية أجود من غيرها أخذت منها لوازمها، وإن علمت بطرز بنادق إنكليزية أو فرنسوية اشترت لجنودها منها، وهي أبدًا تتبع كلَّ فنٍّ جديد مهما كلفها من المصاريف حتى تكون دائمًا على أهبة الحرب.

وإذا كان الغريب يريد أنْ يرى بلغراد بتمامها، فما عليه إلا أن يصعد سطح فندق موسكو يراها جميعها ولا يغيب شيء عن نظره، فإنه يتجلَّى له منظر نهري الدانوب وساف والجوز القائمة فيهما، والسفن تمخر ذاهبةً أو عائدة وقرى وغابات ومزارع، ويرى أيضًا الجسر المبني فوق نهر الدانوب لقطارات سكَّة الحديد خصوصًا قطار إكسبرس الشرق آتيًا من بودابست لمحطَّة بلغراد وهي عظيمة الاتساع. وذهبتُ في هذا اليوم إلى دار مجلس النُّوَّاب — واسمه عندهم سكوبتشينا — فرأيتُ في القاعة صورة الملك وتجاهها شعار المملكة وكراسي للنُّظَّار ومقاعد للنواب وأرباب الجرائد، حسب ترتيب المجالس النيابية الأخرى. ورأيت بين الأعضاء ثلاثة قسوس ونحو عشرة من المزارعين بملابسهم الوطنية، تكلَّم واحدٌ منهم بحماسة وهو باللباس الوطني السابق ذكره. وعند الظهر انفضَّت الجلسة وهنأت ناظر الخارجية المسيو ميلانوفيش؛ لأنه أجاب كلَّ سؤال من النُّوَّاب، وأنا لا أعلم بشيء مما قيل، وكان سعادته قد أرسل تذكرة إلى رئيس التشريفات يخبره بها أنِّي أتيتُ من مصر ومعي توصية من حضرة المسيو إنتيتش المعتمد السياسي والقنصل العام بها لدولة السرب حتى أكتبَ عن بلادهم بعض الشيء باللغة العربية، وطلب أن يعْرض على جلالة الملك التنازل إلى مقابلتي، ولكن صحة الملك كانت يومئذٍ معتلَّة فأشار عليَّ أن أنتظر أسبوعًا، وكان مضى على إقامتي في بلغراد عشرة أيام، وفي عزمي أن أذهبَ إلى بلغاريا وسلانيك وجبل لبنان، فتشكَّرتُ واعتمدتُ على السفر في الغد إلى صوفيا عاصمة البلغار.

بين بلغراد وصوفيا

قمنا من بلغراد إلى صوفيا عاصمة بلاد بلغاريا في قطار سكَّة الحديد المعروف بإكسبرس الشرق، وهو يأتي من باريس ويمرُّ في بلاد النمسا والمجر والسرب والبلغار إلى الآستانة، والمسافة بين عاصمتَي السرب وبلغاريا عشر ساعات، يسير القطار معظمها في بلاد السرب حتى ينتهي في مدينة تزاريبود، وهي من مدن بلغاريا عند الحدود السربية، وكانت مدَّة سيرنا في بلاد السرب شهيَّة؛ لأن جبال البلقان الشاهقة كانت إلى يميننا وشمالنا، وبقية الأرض ملأى بالمزارع والحقول والعمائر يُزْرَع القمح فيها والذرة، ولأهلها جدٌّ ونشاط مشهور، وفيها من بهائم الحرث شيء كثير، ومعظم أبقارها ضليعة رماديَّة اللون يصدِّرون منها ومن لحومها إلى سائر الأقطار مقادير كبرى، وقد ورد على القُطْرِ المصري منها عدد وافر أيام مرض البهائم. ومررنا على مدينة نيش حيث وَقَفَ القطار سبع دقائق، وهي من المدن السربية المهمَّة، لمَّا قام القطار منها دخل في وسط جبال البلقان وصخورها رملية حمراء مهَّدوا في أسفلها طريقًا للأرتال، فالسائر فيها يرى الجبال كأنها معلَّقة فوق رأسه، ولكن القطار الذي ذكرتُهُ كان مُتْقَنَ الصنع قليل الارتجاج حتى إنه يمكن الكتابة فيه. وتابعنا المسير بعد تزاريبود الكائنة عند الحدود حتى بلغنا صوفيا في العصر، وذهبنا إلى فندق بلغاريا، وهو قريب من قصر الملك والحديقة العمومية، وسيأتي ذكرهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤