«لوزة» … وحدها

كان موعد اجتماع المغامرين الخمسة هو المساء. وقد كان مساءً باردًا، حتى إن «تختخ» ارتدى ثيابًا ثقيلةً قبل أن يخرج إلى الشارع … فقد كان يحسُّ أنه برغم سمنته يرتجف من البرد.

وعندما وصل إلى حديقة منزل «عاطف» حيث اعتادوا أن يجتمعوا، وجد الأصدقاء كلهم هناك … وكان «زنجر» يتبعه دون استئذان؛ فلم يستدعِه «تختخ» للخروج معه … ولكن الكلب الذكي عرف أن صاحبه خرج لمقابلة المغامرين، وبما أنه العضو السادس في هذه المجموعة … فقد انتظر حتى خرج «تختخ»، ثم تبعه من بعيد.

كان المغامرون الأربعة منهمكين في مناقشةٍ ساخنةٍ حول «الخطف»، وهل ما سمعته «لوزة» كان هو التعبير المتداول بين اللاعبين وفي محيط الكرة … بمعنى انتقال لاعبٍ من نادٍ إلى نادٍ آخر بعد إغرائه بالمكافآت المالية … كما حدث مع كبار اللاعبين في الأندية المصرية، أو أن ما سمعته «لوزة» كان يعني أن هناك عصابةً لخطف أحد اللاعبين فعلًا، ومنع الآخر بطريقة أو بأخرى من الاشتراك في المباراة القادمة بين فريق «الفانلة الحمراء»، وفريق «الفانلة البيضاء»!

كانت المناقشة حاميةً جدًّا … حتى إنها لم تتوقَّف عندما دخل «تختخ» وقد كان «محب» و«عاطف» يرجِّحان أن العملية كلها مجرَّد حديثٍ تليفونيٍّ عن انتقال لاعب من نادٍ إلى نادٍ آخر، وليس عملية خطف حقيقي. وكانت «نوسة» و«لوزة» في الجانب الآخر تعتقدان أن هناك عملية خطف مدبَّرةً … وعملية تعطيل مدبَّرة.

جلس «تختخ» صامتًا يرقب المباراة الحامية بين الأربعة دون أن يتدخَّل … فقد كان يُحسُّ — بالإضافة إلى البرد القارس — بصداعٍ شديد … ولا يريد أن يشترك في أية مناقشة … وكأنما كان «زنجر» يُشارك صاحبه المشاعر … اختار ركنًا بعيدًا وجلس وحيدًا.

ظلَّت المناقشة حاميةً فترةً دون أن يتنازل أحد الطرفَين عن رأيه … ثم بدأت تهدأ تدريجيًّا. وخيَّم الصمت على الركن الجميل في حديقة «عاطف»، ولكنه هدوءٌ لم يستمرَّ طويلًا؛ فقد وقف «زنجر» وأطلق نباحًا قصيرًا معلنًا عن وصول الشاويش «فرقع» الذي بدا في مدخل الحديقة … وعندما شاهد «زنجر» توقَّف قليلًا، ولكن كلمةً من «تختخ» إلى الكلب جعلته يعاود الجلوس دون أن يُمارس هوايته المفضلة في مداعبة قدمَي الشاويش …

وبرغم البرد كان العرق يسيل من الشاويش تحت ملابسه الرسمية … وبدا ذلك واضحًا من حبات العرق المنعقدة على جبينه. لم يكن العرق المظهر الوحيد لضيق الشاويش؛ فقد كان شاربه يهتزُّ … وكانت يداه تقبضان في عصبيَّةٍ على مظروفٍ أصفر … وجلس الشاويش دون استئذانٍ، وقال على الفور: من منكم صاحب حكاية خطف اللاعبين؟

ردَّت «لوزة» على الفور: أنا يا حضرة الشاويش!

الشاويش: أنت؟!

لوزة: نعم أنا … هل حدث شيء؟

الشاويش في شبه صراخ: حدث شيء؟! تسألين هل حدث شيء؟! حدث ألف شيء. لقد أصبحت موضع سخرية العالم كله!

عاطف: معنى هذا أنك أصبحت مشهورًا جدًّا يا شاويش «علي».

التفت الشاويش إلى «عاطف» وكأنه سينفجر في وجهه وقال: دعك أيها الولد من هذا الأسلوب السخيف في معاملة الكبار والزم حدودك.

كان واضحًا أن الشاويش قد تعرَّض لأزمةٍ حقيقية … وأنه جاء يصبُّ غضبه على رأس المغامرين الخمسة، ولكن الشيء العجيب أن «تختخ» المصدوع الرأس انفجر يضحك على ما قاله «عاطف»! لقد أعجبه التعليق جدًّا، وسرت عدوى الضحك من «تختخ» إلى بقية المغامرين، وأخذوا جميعًا يضحكون.

كان من المؤكَّد أن الشاويش سوف يشتبك في عراكٍ مع المغامرين لولا أنه تذكَّر وجود «زنجر» … وأنه من الممكن أن يحسم المعركة لصالح المغامرين في دقائق قليلة؛ لهذا اضطُر إلى الصمت، وأخذ يضغط على أسنانه حتى لا ينفجر في الصياح.

هدأت عاصفة الضحك بعد قليل … والتفت «تختخ» إلى الشاويش وقال: آسف جدًّا يا شاويش «علي» … ولكن ماذا حدث؟

الشاويش: هل ما زلت تسأل عمَّا حدث؟! حدث يا أستاذ أنني صدَّقت بلاغكم عن اختطاف أحد لاعبي كرة القدم، وذهبت وحصلت على أسماء جميع اللاعبين في مختلِف الأندية في القاهرة والجيزة … أرهقت نفسي وأجهزة الأمن في البلد … وعندما رويت لهم قصة البلاغ سخروا منِّي، وقالوا إن كلمة «الخطف» تعني انتقال لاعبٍ من …

وقبل أن يُكمل الشاويش جملته قال «تختخ»: لقد سمعنا الكلام نفسه يا شاويش، ولم نجد في ذلك ما يدعو إلى سخريةٍ منا … واعتبرنا المسألة سوء فهم!

الشاويش: سوء فهم … تقول سوء فهم يا أستاذ؟! إنها مهزلةٌ أن تضيعوا وقتي، ووقت الحكومة في هذا الكلام الفارغ!

تختخ: هناك إجراءٌ قانوني يا شاويش في هذه الحالة … أن تتهمنا بالبلاغ الكاذب، وتحاسبنا على هذا الأساس.

انفجر غضب الشاويش وصاح: هل تُعلِّمني واجبي يا أفندي؟! أنا أعرف كل شيء، ولكن أنتم مجموعة أولاد، وكل ما سيحدث هو أن نبلغ آباءكم بما حدث، وهذا ما سأفعله غدًا صباحًا!

وقام الشاويش واقفًا فقال «تختخ»: ولكنك كنت متحمِّسًا يا شاويش عندما سمعت عن اللصِّ ذي الصوت المبحوح … ألَا تريد القبض عليه؟

قال الشاويش وهو يغادر المكان ويده تهتزُّ في وعيد: سأقبض عليه دون مساعدتكم، وسوف تعرفون نتيجة عبثكم.

ووقف «زنجر» مستعدًّا، ولكن «تختخ» طلب منه أن يبقى في مكانه، فعاود استلقاءه على الأرض وهو يزمجر في ضيق.

ساد الصمت بعد رحيل الشاويش. وأخيرًا قالت «لوزة»: آسفة جدًّا … إنني أشعر بالذنب لأنني سبَّبت لكم وللشاويش هذا الضيق.

ردَّ «تختخ» وهو يبتسم لها: لقد كنتِ حسنة النية يا «لوزة». لقد سمعتِ مكالمةً عن عملية «خطف»، وقمتِ بواجبك في الإبلاغ عنها … وهذا واجب أي مواطنٍ صالح؛ فلا داعي لأن تشعري بتأنيب الضمير.

محب: والآن أيها المغامرون الخمسة … ماذا نفعل بعد ذلك؟

عاطف: الشيء الوحيد المعقول … أن ننسى هذا الموضوع تمامًا ونجد شيئًا أكثر بهجةً نفعله.

نوسة: مثل ماذا؟

عاطف: مثلًا رحلة إلى الصعيد. لماذا لا نذهب إلى أسوان مثلًا؟ إن البرد هنا لا يُطاق … و«تختخ» قد سافر والداه منذ فترةٍ إلى القرية … وقد بقي معنا، فَلْندعه يذهب أو نُسافر معه.

نوسة: للأسف إننا لن نسافر الآن.

تختخ: الحقيقة أنني أحسُّ بالملل، وسوف أسافر غدًا صباحًا إلى القرية فقد هبط البرد مبكِّرًا جدًّا هذا العام، وبرغم كمية الشحم التي تحميني فإنني أحسُّ بالبرد.

ابتسم الأصدقاء، وانتهت الجِلسة بعد أن اتفقوا على أن يقوموا بتوصيل «تختخ» في اليوم التالي حتى القطار، ثم يعودون.

وفي صباح اليوم التالي … كان «تختخ» يُغادر الفيلا، وكان بقية المغامرين مستعدِّين، وهكذا ركبوا قطار المعادي إلى محطة باب اللوق، ثم ركبوا «تاكسيًا» إلى محطة باب الحديد … ووقفوا جميعًا هناك في انتظار قيام القطار … وكانت صدفة ظريفة أن قابلوا اللاعب «جلجل» يقوم هو الآخر بتوصيل والدته المسافرة في القطار نفسه. وقفوا جميعًا يتحدَّثون، وكان «جلجل» يضحك بحرارةٍ وهو يضع يده على رأس «لوزة» قائلًا: ألستِ من هواة كرة القدم؟

لوزة: الحقيقة أنني أُحبُّ لعباتٍ أخرى مثل كرة السلة … والتنس.

جلجل: إذن فأنا أدعوك أنت وزملاءك لحضور مباراة الغد بيننا وبين فريق نادي «الفانلة البيضاء».

لوزة: أشكرك كثيرًا … هذه أول مباراة أشاهدها في الملعب … قبل ذلك شاهدت عدة مبارياتٍ في التليفزيون.

جلجل: إن مشاهدة المباراة في الملعب لها طعمٌ مختلف؛ فسوف تكونين أشدَّ تحمُّسًا … وأكثر استمتاعًا.

ثم التفت إلى «محب» قائلًا: أرجو أن تمرَّ عليَّ يا «محب» لتأخذ التذاكر.

محب: شكرًا. سأمرُّ في العاشرة صباحًا.

وبدأ القطار يستعدُّ للسير، وتفرَّق الواقفون … ووقف المغامرون الأربعة يشيرون إلى «تختخ» بأيديهم وهو يقول لهم: لا تنسَوا أن تزوروا «زنجر» فقد تركته مع البوَّاب.

وعاد الأصدقاء الأربعة مع «جلجل» ووالده الضابط في سيارة الوالد، وتذكَّرت «لوزة» المحادثة التليفونية مرةً أخرى … تذكَّرت كيف قال الرجل ذو الصوت المبحوح لزميله في التليفون إن أحد اللاعبين لا يمكن خطفه لأن والده يأخذه معه في سيارته … إنه «جلجل»! كادت «لوزة» تُعيد الحديث مرةً أخرى لولا أنها خشيت أن تصبح موضع سخرية المجموعة … وكانت تجلس في الكرسي الخلفي وبجوارها بقية الأصدقاء، وأخذت تفكِّر … كيف يمكن أن تمنع ما يدبرِّه الرجلان ومن معهما من أشرار؟! إن قلبها يحدِّثها أن ما سمعته حقيقي … لقد كان الرجلان يتحدَّثان بجدية … ولكن كيف؟ كيف؟!

وصلت السيارة إلى المعادي، وشكر الأصدقاء الأب على توصيلهم، ثم توجَّه «محب» و«نوسة» في الطريق إلى منزلهما … وعادت «لوزة» مع «عاطف» … كانت المغامِرة الصغيرة تحسُّ بكآبةٍ فظيعة … فالمغامرة التي تمنَّت أن تكشف الستار عن ألغازها لم تتم، و«تختخ» صديقها الوفي وأكثر المغامرين قربًا إلى قلبها قد سافر، وكل شيءٍ يبدو سخيفًا.

صعدت إلى غرفتها مسرعة، وقرَّرت أن تستحمَّ بماء دافئٍ وتغيِّر ملابسها، ولكنها قبل أن تفعل ما اعتزمته ذهبت مسرعةً إلى التليفون ورفعت السمَّاعة، وسرعان ما دقَّ الصوت الهادئ المتكرِّر الذي يُنبئ أن التليفون قد عادت إليه الحرارة، وأنه أصبح صالحًا للاستخدام.

وضعت السماعة في ضيق، وأسرعت إلى الحمام. كان ذهنها الصغير يعمل بكل قوته … إنها متأكِّدةٌ أن هناك جريمة، بل جريمتَين سوف تقعان … ولكن ليس في يدها شيءٌ تفعله … أخبرت المغامرين، أبلغت الشاويش، ولم يَعُد في إمكانها عمل شيءٍ آخر!

وبعد أن خرجت من الحمام أحسَّت ببعض الهدوء، وعاد تفكيرها ينتظم، وأخرجت من دولابها الورقة التي كانت قد سجَّلت عليها المكالمة كما سمعتها تقريبًا حتى لا تَنسى … وأخذت تقرأ: يجب خطفه قبل المباراة بيوم!

– لا … في اليوم نفسه أفضل؛ حتى لا يكتشف النادي خطفه في الوقت المناسب.

– واللاعب الآخر؟

– هذا لا يمكن … لأن والده يأخذه معه في سيارته.

وهزَّت «لوزة» رأسها … إن تدبير عملية الخطف واضحٌ جدًّا … فلو كانت العملية عملية نقل لاعبٍ من نادٍ إلى نادٍ … فإن ذهاب والده معه لا يمنع من انتقاله … وتحديد موعد الخطف معناه أن العملية حقيقية … إذن لا بد أن تُثار القضية من جديد … لا بد من طريقة … ولكن كيف؟!

لم يكن أمام «لوزة» إلا أن تنتظر مباراة الغد … ربما حدث قبل المباراة ما يؤكِّد شكوكها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤