لم يُخطف أحد … ولكن

كان اليوم التالي يومًا هامًّا بالنسبة ﻟ «لوزة»؛ ففي هذا اليوم ستُحسم مسألة اللاعب المخطوف … فإمَّا أنه خُطف أمس ليلًا حتى لا يلعب مباراة اليوم … وإمَّا أنه سيُخطف اليوم قبل المباراة … كانت متأكِّدةً من وقوع أحد الأمرَين، وهكذا أسرعت بالنهوض مبكرةً من فراشها، وجرت إلى صالة المنزل حيث توجد جرائد الصباح وأخذت تقرأ بسرعة … ولكن لم يكن في صفحات الحوادث ولا صفحات الرياضة أي شيءٍ عن عملية خطف تمَّت، فهل تكون العملية تمَّت بعد أن انتهى طبع الجرائد الثلاث؟! ربما … ولكن كيف تعرف؟

لقد أصبحت «لوزة» وحدها — كما تشعر — هي المسئولة عن هذا اللغز … لغز المكالمة التليفونية التي استمعت إليها، والتي أكَّدت جميعُ الدلائل أنها لا تُشير قطعًا إلى خطف لاعبٍ بمعنى نقله بالقوة إلى مكانٍ بعيد … ولكن قلبها كان يحدِّثها أنها لم تكن مُخطئة، وأن عملية الخطف ستتم … ولكن كيف تعرف الآن؟! إنها لو تحدَّثت إلى «عاطف» لأصبحت هدفًا سهلًا لسخريته اللاذعة … وكذلك بالنسبة ﻟ «محب» … لم يبقَ سوى «نوسة»، إنها صديقتها الوحيدة التي يُمكن أن تستمع إليها بعد سفر «تختخ». وهكذا قامت إلى التليفون وطلبت «نوسة» وقالت لها: اسمعي يا «نوسة» … إنني ما زلت متأكِّدةً من موضوع الخطف، وأنا لا أريدك أن تصدقيني … أريدك أن تساعديني فقط … إن «محب» سيذهب لأخذ تذاكر المباراة من «جلجل». أرجو يا «نوسة» أن تذهبي معه وتسألي «جلجل» عن بقية اللاعبين من زملائه في نادي «الفانلة الحمراء» هل حدث لهم شيء؟! إنني لا أطلب منك سوى هذا الطلب، وسأنتظر ردَّك.

نوسة: حاضر يا «لوزة» … سأسأله.

لوزة: شكرًا لك يا صديقتي … إنني لن أخرج من المنزل، فمتى تذهبان؟

نوسة: بعد ساعة تقريبًا!

لوزة: عظيم جدًّا … سأنتظر مكالمتك!

ووضعت «لوزة» السمَّاعة، وجلست تنتظر … ومرَّت الساعة كأنها عشرون ساعة، و«لوزة» تنتقل من مكانٍ إلى مكان، وتحاول شغل نفسها بأي شيء … وأخيرًا جاءت المكالمة وقالت «نوسة»: لم يحدث شيء مطلقًا يا «لوزة» … أرجوك أن تَكفِّي عن التفكير في هذا الموضوع تمامًا …

تجاهلت «لوزة» رغبة صديقتها وقالت: متى تذهبين إلى المباراة؟

نوسة: سنتحرَّك في العاشرة؛ فالمباراة في استاد القاهرة بمدينة نصر، والمسافة بعيدة.

لوزة: سأكون مستعدةً أنا و«عاطف».

نوسة: عظيم، وسأمرُّ أنا و«محب» عليكما في العاشرة تمامًا.

قالت «لوزة» وهي تضع السماعة: إذا نزل فريق النادي الأحمر كاملًا ولم يتغيَّب أحد من نجومه المشهورين مثل «جلجل» و«ميزو» و«مصمص»، فيجب فعلًا أن أكفَّ عن التفكير في هذه المكالمة التي قلبت رأسي.

وفي العاشرة تمامًا كان المغامرون الأربعة في طريقهم إلى محطة المعادي حيث استقلُّوا القطار إلى محطة باب اللوق … ثم ركبوا الترام إلى العباسية، ومن هناك كانت مجموعة من الأوتوبيسات قد خُصِّصت لنقل المتفرِّجين، فركبوا جميعًا.

كانت هذه أول مرة تذهب فيها «لوزة» إلى «الاستاد» … وقد وجدته أكبر ممَّا تصوَّرت بكثير … وأحسَّت بالفخر لأن هذا الاستاد العظيم في بلدها مصر، ولكن المشكلة كانت في الدخول؛ فقد كان الزحام يفوق كل تصوُّر … عشرات الألوف من هواة كرة القدم يزدحمون أمام الأبواب، وسرعان ما جرفها الزحام … وأحسَّت بنفسها تغوص بين الأجساد المتلاحمة … والطابور الطويل يزحف ببطء … والجماهير تتصايح وفي يدها الأعلام الحمراء تلوِّح بها، والأحاديث ترتفع بين الداخلين. من سيفوز؟ إنه نادي «الفانلة الحمراء» لا شك … ولكن كم هدفًا يكون الفارق بينهما؟

كانت «لوزة» تتعلَّق بذراع «عاطف» حتى لا تضيع في الزحام … ولا تدري لماذا أحسَّت أكثر من مرة وسط الزحام القاتل أن هناك يدًا تحاول أن تجذبها بعيدًا عن بقية المغامرين، ولكنها كانت تُقاوم … وتشدِّد قبضتها على ذراع شقيقها … وأخيرًا استطاعوا أن ينفذوا من الباب … وفوجئت «لوزة» عندما دخلت «الاستاد» بضخامة المدرَّجات، وبعدد الجماهير التي ملأتها برغم أن الساعة لم تكن قد تجاوزت منتصف النهار. وأن المباراة ستبدأ في الساعة الثالثة … أي بعد ثلاث ساعات.

وجدوا أماكنهم في مدرَّج الدرجة الثانية … وجلست «لوزة» مبهورة، ومالت على «نوسة» تقول: شيءٌ مذهل!

نوسة: فعلًا … إنني لم أرَ مثل هذا العدد من الناس من قبلُ في مكانٍ واحد. قال «عاطف» ضاحكًا وهو يميل على «محب»: متى نراك لاعبًا مهمًّا تُقبل الجماهيرُ على المباريات التي تشترك فيها؟

ولكن «محب» لم يردَّ … كان من الواضح أنه مشغولٌ باختلاس النظر إلى شخصٍ يجلس خلفهم …

فنظر «عاطف» هو الآخر ولم يرَ شيئًا غير عاديٍّ في هذا الشخص، إلا أن ملامحه تدلُّ على الشراسة … فهل يعرفه «محب»؟!

انتظر «عاطف» لحظات، ثم مال على «محب» قائلًا: ماذا يلفت نظرك في هذا الشخص الجالس خلفنا؟

ردَّ «محب» هامسًا: شيءٌ غريب! … إن هذا الرجل كان يقف أمام منزل اللاعب «جلجل» عندما ذهبنا لمقابلته أمس الأول … وقد شاهدته عندما ذهبنا لمشاهدة مران نادي «الفانلة الحمراء» وكان يجلس بجوارنا … وهذه هي المرة الثالثة التي أراه في يومَين متتاليَين!

عاطف: ربما مجرَّد صدفة!

محب: ربما … ولكن وجهه ليس مريحًا … وقد لاحظت أنه يراقبنا.

عاطف: دعك من هذه الخيالات.

محب: إنه ليس خيالًا … فهذا الرجل يتعمَّد الاقتراب منا لسبب لا أدريه.

انتهى الحديث بين الصديقَين … فقد ارتفعت ضجةٌ في المدرَّجات تهتف للنادي الأحمر على دقات الطبل. واستغرق المغامرون في مشاهدة الجماهير، والملعب الأخضر. وكان كل شيء يُنبئ عن مباراةٍ ممتازة.

مرَّت الساعات بسرعة … وأخرجت «نوسة» بعض «السندوتشات» وناولتها للأصدقاء، ويبدو أن الهواء الطلق قد فتح شهيتهم؛ فقد انهمكوا في الأكل باستمتاع … حتى «لوزة» نسيت للحظات حكاية الاختطاف وانهمكت في الأكل … ولكن فجأةً انتشرت حركة بين الجماهير … وقال واحد: سينزل فريق «الفانلة البيضاء» الملعب الآن.

واتجهت الأنظار كلها إلى الأبواب التي يخرج منها اللاعبون … وفعلًا ظهر فريق «الفانلة البيضاء» يخرج من الباب لاعبًا إثر آخر … وتوقَّفت «لوزة» عن الطعام، وأخذت ترقب اللاعبين بانتباهٍ شديد … وفي أحد المدرَّجات كان مشجعو النادي الأزرق يتصايحون ويصفِّقون. ونزل الفريق إلى أرض الملعب، وانتشر التصفيق … وجرى اللاعبون ناحية المدرَّجات وهم يرفعون أيديهم بالسلام … ثم اتجهوا إلى المرمى الأيمن، وأخذوا يتناقلون الكرة … وفجأةً قال واحد: فريق «الفانلة الحمراء»!

وكأنما هبَّت عاصفة … فقد ارتفعت من المدرَّجات كلها تقريبًا الصيحات … وانتشر التصفيق وكأنه مئات من المدافع الرشَّاشة تنطلق معًا … وتمايلت الأعلام الحمراء ودقَّت الطبول … وهتف عشرات الألوف يحيُّون اللاعبين.

كانت «لوزة» ترقب المشهد كله وعيناها مركِّزتان على لاعبي «الفانلة الحمراء» … هل ينزلون جميعًا؟! وكأنما كان الشخص الذي يجلس خلفهم يقرأ أفكارها فقال: إن لاعبي الفريق الأحمر نزلوا جميعًا … الفريق كاملٌ بكل نجومه … هذا هو «جلجل» قلب الدفاع الذي لا يُقهر، وهذا هو «ميزو» المهاجم الهدَّاف.

وأخذ يسرد أسماء اللاعبين واحدًا بعد الآخر … وأدركت «لوزة» أنها كانت مخطئةً تمامًا … لقد نزل اللاعبون جميعًا، لم يُخطف أحد … لم يتخلَّف أحد … لقد كانت واهمةً فعلًا! وأحسَّت بارتياحٍ برغم كل شيء؛ فإن ما كان يهمُّها هو سلامة اللاعبين، وها هم أولاء جميعًا ينزلون الملعب وعشرات الألوف يحيُّونهم. ودار اللاعبون بالملعب يحيُّون المتفرِّجين، واقتربوا من مدرَّج الدرجة الثانية حيث يجلس المغامرون … ورأت «لوزة» «جلجل» ووقفت … ووقف «محب» و«نوسة» و«عاطف»، وأخذوا يصفِّقون بشدة لصديقهم.

وعاد اللاعبون إلى وسط الملعب، ثم اتجهوا إلى المرمى الآخر الخالي، وأخذوا يتناقلون الكرة بمهارة، ويختبرون حارس المرمى الضخم «إلهامي» الذي كان يصدُّ الكرات التي تصل إليه باقتدار.

بعد لحظات نزل الحكم وحامِلا الراية في ملابسهم السوداء … وأسرع رئيس الفريق الأزرق ورئيس الفريق الأحمر إلى وسط الملعب، حيث أجرى الحكم «القرعة» بقطعة عملة معدِنية، ثم تبادل رئيسا الفريقَين الأَعلام والتحيَّات، وصفَّقت الجماهير، واختار رئيس الفريق الأزرق المرمى الأيمن … وانتشر اللاعبون في أرض الملعب كل منهم في مركزه … ورفع الحكم يده إلى أعلى … ثم أطلق صفَّارة البداية، وبدأ الفريق الأحمر الهجوم … ومضت الكرة من قدمٍ إلى قدم، والفريق الأزرق يُدافع … ولكن لاعبي الفريق الأحمر استطاعوا الاقتراب من المرمى، واستطاع «ميزو» الماهر أن يستخلص الكرة من الظهير الأيسر، ويرسلها قويةً في حلق المرمى. وارتفع صياح الجماهير، ولكن حارس الفريق الأزرق استطاع أن يُمسك بها، ثم يقذفها بيده إلى الظهير الذي أرسلها طويلةً إلى الأمام.

كان الحماس يعمُّ الملعب … ونسي المغامرون كل شيءٍ إلا المباراة «القوية» التي كانت تدور على أرض الملعب بين الفريقَين الكبيرَين … كان الهجوم متبادلًا والكرة تصل إلى حارس المرمى هنا مرة، وتعود إلى الحارس الآخر في ثوانٍ قليلة … واللاعبون جميعًا يؤدُّون المباراة في قوةٍ وفن انتزع التصفيق من عشرات الألوف الذين ملئوا المدرَّجات … وفجأةً استطاع جناح الفريق الأزرق الإفلات بالكرة … وانشطر يسارًا، ثم اقترب من مرمى الفريق الأحمر، وأرسل الكرة لولبيةً قويةً سكنت شباك الحارس «إلهامي» … وارتفع صياح مشجعي الفريق الأزرق … ولكن الحكم أطلق صفَّارته، وأعلن أن الجناح كان متسلِّلًا، وعادت المباراة تأخذ طابعًا أشد حماسًا … حتى صفَّر الحكم معلنًا نهاية الشوط الأول. وأخذ الحاضرون يتحدَّثون عن الفريقَين محلِّلين كل لعبة، مبدين إعجابهم أو سخطهم. وكان «محب» ينظر خلفه، ولكن الرجل ذا السِّحنة الشريرة كان قد اختفى … بدأ الشوط الثاني، واستمرَّ اللعب سجالًا بين الفريقَين دون أن يتمكَّن أحدهما من تسجيل هدفٍ في مرمى الفريق الآخر، حتى صفَّر الحكم معلنًا نهاية المباراة … وبدأ الألوف يتدافعون في طريق الخروج.

وإذا كان الدخول قد أرهق المغامرين، فإن الخروج كان أكثر إرهاقًا؛ فقد اندفع الآلاف إلى الأبواب، ووجد المغامرون أنفسهم محشورين بين الأجساد المتلاصقة … وكانت «لوزة» الصغيرة الرقيقة أشدهم معاناة … حتى أحسَّت بنفسها تضيع بين الناس، وفجأةً أطلقت صيحةً وسقطت على الأرض. سمع «عاطف» الصرخة وأحسَّ بيد «لوزة» تفلت من يده … وأدرك أنها سقطت على الأرض، ومن الممكن أن يدوسها الخارجون دون أن يشعروا … فألقى نفسه عليها يحميها بجسمه … وكذلك فعل «محب».

كان موقفًا خطيرًا … فالآلاف تندفع إلى الخروج في عجلةٍ شديدة … ومن الممكن أن يسقط الصديقان تحت الأقدام … أمَّا «نوسة» فوجدت نفسها مندفعةً دون إرادةٍ وسط الخارجين … لا تستطيع التوقُّف برغم أنها سمعت صرخة صديقتها الصغيرة.

رفع «محب» و«عاطف» «لوزة» بينهما … كان قد أُغمي عليها وازرقَّ وجهها، وأخذ المغامرون يدفعون الناس في محاولة لإنقاذها. كان موقفًا خطيرًا، ولكن بعض الناس أدركوا ما يحدث، وسرعان ما كانت الأيدي تمتدُّ لرفع «لوزة» إلى فوق … وأسرع بعض الناس لاستدعاء رجال الإسعاف من أرض الملعب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤