الفصل الأول

في حجرة رئيسة دار النظام

كاكا : السيدة نفرتيتي تريد مقابلة سيدتي.
نوب حتب : دعيها تدخل.
نفرتيتي : لقد مضى على غروب الشمس مدة طويلة يا سيدتي، ولا تزال التلميذات اللائي أمرت بعقابهن باكيات في حجرة دراستهن، فهل يبقين أكثر من هذا، أم تأمر سيدتي بانصرافهن؟
نوب حتب : إني أشعر يا نفرتيتي أني أظلم هؤلاء التلميذات، إذ أعاقبهن على الخلاعة والتبرج، ما دامت معلماتهن هن اللائي ينشرن بينهن تلك القدوة السيئة، بتبرجهن المعيب المخجل، وهذه السيدة رودوبيس قد جعلت من وجهها فاتورة لمختلف الألوان المتناقضة، فمن شفاه قرمزية، إلى أهداب وحواجب تكاد تنافس الليل في سواده وكثافته، ويعلو تلك الأهداب والحواجب السوداء شعر أصفر يضرب إلى البياض، كأنه سبائك من الذهب المخلوط بالفضة الناصعة، فهو لا يتناسب مع شعر حواجبها وأهدابها، ولا يوافق بشرة وجهها السمراء القاتمة، وقد أرادت بذلك أن تفوق يد الطبيعة في صنع الجمال، فظهرت للناس سخرية، يزدريها كل من وقع بصره عليها، ولست أدري كيف يستحسن الرجال مثل هذا التصنع الممقوت، الذي يخالف نظام الطبيعة فيما رسمته من فنون الجمال، فزينت السمراء بعينين سوداوين وشعر أسود جميل، كما وهبت الشقراء عينين زرقاوين، وشعرًا ذهبيًا يتناسب مع بياض بشرتها، فزادتها بذلك جمالًا وروعة.
ضحَّت السيدة رودوبيس بالكرامة والشرف، في سبيل الجمال، فخسرت الثلاثة جميعًا، لقد عارضت الآلهة فيما صنعوه من جمال الخلقة الطبيعية، فكفرت بهم وبآياتهم، وهي تعيش في دير آمون رب أرباب مصر، وعلى بعد خطوات من قدس أقداسه، ويساعدها على ذلك الكفر خادم الإله نفسه، فسلام على الدين ورجاله؛ بل سلام على الفضيلة والشرف، اذهبي يا نفرتيتي واصرفي هؤلاء التلميذات البائسات، اللائي قضى عليهن سوء الحظ أن يقوم بتربيتهن وتهذيبهن أمثال هؤلاء المعلمات، فيجنين على آدابهن شر الجناية.

(يطلب السيد فتاح مقابلة سيدتي.)

كاكا : عجبًا! وما الذي جاء به في مثل هذا الوقت من الليل؟
نوب حتب : وقد انصرفت التلميذات، ولم يعد في دار النظام إلا نحن المعلمات بعد أن انتهى عملنا، فماذا يريد منا هذا الرئيس؟
فتاح : السلام عليك أيتها الرئيسة الفاضلة.
نوب حتب : سلام يا سيدي.
فتاح : كيف صحتك يا سيدة نوب حتب؟ وما حال دار النظام في عهدك الآن؟
نوب حتب : أشكر لك يا سيدي سؤالك عني، أما دار النظام فقد استطعت بمساعدة الآلهة أن أصلح من نظامها ونظافتها، أما التهذيب وأما الأخلاق، فهو ما أعاني المر فيه بلا جدوى.
فتاح : إنك يا سيدة نوب حتب تطلبين الكمال المطلق في الأخلاق، وهو ضرب من المحال، ويخيَّل إلي أنك تجهلين الدنيا، وتريدين الفضيلة المجردة، التي لا وجود لها في هذا العالم؛ ولذلك تشتدين على مرءوساتك، ونصيحتي إليك أن تتساهلي مع المعلمات فيما يملن إليه من التمتع بنعيم هذه الحياة؛ فالفتاة لم تخلق للتقشف وتحمل المتاعب؛ بل هي زهرة تميتها شدة الضغط، فلا تحرمي الكون من أزهاره ورياحينه، فيصبح صحراء قاحلة لا يحب الإنسان البقاء فيها.
نوب حتب : إننا نحن المعلمات، لا يجوز أن ينظر إلينا الرجال نظرهم إلى سائر النساء؛ بل نحن نقوم بعمل جليل، هو تربية الناشئات وتهذيبهن، وهو عمل لا يتفق مع اللهو والمجون، ولا يخفى عليك يا سيدي أن النفوس بطبيعتها ميالة إلى الفساد؛ ولهذا وجب أن يكون المعلم مثالًا كاملًا للأخلاق، حتى يضطر التلاميذ إلى محاكاته ولو قليلًا، والتلميذات كعجينة لينة نصوغها نحن في القالب الذي نريده، فيجب أن نكون قدوة صالحة لهن، وإلا ضاعت الأخلاق التي لا قوام لأمة بغيرها، فإفساد أخلاق الناشئات أكبر خيانة لوطننا المقدس.
فتاح : إنك تجهلين الحياة يا سيدة نوب حتب، ولست أريد أن أطيل الشرح معك فيما تجهلين، ولكن اسمحي لي أن أقول لك إن مولانا الكاهن الأعظم قد أرسلني إليك؛ لأرجوك في أمرين، أولهما: أن تحسني معاملة السيدة رودوبيس التي تشكو منك مر الشكوى، والثاني: أن تسمحي له بزيارتك وزيارتها ليلًا لمجرد المؤانسة؛ لأنه يحب حديثكما، وكثرة عمله أثناء النهار تمنعه من زيارتكما نهارًا.
نوب حتب : إن زيارة رجال التعليم لنا ليلًا قد تثير حول اسمنا واسمهم الظنون، وإني — حرصًا على سمعتنا — ألتمس من مولانا الكاهن العدول عن رغبته هذه.
فتاح : إنك يا سيدة نوب حتب شديدة قاسية، لا ترحمين من قاسوا من الحب والهوى ما لا طاقة لهم باحتماله، ومولانا الكاهن الأعظم لا يستطيع العدول عن تلك الرغبة، وقد أشاطره أنا فيها يا سيدتي، فلمَ تقسين علينا إلى هذا الحد؟ ولمَ تحرميننا التمتع بنعيم هذه الحياة كباقي رجال العالم؟
نوب حتب : إني لا أتعرض لكم يا سيدي فيما تمتعون به أنفسكم، بعيدًا عن دور التعليم، أما في معاهد العلم، وأما في دور الثقافة، فهو ما لا أسمح به ولا يسمح به شرف التعليم ورفعته.
فتاح : إنك يا سيدة تنصحين رجالًا، هم أكبر منك سنًّا، وأكثر تجربة، وأسمى مركزًا، نحن رؤساؤك، لنا أن نأمر وعليك أن تطيعي، وأنا بصفتي النبي الثاني لدير آمون، وبما لي من الإشراف على هذه الدار، آمرك أن تقومي معي الآن، وأن تدخلي بي إلى حجرة السيدة رودوبيس.
نوب حتب : أنا لا أسمح لك بذلك.
فتاح : أنا رئيسك ولي أن أدخل هذه الدار أي وقت شئت، سواء في ذلك أغضبت أم رضيت، فسيري أمامي كملاك طاهر شريف، واتركي العناد فإنه لا يناسب رقتك ولطفك النسائي.
نوب حتب : ليس لي من الرقة ومن اللطف ما يرضيك، فدع هذا، واعلم أني لا أسمح لك مطلقًا بالدخول إلى محال السيدات ليلًا.
فتاح : ولكنني رئيس، أريد أن أدخل لأفتش عليك في غرفة نومك، فقد يكون من أمرك أنت ما يدعو إلى الريبة.
نوب حتب : أما بعد أن صارحتني بنيتك، فلا أدخل معك ولا أسير إلى جانبك في هذا الظلام، وإذا أردت أن تدخل أنت فسأرسل معك نائبة تأخذك إلى حيث تريد.
فتاح : ماذا تعنين يا خبيثة بألفاظك، التي تتضمن دائمًا معنيين؟
نوب حتب : لا أعني شيئًا، أكثر من أني أريد أن أرسل نائبة عني أنا، تأخذك أنت.
فتاح : كفاك عبثًا، وستندمين على هذا يوم لا ينفعك ندم.
نوب حتب : أنا يا سيدي لا أندم، إلا إذا قصرت في عملي ولم أقم بواجبي، ولا يؤلمني شيء إلا تأنيب الضمير، وما دمت شريفة النفس مرتاحة الضمير، فلا آسف على شيء في هذه الحياة، وسيان عندي الموت والحياة والفقر والغنى، فالعمر مهما طال لا بد أن ينتهي، وخير للإنسان أن يموت شابًّا عن أن يكابد آلام الشيخوخة، وما أكل الغني الذهب والجواهر، ولا مات الفقير جوعًا؛ بل كلاهما يأكل ليعيش، ولا يستطيع الغني أن يلتهم أكثر من سعة جوفه، فعلام يتحمل الإنسان الضيم، أو يفرط في الشرف حبًّا في المال، وهو متاع زائل؟
فتاح : كفاك فلسفة خيالية لا قيمة لها، وسنرى ما تفعلين يوم تدور على رأسك الدائرة، وسيكون عقابك قريبًا، وأمد تمتعك بهذا الخيال قصير المدى.

(يخرج فتاح)

نوب حتب : يا كاكا، ادعي السيدة ماريت رع إلى هنا.
كاكا : سمعًا وطاعة.
نوب حتب : هل أنجزت الخطابات التي أمرتك بكتابتها؟
ماريت رع : نعم يا سيدتي، ولي رجاء واحد، وهو ألا ترسلي هذا الإنذار إلى السيدة رودوبيس، وأنت تعلمين مكانتها عند مولانا الكاهن الذي يكاد يعبدها، وربما كان في ذلك ضرر عظيم عليك، وأرى يا سيدتي ألا تتعرضي لذلك الفاسد في أطماعه وشهواته، فإنه قوي قادر، وتعرضك له لا يفيدك شيئًا؛ بل سيتغلب عليك في النهاية وينفذ مآربه.
نوب حتب : إني يا مريت رع أعلم ذلك حق العلم، ولكن ضميري لا يسمح لي أن آذن بإفساد الأخلاق في معهد وكِّل إلي بمقتضى وظيفتي إصلاح الأخلاق فيه، إن هؤلاء الرجال يظلمونني في تحديهم لي، فأنا لم أتعرض لأحد منهم في منزله، ولا في دور الفساد التي يغشونها بعيدًا عن معاهد التعليم، ولكني أنتقد بحق مشروعٍ رجلًا يُوكل إليه تهذيب النفوس في معاهد علمية، فيقوم هو بإتلافها، وأنا أفضل كل شيء؛ بل وأفضل الموت نفسه عن أن أقصر في واجب أُلقي على عاتقي القيام به.
ماريت رع : ليكن يا سيدتي ما تريدين.

(تخرج ماريت رع.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤