عصابة شاردي الذهن

نَعِمتُ منذُ بِضع سنواتٍ ماضية بتَجرِبة فريدة؛ كُنتُ أُلاحِق فيها رَجُلًا متَّهمًا بجريمة، وكنتُ أسعى للحصول على دليلٍ يُثبِت تَورُّطه في أخرى. وعلى الرَّغم من تبرئته من الجريمة التي كنتُ أسعى وراء إثبات تورُّطِه فيها، فقد اتُّهِمَ بجريمةٍ أخرى أشدَّ خطورة. ومع ذلك فقد نجحَ هو وشركاؤه في الهُروب والإفلات دُون عقابٍ في ظروفٍ أعتزِم سردَها الآن.

قد تتذكَّرون في قِصَّة روديارد كيبلينج، «بيداليا هيرودزفوت»، كان زَوجُ المرأة المِسكينة يُواجِهُ خطرَ القبض عليه لِكونه سِكِّيرًا فحسْب، بينما كانت دِماءُ زَوجتِه تُلَطِّخ حِذاءه بعدما قَتَلَها. أمَّا قضية رالف سمرتريز، فكانت على النَّقيض تمامًا؛ إذ كانت السُّلطات الإنجليزية تُحاول أن تُلصِق به تُهمةً كادت تكون بِفداحة جرائم القتل، بينما كنتُ أنا أجمع الأدلَّة التي تُثبِت إدانَتَه بفعلٍ أكثرَ وأشدَّ جَسامةً من السُّكْر.

دائمًا ما كانت السُّلطات الإنجليزية، حين تُدرِك وجودي من الأساس، تتفضَّل بمُعامَلتي بِدونِيَّةٍ مَشوبة بالتَّلَذُّذ. فإذا سألتَ اليوم المُفتِّش سبنسر هيل، من شرطة سكوتلانديارد، عن رأيه في يوجين فالمونت، فسَيرسُم هذا الرَّجُل المَزهُوُّ بنفسه تِلك الابتسامة المُتكبِّرة التي تُعبِّر تمامًا عن شخصِيَّته. أمَّا إذا كُنتَ أحد أصدقائه المُقرَّبين، فقد يَخفِضُ جَفنَه الأيمن وهو يُجيب قائلًا:

«أوه! أجل، إنَّ فالمونت رَجُلٌ مُحترَم للغاية، ولكنَّه فرنسي.» وكأنَّه بهذه العِبارة لم يكُن ثَمَّةَ حاجةٌ إلى قول المَزيد.

شخصيًّا، أُحبُّ هذا المُفتِّش الإنجليزي كثيرًا. وإذا ما تَورَّطْتُ يومًا في شِجار، فلن أختار أن يكون إلى جانِبي أيُّ رجلٍ سوى سبنسر هيل. سيكون صديقي هيل رفيقًا نافِعًا في أيِّ مَوقفٍ أحتاج فيه إلى قبضةٍ قويَّةٍ يُمكِنها أن تَطْرحَ ثَورًا أرضًا، ولكن فيما يَخصُّ التفكير والفِطنة وسَعةَ الحِيلة؛ أوه، حسنًا! أنا أكثر الناسِ تَواضُعًا ولن أقول شيئًا.

سيكون من المُمتِع أن تَرَوا هذا العِملاق وهو يدخُل غُرفتي مساءً ويدَّعي كَذِبًا أنه يرغَب في تدخين غليونٍ معي. إنَّ الفرق بيني وبين هذا العِملاق الطَّيِّب كالفرْق بين غليونِه الأسود الغليظ وبين سجائري الرَّقيقة التي أُدخِّنُها بِشراهةٍ في وجوده لأحمي نفسي من دُخان تَبْغِه الكريه. أنظرُ بِسرورٍ إلى هذا الرجل الضَّخم وهو يُحاوِل هباءً، بِخفَّة ظِلٍّ ولَمْعةٍ في عينَيه ظنًّا منه أنه قد نَجَح في خِداعي، الحصول مِنِّي على تلميحٍ يُساعِده فيما يَخصُّ أيَّ قضيةٍ تُحيِّرُه في تلك اللحظة، بينما أُربِكُهُ أنا بِسهولةٍ تمامًا كما يُراوِغ كلبُ صيدٍ كلبَ دِرواس ثقيل الوَزْن، ثُمَّ في النهاية أقول له ضاحِكًا:

«هيَّا يا عزيزي هيل، أخبِرْني بالأمر وسَأُساعِدك إن استَطعْت.»

في البداية كان يهزُّ رأسهُ الضَّخمَ مرَّةً أو مَرَّتَين ويقول إن السِّرَّ لا يَخُصُّه. في آخِر مرَّةٍ فعل فيها هذا طمأنْتُه بأنَّ ما قاله كان صحيحًا تمامًا، ثم سرَدْتُ له التفاصيل الكامِلة للمَوقِف الذي وَجَد نفسه فيه، فيما عدا الأسماء لكونه لم يذكرها. لقد استَشْفَفْتُ حِيرتَه من بعض أجزاء حديثه معي على مدى نِصف ساعةٍ وهو يُحاوِل اصطِياد نَصيحتي التي كان يُمكِنه بلا شكٍّ أن يأخُذَها إذا طلَب منِّي ذلك صراحة. ومنذ ذلك الوقت لم يعُد يأتِيني إلَّا بالقضايا التي يَستشعِر حُريَّة إفشاء تفاصيلها. ولِحُسن الحظِّ تَمكَّنتُ من حلِّ مُعضِلةٍ أو اثنتَين له.

ولكن بِقَدْر إيمان سبنسر هيل الراسِخ بأنه لا تُوجَد دائرة تحقيقات على كوكب الأرض يُمكِنها أن تتفوَّق على دائرة تحقيقات سكوتلانديارد، إلَّا أنَّ ثَمَّةَ نَشاطًا بِعيْنِه حتى هو نَفسه يَعترِف بأنَّ الفرنسيين يتفوَّقون فيه، وإن كان يُخفِّفُ مِن اعترافِه هذا بِالقول إنَّنا في فرنسا يُسمَحَ لنا دَوْمًا بفعل ما يُحظَر فِعلُه في إنجلترا. ما أُشِير إليه هنا هو عمليَّة التَّفتيش الدَّقيق للمَنْزِل أثناء غياب مالِكه. إذا كنتُم قد قرأتُم قصَّة إدجار آلان بو البَديعة «الرِّسالة المسروقة»، فستَجِدون سَردًا لما أقصِده، وهو أفضلُ من أيِّ وَصْفٍ يُمكِن لشخصٍ مِثلي، كثيرًا ما شارَك في مِثل عمليَّات التفتيش هذه، أن يُسجِّله.

حاليًّا يَفتخِر هؤلاء الناس الذين أعيشُ بينهم بِعبارتِهم الشهيرة «منزل الرَّجُل الإنجليزي هو حِصنُه»؛ إذ لا يُمكِن حتى لرَجُل شرطةٍ أن يَخترِقَه دُون أمرٍ قضائي. وهو ما قد يبدو من الناحية النظرية جَيِّدًا جدًّا، ولكنَّكم إذا اضطُرِرتُم للذَّهاب إلى بَيت أحدهم للتفتيش وأنتم تَنفُخون الأبواق وتَقرَعون الطبول، إذن عند الالتزام بجميع القُيود القانونية، لا داعِيَ للشُّعور بالإحباط إذا فشِلتُم في العثور على ما قد أَتيتُم بحثًا عنه. إن الإنجليزَ أُناسٌ مُمتازون بلا أدْنى شك، وهي حقيقةٌ أفتخِرُ دائمًا بقَوْلِها على الملأ، ولكن لا بُدَّ أن نَعترِف أنَّ الفرنسيين يَفوقونهم بكثيرٍ في استِخدام المَنطِق السَّديد. فإذا رَغِبتُ في الحصول على وَثيقةِ إدانة في باريس، لا أُرسِلُ إلى المالِك بِطاقةً بريدية أُطلِعُهُ فيها على رَغْبَتي، وهو إجراء يُؤيِّده الشَّعبُ الفرنسي بِكلِّ عقلانية. بل لقد عرَفتُ أشخاصًا يُلقون بِمفاتِيحهم إلى حارِس المبنى، حين يخرجون لقَضاء سهرةٍ بالخارج، قائلين:

«إذا سَمِعتَ أنَّ الشرطة تقوم بالتَّفتِيش في الأنحاء وأنا غَير موجود، فأرجو مِنك أنْ تُساعِدَهم وأن تُعبِّر لهم عن وافِر احترامي.»

أتذكَّر أنَّني أثناء عملي كبيرًا للمُحقِّقين في الحكومة الفرنسية، كان يُطلَبُ مِنِّي أن أتَّصِل في ساعةٍ مُعيَّنة بالفندق الخاص بوزير الخارجية. كان ذلك في الوقت الذي كان يُخطِّط فيه بسمارك لهجومٍ ثانٍ على بلادي. ويَسرُّني القول إنَّني لعِبتُ دَورًا مِحوريًّا في تزويد المكتب السِّرِّي بِوثائق حَجَّمَت أهداف هذا الرجل الحديدي، وهوَ ما جعلَني أستَحقُّ، كما أعتقِد، العِرفان بالجميل من بلادي. وهذا لا يَعني أنَّني قد طالبتُ بهذا الحقِّ أو حتَّى أشرتُ إليه عندما تَنْسَى إحدى الوَزارات اللاحِقة الخدمات التي قدَّمتُها. فكما قال رجلٌ أعظم مِنِّي بكثيرٍ إنَّ ذَاكِرة الجمهورية قصيرة المدى. ومع ذلك، فكلُّ ما سَردْتُه آنِفًا ليس له أيُّ علاقةٍ بالواقِعة التي على وَشْك قصِّها. أنا فقط أذكُر هذه الأزمةَ لألتَمِس لهم عُذرَ النِّسيان المؤقَّت الذي ربما تَسبَّبَ لي في أيِّ بلدٍ آخر في عَواقِب وَخِيمة. ولكن في فرنسا؛ حسنًا، نحن نتفَهَّم تلك الأمور، ولم يَحدُث أيُّ شيء.

كما يقولون في الغرب الكبير، أنا آخِرُ شخصٍ في العالَم يفقِد أعصابه. فأنا يوجين فالمونت الهادئ الرَّصِين الذي لا يُمكِن أن يُعكِّر صفوَهُ أيُّ شيء، ولكن تلك الفترة كانت من الفترات التي ازدادت فيها حدَّة التوتُّر، فأصبحتُ شاردًا. كنتُ وَحدي مع الوزير في مَنزلِه الخاصِّ، وكانت واحدةً من الأوراق التي كان يرْغَبُ في الاطِّلاع عليها في مَكتبِه بِوَزارة الخارجيَّة؛ أو هكذا كان يَظُنُّ، وقال:

«أوه، إنها في دُرْج مَكتبي بالمكتب. يا له من شيءٍ مُزعِج! لا بُدَّ أن أُرسِل في طلَبِها!»

انتفضتُ واقِفًا وصِحتُ ناسِيًا نفسي تمامًا: «إنها هنا.» وعِندما لمستُ زُنبرك أحدِ الأدراج السِّرِّية، فتَحْتُه وأخرجتُ منه الوَثيقة التي يرغَبُ فيها وَسلَّمتُها إليه.

لم أُدرِك وَقْعَ ما فعلتُه إلَّا حينما التقَتْ عيني بنظرتِه الفاحِصة الحادَّة، ورأيتُ الابتسامة الباهِتة التي ارتَسَمتْ على شَفتَيه.

قال بهدوء: «لِصالح من فتَّشتَ مَنزِلي يا فالمونت؟»

أجبتُ بنبرةٍ لا تَقلُّ لُطفًا عن نَبرتِه قائلًا: «سعادة الوزير، تَنفيذًا لأوامِرِك سأقوم بزِيارةٍ مَنزليَّة لقَصر البارون دومولان الذي يَحظى بتقديرٍ عالٍ ومكانةٍ بارِزةٍ لدى رئيس جمهورية فرنسا. إذا عَلِم أيٌّ مِن السَّيِّدَين المُوقَّرَين بِزيارتي غير الرَّسميَّة وسألاني لِصالِح مَن قُمتَ بتلك الزِّيارة المنزليَّة، فما الرَّدُّ الذي تَودُّ أن أُجِيب به؟»

«ستقول يا فالمونت إنَّك قُمتَ بذلك لِصالِح وَكالة الاستِخبارات.»

«هذا ما سأقوله يا سِيادة الوزير، وردًّا على السُّؤال الذي طرحتَه الآن، فقد شَرُفْتُ بتفتيش هذا القصر لِصالح وَكالة الاستِخبارات الفرنسية.»

ضحِك وَزير الخارجية ضحكةً من القَلْب لا تَحمِل أيَّ ضَغينة قائلًا:

«أردتُ أن أُثني عليك فحسْب يا فالمونت، وعلى كفاءة تَفتيشِك وبَراعَةِ ذَاكِرتك. هذه هي فِعلًا الوثيقة التي اعتقدتُ أنَّني قد تركتُها في مكتبي.»

أتساءلُ ماذا كان سيقول اللورد لانسداون لو أظهَرَ سبنسر هيل مَعرِفةً مُشابِهةً بأوراقِه الخاصَّة؟! ولكن الآن بعد أنْ عُدْنا إلى صديقنا العزيز هيل، فلا يَجِب أن نَدَعَهُ يَنتظِر أكثر من ذلك.

•••

أتذكَّر جيِّدًا أحد أيام شهر نوفمبر عندما سمعتُ لأول مرَّةٍ عن قضية سمرتريز. ففي ذلك اليوم غطَّى الضباب الكثيف لندن، حتى إنَّني ضللتُ طريقي مرَّتين أو ثلاثَ مرَّات، ولم تَقبل أيُّ عربة أُجرة إقلالي مهما كان الثمن. فقد كان سائقو عرَبات الأُجرة القليلون الموجودون في الشارع يَقودون حيواناتهم ببطءٍ عبر الشارع ليَضَعوها في إسطبلاتها. كان واحدًا من تلك الأيام اللَّندَنية الكئيبة التي ملأتني ضَجَرًا وحنينًا لمدينتي باريس ذات الأجواء الصافية، التي إن حدَث وزارَنا فيها الضبابُ الخفيف، فإنه يكون عبارةً عن بخارٍ نقيٍّ أبيض اللون، وليس كهذا الخليط اللندني المُشبَّع بغازات الكربون الخانِقة. كان الضباب شديدَ الكثافة لدرجةٍ تَعذَّر معها على أيِّ عابرٍ قِراءة العناوين الرئيسية للصُّحف المُلصَقة على الرصيف، ولما لم يكن ثَمَّةَ أيُّ سباقاتٍ في ذلك اليوم على الأرجَح، كان بائعو الجرائد يَصيحون مُعلنين عمَّا اعتَبَروه الحدَث القادم الأهم، ألا وهي انتخابات الرئاسة الأمريكية. اشتريتُ صحيفةً ودَسَسْتُها في جَيبي. كان الوقتُ مُتأخِّرًا حين وصلتُ إلى شقَّتي، وبعد أن تناولتُ طعامي فيها على غير عادتي، ارتديتُ نَعليَّ واتَّخذتُ كُرسيًّا مُريحًا أمام المِدفأة، وبدأتُ في قراءة الصحيفة المسائية. شعرتُ بالأسى عندما علِمتُ أنَّ السيِّد برَيان المُفَوَّه قد هُزِمَ. لم أكن أعلم سوى القليل عن قضيَّة الفِضَّة، لكنَّ قُدراته الخَطابيَّة جَذَبتني وأثارت تَعاطُفي؛ لأنه كان يمتلِك العديد من مَناجِم الفِضَّة. وعلى الرَّغم من ذلك كان سِعر المعدِن مُنخفِضًا بشدَّة لدرجةِ أنَّه لم يكن قادِرًا، كما بدا، على كسب قُوتِه من خلال تشغيل تلك المناجم. ولكن بالطبع تَسبَّبت الضَّجَّة التي أثارتها الدَّعاوى التي تردَّدَت مِرارًا وتِكرارًا عن كونه مِليونيرًا من طبقةِ الأغنياء ذَوي النفوذ في هزيمته في ديمقراطيَّةٍ يكون فيها الناخِب العادي شديدَ الفقر وغيرَ مَيسور الحال، كما هي الحال مع الفلَّاحين في فرنسا. لَطالَما أوليتُ اهتمامًا كبيرًا لشئون الجمهورية الشاسِعة التي تقعُ غربًا بعد أن بذلتُ جُهدًا كبيرًا في تثقيف نفسي تثقيفًا دقيقًا فيما يتعلَّق بِسياستها. وكما يَعلَم قُرَّائي، على الرَّغم من أنَّني نادرًا ما أقتبِس أيَّ مَديحٍ يُقالُ عنِّي، فقد اعترَفَ أحدُ عُملائي الأمريكيِّين مرَّةً بأنَّه لم يكن على علمٍ قط بِبَواطِن — أعتقد أنَّ هذه هيَ الكلِمة التي استخْدَمَها — السياسة الأمريكية حتى سَمِعَني وأنا أُلقي محاضرة عنها. ولكنه عاد وأضاف أنه كان دَومًا رجُلًا مَشغولًا طوال حياته.

تركتُ الصَّحيفة تنزلِق من يدي على الأرض؛ إذ كان الضَّباب في الواقِع يَخترِق حتى شَقَّتي، فأصبَح من الصَّعب القراءة، على الرَّغم من وجود ضوء المصباح الكهربي. دخل خادِمي وقال إن السيِّد سبنسر هيل يرغَب في رؤيتي، والحقُّ أنني في أيِّ ليلة، لا سيما في ليلةٍ مَطيرةٍ ضبابية كهذه، أكون أسعَدَ كثيرًا بِتَجاذُب أطرافِ الحديث مع صديقٍ من قراءة صحيفة.

«يا إلهي، عزيزي السيِّد هيل، يا لك من رَجُلٍ شُجاع أنْ تَخرجَ في مِثل هذا الضَّباب الكثيف الليلة!»

قال هيل بِفَخر: «أوه سيِّد فالمونت، لا يُمكِن أن تَتحمَّلوا ضبابًا كهذا في باريس. أليس كذلك؟»

أجبتُ مُقرًّا وأنا أنهض لِتَحيَّة ضَيفي وإجلاسه: «بلى، أنتُم تتفوَّقُون في ذلك.»

قال وهو يُشير إلى صحيفتي: «أرى أنك تقرأ آخِر الأخبار. أنا مسرورٌ بشدَّةٍ أنَّ هذا الرجل برَيان قد هُزِمَ؛ الآنَ سنَحظَى بأوقاتٍ أفضل.»

لوَّحْتُ بيدي وأنا أُعاوِد الجلوس مرةً أخرى. لا أمانِع مُناقَشة الكثير من الأشياء مع سبنسر هيل، إلَّا السياسة الأمريكية؛ فهو لا يَفقَه فيها شيئًا. فَمِن العيوب الشائعة لدى الإنجليز ما يُعانونه من جَهلٍ تامٍّ فيما يتعلَّق بالشئون الداخلية للبِلاد الأخرى.

«من المؤكَّد أنَّ أمرًا مُهِمًّا هو ما دَفَعَك للخروج في ليلةٍ كهذه. لا بُدَّ أنَّ الضباب كثيفٌ جدًّا في سكوتلانديارد.»

لم يفهَم هيل هذا التَّشبيه الرَّقيق إطلاقًا، وأجاب بِبلادةٍ قائلًا:

«إنَّ الضَّباب كثيفٌ في جميع أنحاء لَندن، بل في مُعظَم أنحاء إنجلترا.»

وافقتُه الرَّأي قائلًا: «نعم إنه كذلك.» ولكنَّه لم يَفهَم هذا الردَّ أيضًا.

ولكن بعد بُرهةٍ أبدى مُلاحظةً لو تَفوَّه بها بعض الناس الذين أعرفُهم، لدلَّتْ على قليلٍ من الفَهم.

«أنتَ رَجُلٌ شديد الذكاء يا سيِّد فالمونت؛ لذا كُلُّ ما أحتاج لقولِه هو أن المسألة التي دَفعَتْني للقُدوم إلى هنا هي نفسها التي كان يَتنافَس عليها المُرشَّحون في الانتخابات الأمريكية. حسنًا، لو كنتَ مُواطِنًا عاديًّا، كنتُ سأُضطرُّ لتقديم المزيد من الشرح، ولكن بالنسبة لك يا سيِّدي، لن يكون ذلك ضروريًّا.»

في بعض الأوقات أبغَضُ تلك الابتِسامة الماكِرة وإغماضة العَينَين الجزئيَّة اللَّتَين دائمًا ما تُمِيِّزان سبنسر هيل عندما يَطرَح قضية يَتوقَّع أنها سَتُحيِّرني. سأكون مُخطِئًا بالطَّبع إذا قلتُ إنَّه لم يُحيِّرني قط؛ فأحيانًا ما تدفَعُني البساطة الشديدة للألغاز التي تُؤرِّقه إلى تعقيدٍ لا دَاعيَ له تمامًا للأمور في ظِلِّ الظروف المُحِيطة بها.

ضغَطْتُ أطراف أصابعي معًا، وحدَّقْتُ لبِضع لحظاتٍ في السَّقْف. كان هيل قد أشعَل غليونه الأسود، ووضعَ خادِمي الصامِت عندَ مَرفِقه الويسكي والصودا ثُمَّ خرَج من الغُرفة بهدوءٍ تام. وعندما أغلَقَ الباب، تحرَّكَتْ عينايَ من السَّقفِ إلى مُستوى وَجْهِ هيل الضَّخم.

سألتُه بهدوء: «هل هَربوا منك؟»

«من؟»

«مُزيِّفو العُملات.»

وقعَ غليون هيل من فمه، ولكنَّه نجَح في التقاطه قبل أن يصِل إلى الأرض، ثم احتسى جرعةً من الكأس.

«كان هذا التَّخمين مُجرَّد ضربة حظ.»

أجبْتُ بلا مُبالاةٍ قائلًا: «بالضبط.»

«اعترِف الآن يا فالمونت! كانت ضربةَ حظ، أليس كذلك؟»

هززتُ كَتِفيَّ بلا مُبالاة؛ إذ لا يَصِحُّ أن يُخالِف المرء ضَيفَه في الرأي وهو في مَنزلِه.

صاح هيل بِوقاحةٍ قائلًا: «أوه كُفَّ عن ذلك!» عادةً ما يميل هيل قليلًا لاستِخدام التعبيرات الحادَّة بل السُّوقيَّة عندما يكون مُرتبِكًا. «أخبِرني كيفَ خَمَّنْتَ ذلك!»

«الأمر بسيط للغاية يا عزيزي؛ المسألة التي كان يتنافَس عليها المُرَشَّحون في الانتخابات الأمريكية هي سِعر الفِضَّة المُنخفِض بِشدَّة، لدرجة أنه قد دَمَّر السيد برَيان بالفعل، ويُهدِّد بتدمير جميع مُزارعي الغرب الذين يَمتلِكون مَناجم فِضَّة في مَزارعهم. إن الفِضَّة تُثير قَلَق أمريكا؛ وبالتالي فهي تُثير قَلَق سكوتلانديارد.

حسنًا، الاستِنتاج الطَّبيعي هوَ أنَّ شَخصًا ما قد سرَق سبائك الفِضَّة، ولكنَّ واقِعةَ السَّرِقة هذه حدثَتْ قَبل ثَلاثةِ أشهُرٍ أثناء تفريغ المعدِن من سفينةٍ بُخارية ألمانية في ساوثامبتون، وصديقي العزيز هيل قَبَض على اللُّصوص بذكاءٍ شديد بينما كانوا يُحاوِلون إذابَةَ العَلامات من فوق السَّبائك باستِخدام الحِمض. إنَّ الجرائم الآن لا تُرتكَب بِتسلسلٍ مِثل الأرقام في لُعبةِ الروليت بمونت كارلو؛ فاللُّصوص أشخاصٌ أذكياء. هُم يقولون لأنفسهم: «ما فُرصتُنا في سرقة سبائك الفضة بنجاح والسيد هيل يعمل في سكوتلانديارد؟» أليس كذلك يا صديقي العزيز؟»

قال هيل وهو يحتَسي رَشفةً أخرى، «بحقٍّ يا فالمونت، في بعض الأحيان تُقنِعني بأنَّك تَتمتَّع بقدراتٍ استدلالية.»

«أشكرُك يا رفيقي. إذن فما علينا التَّعامُل معه الآن ليس عملية «سرقة» الفضة؛ فالمعركة في الانتخابات الأمريكية كانت على سِعر الفضة؛ فلو كان سِعرها مُرتفعًا، لما وُجدَت هذه المسألة من الأساس. إذن فالجريمة التي تُؤرِّقك نابِعة من السِّعر المُتدنِّي للفضة، وهو ما يُشير إلى أنها لا بُدَّ أن تكون قَضيَّة سَكِّ نُقودٍ بصورةٍ غير شرعية. وهنا يأتي دَور السِّعر المُنخفِض للمعدن. لقد كَشَفْتَ على الأرجح فِعلًا غيرَ قانوني لم يكن ظاهِرًا من قبلُ كما هو الآن؛ ثَمَّةَ شخصٌ يَسُكُّ عملات الشِّلِن والنِّصف الكراون التي تَستخدمونها من الفِضَّة الحقيقية بدلًا من المعدن الأساسي الرَّخيص، وعلى الرَّغم من ذلك، يُحقِّق رِبحًا كبيرًا لم يَتَسَنَّ تحقيقه حتى الآن مع ارتِفاع سِعر الفضة. لقد كنتُ مُلِمًّا بالوَضع سَابقًا، ولكنَّ هذا العنصر الجديد الذي أُضيف يُلغي صِيَغَكم السابقة بالكامل. هذه هي الطريقة التي فَسَّرتُ بها الأمر.»

«حسنًا، لقد أصبتَ كبِدَ الحقيقة يا فالمونت. أنت مُحقٌّ تمامًا. تُوجَد عصابةٌ مُحنَّكة من مُزيِّفي العُملات الذين يَصنعون عُملاتنا من الفِضَّة الحقيقية ويُوزِّعونها للتَّداول، ويَسُكُّون عُملةَ الشلن على عُملة النِّصف الكراون. لا يُمكِنُنا أن نَجِد أيَّ أثرٍ لمُزَيِّفي العُملات، ولكنَّنا نعرِف الرجل المسئول عن تسيير هذه الأمور.»

أشرتُ قائلًا: «يُفترَض أن يكون هذا كافيًا».

«أجل، ولكن لم يَثبُت هذا حتى الآن؛ ولقد أتيتُ الليلةَ لأرى إذا ما كان يُمكِنك أن تُساعِدنا بإحدى حِيلِكَ الفرنسية سِرًّا.»

تساءلتُ ببعضِ الحِدَّة ناسِيًا لوهلةٍ كيف أنَّ هيل دائمًا ما يكون غير مُهذَّبٍ عندما ينفعل: «أيَّ حيلةٍ فرنسية تَقصِد يا سيِّد سبنسر هيل؟»

«لم أقصِد أيَّ إساءة.» هكذا ردَّ هذا الشُّرطي الأحمَق الذي هو في الحقيقة شخصٌ طيِّب، ولكنَّه دائمًا ما يردُّ رُدودًا مُحرِجة ثُمَّ يعتذِر عما قاله. ثم أوضح قائلًا: «أريد شخصًا يدخُل منزِل أحدِهم دُون أمر تَفتيشٍ ويعثُر على الأدِلَّة ثم يُخبرني، بعد ذلك سَنُهرَع إلى المنزل قبل أن يَتمكَّن من إخفاء آثاره.»

«من هذا الرجُل وأين يعيش؟»

«اسمه رالف سمرتريز، ويعيش في مَسكنٍ صغير الحجم وفخمٍ يقَعُ في شارع بارك لين الذي يُعدُّ، كما تَصِفه إعلانات العقارات، أكثَرَ الشوارع رُقيًّا.»

«فهمتُ قصدَك. وما الذي أثار شُكوكَكَ تِجاهَه؟»

«حسنًا، كما تعلَم، إنَّ تكاليف المعيشة في ذلك الحيِّ باهِظة؛ لذا لا بُدَّ أن يكون لدَيك ما يكفي من المال لتنفيذ الحِيلة. هذا المدعو سمرتريز ليس لدَيهِ أيُّ عملٍ واضِح، ولكنَّه يذهب كلَّ يوم جُمعة إلى بنك المال المُتَّحِد في بيكاديللي ويُودِعُ كيسًا من النُّقود التي عادةً ما تَكون كلُّها عبارةً عن عُملات فضيَّة.»

«أجل، وماذا عن هذه الأموال؟»

«ما نعرِفه حتى الآن أنَّ هذه الأموال تحتوي على الكثير من هذه القِطَع النقديَّة الجديدة التي لم تَمُرَّ على دارِ سَكِّ النُّقود البريطانية أبدًا.»

«إذَن فليستْ كُلُّ الأموال من العُملات النقديَّة الجديدة. أليس كذلك؟»

«أوه كلَّا، إنه أذكى بِكثيرٍ من أن يفعَل شيئًا كهذا. كما ترى يُمكِن لأيِّ شخصٍ أن يجوب لندن وجُيوبه مملوءةٌ بالعُملات المعدنية الجديدة من فئة الخمسة الشلنات، ويَشتري هذا وذاك وتلك، ثم يعود إلى مَنزِله ومعه الباقي على هيئة عُملاتٍ قانونية من الفئات نفسها: عملاتُ النِّصف الكراون والفلورين والشلنات والستَّة البِنسات وما إلى ذلك.»

«فهمت. إذن لماذا لا تَقبِض عليه في أحد الأيام التي تكون فيها جُيوبه مُمتلِئةً بِقِطَع الخمسة الشلنات غير الشرعية؟»

«يمكِن تنفيذ ذلك بالطبع، وقد خطَر ببالي بالفعل، ولكنَّنا نرغَب في الإمساك بالعِصابة كلِّها كما تعلَم. فَبِمُجرَّد القبضِ عليه دُون معرفة مصدر الأموال، سيهرُب المُزَيِّفون الحقيقيون.»

«ومن أين جاء لك أنه ليسَ المُزيِّف الحقيقي؟»

هنا أصبحَ هيل المسكين ككتابٍ مفتوح. فقد تردَّد قبل أن يُجيب على هذا السؤال، وبدا مُرتبِكًا كأنه مُجرِم أُمسِكَ به مُتلبِّسًا بفعلٍ احتيالي.

قلتُ مُطمئنًا له بعد فترة صَمتٍ قصيرة: «لا داعِيَ للخَوف من إخباري، لقد جَعلْتَ أحد رِجالك يدخُل إلى مَنزِل السيِّد سمرتريز بالفعل، ومن ثَمَّ عرفتَ أنَّه ليسَ هو مُزيِّف النقود. ولكن لم يَنجَح رَجُلُك في الحصول لك على أدِلَّةٍ لإدانة الآخرين.»

«لقد أَصبْتَ مرَّةً ثانية يا سيِّد فالمونت. لقد عَمِل أحد رجالي رئيسًا للخدَم في منزل سمرتريز ولكنه، كما قُلتَ، لم يَعثُر على أيِّ أدِلَّة.»

«هل لا يزال يعمل خادِمًا لديه؟»

«أجل.»

«حسنًا أخبرني بآخر ما تَوصَّلتَ إليه. ما تَعرِفه هو أنَّ سمرتريز يُودِع كِيسًا من النُّقود المعدنية كلَّ يوم جمعة في بنك بيكاديللي. وأعتقِد أنَّ البنك قد سمحَ لك بِفَحْص كِيسٍ أو اثنين من أكياس نُقوده.»

«أجل يا سيِّدي، ولكن كما تَعْلَم، مِن الصَّعب كثيرًا التَّعامُل مع البنوك؛ فهم لا يُحبُّون أن يَجوب المُحَقِّقون المكان ويُزعِجوهم. وعلى الرغم من أنهم لا يقِفون ضدَّ القانون، فهم لا يُجيبون على أيِّ أسئلةٍ أكثر ممَّا يُوجَّه إليهم، وقَد كان السيد سمرتريز عميلًا جيدًا لدى البنك لسنواتٍ عديدة.»

«ألم تكتشِف مصدر الأموال؟»

«بلى فعلنا؛ يُحضِرها كلَّ ليلةٍ رجل يبدو كأنه كاتِب مُحترَم بالمدينة ويضَعُها في خِزانةٍ ضخمة، هو من يحمِل مفاتيحها، وهذه الخِزانة في الطابق الأرضي، في غُرفة الطعام.»

«هل تَتَبَّعتَ الكاتب؟»

«أجل، إنه يبيتُ في منزل بارك لين كلَّ ليلةٍ ويذَهب في الصباح إلى مَتْجرٍ قديم للسِّلَع الغريبة في طريق توتنهام كُورت ويَظلُّ هناك طوال اليوم، ثُمَّ يعود بِحقيبةٍ من النُّقود في المساء.»

«لماذا لا تُلقي القَبض عليه وتَستجْوِبه؟»

«حسنًا يا سيِّد فالمونت، المانع الذي يَحول دُون اعتقالِه هو عينُه الذي يَحول دُون اعتقال سمرتريز. يُمكِنُنا بِسهولةٍ القَبضُ عليهما، ولكن ليس لدَينا أيُّ دليلٍ ضِدَّ أيٍّ منهما، ثم إنَّنا إذا زَجَجْنا بالوُسَطاء في السجن، فسيهرُب أعتى مُجرِمي العِصابة.»

«هل يُوجَد أيُّ شيءٍ يُثير الرِّيبة فيما يَخُصُّ مَتْجر السلع الغريبة القديم؟»

«لا، يبدو عاديًّا تمامًا.»

«منذُ متى بدأتُم مراقبة هذه اللعبة؟»

«منذ نحو ستَّة أسابيع.»

«هل سمرتريز مُتزوِّج؟»

«لا.»

«هل تُوجَد أيُّ خادِمات في المنزل؟»

«لا، فيما عدا تِلك الخادِمات الثلاث اللاتي يأتينَ كلَّ صباحٍ لتنظيف الغُرف.»

«مَن يَسكُن معه في البيت؟»

«كبير الخدَم والخادِم، وأخيرًا الطبَّاخ الفرنسي.»

صحتُ قائلًا: «أوه، الطبَّاخ الفرنسي! هذه القضيَّة تثير اهتمامي. إذَن هل نَجَح سمرتريز بالكامل في إرباك رَجُلِكَ؟ هل حالَ دُون تفتيشه المَنزِل تَفتيشًا شامِلًا؟»

«أوه لا، لم يُعطِّله بل سَاعَده؛ فقد ذَهَب في إحدى المرَّات إلى الخِزانة وأخذَ المال وجعل بودجرز — هذا هو اسم رَجُلي — يُساعِده في عَدِّهِ، ثم أرسَلَ بودجرز إلى البَنْك ومعه كيس النقود.»

«وهل تَجوَّل بودجرز في جميع أنحاء المكان؟»

«نعم.»

«ولم يجِد أيَّ أماراتٍ لعمليَّة سَكِّ نقود؟»

«لا، من المُستحيل تمامًا أن تَتِمَّ أيُّ عمليات سَكٍّ هناك. علاوةً على ذلك، كما قلتُ لك، من يجلُب له المال هو هذا الكاتِب المحترَم.»

«أظنُّك تُريدني أن أَحُلَّ مَحلَّ بودجرز. أليس كذلك؟»

«حسنًا يا سيد فالمونت، أصدُقُك القول، أنا لا أُفَضِّل ذلك. فقد فعل بودجرز أقصى ما يُمكِن لأيِّ إنسانٍ فعله، ولكنَّني فكَّرتُ في أنك إذا دخلتَ المنزل بمساعدة بودجرز، فَسيُمكِنك تفتيشه تفتيشًا دقيقًا كلَّ ليلةٍ في وَقتِ فَرَاغِك.»

«فهِمْت، أعتقدُ أنَّ هذا الأمرَ خطير بعضَ الشيء في إنجلترا. أظنُّ أنَّني أُفَضِّل تأمين نفسي بأن أكونَ الخَلَفَ الشَّرْعِيَّ للسيد بودجرز اللطيف. تقول إن سمرتريز ليس لديه عمل؟»

«حسنًا يا سيدي، ليس ما يُمكِنُك أن تُسمِّيه عملًا؛ إنه مُؤلِّفٌ بالمناسبة، ولكنَّني لا أعتَبِرُ ذلك عملًا.»

«أوه، مُؤلِّف؟ متى يجلِس للكتابة؟»

«إنه لا يَبرَح مَكتَبه مُعظَم اليوم.»

«هل يَخرُج لتَناوُل الغداء؟»

«لا، إنه يُضيء مِصباحًا خافتًا داخل مكتبه كما يخبرني بودجرز، ويَصنَع لنفسه فنجانًا من القَهوَةِ ويَحتَسِيه مع شَطيرةٍ أو اثنتين.»

«هذا طعامٌ رَخيص بالنِّسبة إلى شخصٍ يَسكُن في بارك لين.»

«صحيح يا سيد فالمونت، إنَّه كذلك، ولكنَّه يُعوِّض ذلك في المساء عندما يَتناوَل عشاءً طويلًا ممَّا لذَّ وطاب من الأطباق الأجنبيَّة التي تُحبُّونها أنتم، والتي يَطهُوها طبَّاخه الفرنسي.»

«إنه رجلٌ عاقل! حسنًا يا هيل، سأتطلَّع بِكلِّ سُرورٍ إلى التَّعرُّف على السيد سمرتريز. هل تُوجَد أيُّ قيودٍ على تَحرُّكات رَجُلِك بودجرز؟»

«لا، على الإطلاق، يُمكِنُه الخروج ليلًا أو نهارًا.»

«رائع يا صديقي هيل، أَحضِرْه إلى هُنا غدًا بِمُجرَّد دخول مُؤلِّفِنا إلى مَكتبه، أو الأفضل، كما أعتقِد، بِمُجرَّد مُغادَرة الكاتب المُحترَم إلى طريق توتنهام كورت الذي أعتقِد، وبحسْبِ ما قُلت، يقَع على بُعد حَوالي نِصف ساعة، بعد أن يُسَلِّم سَيِّده مَفاتيح الغُرفة التي يكتُب فيها.»

«أنت مُحقٌّ في هذا التخمين يا فالمونت، كيف توصَّلْتَ إليه؟»

«إنه مُجرَّد تَكهُّن يا هيل. هذا المَنزِل شديد الغرابة؛ لذا فلا يُفاجِئني إطلاقًا أنَّ السيد يبدأ العمل قبل خادِمه. وتُساوِرُني شُكوكٌ أيضًا في أنَّ رالف سمرتريز يَعلَم تمام المَعرِفة سببَ وجود السيد بودجرز المُحترَم في مَنزله.»

«ما الذي يَجعلُك تَظنُّ ذلك؟»

«لا يُمكِنني أن أُقدِّم سببًا سوى أنَّ رأيي في فِطنةِ سمرتريز يتأكَّد تَدريجيًّا طوال حديثك، بينما يَتَراجع تقييمي لِمَهارة بودجرز باطِّراد. ومع ذلك، أَحضِرْه معك إلى هنا غدًا لكي أسألَه بعض الأسئلة.»

•••

في اليوم التالي في حوالي الساعة الحادية عشرة، تَبِع بودجرز المُتعَبُ رئيسه إلى شقَّتي مُمسِكًا قُبَّعته في يده. وَجْهُه الجامِد العريض والأملَس جعلَه يبدو كرئيس خدَمٍ بالفعل أكثر مما تَوقَّعت، وقد عزَّزَت البزَّة الرَّسمية التي كان يرتديها مَظهرَه بلا شك. كانت إجاباته على أسئلتي تعكس أنه خادِم مُدرَّب جَيدًا على ألَّا يقول الكثير إن لم يكُن يَستحقُّ الأمر ذلك. لقد فاقَ بودجرز تَوقَّعاتي عُمومًا، وكان لصديقي هيل حقًّا بعضُ العُذْر لاعتباره انتِصارًا لجبهته، وهو ما كان بالفِعل على نحوٍ جَلِي.

«اجلِس يا سيِّد هيل، وأنت يا بودجرز.»

تجاهَلَ بودجرز دَعوتي له بالجلوس وظلَّ واقِفًا كالصَّنَم حتى أشار له رئيسه؛ حينئذٍ خارَ جالِسًا على الكرسي. إن الإنجليز رائعون فيما يَخُصُّ الانضِباط.

«والآن يا سيِّد هيل، لا بُدَّ أنْ أُهنِّئك أوَّلًا على هيئة بودجرز، إنها مُمتازة؛ فأنتُم تَعتمِدون هنا على المُساعدة الاصطناعية بِصورة أقل ممَّا نفعَل في فرنسا، وأعتقد أنكم مُحقُّون في ذلك.»

ردَّ هيل بفخرٍ يُمكِن غُفرانه: «أوه، إنَّ لدَيْنا مِن العِلم ما يكفي هنا يا سيِّد فالمونت.»

«والآن يا بودجرز، أُريد أن أسألَكَ عن هذا الكاتِب، في أيِّ وقتٍ من المساء يصِل؟»

«في تمام السادسة يا سيِّدي.»

«هل يرنُّ الجرس أم يدخل باستخدام مِفتاح مِزلاج الباب؟»

«يدخل باستِخدام مِفتاح المِزلاج يا سيِّدي.»

«كيف يَحمِل المال؟»

«في حقيبةٍ جِلديَّة صغيرة ومُقفَلة يحمِلُها على كتِفِه يا سيدي.»

«هل يتَّجِه إلى غُرفة الطعام مُباشرةً؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«هل رأيتَه وهو يَفتح الخِزانة ويَضَع المال داخلها؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«هل تُفتَحُ الخِزانة باستِخدام مِفتاحٍ أم كلِمة سِر؟»

«باستِخدام مِفتاحٍ يا سيِّدي، إنها مِن الطِّراز القديم.»

«ثمَّ يَفتح الكاتِب حقيبة النقود الجلدية التي يحملها حينئذ؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«هذا يعني أن ثلاثة مَفاتيح قد استُخدِمت في غُضون بِضع دقائق؛ هل هي مُنفَصِلة أم موضوعة في سلسلة؟»

«في سلسلة يا سيِّدي.»

«هل رأيت سيِّدَك على الإطلاق وهو يحمِل سلسلة المفاتيح هذه؟»

«لا يا سيِّدي.»

«علمتُ أنَّك قد رأيتَه وهو يفتَح الخِزانة في إحدى المرَّات. أهذا صحيح؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«هل استخدَم مِفتاحًا مُنفصلًا أم أحد المفاتيح الموجودة في السلسلة؟»

حكَّ بودجرز رأسَه ببطءٍ ثُمَّ قال:

«لا أتذكَّر يا سيِّدي.»

«آه يا بودجرز، إنك تُهمِل الأشياء المُهِمَّة في ذلك المنزل. هل أنت مُتأكِّد أنك لا تستطيع تَذكُّر هذا الأمر؟»

«لا يا سيِّدي.»

«وبِمُجرَّد أن يَستقرَّ المال داخل الخِزانة ثُمَّ تُقفَل، ماذا يفعَل الكاتِب؟»

«يذهَبُ إلى غرفته يا سيِّدي.»

«أين تقَع غُرفته؟»

«في الطابق الثالث يا سيِّدي.»

«وأين تنام أنت؟»

«في الطابق الرابع مع بقيَّة الخدَم يا سيِّدي.»

«وأين ينام سيِّد المنزل؟»

«في الطابق الثاني بِجوار غُرفة مكتبه.»

«يتكوَّن المنزِل من أربعة طوابق وبدروم. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيِّدي.»

«لقد توصَّلتُ بطريقةٍ ما إلى الشكِّ في أنَّ المنزل ضَيِّقٌ للغاية. فهل هذا صحيح؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«هل يجلِس الكاتِب مع سيِّدك لتَناوُل العَشاء؟»

«لا يا سيِّدي، لا يَتناوَل الكاتب الطعام في المنزل أبدًا.»

«هل يخرج قبل ميعاد الإفطار؟»

«لا يا سيدي.»

«ألا يُحضِرُ أيُّ شخصٍ وَجبةَ الإفطار إلى غُرفتِه؟»

«لا يا سيِّدي.»

«في أيِّ وقتٍ يُغادِر المنزل؟»

«في العاشرة يا سيِّدي.»

«متى تُقَدَّم وجبة الإفطار؟»

«في التاسعة يا سيِّدي.»

«في أيِّ ساعةٍ يأوِي سيِّدُك إلى غُرفة مَكتبِه؟»

«في التاسعة والنِّصف يا سيِّدي.»

«وهل يُغلِق الباب من الداخل؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«ألا يَقْرَع الجرسَ طالِبًا أيَّ شيءٍ خلال اليوم على الإطلاق؟»

«على حَدِّ عِلمي، لا يا سيِّدي.»

«أيُّ نَوعٍ من الرجال هو؟»

هنا كان الأمر مألوفًا بالنِّسبة لبودجرز، واسترسَل في وَصفٍ دقيقٍ لكلِّ شيء.

«ما قَصدْتُه يا بودجرز هوَ هل هوَ ثَرثارٌ أم هادِئ؟ هل يَغضَب؟ هل يبدو ماكِرًا، مُتشكِّكًا، قَلِقًا، مَرعُوبًا، هادئًا، مُنفعلًا، أم ماذا؟»

«حسنًا يا سيِّدي، إنه يَتَّسِم بالهدوء الشديد ولا يقول الكثير، ولم أرَه غاضِبًا أو مُنفعلًا من قبل.»

«حسنًا يا بودجرز، لقد قضيْتَ أسبوعين أو أكثر في منزل بارك لين، وأنت رجلٌ حاذقٌ حادُّ الانتِباه ويَقِظٌ، فما الذي يحدُث في ذلك المنزِل وترى أنه غير عادي؟»

ردَّ بودجرز وهو ينظُر بِبؤسٍ نوعًا ما إلى رئيسه، ثُمَّ إليَّ، ثُمَّ إلى رئيسه مرَّةً ثانية: «حسنًا، لا يُمكِنُني القَطْع بِشيءٍ يا سيِّدي.»

«لقد كانت واجِباتُك المهنيَّة تضطرُّكَ في الغالِب أن تلعَبَ دَور رئيس الخدَم من قبل، وإلَّا لما كُنتَ بهذه البَراعَة في أدائه. هل أنا مُحِق؟»

لم يُجِب بودجرز بل استرَقَ نَظْرةً إلى رئيسه خِلسة. كان مِن الواضِح أنَّ هذا السؤال من الأسئلة المُتعلِّقة بدائرة التحقيقات، والتي لا يُسمَح للمرءوسين بالإجابة عليها. غير أن هيل سارَع فورًا بالردِّ قائلًا:

«بالتأكيد، لقد خدَم بودجرز في العديد من الأماكن.»

«حسنًا يا بودجرز، فقط تذكَّرْ بَعض المنازل الأخرى التي عَمِلتَ فيها وأخبِرْني عن التفاصيل التي يختلِف فيها مَنزل السيد سمرتريز عن غيره من المنازل.»

فَكَّرَ بودجرز طويلًا ثم قال:

«حسَنًا يا سيِّدي، إنه مُتعلِّق بالكِتابة بِشدَّة.»

«أوه، إنها مِهنَتُه كما تعلَم يا بودجرز؛ إنه ينكَبُّ على الكِتابة من الساعة التاسِعة والنصف حتى السابعة كما أعتقِد. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيِّدي.»

«هل لديك أيُّ شيءٍ آخر تُريد أن تُضِيفَه يا بودجرز مَهما كان تافِهًا؟»

«حسَنًا يا سيِّدي، إنه مُولَع بالقراءة أيضًا، مُولَع بقراءة الصُّحف على الأقل.»

«متى يقرأ؟»

«لم أرَه قطُّ وهو يقرؤها يا سيِّدي؛ بل، على حسب عِلمي، فالصحف لم تُفتَح مُطلقًا، ولكنَّه يأخذُها كلها داخل الغُرفة يا سيِّدي.»

«ماذا؟ كلُّ الصحف الصباحيَّة؟»

«أجل يا سيدي، والمسائية أيضًا.»

«أين تُوضَع الصحفُ الصباحيَّة؟»

«على الطاولة في غُرفة مَكتبِه يا سيِّدي.»

«والصحف المسائية؟»

«حسنًا، عندما تأتي الصحفُ المسائية يا سيدي، تكون غُرفة المكتب مُقفَلة؛ لذا تُوضَع على طاولةٍ جانبية في غُرفة الطعام ثُمَّ يأخذها معه إلى الطابقِ العُلويِّ إلى غُرفة مكتبِه.»

«هل يحدُث هذا الأمر كلَّ يومٍ منذ أن عَمِلتَ في المنزل؟»

«أجل يا سيِّدي.»

«وقد ذكرتَ هذه الحقيقة المُدهِشة لرئيسك بالطبع. صحيح؟»

قال بودجرز مُرتبِكًا: «لا يا سيِّدي، لا أظنُّني قد فعلتُ.»

«كان عليك أن تُخبِره. فقد كان السيد هيل سيعرِف كيف يَستفيد أقصى استفادةٍ مُمكِنة من معلومةٍ مُهمَّة كهذه.»

قاطَعَني هيل قائلًا: «أوه بربِّك يا فالمونت، إنك تُمازِحنا! كثيرٌ من الناس يَشترون كلَّ الصحف!»

«لا أظنُّ ذلك، فحتَّى النوادي والفنادِق لا تشترِك إلا في الصُّحف الرئيسية فقط. لقد قلتَ كلَّ الصحفِ يا بودجرز كما أعتَقِد. أليس كذلك؟»

«حسنًا، كلُّها «تقريبًا» يا سيدي.»

«ولكن أيٌّ منها؟ فثَمَّة اختلافٌ كبير بين الصحف وبعضها.»

«يأخُذ الكثير منها يا سيِّدي.»

«كم يأخذ؟»

«لا أعلم يا سيدي.»

صاح هيل بالقليل من نفادِ الصَّبر قائلًا: «يُمكِن اكتِشاف ذلك بِسهولةٍ يا فالمونت إذا كُنتَ تعتقِد أنه أمرٌ مهمٌّ حقًّا.»

«أعتقِد أنَّ الأمر شديدُ الأهميَّة لدرجة أنَّني سأعود مع بودجرز بنفسي. أعتقدُ أنَّك يُمكِنُك أن تُدخِلَني إلى المنزِل عند عَودتِك. أليس كذلك؟»

«أوه، بلى يا سيِّدي.»

«لِنَعُد للحظةٍ إلى الصُّحف يا بودجرز. ماذا يَفعلون بها؟»

«تُباع إلى أحد تُجَّار الأشياء البالِيَة مرَّةً كلَّ أسبوع.»

«ومَن الذي يأخُذُها من غُرفة المكتب؟»

«أنا يا سيِّدي.»

«وهل تبدو أنها قد قُرِئت بِعنايةٍ شديدة؟»

«حسنًا، لا يا سيدي، يبدو بعضها على الأقلِّ لم يُفتَح إطلاقًا، أو طُوِيَت بعنايةٍ شديدةٍ مرَّةً أخرى.»

«هل لاحظتَ أنَّ بعض أجزاءٍ منها قد قُصَّت؟»

«لا يا سيدي.»

«هل يحتفِظ السيد سمرتريز بسِجلِّ قُصاصات؟»

«لا أعرف يا سيِّدي.»

قلتُ وأنا أضطجع في مقعدي وأتفحَّص وجه هيل الحائر ووَجْهي يرتَسِم عليه ذلك التعبير الملائكي الذي ينمُّ عن رِضًا ذاتي، وهو ما أعلمُ أنه يُزعِجُه كثيرًا: «أوه، إن القضيَّة واضحةٌ تمامًا.»

ردَّ بخشونةٍ زائدة ربما تخرِق آدابَ السُّلوك قائلًا: «ما هو الواضِح تمامًا؟»

«سمرتريز ليس مُزيِّف عُملةٍ وليس على علاقةٍ بأيٍّ من عِصابات مُزيِّفي العُملات.»

«ما دَورُه إذن؟»

«آه، هذا يَفتحُ مَجالًا آخَرَ للتَّحقيق. كلُّ ما أعرِفه هو أنه على العكس مما نتصوَّر، قد يكون أكثرَ الناس صِدقًا. قد يبدو في الظاهر أنه تاجِر كادِح إلى حدٍّ كبير في طريق كورت توتنهام يَشعر بالقلق من عدم وجود صِلةٍ واضِحة بين مجال عمله العادي ومَسكِنه الفَخم في بارك لين.»

عند هذه النُّقطة، ارتَسَم على وجه سبنسر هيل بريق الفَهم الذي نادِرًا ما يَظهر، ويُدهِش أصدقاءه دومًا عند ظُهورِه.

ردَّ هيل قائلًا: «هذا هُراء يا سيِّد فالمونت؛ فالرجل الذي يَخجَل من الصِّلة بين عمله ومَنزِله هو شخصٌ يُحاوِل الانخِراط في المجتمع، أو تُحاوِل نساء عائلته ذلك، كما هي الحال في أغلَب الأحيان. وسمرتريز ليس لديه عائلة، وهو نفسه لا يذهب إلى أيِّ مكان، ولا يَستضيف الناس في منزله ولا يقبل منهم دعوات، كما أنه غير مُشترِك بأيِّ نادٍ؛ ومن ثَم، فالقول إنه يَخجَل من صِلتِه بالمتجر الكائن على طريق توتنهام كورت يُنافي العقل. إنه يُخفِي هذه الصِّلة لسببٍ آخر يَحتاج النَّظر فيه.»

«أوه يا عزيزي هيل، حتى إلَهةُ الحِكمة نفسها لم تكن لتُدلي بملاحظات بهذا القدْر من المنطقيَّة. والآن يا عزيزي، أما زلتَ ترغَبُ في مُساعدتي أم لديك ما يكفي من المعلومات لتُواصِل القضية؟»

«ما يَكفي من المعلومات لأُواصِل القضية؟! ليس لَدَينا أيُّ معلوماتٍ أكثرَ مما كان لدينا حينما اتَّصلتُ بك ليلةَ أمس.»

«ليلة أمس يا عزيزي هيل كنتَ تفترِض أنَّ هذا الرجُل مُتواطئٌ مع مُزيِّفي العُملات، واليوم صِرتَ تعلَم أنه ليس كذلك.»

«أعلم أنَّك «تقول» إنه ليس مُتواطئًا معهم.»

هززتُ كتِفيَّ ورفعتُ حاجبيَّ وابتسمتُ له.

«الأمر سِيَّان يا سيِّد هيل.»

«حسنًا، من بين كلِّ المغرورين …» ولكن هيل الطيِّب لم يَستطِع الاستِفاضة أكثرَ من ذلك.

«إذا كنتَ تحتاج مُساعدتي، فهي لك.»

«جيِّد جدًّا، بِمُنتهى الصَّراحة ودون خَجَل، أجل، أحتاجُها.»

«في تلك الحالة ستعود يا عزيزي بودجرز إلى مَنزِل صديقنا سمرتريز وستَحزِم جميع صُحف الأمس الصباحية والمسائية التي تمَّ تَوصيلها إلى المنزل وتُحضِرها لي. هل يُمكِنك فِعل ذلك، أم أنها في كَومةٍ غير مُرتَّبة في قَبو الفحم؟»

«يُمكِنُني فِعل ذلك يا سيدي. لديَّ تعليمات بأن أضَعَ صُحف اليوم في كومةٍ مُنفصِلة حال احتاجوها مرَّةً أخرى. تُوجَد دائمًا إمدادات أسبوعٍ كامل من الصحف في القَبْو، ونبيع صحفَ الأسبوع السابق لتاجرِ الأشياء البالية.»

«ممتاز! حسنًا، خاطِر باستِخراج صُحف يومٍ واحد وجهِّزها لي. سأمرُّ عليك في تمام الثالثة والنصف وبعدها أريدُك أن تأخُذَني إلى غُرفة الكاتب بالطابق الثالث، والتي أعتقِد أنها لا تكون مُقفَلةً خلال النهار. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، لا تكون مُقفَلَة.»

همَّ بودجرز الصَّبور بالرحيل، ونهضَ سبنسر هيل عندما رحلَ مُساعِده.

سألني قائلًا: «هل ثَمَّة أيُّ شيءٍ آخر يُمكِنني فِعله؟»

«أجل، أعطِني عنوان المَتجَر الموجود في طريق توتنهام كورت. هل لديك واحدةٌ مِن قِطع الخمسة الشلنات الجديدة التي تَعتَقِد أنها سُكَّت على نحوٍ غير قانوني؟»

فتح محفظة جَيبِه وأخرَجَ منها قطعةَ المَعدِن الأبيَض وأعطاني إياها.

قلتُ وأنا أضعها في جيبي: «سأمرُّ قبل المساء لأُعيدَها إليك وأتمنَّى ألا يُلقي أحدٌ من رجالك القبض عليَّ.»

ضحِك هيل وهوَ يهمُّ بالخروج قائلًا: «لا عليك.»

كان بودجرز في انتظاري في تمام الثالثة والنصف وفتح الباب الأمامي بينما كنتُ أصعَد الدَّرَج، مما أعفاني من دقِّ الجرس. بدا المنزل هادئًا على نحوٍ غريب. كان من الواضِح أنَّ الطبَّاخ الفرنسي في البدروم، وكان الجزء العُلويُّ بأكمله مُتاحًا لنا على الأرجح، اللهم إلَّا إن كان سمرتريز في غُرفة مكتبه، وهو ما أشك فيه. قادَني بودجرز إلى أعلى مُباشرةً إلى غرفة الكاتب في الطابق الثالث وهو يسير على أطراف أصابعه في تكتُّم وصمتٍ مُطبِق على نحوٍ مُبالَغ فيه، وهو ما وَجدتُه غير ضروريٍّ على الإطلاق.

قلتُ لبودجرز: «سأفحَصُ هذه الغرفة. رجاءً انتظرْني بالأسفل عند باب غرفة المكتب.»

اتَّضَح أن حجم غُرفة النَّوم يُعتبَر كبيرًا مُقارنةً بصِغَر حجم المنزل. كان السَّرير مُرتَّبًا بإتقان، وكان في الغرفة مقعدان، ولكن الحوض المخصَّص لغسل الوجه واليدين ومرآة الزِّينة لم يكونا ظاهرَين. ولكن حينما رأيتُ ستارة في نهاية الغُرفة أزَحْتُها، وكما توقَّعت، وجدتُ حَوضًا في أحد الأركان عُمقه أربع أقدام وعَرضُه خمس تقريبًا. وبما أن الغرفة كانت بعرْض خمس عشرة قدمًا تقريبًا، فقد كان ثُلثا المساحة المُتبقِّية غير مُستغلَّة. بعد لحظةٍ فتحتُ بابًا ظهر خلفه خزانة تمتلئ بالملابس المُعلَّقة على خطَّاف، وهو ما ترك مساحة خمس أقدام بين خزانة الملابس وحوض الغسل. اعتقدتُ في البداية أنَّ المدخل إلى السُّلَّم السريِّ لا بُدَّ أن تكون بِدايته من عند الحوض، ولكن بفَحْص الألواح الخشبيَّة جيدًا، وعلى الرَّغم من أنها بدَتْ جَوفاء حتى المفصَّلات، فقد كان واضحًا أنها كانت مُجرَّد ألواحٍ مُعشَّقة، وليست بابًا خفيًّا. إذن، لا بُدَّ أنَّ المدخل إلى السُّلَّم يبدأ من خزانة الملابس. ولكن اتَّضح أنَّ الجِدار الأيمن شَبيهٌ بالألواح الخشبية المُعَشَّقة الموجودة عند الحَوض من حيث الشكل والملمَس، ولكنَّني لاحظتُ على الفَور أنه كان بابًا. اتَّضح أن مِزلاج الباب يُفتَح ويُغلَق بصورةٍ مُبتَكرة عن طريق واحدٍ من الخطَّافات التي تحمِل سراويل قديمة. اكتشفتُ أنَّه بالضغط على الخطَّاف لأعلى، يُفتَح الباب إلى الخارج فوق بداية السُّلَّم مُباشرة. وبالنزول إلى الطابق الثاني، قادَني مِزلاجٌ شَبيهٌ إلى خِزانة ملابس مُشابهةٍ في الغُرفة السُّفليَّة. كانت الغُرفَتان مُتماثِلَتَين في الحجم، إحداهما فوق الأُخرى مُباشرة. كان الفرْق الوحيد هو أنَّ باب الغُرفة السُّفلية يُفضي إلى غُرفة المكتب، بدَلًا من أن يُفضي إلى الرَّدهة كما هي الحال في الغُرفة العُلويَّة.

كانت غرفة المكتب أنيقةً ومرتَّبة على نحوٍ استثنائي، إمَّا لأنها لم تُستخدَم كثيرًا، أو لأنَّ ساكِنَها رجلٌ مُنَظَّم بشدَّة. لم يكُن على الطاولة أيُّ شيءٍ سوى كَومةٍ من صُحف هذا الصباح. مَشيتُ إلى نهاية الغرفة، وأدرْتُ المفتاح في القُفل وخرجتُ لأجِدَ نفسي في مُواجَهة بودجرز الذي ارتَسَمتْ على وجهه أمارات الاندِهاش.

صاح في دَهشةٍ قائلًا: «لا أُصدِّق عينيَّ!»

فأجبتُه قائلًا: «فعلًا، لقد كنتَ تسير على أطراف أصابِعك أمام غُرفةٍ فارغة خلال الأسبوعين الماضيين؛ والآنَ إذا أتيتَ معي يا بودجرز، فسأُريك كيفيَّةَ القِيام بالخدعة.»

أغلقتُ الباب مرةً أخرى عندما دخل غرفة المكتب، وقدتُ رئيس الخدَم المُزيَّف، الذي كان لا يزال يسير على أطراف أصابعه بِحُكم العادة أعلى الدَّرَج إلى غرفة النوم العُلوية، ثم خارجها مرَّةً أخرى، تارِكَين كلَّ شيءٍ كما كان تمامًا. نزلْنا عبر الَّدرَج الرئيسي إلى الرَّدهة الأمامية، وهناك أتاني بودجرز برِزْمةِ الصحف التي طلبتُها وهي مُغلَّفةً بإحكام. أخذتُ الرِّزْمة إلى شقَّتي، وأعطيتُ أحد مُساعديَّ بعض التعليمات وتركتُه يعمل على الصحف.

•••

أخذتُ عربة أجرة إلى نهاية طريق كورت توتنهام ومَشيتُ عبر الشَّارِع وُصولًا إلى مَتجر الغرائب القديم «جيه سيمبسون». بعد التَّحديق في نوافِذ العرض المُكتظَّة لبعض الوقت، تنحيتُ جانبًا بعد أن اخترتُ صليبًا صغيرًا مصنوعًا من الحديد كان معروضًا خلف اللَّوح الزُّجاجي، وكان يبدو أنه مِن صُنع أحد الحِرَفِيِّين القُدامى.

علمتُ على الفَور من وَصف بودجرز أنَّ من كان في استقبالي هو الكاتِب المُحتَرَم الحقيقي الذي يُحضِر حقيبةَ النُّقود كلَّ ليلةٍ إلى بارك لين، والذي كنتُ مُتأكِّدًا من أنه هو رالف سمرتريز نفسه.

لم يكن في أسلوبه شيءٌ يَختلِف عن أسلوب أيِّ بائعٍ هادئ آخر. كان سِعر الصليب سبعةَ شلنات وستة بنسات، فأخرجتُ عُملةً ذهبيَّة لأدفَع ثمنه.

سألني: «هل تُمانِع لو أعطيتُك الباقي كلَّه عُملاتٍ فِضيَّة يا سيدي؟» فأجبتُ دون إبداء أيِّ لهفة، على الرغم من أنَّ سُؤاله قد أثار بِداخِلي شُكوكًا كانت قد بدأت تَقِلُّ شيئًا فشيئًا:

«لا، على الإطلاق.»

أعطاني نصف كراون، وثلاثَ قِطَعٍ معدِنية من فِئة الشِّلِنَين، وأربعة شلنات مُنفصِلة، وكانت جميعها عُملاتٍ فضيَّةً بالِيَةً مِن كثرة الاستِخدام، وهي بلا شكٍّ المُنتَج الخالي من أيِّ شكلٍ فنِّي جَمالي لدار سَكِّ النقود البريطانية الشهيرة. بدا في ذلك ما يَدحَضُ النظريَّة القائلة إنَّه يتخلَّص من النقود غير الشرعية. سألني إن كنتُ مُهتمًّا بفرعٍ مُعيَّنٍ من فُروع التُّحَف القديمة، وأجبتُه أنَّ فُضولي مُجرَّد فضولٍ عامٍّ لهاوٍ يَفتقِر إلى الخِبرة. عندئذٍ دَعاني لأُلقِيَ نظرةً على المكان، وهو ما شرعتُ فيه فعلًا، بينما استأنفَ هو عَنونةَ ودَمْغ بعضٍ من الكُتيِّبات المُغَلَّفة التي خَمَّنْتُ أنها نُسَخٌ من قائمة سِلَعِهِ.

لم يُحاوِل مُراقَبَتي ولا الضغط عليَّ لشِراء بضاعته. اخترتُ عشوائيًّا مَحبرَةً صغيرة وسألتُ عن سِعرِها، فقال إنه شِلِنَان، فأخرجتُ قِطعةَ الخمسة الشلنات المُزيَّفة التي كانت معي. فأخذَها وأعطاني الباقي دُون أن ينبِس بِبِنت شَفة، لتتلاشى بذلك آخِرُ ذرَّةِ شكٍّ كانت لديَّ حول صِلته بِمُزيِّفي العُملات.

في هذه اللحظة، دخل شابٌّ أدركتُ على الفَور أنه ليس زبونًا، وسار بسرعةٍ إلى آخِر المَتْجر واختفى خلفَ حاجِزٍ لم يكن يَحتوي سوى على لَوحٍ زُجاجيٍّ واحدٍ يُواجِهُ الباب الأمامي.

قال صاحِب المتجر: «اسمح لي بلَحظات»، ثُم تَبِع الشابَّ إلى مكتبه الخاص.

بينما كنتُ أفحص المجموعة الغريبة غير المُتجانِسة من السِّلع المعروضة، سمعتُ صرير العُملات المعدنية وهي تُفَرَّغ على السطح الخشبيِّ لأحد المكاتب أو على طاولةٍ غير مُغطَّاة، وتَسلَّلَتْ إلى مسامِعي أصوات هَمهمة. كنتُ أقِف بالقُرب من مَدخل المتجر، وبخفَّة يَدٍ أخذتُ مِفتاح الباب الأمامي دُون صوت وأنا أرمُق بجانِب عيني اللَّوحَ الزجاجي للمكتَب الخاصِّ وطبعتُ نسخةً من المِفتاح على قطعةِ شمعٍ ثُمَّ أعدتُه إلى مكانه مرةً أخرى خِلسة. في هذه اللحظة دخل شابُّ آخر ومرَّ أمامي مُتَّجهًا نحو المكتب الخاص، وسمعتُه يقول:

«أوه، أستميحُك عُذرًا يا سيد سيمبسون. كيف حالك يا روجرز؟»

حيَّاه روجرز قائلًا: «مرحبًا، ماكفيرسون»، وخرج بعد ذلك وتمنَّى ليلةً سعيدة للسيد ماكفيرسون، وغادر المتجَر إلى الشارع وهو يصفر، ولكنَّه كرَّرَ العِبارة نفسها مرَّةً أخرى وهو يُحيِّي شابًّا آخَرَ دعاه تيريل، كان قد دخل المتجر في وقت مُغادَرَته نفسه.

دَوَّنتُ هذه الأسماء في عقلي. دخل اثنان آخران، ولكنَّني اضطُرِرتُ إلى الاكتفاء بحِفظ ملامِحِهما؛ إذ لم أعرف اسمَيهما. كان واضحًا أنهما مُحصِّلا أموال؛ إذ سمعتُ صرير العُملات في كلِّ حقيبة؛ في حين أنَّ المتجَر كان صغيرًا، لا يبيع سوى القليل، ولأكثر من نصف ساعةٍ قضيتُها داخل المتجر، كنتُ أنا الزبون الوحيد. لو كانت ثَمَّةَ ثِقةٌ كافِية بينهم، لكان مُحصِّلٌ واحِد كافيًا بالتأكيد، إلَّا أنَّ خمسة آخرين دخلوا المتجر وأفرغوا عُملاتهم فوق الكَومة التي يُفتَرض أن يأخذها سمرتريز معه إلى المنزل في تلك الليلة.

عزمتُ أن آخُذَ واحدًا من الكُتيِّبات التي كان يُعنوِنها البائع. كانت مُكدَّسة فوق رفٍّ خلفَ طاولة البيع، ولكنَّني لم أجِد صعوبةً في أنْ أمُدَّ يدي وآخذ الكُتيِّب الأول الذي دَسستُه في جيبي. عندما خرج الرجل الخامس من المتجر مُتوجهًا إلى الشارع، ظهر سمرتريز نفسه، وكان يحمِل في يده هذه المرة الحقيبة الجِلدية المملوءة بالمال وكانت أحزِمَتها مُتدلية. كانت الساعة الآن تقترِب من الخامسة والنِّصف، ورأيتُ أنه كان مُتلهِّفًا لإغلاق المَتجَر والذَّهاب.

سألني قائلًا: «هل أعجبَك أيُّ شيءٍ آخر يا سيدي؟»

«لا، أو بالأحرى لا ونعم؛ لديك مجموعة مُثيرة للاهتمام هنا، ولكن الظلام يحلُّ حتى إنَّني لا أستطيع الرؤية جيدًا.»

«أنا أُغلِق المتجر في الخامسة والنصف يا سيدي.»

قلتُ وأنا أتفحَّص ساعتي: «أوه، في هذه الحالة سيكون من دواعي سُروري أن أمرَّ بِك في وقتٍ آخر.»

ردَّ سمرتريز بهدوءٍ قائلًا: «شُكرًا لك سيدي.» وهَممتُ بالرحيل.

من ناصِيَة زقاقٍ على الجانب الآخر من الشارع، رأيتُه وهو يُغلق مِصراع النافذة بيديه، ثُمَّ ظهر مُرتديًا مِعطفًا وحقيبة المال الجِلديَّة تتدلَّى من فوق كَتِفه. أغلق الباب ودفعه بأصابعه ليتأكد أنه قد أُغلِق جيدًا، ثم مشى في الشارع حاملًا تحت إحدى ذِراعيه الكُتيِّبات التي كان يُعنونها. تَبِعتُه من بُعدٍ ورأيتُه وهو يرمي الكُتيِّبات في صندوق أول مَكتب بريد مرَّ به، ثُمَّ سار مُسرعًا نحوَ منزله في بارك لين.

عندما عدتُ إلى شقَّتي واستدعيتُ مُساعِدي، قال:

«بعدما استبعدتُ الإعلانات العاديَّة للأقراص والصابون وما إلى ذلك، وجدتُ شيئًا واحِدًا مُشتركًا بين جميع الصحف الصبَّاحية والمسائية على حدٍّ سواء. لقد وجدتُ أنَّ الإعلانات ليست مُتطابِقة يا سيدي، ولكنها تشترِك في شَيئَين، أو ربما ثلاثة أشياء لأكون دقيقًا؛ كلها تَدَّعي تقديم علاجٍ لشُرود الذِّهن، وكلها تتطلَّب أن يُوضِّح المُتقدِّمون هوايَتهم الأساسية، وكلها تحمِل العنوان نفسه: دكتور ويلوبي، طريق توتنهام كورت.»

شكرتُه بينما كان يَضَع قُصاصات الإعلانات أمامي.

قرأتُ العديد من الإعلانات وكانت جميعها صغيرة، وربما لذلك لم ألحَظ أيًّا منها في الصحف، وقد كانت بلا شكٍّ غريبةً بما يكفي. فقد طَلَبَ البعض منها قوائم بالأشخاص الذين يُعانون من شُرود الذِّهن، وهوايات كلِّ واحدٍ منهم، ولقاء هذه القوائم سَتُقدَّم جوائز بداية من شِلنٍ واحدٍ إلى ستة شلنات. وفي قُصاصاتٍ أخرى، ادَّعى دكتور ويلوبي أنه قادِر على علاج شُرود الذهن. لم تكن ثَمَّةَ رُسوم ولا علاج، بل كُتيِّب سيُرسَل إلى المُهتمين، إذا لم يَستفِد منه من تلقَّاه، فهو على الأقلِّ لن يَضُرَّه. لن يتمكن الطبيب من مُقابلة المرضى شخصيًّا، ولا يُمكِنه أن يتبادل المُراسَلات معهم. وكان العنوان الموضَّح هو نفس عنوان متجر الغرائب القديم في طريق توتنهام كورت. عند هذه النُّقطة، أخرجتُ الكُتيِّب من جيبي ووجدتُه بعنوان «العلم المسيحي وشُرود الذهن»، من تأليف دكتور ستامفورد ويلوبي، وكانت العبارة نفسها الوارِدة في الإعلانات مَوجودة في نِهاية المقال: دكتور ويلوبي لن يرى المرضى ولن يتبادَل المُراسَلات معهم.

سحبتُ ورقةً نحوي وكتبتُ إلى الدكتور ويلوبي زاعِمًا أنَّني رجلٌ يُعاني من شُرود الذهن الشديد، وأنَّني سأكون سَعيدًا بتلقِّي كُتيِّبه، مُضيفًا أن هُوايَتي هي جمع الطَّبعات الأولى، ثم وقَّعتُ تحت اسم وعنوان: «ألبورت ويبستر، شقق إمبريال، لندن، المنطقة البريدية الغربية.»

يُمكِنُني توضيح الأمر هنا بأنه غالِبًا ما يكون من الضروري بالنِّسبة إليَّ استِخدام أسماء أخرى غير اسمي المعروف، يوجين فالمونت. يُوجَد بابان لشقَّتي، مكتوب على واحدٍ منهما «يوجين فالمونت»؛ بينما مُثبَّتٌ على الآخر حامِل زُجاجي مُفرَّغ يمكن أن يُوضَع فيه لَوح زجاجي مُنزَلِق يحمِل أيَّ اسمٍ مُستعار أختاره. تُوجَد الحوامِل الزُّجاجية نفسها في الطابق الأرضي، حيث تُوجَد قائمة بأسماء جميع شاغلي المبنى مُعلَّقة على الحائط الأيمن.

أغلقتُ الخِطاب وعَنْونتُه وخَتمتُه، ثم أخبرتُ مُساعِدي أن يَضَع على اللَّوح الزُّجاجي بالباب اسم «ألبورت ويبستر»، وأن يُحدِّد مَوعد زيارةٍ أخرى إذا حدث وأتى أيُّ شخصٍ لزيارة هذا الرجل الوَهميِّ ولم أكن مَوجودًا حينئذٍ.

كانت الساعة السادِسة تقريبًا من عصر اليوم التالي عندما أرسَل أنجوس ماكفيرسون بطاقته إلى السيد ألبورت ويبستر. تعرَّفتُ على هذا الشاب على الفَور بِوصفِه الشابَّ الثاني الذي دخل المتجر الصغير البارِحة حامِلًا مُساهمَتَه النقدية إلى السيد سيمبسون. كان يحمِل تحت ذِراعه ثلاثة مُجلَّدات، وكان يتحدَّث بأسلوبٍ لطيفٍ دَمِث لا يخلو من التَّملُّق نَوعًا ما، فعرفتُ على الفَور أنه كان ماهرًا في مِهنة الترويج للسِّلَع التي كان يشتغلها.

«لتجلس يا سيد ماكفيرسون، كيف يُمكِنُني مُساعدتك؟»

وضَعَ المُجَلَّدات الثلاثة وظهرُها إلى أعلى على طاولتي.

«هل أنت مُهتَمٌّ بالإصدارات الأولى يا سيد ويبستر؟»

أجبتُ قائلًا: «إنه الشيءُ الوحيد الذي أهتمُّ به؛ ولكن لسوء الحظ، غالبًا ما تتكلَّف الكثير من المال.»

قال ماكفيرسون في تعاطُف: «هذا حقيقي، ولديَّ هنا ثلاثة كُتب، واحدٌ منها هو مِثال على ما تقول؛ إذ تبلُغ تكلِفَته مائة جنيه. آخر نُسخةٍ بِيعت بالمزاد في لندن كانت تكلفتُها مائةً وثلاثةً وعشرين جُنيهًا. أما تكلفة الكتاب الثاني فتبلُغ أربعين جنيهًا، والثالث عشرة جُنيهات. أنا واثِقٌ أنك لن تَجِد نظيرًا لهذه الكُنوز الثلاثة في أيِّ متجر بَيع كُتُب في بريطانيا بهذه الأسعار.»

تفحَّصتُها بدقَّة، لأُدرِك على الفَور أنَّ ما يقوله صحيح. كان لا يزال واقفًا على الجانب الآخر من الطاولة.

«اجلس أرجوك يا سيد ماكفيرسون. هل تَعني أنك تَجوب لندن حامِلًا تحت ذِراعك بضاعةً بِقِيمة مائة وخمسين جنيهًا بهذا الاستهتار؟»

ضحك الشاب.

«المخاطر شِبْهُ مَعدومة يا سيد ويبستر. أعتقد أنَّ أيَّ شخصٍ أُقابِله سيَتخيَّل أنَّ المُجلَّدات الثلاثة التي أحمِلُها تحت ذِراعي ما هي إلَّا كُتب رخيصة اشتريتُها لقاء ثمنٍ زهيدٍ لا يَتجاوَز أربعة بنسات فقط.»

تأمَّلتُ المُجلَّد الذي طلَب لقاءَهُ مائة جُنيه، ثم قلتُ وأنا أنظُر إليه عبر الطاولة:

«كيف آل إليك هذا الكِتاب مثلًا؟»

التفَتَ إليَّ بأسارير صافِيةٍ غير مُتحفِّظة وأجاب دُون تردُّدٍ وبأقصى قدْرٍ مُمكِن من الصراحة قائلًا:

«في الواقع أنا لا أمتلِكُه يا سيد ويبستر. أنا خبير في الكُتُب النادِرة والقَيِّمة، وإن كنتُ بالطبع لا أملك سوى القليل من المال، فلا يُمكِنني شراؤها. غير أنَّني على دِرايةٍ بِمُحبِّي الكُتب المطلوبة في مُختلِف أنحاء لندن. هذه المُجلَّدات الثلاثة، على سبيل المثال، من مكتبة زبونٍ خاصٍّ في ويست إند، كان يرغب في بيعِها لِقاء ثمن يُضاهي قِيمَتَها الحقيقية، وقد تفضَّل بالسَّماح لي بإجراء المفاوضات. لقد اتخذتُ من اكتِشاف من يَهتمُّون بالكُتب النادِرة عملًا لي، وبهذه المُقايَضة أزِيد من دَخلي إلى حدٍّ كبير.»

«كيف عرفتَ على سبيل المثال أنني مُحبٌّ للكتُب؟»

ضحِك السيد ماكفيرسون بحرارة.

«حسنًا يا سيد ويبستر لا بد أن أعترِف أنه كان من قَبيل الصُّدفة. أفعل ذلك في الكثير من الأحيان، أمرُّ بشقةٍ كهذه مثلًا، وأُرسِل بطاقتي للاسم الموجود على الباب؛ فإذا دَعاني الشخص لزيارته، أسألُه السؤال الذي سألتُك إياه الآن: «هل أنت مُهتمٌّ بالإصدارات النادِرة؟» إذا كان جَوابه بالنفي، أعتذِر منه وأغادِر، وإذا جاء بالإيجاب، أعرِض عليه بِضاعتي.»

أومأتُ قائلًا: «فهمت.» يا له من لَبِقٍ كاذِب صغير، بوجهِه البريء هذا! ولكن السؤال الذي طرحتُه تاليًا هو ما كشَفَ الحقيقة.

«بما أنَّ هذه هي المرَّة الأولى التي تزورُني فيها يا سيد ماكفيرسون، فلن تُمانع، كما أظنُّ، أن أطرَح عليك سؤالًا آخر. هل تُمانع إخباري باسم صاحِب هذه الكُتب في ويست إند؟»

«اسمه السيِّد رالف سمرتريز من بارك لين.»

«من بارك لين؟ آه، بالطبع.»

«سأكون مسرورًا بأن أترُك الكُتب معك يا سيد ويبستر، وإذا كُنتَ مُهتمًّا بتحديد مِيعادٍ مع السيد سمرتريز، فأنا مُتأكد من أنه لن يَتوانى عن تأييد ما قُلتُه.»

«أوه، أنا لا أشكُّ في ذلك، ولا أرغَب في إزعاج هذا السيِّد المحترَم.»

أردفَ الشابُّ قائلًا: «كنتُ سأُخبِرك أنَّ لي صديقًا مَيسور الحال، يَدعمُني نوعًا ما؛ فأنا كما أخبرتُك، لا أملك سوى القليل من المال. غالبًا ما أجِد أنَّ دفْع مبلغٍ كبير من المال يكون غير مُناسِبٍ بالنِّسبة إلى الناس. ولكنَّني عندما أعقِد صفقة، يشتري صديقي الثريُّ الكتاب، بينما أتَّفِقُ مع زُبوني أن يَدفع مَبلغًا مُحدَّدًا كلَّ أسبوع، وبالتالي لا يَشعر بأنه قد دفع مبلغًا كبيرًا حتى لو كانت السِّلعة مُرتفعة السِّعر، إذ إنَّني أُقَسِّط المبلغَ على دفعاتٍ صغيرة بما يكفي لتُناسِب زبوني.»

«أنت تعمل خلال النهار كما أعتقِد. أليس كذلك؟»

«بلى، أنا كاتِب في المنطقة التجارية في لندن.»

ها نحن أولاء نعود إلى عالم الخيال البهيج!

«لنفترِض أنَّني اشتريتُ هذا الكتاب لقاء عشرة جنيهات، فما المبلغ الذي يتعيَّن عليَّ دَفعُه كلَّ أسبوع؟»

«أوه، كما ترغَبُ يا سيدي؛ هل خمسةُ شِلنات مبلغ كبير؟»

«لا أعتقد ذلك.»

«حسنًا، إذا دفعتَ لي خمسة شلنات الآن يا سيدي، سأترُك الكِتاب معك، وسيُسعِدني أن أمرَّ عليك في اليوم نفسه من الأسبوع القادِم للحصول على الدفعة التالية.»

وضعتُ يدي في جَيبي وأخرجتُ عُملتَين نِصف كراون وأعطيتُه إياهما.

«هل أحتاجُ لتَوقيع أيِّ استمارةٍ أو تعهُّدٍ بدفْع الباقي من المبلغ؟»

ضحك الشابُّ بود.

«أوه، لا يا سيدي، ليس هناك أي ضرورة للرسميَّات. كما ترى يا سيدي، فأنا أقوم بهذا العمل بدافع الحُب، وإن كنتُ لا أُنكِر أنَّني أفكِّر في المستقبل. أُحاول تكوين شبكةٍ من العلاقات مع الرِّجال المحترَمين أمثالك من المُولَعين بالكُتب، وأثِق أنَّني في يومٍ من الأيام سأكون قادِرًا على الاستقالة من شركة التأمين وتأسيس عملٍ خاص صغير من اختياري يُمكِنني فيه استغلال مَعرِفَتي بالأعمال الأدبية القَيِّمة.»

وبعد ذلك دَوَّنَ مُلاحظةً في دفترٍ صغير أخرَجه من جَيبه ثم ودَّعَني بلَباقةٍ وغادَر، تاركًا إيَّاي مُستغرقًا في التفكير مُحاوِلًا فَهْم كلِّ ما حدث.

في صباح اليوم التالي، استلمتُ مقالَتَين. الأولى عبر البريد، وكانت عبارة عن كُتيِّبٍ عن «العِلم المسيحي وشُرود الذِّهن»، تُشبِه تمامًا ذلك الكُتيِّب الذي أخذتُه من مَتجر الغرائب القديم. أما الثانية فكانت عبارة عن مِفتاح صغير صُنِع من النُّسخة الشَّمعيَّة التي صنعتُها لفتح الباب الأمامي للمَتجر؛ وقد صنعه أحد أصدقائي الرائعين من الفوضويين في شارعٍ مَجهول بالقُرب من هولبورن.

في تلك الليلة في العاشرة مساءً كنتُ داخل مَتجر الغرائب القديم، أحمل بطَّارية تخزين صغيرةً في جيبي، ومصباحًا كهربائيًّا صغيرًا في عُروة سُترتي، وهو أداة مُفيدة للغاية سواء للُّصوص أو للمُحقِّقين.

توقعتُ أن أجِدَ كُتب المتجر في خِزانة، وإذا كانت شبيهة بالخِزانة الموجودة في بارك لين، فسأكون إذن مُستعدًّا لفتحها بالمفتاح الزائِف الذي في حَوزتي، أو طبْع نُسخةٍ من ثُقب المفتاح وأعهد إلى صديقي الفَوضوِي ببقيَّة الأمر. ولكن لدَهْشتي، اكتشفتُ أنَّ جميع الأوراق المُتعلِّقة بالأمر موجودة في مكتبٍ لم يكن حتى مُقفَلًا. كانت الكتُب الثلاثة الموجودة هي دفتر المبيعات اليوميَّة التقليدي، ودفتر يوميَّات، ودفتر حسابات المتجر؛ وهو النَّمَط القديم لنِظام مسك الدفاتر. ولكنَّني وجدتُ في ملفٍّ سِتًّا من أوراق الفولسكاب مُعنوَنة: «قائمة السيد روجرز»، «قائمة السيد ماكفيرسون»، «قائمة السيد تيريل»، وهي الأسماء التي كنتُ أعرفها بالفعل، بالإضافة إلى ثلاثةٍ آخرين. احتوَتْ هذه القوائم على الأسماء في العمود الأول، والعناوين في الثاني، والمَبالِغ المالية في الثالث؛ تَبِعها في الخانات الصغيرة مَبالغ تبدأ من نصف كراون إلى جُنيه. في أسفل قائمة ماكفيرسون وجدتُ اسم ألبورت ويبستر، شقق إمبيريال، عشرة جُنيهات، ثم خانة، ثم خمسة شلنات. كان من الواضِح أنَّ هذه الوَرَقات الستَّ التي يَعلوها اسم كلِّ مُروِّج سِلعٍ هي سِجلَّات لمجموعة السلع الحالية، وبدا الأمر برمَّته بريئًا على نحوٍ جلي، حتى إنه لولا القاعدة الثابتة التي أومن بها بألَّا أعتقِد أنَّني قد وصلتُ إلى حلِّ القضيَّة حتى أصادِف شيئًا مُريبًا، لخرجت من المتجر خاليَ الوِفاض تمامًا كما دخلتُه.

كانت الوَرَقات الستُّ مُنفصلة دُون ربطٍ داخل حافِظة رفيعة، ولكن ثمة خمسة مجلَّدات ضخمة على الرفِّ الموجود فوق المكتب. أنزلتُ واحدةً منها ووجدتُ أنها تحتوي على قوائم مُشابهة تعود لعدَّة سنوات ماضية. لاحظتُ على قائمة السيد ماكفيرسون الحالية اسم اللورد سيمبتام، وهو عجوزٌ من النُّبلاء كنتُ أعرفه معرفةً طفيفة. انتقلتُ بعد ذلك إلى القائمة التي تَسبِق القائمة الحالية مُباشرةً وكان الاسم لا يزال موجودًا. بحثتُ عنه في قائمة تلوَ الأخرى حتى وجدتُ المُدخَلَ الأول الذي دُوِّن فيه اسمه قبل ثلاث سنواتٍ ماضية أمام قِطعةٍ من الأثاث ثمنُها خمسين جُنيهًا، كان يدفع لقائها جنيهًا كلَّ أسبوعٍ لأكثر من ثلاثِ سنوات، بمجموع مائةٍ وسبعين جنيهًا على الأقل، وفي الحال تجلَّت البساطة الرائعة للمَكيدة أمام عينيَّ وصرتُ شديد الاهتِمام بعمليَّة الاحتيال هذه، حتى إنَّني أضأتُ مصباح الغاز خَوفًا من أن يُستنفَد مِصباحي الصغير قبل أن أنتهيَ من بحثي، الذي توقَّعتُ أن يكون طويلًا.

في العديد من الحالات، كانت الضحيَّة المُستهدَفة تُثبِت أنها أذكى مما كان يظنُّ سيمبسون العجوز، وكان مكتوبًا «دُفِعَ بالكامل.» على الخطِّ نفسه الذي يحمل الاسم عند استيفاء جميع الأقساط. ولكن عندما انسحب الضحايا الأذكياء، حلَّ محلَّهم آخرون، وكان يبدو اعتماد سيمبسون على شُرود ذِهنهم وَجيهًا في تِسع حالاتٍ من أصل عشر؛ إذ كان مُحصِّلوه يَستمرُّون في تحصيل الأموال حتى بعد سداد الدَّين بفترةٍ طويلة. في حالة اللورد سيمبتام، صارت عمليَّة دفع المال مُستديمة على نحوٍ واضح؛ إذ ظلَّ العجوز يدفع جنيهًا كلَّ أسبوع إلى السيد ماكفيرسون الدَّمِث بعد سنتَين من سداد دَينِه.

أخذتُ الورَقة المُفكَّكة التي تَرجِع إلى عام ١٨٩٣ من الملفِّ الضخم، والتي سجَّلتْ شراء اللورد سيمبتام لطاولةٍ مَنقوشةٍ مُقابل خمسين جنيهًا، ظلَّ يدفع لقاءها جنيهًا كلَّ أسبوع منذ ذلك الوقت حتى الوقت الذي أكتُب فيه الآن، أي نوفمبر ١٨٩٦. فإذا أخذتُ هذه الورقة الوحيدة من الملف الذي يعود لثلاث سنواتٍ مَضَت، فلن يُلحظ الأمر على الأرجح، على العَكس من لو أخذتُ ورقةً حديثة. ومع ذلك، فقد صنعتُ نسخةً من أسماء عُملاء ماكفيرسون الحاليِّين وعناوينهم، ثمَّ وضعتُ كلَّ شيءٍ كما كان بِعناية، وأطفأتُ مِصباح الغاز وخرجتُ من المَتجَر وأغلقتُ الباب خلفي. بوجود الوَرَقة التي تعود إلى عام ١٨٩٣ في جيبي، قررتُ أن أُحضِّر مفاجأةً صغيرة سارَّةً لصديقي اللطيف ماكفيرسون عندما يَزورُني للحصول على قِسط الخمسة الشلنات التالي.

على الرَّغم من وُصولي في ساعةٍ مُتأخِّرة لميدان ترافالجار، لم أستطِع أن أحرِم نفسي من مُتعة الاتصال بالسيد سبنسر هيل، الذي كنتُ أعرِف أنَّه لا يزال يَعمل حتى هذا الوقت المتأخِّر. لم يكن يبدو في أفضل حالاته أبدًا خلال ساعات العمل؛ إذ كان الروتين الحكومي يُقوِّضُ هيئته القويَّة الشُّجاعة. كان في داخله مُنبهرًا بأهميَّة مَنصِبه، كما لم يكن مسموحًا له بتدخين غليونه الأسود الكبير وتَبْغِه البَشِع. استقبلَني بالفظاظة التي اعتدتُ توقُّعها عندما كنتُ أفرِض وجودي عليه في مكتبه. حيَّاني بخشونةٍ قائلًا:

«أُفكرُ يا فالمونت فيما هي المُدَّة التي تتوقَّع أن تقضيها في هذه المهمَّة؟»

أجبتُ بلُطف: «أيُّ مُهمَّة؟»

«أوه، أنت تعرِف ما أعنيه؛ قضية سمرتريز.»

صحتُ بدهشة: «أوه، تلك القضية! لقد انتهيتُ فِعلًا من قضيَّة سمرتريز. لو كنتُ أعلم أنَّك في عجلةٍ من أمرك، لانتهيتُ من كلِّ شيءٍ البارِحة، ولكن بما أنك أنت وبودجرز وأنا، ولا أعلم كم شخصًا آخر، نعمل على هذه القضيَّة منذ ستَّة عشر أو سبعة عشر يومًا، إن لم يكن أكثر، فقد فكرتُ في المغامرة باغتِنام كلِّ ما يُمكِنُني اغتِنامه من وقتٍ لأنني أعمل بِمُفرَدي تمامًا؛ فأنت لم تقُل أيَّ شيءٍ عن إتمام العمل سريعًا.»

«أوه، بربك يا فالمونت، هذه مُبالَغة كبيرة. هل تقصِد أن تقول إنك قد حصلتَ بالفعل على دليلٍ يُدينه؟»

«أدلَّة قاطِعة وكامِلة.»

«من هم مُزيِّفو العُملات إذن؟»

«كم مرَّةً أخبرتُك يا صديقي المُبجَّل ألا تقفِز إلى استنتاجات؟ لقد أخبرتُك عندما تحدَّثتَ معي أول مرَّة عن الأمر أن سمرتريز ليس مُزيِّفَ عُملات ولا شريكًا لمُزيِّفي عُملات. ولكنَّني حصلتُ على أدلَّةٍ كافِية تُدينه بارتِكاب جريمةٍ أخرى، ربما تكون فريدةً من نَوعِها في سجلَّات الجرائم. لقد حللتُ لُغز المتجر الغريب، واكتشفتُ السبب وراء كلِّ تلك الأعمال المشبوهة التي قادَتْك لاقتِفاء أثرِه كما ينبغي. والآن أريدُك أن تأتي إلى شقَّتي مساء الأربعاء القادِم في السادسة إلَّا الرُّبع وأنت على أُهبة الاستعداد لإلقاء القبض عليه.»

«لا بد أن أعرِف بأيِّ صِفةٍ سأقوم بعمليَّة احتِجازٍ وبأيِّ تُهمة.»

«أنت مُحِقٌّ تمامًا يا صديقي هيل؛ لم أقُل إنك ستقوم بعمليَّة احتجاز، بل حذَّرتُك فقط لتكون مُستعدًّا. إذا كان لديك الوقتُ الآن للاستِماع إلى ما اكتشفتُه، فأنا في خِدمتك. أعِدُك بأنَّ بعض سِمات القضية غريبة ومُثيرة للجدَل. أما لو كان الوقتُ غيرَ مُناسِب الآن، فلتمرَّ بي في الوقتِ الذي يناسِبُك واتَّصِل بي هاتفيًّا قبل أن تأتي لتَعرِف إذا ما كنتُ موجودًا أم لا؛ حتى لا تُهدِر وقتك الثمين هباءً.»

اختتمتُ كلامي بانحناءةٍ شديدةِ الدَّماثة، وعلى الرَّغم من أنَّ تعبير وجهِهِ الحائر كانَ يُشير إلى أنه يشكُّ في أنَّني أُمازِحه، كما كان يقول دَومًا، فقد تلاشى عنه وَقار الرسميَّات إلى حدٍّ ما، وأعلَن عن رغبتِه في سَماع كلِّ شيءٍ عن الأمر بالتَّفصيل في التوِّ واللحظة. لقد نجحْتُ في إثارة فُضول صديقي هيل. أنصَتَ إلى الدَّليل وحاجِبُه مَرفوع في حيرة، وأخيرًا هتفَ بقوَّةٍ قائلًا إنه محظوظ.

قلتُ مُختتمًا حديثي: «سيزورُني هذا الشابُّ في السادِسة من بعد ظُهر يَوم الأربعاء ليَحصُل على دُفعته الثانية من الخمسة الشلنات. أقترِح أن تكون جالِسًا معي في استِقباله حينئذٍ مُرتديًا زِيَّك الرسمي؛ فأنا أتوقُ لتفرُّس مَلامِح السيد ماكفيرسون حينما يُدرِك أنَّه قد اقتِيد لمواجهة شُرطي. وإذا شئت، فلتسمَح لي بعد ذلك باستجوابه لبِضع لحَظاتٍ بالأسلوب الحرِّ والسهل الذي نتَّبِعه في باريس، وليس بطريقة سكوتلانديارد التَّحذيرية حتى لا يُدين نفسه، ثم سأحيل القضيَّة إليك للتَّعامُل معها كما تشاء.»

أثنى عليَّ سبنسر قائلًا: «يا لجزالة لِسانك يا سيد فالمونت. سأكون مُستعدًّا في السادسة إلَّا الربع يوم الأربعاء.»

أجبتُه قائلًا: «في هذه الأثناء، رجاءً لا تُخبر أيَّ شخصٍ عن الأمر. لا بُدَّ أن نُرتِّب مُفاجأةً كامِلةً لماكفيرسون؛ هذا ضروري. رجاءً لا تتَّخِذ أيَّ إجراءٍ في هذه المسألة على الإطلاق حتى مساء الأربعاء.»

أومأ سبنسر هيل مُذعنًا بانبهارٍ شديد، واستأذنتُه بأدبٍ ورحلت.

•••

تُعتبَر الإضاءة مسألةً مُهمَّة في غرفةٍ كغرفتي، وتوافُر الكهرباء فُرصة جيِّدة لاستغلال ذلك بذكاء، وقد استَغْللتُ هذه الحقائق الاستغلال الأقصى. يمكنني التَّلاعُب في إضاءة غرفتي بحيث تكون أيُّ بُقعةٍ فيها مُبهِرة الإضاءة، بينما تظلُّ باقي المساحة المحيطة مُظلِمة بالنسبة لها. في مساء ذلك الأربعاء، جهَّزتُ المصابيح بحيث تكون قوَّةُ أشعَّتها كاملةً مُوجَّهةً نحو الباب، بينما جلستُ على أحد جوانِب الطاولة في ظلامٍ شِبه كامل، وجلَس هيل على الجانب الآخر والضوء مُسلَّط عليه من الأعلى، وهو ما أعطاه مَظهرًا غريبًا وكأنَّه مَنحوتة حيَّةٌ لتمثال العدالة، بملامِحِه الدَّالَّة على الصَّرامة والانتِصار. كان من شأن أيِّ شخصٍ أن يَنبهِر بالضوء حال دُخوله الغرفة، ثم يرى هيئة هيل الضخمة وهو يرتدي زِيَّه الرَّسميَّ كاملًا.

عندما دخل أنجوس ماكفيرسون إلى الغرفة، بدا جَليًّا أنه قد تفاجأ، فتوقَّف فجأةً عند عتبة الباب مُثبِّتًا نظرَه على الشرطيِّ الضخم. أظنُّ أنَّ رد فعله الأول كان أن يَستدِير ويهرُب، إلَّا أنَّ الباب أُغلِق من خلفه، وقد سمع بلا شكٍّ، كما سَمِعنا جميعًا، صوتَ اندفاع مِزلاجِ الباب وهو يُقفَل ليصير ماكفيرسون محبوسًا بالداخل.

تلعْثَم قائلًا: «أ… أستميحُك عُذرًا، كنتُ أتوقَّع مُقابلة السيد ويبستر.»

بينما كان يقول ماكفيرسون هذه العبارة، ضغطتُ على زرٍّ أسفل طاولتي، فَسُلِّطَ الضوء عليَّ في الحال وأحاط بي من كلِّ جانب. ارتسمَت ابتسامةٌ واهِيةٌ على وجه ماكفيرسون عندما رآني، وقام بِمُحاولةٍ جديرة بالتَّصديق للتَّعامُل مع الموقِف برباطَةِ جأشٍ ولا مُبالاة.

«أوه، ها أنتَ ذا يا سيد ويبستر؛ لم ألحَظْك في البداية.»

كانت لحظةً عمَّ فيها التوتُّر. تحدثتُ ببطءٍ وعلى نحوٍ يُثير الإعجاب قائلًا:

«سيِّدي، ربما لا تكون على علمٍ باسم يوجين فالمونت.»

ردَّ بوقاحةٍ قائلًا:

«يؤسِفُني أن أقول يا سيِّدي إنَّني لم أسمَع باسم هذا السيد من قبل.»

أطلقَ سبنسر هيل الأبلَه ضحكةً عاليَةً تُشبِه صهيل الحصان جاءت في غير وقتها، مُفسِدًا الموقفَ الدِّراميَّ الذي حضَّرتُ له بعد تفكيرٍ وعناية شديدَين. لا عجَبَ في أنَّ الإنجليز ليس لديهم أيُّ دراما؛ فهم يُظهِرون تقديرًا ضئيلًا للَّحظات المُهمَّة في الحياة.

نهَقَ سبنسر هيل ضاحِكًا، مُحوِّلًا الجوَّ الدِّراميَّ المشحون في الحال إلى جوٍّ عاديٍّ للغاية. ولكن ماذا على المرء أن يفعَل في مُواجَهةِ مِثل هذه المواقف؟ لا عليه سوى التَّعامُل مع الأدوات التي حباه الله بها. تجاهلتُ ضحكةَ هيل غير الملائمة.

«اجلس يا سيدي.» هكذا قلتُ لماكفيرسون وأطاعَني.

واصلتُ حديثي مُتجهِّمًا قائلًا: «لقد زُرْتَ اللورد سيمبتام هذا الأسبوع.»

«أجل يا سيِّدي.»

«وأخذتَ منه جُنيهًا؟»

«أجل يا سيدي.»

«لقد بِعتَ للُّورد سيمبتام في أكتوبر عام ١٨٩٣ طاولةً قديمة منقوشةً لقاء خمسين جُنيهًا. أليس كذلك؟»

«هذا صحيح تمامًا يا سيِّدي.»

«عندما كُنتَ هنا الأسبوع الماضي، أخبرتَني باسم رالف سمرتريز بوصفِه سيِّدًا يعيش في بارك لين. هل كنتَ تعلمُ في ذلك الوقت أنَّ هذا الرجل هو ربُّ عملك؟»

كان ماكفيرسون ينظُر إليَّ دون أن تَطرِف عيناه، ولم يَردَّ على سؤالي، فواصلتُ قائلًا بهدوء:

«وكنتَ تعلم أيضًا أن سمرتريز الذي يعيش في بارك لين هو نفسه سيمبسون صاحِب المتجر الكائن في طريق توتنهام كورت. أليس كذلك؟»

رد ماكفيرسون: «حسنًا يا سيِّدي، لا أعلم ما تقصِده بالضَّبط من حديثك هذا، ولكن من المُعتاد تمامًا أن يُزاول الشَّخص نشاطًا تجاريًّا تحت اسمٍ مُستعار؛ لا يُوجَد ما يُخالِف القانون في ذلك.»

«سآتي على ذِكر مُخالَفة القانون بعد لحظاتٍ يا سيد ماكفيرسون. أنت وروجرز وتيريل وثلاثة آخرون شركاء لهذا المدعو سيمبسون.»

«أجل، نحن نعمَل لديه يا سيِّدي، ولكنَّنا لسنا سوى مُجرَّد مُوظَّفين.»

«أعتقِد يا سيد ماكفيرسون أنني قد قلتُ ما يكفي لأوضِّح لك أن اللُّعبة قد انتهت، كما تقولون. أنت الآن في حضرة السيد سبنسر هيل من سكوتلانديارد، والذي ينتظِر سماع اعترافِك.»

وهنا اندفَع هيل الغبيُّ قائلًا:

«وتذكَّر يا سيِّدي أنَّ أيَّ شيءٍ ستقوله …»

قاطعتُه سريعًا: «مَعذِرة، سيِّد هيل، سأُحيل القضيَّة لك بعد لحظاتٍ قليلة، ولكنَّني أطلبُ منك أن تتذكَّر اتفاقنا، وأن تترُك الأمر كُلَّه حاليًّا في يدي. والآن يا سيد ماكفيرسون، أريد اعترافك، وفي الحال.»

اعترَض ماكفيرسون مُتصنِّعًا الدَّهشة بصورةٍ مُثيرةٍ للإعجاب قائلًا: «اعتراف؟ شركاء؟ إنك تَستخدِم مُصطلَحاتٍ غير عاديَّة يا سيد … سيد … ماذا كان اسمُك؟»

صاح هيل ضاحِكًا: «اسمه السيد فالمونت.»

«أرجو منك يا سيد هيل أن تترُك لي هذا الرَّجُل لبِضعِ لحظات. والآن يا ماكفيرسون، ماذا لديك لتقوله دِفاعًا عن نفسك؟»

«بما أنَّني لم أُتَّهَم بأيِّ جُرم يا سيِّد فالمونت، فلا أرى أيَّ داعٍ للدِّفاع عن نفسي. إذا كنتَ ترغَب في أن أعترِف بأنك قد حصلتَ على عددٍ من التفاصيل الخاصَّة بعمَلنا، فأنا على أتمِّ استعدادٍ للقيام بذلك وأن أضيف إلى دِقَّتها أيضًا. إذا تكرَّمتَ وأخبرتَني بما تحتجُّ عليه، فسأُحاول أن أوَضِّح لك الأمر إذا أمكنَنِي ذلك. من الواضِح أنَّ ثمَّة سوء فهم، ولكن دُون مزيدٍ من التَّوضيح، إن عقلي في ضبابية تامَّة بشأن هذا الأمر، تمامًا كما كان بَصري وأنا في طريقي إلى هنا؛ إذ إن الضَّباب في الخارج كثيفٌ بعض الشيء.»

كان ماكفيرسون يتصرَّف بتعقُّلٍ شديد بلا رَيب، وكانت هيئتُه وإيماءاته، دُون أن يقصِد، أكثر دبلوماسية بكثير من صديقي سبنسر هيل الذي كان يجلِس مُتيبِّسًا كالصَّنم قُبالَتي. كانت نبرتُه نبرةً احتجاجيَّة مُعتدِلة خفَّفَ من وطأتها إشارته إلى أنَّ الأمر كلَّه سوء فهم وسيزول سريعًا. ظاهريًّا، رسَم ماكفيرسون صورةً مثاليةً للرَّجُل البريء؛ فلم يُغالِ في الاعتراض ولم يَمتنِع عن إبدائه أيضًا. غير أنَّني كان لديَّ له مُفاجأة أخرى، كانت بمثابة ورَقةٍ رابحة، وضعتُها على الطاولة أمامه.

صحتُ بحماس: «ها هي! هل رأيتَ هذه الورَقة من قبل؟»

ألقى عليها نظرةً سريعة دُون أن يَعرِض أخذَها ليرى ما فيها.

وأجاب: «أوه نعم، لقد استُخرِجَت من مَلفِّنا. إنها ما أُسمِّيها بقائمة زياراتي.»

صحتُ بحدَّة: «بربِّك يا سيدي، إنك ترفُض الاعتراف، ولكنَّني أُحذِّرك من ذلك. هل سمعتَ عن الدكتور ويلوبي من قبل؟»

«أجل، هو مُؤلِّف الكُتيِّب السَّخيف عن العلوم المسيحية.»

«أنت مُحِقٌّ يا سيد ماكفيرسون، عن العِلم المسيحي وشُرود الذِّهن.»

«ربما، فأنا لم أقرأه منذُ فترةٍ طويلة.»

«هل سبق لك مُقابلة هذا الطبيب المُطلع يا سيد ماكفيرسون؟»

«أوه، أجل، الدكتور ويلوبي هو الاسم المُستعار للسيد سمرتريز. إنه يؤمن بالعِلم المسيحي وهذه الأشياء ويكتُب عنها.»

«أوه، حقًّا. إننا نحصُل على اعترافِك تدريجيًّا يا سيد ماكفيرسون. أعتقِد أنه سيكون من الأفضل أن تكون صريحًا معنا.»

«كنتُ سأقترِح عليك الشيء نفسَه حالًا يا سيد فالمونت. إذا أخبرتَني باختصارٍ ما هي التُّهمة المُوجَّهة ضِدِّي أو ضدَّ السيد سمرتريز، سأعلم حينئذٍ ما عليَّ قولُه.»

«نحن نَتَّهمكما يا سيِّدي بتقاضي أموال تحتَ ادِّعاءات كاذِبة، وهي جريمة زَجَّت بأكثر من ثَريٍّ بارزٍ إلى السجن.»

هزَّ سبنسر هيل سبَّابَته السمينة في وَجهي قائلًا:

«لا لا يا فالمونت، يجِب ألا نُهدِّد، يجِب ألا نُهدِّد كما تعلم.» ولكنَّني أكملتُ دون الالتفات إليه.

«لنأخُذ اللورد سيمبتام على سبيل المثال. لقد بعتَه طاولة لقاء خمسين جُنيهًا بالتقسيط، على أن يدفَع جنيهًا كلَّ أسبوع، وفي أقلِّ من عامٍ كان قد سدَّد دَينَه بالفِعل. ولكنَّه يُعاني من شُرود الذهن، ككلِّ زبائِنكم. ولذلك أتيتَ لي؛ فقد أرسلتُ خِطابًا ردًّا على إعلان ويلوبي الوَهمي. وهكذا ظَللتُم تجمعون المزيد والمزيد من المال لأكثر من ثلاثِ سنوات، والآن هل تفهَم التُّهمة المُوجَّهة إليك؟»

كان رأس السيد ماكفيرسون يميل جانبًا قليلًا أثناء سَماعه لهذا الاتهام. في البداية، ارتَسَم على وجهه أبرَعُ تعبيرٍ زائفٍ للتركيزٍ المَشوب بالقَلَق رأيتُه في حياتي، ولكنَّه أخذَ يتلاشى تدريجيًّا كلَّما زاد إدراكه للأمر. وعندما انتهيتُ، كانت على شفتَيه ابتسامةٌ مُتملِّقة.

وقال: «إنه حقًّا، كما تعلم، مُخطَّط ضخم؛ عصابة شاردي الذهن، كما يُمكن أن نُسمِّيه. مُخطَّط عبقريٌّ بالفعل! لو كان لدى السيد سمرتريز أيُّ حسِّ دُعابة، ولكنَّه ليس كذلك، لتفاجأ من أنَّ هَوَسَه البريء بالعِلم المسيحي قد قادَه ليُصبِح مُشتبهًا به في الحصول على مالٍ تحت ادِّعاءاتٍ كاذبة. ولكن في الواقِع ليس في الأمر أيُّ ادِّعاءات على الإطلاق. الأمر، كما أفهمه، هو أنني أقوم بزياراتٍ وأُحصِّل الأموال بكلِّ بساطةٍ مُعتمدًا على سُوء ذاكرة الأشخاص المُدرَجين في قائمتي؛ إذن وفقًا لنظريَّتِك الجريئة هذه، فإذا كنتَ تتَّهمني وسمرتريز، فسيكون اتهامُك هو اتِّهام بالتآمُر. ولكنَّني أُدرِك سبب هذا الخطأ: لقد استنتجتَ أنَّنا لم نَبِع أيَّ شيءٍ للُّورد سيبمتام منذ ثلاث سنوات مضت سوى الطاولة المنقوشة. يُسعِدُني أن أُشير إليك أن سيادته عميل دائم لدَينا، وأنه قد اشترى منَّا الكثير من الأشياء في وقتٍ ما أو آخر. في بعض الأحيان يكون مَدينًا لنا، وفي بعض الأحيان نكون نحنُ المدينين. إننا نحتفِظ معه بنَوعٍ من أنواع التَّعاقُدِ المُستمرِّ يدفَع لنا بِمُقتضاه جُنيهًا كلَّ أسبوع. هو والعديد من الزَّبائن الآخرين يتعامَلون معنا وفقًا لخُطَّة الدفع نفسها؛ وفي مُقابِل دَخلٍ يُمكِننا الاعتماد عليه، يحصلون على العُروض الأولى من أيِّ شيءٍ يُفترَض أنَّ لديهم اهتمامًا به. وكما أخبرتُك، نحن ندعو هذه الأوراق في المكتب بِقوائم الزِّيارة، ولكن لكي تُصبِح كاملة، فنحن بحاجةٍ إلى ما نُطلِق عليه مَوسوعتنا. ونُطلِق عليها هذا الاسم لأنها تتألَّف من مُجلَّدات عديدة، بواقِع مُجلَّدٍ لكلِّ عام، ولكنَّني لا أعلم إلى متى تعود بالضبط. ستُلاحِظ بعض الأرقام الصغيرة هنا من وقتٍ لآخر مكتوبةً فوق المبلَغ المذكور في قائمة الزِّيارات هذه. تُشير هذه الأرقام إلى الصفحة من الموسوعة الخاصَّة بالسنة الحالية، وفي تلك الصفحة تُسجَّل عملية البيع الجديدة وكميَّتها، مِثلما قد تُسجَّل في دفتر الحسابات على سبيل المثال.»

«هذا تفسير مُمتِع للغاية يا سيد ماكفيرسون. أعتقِد أنَّ هذه الموسوعة، كما تُسمِّيها، موجودة في مَتجر طريق توتنهام كورت.»

«أوه، كلا يا سيِّدي، كلُّ مُجلَّدٍ من الموسوعة مُغلَق على نفسه. فهذه المُجلَّدات تحتوي على السرِّ الحقيقي لعَمَلنا، وهي محفوظة في خِزانة بمنزل السيد سمرتريز في بارك لين. لنأخُذ حِساب اللورد سيمبتام على سبيل المثال، ستجِد الرقم ١٠٢ مكتوبًا على نحوٍ باهتٍ أسفل تاريخ مُحدَّد. إذا انتقلتَ إلى الصفحة ١٠٢ من مَوسوعة ذلك العام، فستجِد قائمة بما اشتراه اللورد سيمبتام والأسعار التي دَفَعها لقاءها؛ إنَّ الأمر حقًّا بسيط للغاية. وإذا سمحتَ لي أن أستخدِم هاتِفك للحظة، فسأطلُب من السيد سمرتريز، الذي لم يبدأ في تناوُل عَشائه بعد، أن يأتي إلى هنا ويُحضِر معه مُجلَّد عام ١٨٩٣، وفي غضون رُبع ساعة ستتأكد تمامًا من أن كلَّ شيءٍ قانوني تمامًا.»

أعترِف أنَّ طبيعية هذا الشابِّ وثقَته في نفسه قد أذهلاني، لا سيما عندما رأيتُ الابتسامة الساخِرة التي ارتسمَتْ على وجه هيل دلالةً على أنه لم يُصدِّق كلمةً واحدة مما قيل. كان يُوجَد هاتِفٌ نقَّال على الطاولة، وعندما انتهى ماكفيرسون من شرحه، مدَّ يدَه وجذَب الهاتِف نحوه، فتدخَّل سبنسر هيل قائلًا:

«مَعذِرة، أنا من سأُجري المكالمة. ما رقم السيد سمرتريز؟»

«١٤٠ هايد بارك.»

اتَّصَل هيل في الحال بالسِّنترال، وأجاب عليه أحدُهم في بارك لين. سمِعناه يقول:

«هل هذا هو منزل السيد سمرتريز؟ أوه، أهذا أنت يا بودجرز؟ هل السيد سمرتريز موجود؟ رائع. أنا هيل، أنا في شقَّة فالمونت — شُقَق إمبيريال — كما تعلم. أجل، حيثما أتيتَ معي بالأمس. حسنًا، اذهب للسيد سمرتريز وأخبره أنَّ السيد ماكفيرسون يُريد موسوعة عام ١٨٩٣. هل فهِمت؟ أجل، موسوعة. أوه، سيفهَم ما هي. أجل، السيد ماكفيرسون. لا، لا تذكُر اسمي إطلاقًا؛ فقط أخبرْه أن السيد ماكفيرسون يُريد موسوعة عام ١٨٩٣، وأنك ستُحضِرها له. أجل، يُمكِنك أن تُخبِره أنَّ السيد ماكفيرسون في شُقَق إمبريال، ولكن لا تذكُر اسمي على الإطلاق. بالضَّبط. بمجرَّد أن يُعطيك المجلد، أوقِف عربة أُجرة وتعالَ به إلى هنا في أسرع وقتٍ مُمكِن. وإذا لم يَسمح سمرتريز بأن تُحضِره أنت، فأخبِره أن يأتي معك. وإن لم يفعل، ضَعْه قيد الاعتِقال وأحضِرْه هو والمجلَّد إلى هنا. حسنًا. بأسرع ما يُمكنك، نحن في الانتظار.»

لم يُبدِ ماكفيرسون أيَّ اعتراضٍ على استِخدام هيل للهاتف، بل اكتفى بالجلوس مُسترخيًا في كرسيِّه وقد ارتسمَ على وجهه تَعبير مُذعِن، لو رسم على لَوحة كنافا، لأُطلِق عليها «المُتَّهم زُورًا». عندما أغلَقَ هيل الخط، قال ماكفيرسون:

«أنت تعرِف عملك جَيدًا بلا شك، ولكن إذا اعتقَلَ رجُلُك سمرتريز، فسيجعلك أضحوكة لندن. تُوجَد تهمة تُعرَف بالاعتقال غير المُبرَّر، مثلما تُوجَد تُهمة الحصول على مالٍ تحت ادِّعاءات كاذبة، والسيد سمرتريز ليس ممن يَغفِرون الإهانة. ثم، إذا سمحتَ لي بأن أقول ذلك، كلَّما فكرتُ في نظريَّتِك حول استِغلال شارِدي الذهن، بدا الأمر مُستغرَبًا تمامًا، وإذا وصلَتِ القضية إلى الصُّحف، فأنا مُتأكد يا سيد هيل أنك ستخضع لنِصف ساعةٍ من الاستِجواب المُزعِج من رؤسائك في سكوتلانديارد.»

رد هيل بعنادٍ قائلًا: «سأخوض تلك المُخاطرة، شُكرًا.»

تساءل الشاب: «هل أعتَبِر نفسي قَيْد الاعتقال؟»

«لا يا سيدي.»

«إذن، إذا سمحتُم لي، سأذهب أنا. سيُريكم السيد سمرتريز كلَّ ما ترغَبون فيه في مُجلَّداته، وهو أقدر بكثيرٍ على شَرح عملِه منِّي؛ لأنه يعلم المزيد عنه؛ لذا، أيُّها السيدان، أتمنَّى لكما ليلةً سعيدة.»

صاح هيل وقد انتفضَ واقِفًا تزامُنًا مع نُهوض الشابِّ للرحيل: «لا، لا لن تذهب. ليس بعد، ستبقى لبعض الوقت.»

احتجَّ ماكفيرسون قائلًا: «إذن أنا قَيْد الاعتقال.»

«لن تَبرحَ هذه الغُرفة حتى يأتي بودجرز بذلك المجلَّد.»

«أوه، حسنًا.» ثم عاوَدَ الجلوس مرةً أخرى.

والآن، بما أنَّ الكلام يُجفِّف الحلق، فقد جهَّزتُ شيئًا لأشرَبَه وأخرجتُ عُلبتَي السيجار والسجائر. مَزَجَ هيل مَشروبه المفضَّل، بينما تجنَّب ماكفيرسون الخمر المصنوع في بلده واكتفى بكأسٍ من الماء المعدِني، وأشعل سيجارة. ثم استرعى انتِباهي كثيرًا عندما قال بلُطفٍ وكأنَّ شيئًا لم يكن:

«بينما نحن في الانتِظار يا سيد فالمونت، أُذَكِّرُكَ بأنك مَدين لي بخمسةِ شِلنات.»

ضحكتُ وأخرجتُ النُّقود من جَيبي ودفعتُ له، فشكَرَني.

سألني ماكفيرسون بطريقة شَخصٍ يُحاوِل تجاذُب الحديث لاجتِياز فترةِ الصَّمت المُملَّة: «هل أنت على صلةٍ بسكوتلانديارد يا سيد فالمونت؟» ولكن قبل أن أتمكن من الرد، اندفع هيل دون تفكيرٍ قائلًا:

«لا أبدًا!»

«إذن أنتَ لا تعمَل رسميًّا كمُحقِّقٍ يا سيد فالمونت. أليس كذلك؟»

أجبتُ بسرعةٍ لأسبِقَ هيل: «لا على الإطلاق.»

تابع هذا الشابُّ الرائع بصدقٍ واضِح: «يا لها من خسارة لبلدِنا!»

بدأتُ أدرِك أنَّ بإمكاني استِغلال شابٍّ شديد الذَّكاء كهذا إذا سنَحتْ لي فُرصة تدريبه.

أردف قائلًا: «الأخطاء الفادِحة التي يرتكِبُها رجال شرطَتِنا هي أمرٌ يُرثى له. إذا كانوا لن يأخذوا سوى دُروسٍ في فنون التخطيط، لنقُل من فرنسا، لأدَّوا مَهامَّهم المُزعِجة على نحوٍ أكثر قَبولًا بكثير، وبطريقةٍ أقلَّ إزعاجًا لضحاياهم.»

نخَرَ هيل بسخرية: «فرنسا! إنهم يَعتبِرون الشَّخص مُذنِبًا حتى تَثبُت براءته.»

«أجل يا سيد هيل، وهذا هو ما يحدُث هنا الآن بالفعل. لقد قرَّرتَ أنَّ السيد سمرتريز مُذنِب، ولن ترضى حتى يُثبِتَ براءته. سأجازِفُ بِتوقُّع أنَّ ما ستسمَعُه منه بعد وقتٍ قصير قد يُذهِلُك على نحوٍ ما.»

زَمجرَ هيل ونظر إلى ساعته. مرَّت الدقائق ببطءٍ شديد بينما كنَّا نجلِس نُدخِّن السجائر. وفي النهاية بدأتُ أنا في الشُّعور بالتملمُل وعدَم الارتِياح. قال ماكفيرسون وقد لاحظَ قلقنا، إنه عندما أتى، كان الضَّباب شديدَ الكثافة كما كان في الأسبوع السابق، وأنه ربما يُوجَد صعوبة في العُثور على عربة أُجرة. وفي أثناء حديثه، فُتِحَ الباب من الخارج ودَخل بودجرز حامِلًا مُجلَّدًا سميكًا في يدِه وأعطاه رئيسه، الذي أخذ يُقلِّب في صفحاته في ذهول، ثم نظر إلى ظهر المُجلَّد وصاح قائلًا:

«موسوعة الرياضة، عام ١٨٩٣! أيُّ نوعٍ من الدُّعابة هذه يا سيِّد ماكفيرسون؟»

ارتسمَتْ نظرةُ انزعاجٍ على وَجه السيد ماكفيرسون وهو يَميل إلى الأمام ويأخُذ المجلَّد، ثم تنهَّد قائلًا:

«لو كُنتَ سمحتَ لي باستِخدام الهاتف يا سيِّد هيل، لأوضحتُ لسمرتريز المجلَّد المطلوب بالضبط؛ كنتُ أعلَم أنَّ هذا الخطأ من المُمكِن أن يحدُث. يُوجَد طلبٌ مُتزايد على كُتُب الرياضة القديمة، ولا شكَّ أنَّ السيد سمرتريز اعتقَدَ أنَّ هذا هو المجلَّد الذي كنتُ أقصده. الحلُّ الوحيد أن تُرسِل رَجُلَك مرَّةً أخرى إلى بارك لين ليُخبِر السيد سمرتريز أنَّ ما نُريده هو المجلَّد المُغلَق لحسابات عام ١٨٩٣، والذي نُسمِّيه الموسوعة. اسمَح لي بِكتابة طلبٍ كي يُحضِره؛ أوه، سأُريك ما كتبتُه قبل أن يأخُذه رجلك.» فوقف هيل استعدادًا لقراءة ما كتبَه ماكفيرسون من فوق كتِفه.

كتبَ على ورقة مُلاحظاتي طلبًا كما قال، وسلَّمه إلى هيل الذي قرأه وأعطاه لبودجرز.

«خذ هذا لسمرتريز وعُد بأسرعِ ما يمكنك، هل تنتظِرُك عربة أجرة بالخارج؟»

«أجل يا سيدي.»

«هل الجوُّ ضبابي بالخارج؟»

«ليس كما كان منذ ساعةٍ يا سيِّدي، لا صعوبة في المرور الآن يا سيدي.»

«جيد جدًّا، عُد في أقرَب وقتٍ مُمكن.»

حيَّانا بودجرز وغادَر وهو يحمِل المجلَّد تحت ذِراعه. أُغْلِقَ الباب مرَّةً أخرى، وجلَسْنا وعاوَدْنا التَّدخين في صمتٍ كسَرَه صوتُ جرس الهاتف. وضع هيل السمَّاعة على أُذُنه.

«نعم، هنا شُقق إمبريال. أجل. فالمونت. أوه، أجل؛ ماكفيرسون هنا. ماذا؟ نفدَت من ماذا؟ لا أسمعُك. نفدَت من الطباعة. ماذا؟ نفدَت الموسوعة من الطباعة؟ من المُتحدِّث؟ دكتور ويلوبي؛ شكرًا.»

نهض ماكفيرسون وكأنه سيتَّجِه نحوَ الهاتف، ولكنَّه بدلًا من ذلك التقَطَ الورقة التي كان يُسمِّيها قائمة الزيارة (وكان يتصرَّف بهدوءٍ شديد حتى إنني لم أُلاحِظ ما كان يفعله حتى انتهي منه فعلًا)، ومشى بهدوءٍ بلا عجلة، وأمسك بها ووضعها في الجمر المُوقَد المُتوهِّج حتى اختفت في وَمضةٍ من لهبٍ ارتفعَت عبر المدخنة. انتفضْتُ وأنا أستشيط غضبًا، ولكن كان الوقتُ قد فات حتى لكي أقفِز مُحاوِلًا إنقاذ الورقة من الحرق. تأمَّل ماكفيرسون كِلينا بابتسامة الاستِهانة نفسها التي أضاءت وَجهه في العديد من المواقف السابِقة.

قلتُ بحزم: «كيف تجرؤ على حرْقِ هذه الورقة؟»

«لأنها لم تكُن تخصُّك من الأساس يا سيد فالمونت؛ لأنك لا تَنتمي إلى سكوتلانديارد؛ لأنك سرقْتَها؛ لأنه لم يكن من حَقَّك ذلك؛ ولأنك ليس لك أيُّ صفةٍ رسمية في هذا البلد. لو كانت الورقة في حَوزة السيد هيل، لما جَرؤتُ على إتلافِها، كما قلتَ أنت، ولكنَّني قد أتلفتُ هذه الورقة بحريَّةٍ بما أنك قد أخذتَها من مقرِّ عمل سيِّدي دُون أن تكون مُخوَّلًا بذلك تمامًا. ولو كان سيِّدي قد وجدَك وأنت تقتَحِم مكانه وأبديتَ أيَّ مُقاوَمة، لأرداك قتيلًا ولم يكن ليُعاقَب على ذلك. لطالما كان رأيي هو عدَم الاحتِفاظ بهذه الأوراق؛ إذ إنها لو وقعتْ في يدِ شخصٍ في ذكاء يوجين فالمونت وفحَصَها، وهو ما حدَث بالفعل، لتوصَّل لاستِنتاجاتٍ غير صحيحة. ومع ذلك، فقد أصرَّ السيد سمرتريز على الاحتِفاظ بها، ولكنَّه وافَقَ على أنَّني إذا أرسلتُ له برقيَّةً أو اتَّصلتُ به هاتفيًّا وذكرتُ كلِمة «موسوعة»، فسيحرِق هذه السجِلَّات على الفور، ثم يتَّصل بي أو يرسِل إليَّ برقيَّةً ليُبلِغَني أنَّ «الموسوعة قد نفدَت من الطباعة»، وعندها سأعلَم أنه قد أتمَّ الأمر بنجاح.

والآن أيُّها السادة، افتحوا هذا الباب، فهذا سيُوفِّر عليَّ عناء دَفعِه بالقوَّة. إمَّا أن تَعتقلاني رسميًّا، أو تَكُفَّا عن تقييد حُرِّيَّتي. أنا في غاية الامتِنان للسيد هيل لإجرائه الاتِّصال الهاتفي؛ وعلى الرغم من الباب المُوصَد، لم أُبدِ أيَّ اعتراضٍ على كرَم ضِيافة السيد فالمونت، ولكن هذه المَهزلة قد انتهت الآن. كلُّ الإجراءات التي خضعتُ لها هنا كانت غير قانونية، واعذُرني يا سيد هيل، كانت إجراءات فرنسية لا تُناسِب الوضع هنا في إنجلترا القديمة، ولن تكون مُرضيةً لرؤسائك إن خرجَتْ في تحقيقٍ صحفي. أنا أُطالِب إمَّا بالقبضِ عليَّ رسميًّا، أو فتْح هذا الباب.»

ضغطتُ على الزرِّ في صمت، وفتحَ خادِمي الباب على مِصراعَيه. اتَّجه ماكفيرسون إلى عتبة الباب ثمَّ توقَّف واستدار ناظِرًا إلى سبنسر هيل الذي كان يجلِس صامِتًا كأبي الهول.

«طابت ليلتُك يا سيد هيل.»

لم ينبِس هيل ببنت شفة، فالتفتَ ماكفيرسون تِجاهي بالابتسامة المُتملِّقة نفسها قائلًا:

«ليلة سعيدة يا سيد فالمونت، سيُسعِدني زيارتُك الأربعاء القادِم في السادسة مساءً لتحصيل شلناتي الخمسة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤