الفصل الأول

وكان والدي يقطن ضاحية قريبة من باريس، وعندما وصلت إلى المسكن رأيت طبيبًا واقفًا أمام الباب فقال لي: لقد وصلت متأخرًا، وكان أبوك يتمنى لو يراك للمرة الأخيرة.

دخلت فإذا والدي مُسجًّى وقد فارقته الحياة، فقلت للطبيب: أرجوك أن تبعد كل من في الغرفة. دعني وحدي؛ فقد كان لوالدي ما يقوله لي، ولسوف يقول كلمته الآن.

وخرج الخدم فتقدمت إلى السرير ورفعت الغطاء عن وجه الميت، ولكنني ما ألقيت نظري عليه حتى تراميت لتقبيله فأغمي عليَّ.

ولما أفقت على فراشي في غرفة أخرى سمعت مَن حولي يقولون: لا تدعوه يذهب وإن أصرَّ. انتظرت حتى رقد جميع من في البيت، وأخذت مصباحًا وتوجهت إلى غرفة الميت، فوجدت فيها كاهنًا فتيًّا جالسًا قرب السرير، فقلت له: لا حق لك بأن تنازع ولدًا ليلة أخيرة يقضيها قرب أبيه. لا أعلم ماذا قيل لك بشأني، غير أنني أرجوك أن تدخل إلى الغرفة المجاورة، وأنا اتخذ على عاتقي كل تبعة قد تقع عليك.

ذهب الكاهن، فقعدت مكانه ومددت يدي أكشف للمرة الثانية عن هذه الملامح التي قضي عليَّ بألا أراها بعد.

وخاطبت الميت قائلًا: ماذا كنت تريد أن تقوله لي يا أبي؟ لقد أدرت لحاظك مفتشًا عني قبل انطفاء عينيك، فما كانت فكرتك الأخيرة يا ترى؟

وكان والدي يكتب مذكرات يُدوِّن فيها وقائع أيامه، وكان كتاب هذه المذكرات مفتوحًا على الخوان، فتقدمت إليه وجثوت، فإذا على الصفحة الأخيرة هذه الكلمات:

الوداع يا ولدي … أحبك … وأموت.

جمدت دموعي، واختنقت زفراتي، فكأن يدًا شدَّت على عنقي وختمت على فمي، فوقفت شاخصًا بالميت المسجى أمامي، وما كان في حياته يجهل ما كانت عليه حياتي، فقد كان يشكوني إلى نفسي ويُوجِّه إليَّ التقريع، وما اجتمعت به مرة إلا وحدثني عن مستقبلي، وتناول باللوم مآتي شبابي، ولكم أنقذتني نصائحه من تهلكة! فقد كان لإرشاده قوته المستمدة من فضيلته؛ لأنه كان مثال الدعة ومكارم الأخلاق، وقد كان يتمنى لو يراني قبل موته ليردني عن السبيل الضلول الذي توغلت فيه، ولكن المنية عاجلته فلم تدع له إلا كلمة واحدة يقولها، فقال: إنه يحبني …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤