القتيل!

أصاب اليأس «عثمان» … فعبر السلك … ولدهشته لم يضايقه الكلب بل الباب أخذ يطوف حوله … ثم يتركه ويجري إلى باب الخيمة.

فسار «عثمان» خلفه، حتى وجد باب الخيمة وكان مغلقًا … فقام بفتحه … فسبقه الكلب إلى الدخول جريًا … فدخل وراءه … فرأى شابًّا ممدَّدًا على الأرض وعينيه جاحظتَين.

وبفحصه عرف أنه مصاب برصاصة في صدره … وأنه فارق الحياة … فقام بتفتيش ملابسه فلم يعثر معه على بطاقة تحقيق شخصية أو أية أوراق يعرف منها مَن هو.

وبحذر شديد قام بفحص المكان حوله … وتفتيش أمتعته تفتيشًا دقيقًا … فلم يجِد أية أوراق تُثبت هويته غير أنه لاحظ أن المكان قد تم تفتيشه … فعرف أن أحدًا قد دخله من قبله … وأنه هو الذي قام بقتله.

ومن باب الخيمة … وفي حذر شديد خرج تاركًا الكلب جالسًا بجوار صاحبه يعوي بصوت خفيض وهو يلعق وجهه.

ودار حول الخيمة باحثًا عن زملاء ذلك القتيل … أو أي دليل يرشده لقاتله … فلم يجد فقام بالاتصال بالمنظمة … فلم يجد بالمقر غير ضباط الاتصال … الذي حوله على القائد الأعلى ولم يجد مفرًّا من أن يحكي له ما حدث … فأمره أن يستمر هو في طريقه … ويترك كل شيء كما هو … وسيُبلِّغون هم السلطات المختصة لتقوم بواجبها.

فحدد له الموقع بدقة … وخرج هو من المعسكر … وعبَر الطريق إلى حيث تقف سيارته فلم يجدها.

كانت مفاجأة غير متوقَّعة له … فالسيارة مؤمَّنة تأمينًا كاملًا ضد السرقة … فكيف سُرقت؟

وكعادة الشياطين في مثل هذه المواقف الصعبة … لا يفقدون صوابهم … بل يُعملون تفكيرهم ويُمنطقون الأحداث … وهذا ما قام به «عثمان» … فقد دار حول نفسه … يبحث عمَّا يرشده إلى كيفية سرقة سيارته … لفت نظره أول الأمر … أن إطارات السيارة لم تترك آثارًا خلفها إلا في مكان وقوفها فقط … أما الآثار التي أحدثتها عندما نزل بها من الشارع إلى الرمال … فقد انمحت.

أما ما كان واضحًا جيدًا … في نفس المكان … فهو آثار جنزير دبابة أو مصفحة … أو لودر عملاق … أو كرَّاكة من كرَّاكات الحفر.

إذَن فالسيارة قد تم حلُّها لا جرُّها وإلا تركت آثارًا غائرة في الرمال.

والذي حملها هو قاتل هذا الشاب الراقد في الخيمة.

وهو يعمل إمَّا في كتيبة عسكرية … أو في شركة مقاولات.

وسرح «عثمان» لدقائق ثم عاد يغمغم قائلًا: ولماذا لا يكون سارقًا لهذه الآلة أيضًا … أو أنه احتفظ بها منذ هروب القوات الإسرائيلية من «سيناء» وخبَّأها عن عيون السلطات … والناس هنا تحمي بعضها وبالتالي لا يحكي أحدٌ منهم عمَّا يراه في باديته بين أهله وعشيرته.

إن المسألة معقَّدة جدًّا … ولا يجدي فيها غير الاتصال بالشياطين … بل بالزعيم نفسه … نعم … نعم … سأتصل برقم «صفر».

ومدَّ يده إلى جراب تليفونه المحمول … فوجده فارغًا … فانزعج بشدة … إنه لا يتذكَّر أنه تركه في مكان ما … فهل سقط منه … وهرول عائدًا إلى الخيمة.

وأثناء عبوره السور السلكي الشائك … علق السلك بملابسه … وجرح ساقه وسال دمه إلى حد النزف … فأكمل عبور السلك … ثم بوابة الخيمة الأخرى … والتي لم يدخلها … فوجد قتيلَين آخَرَين … فأخذته الحيرة والدهشة … وعاد مسرعًا إلى الخيمة الأولى يبحث عن تليفونه المحمول … إلا أن مفاجأة أخرى جعلَته يُهمل كل ذلك ولا يلتفت إلى ساقه التي تنزف … ذلك أنه لم يجد لا القتيل الأول … ولا الكلب … فهرول عائدًا إلى الخيمة الثانية … والتي رأى بها قتيلَين آخَرَين … علَّه يجد هذا القتيل بينهما.

وفي حذر … وتوتُّر … قام بفحص جثَّتَي القتيلَين … فلم يجده بينهما … فالملامح مختلفة … وموقع الرصاصة في كلِّ جثة مختلف … فأحدهما مضروب في ظهره والآخَر في ساقه وفي رأسه.

وفي غمرة دهشته … تذكَّرَ أن هناك خيمة لم يدخلها … وفي حذر شديد اقترب منها … وقبل أن يبلغها دوَّى صوت انفجار مُروِّع … هزَّ الأرض من تحت قدمَيه.

واشتعلت النيران في الخيمة الثالثة.

ولم تمضِ سوى لحظات … قبل أن ترتفع ألسنة اللهب عاليًا … لتزيد من دهشته وحيرته.

وقرَّر أن يتصل مرَّة أخرى بالمنظمة … وتذكَّرَ أن تليفونه المحمول ضائع وعليه أن يبحث عنه في الخيمة الأولى.

وتخلَّص بصعوبة من دهشته وهرول مسرعًا إلى الخيمة ليبحث عن تليفونه.

غير أن الانفجار الأول تكرَّرَ في نفس الخيمة!

وبسرعة شديدة … ابتعدَ عن الخيمة الثانية … وقد كان قريبًا منها جدًّا.

ولولا حُسن حظه … وصواب تفكيره.

ما عاد إلى الشياطين مرَّة أخرى.

فما حدث في الخيمتين … تكرَّرَ في نفس الخيمة … وتحوَّل المعسكر كله إلى سحابة دخان ترقص بداخلها ألسنة اللهب.

لم يترك تلاحق الأحداث فرصة ﻟ «عثمان» لكي يفكِّر … لذا … فقد خرج إلى الطريق يبحث عن وسيلة مواصلات تحمله إلى العريش … أو عائدًا إلى الإسماعيلية.

وبجوار الطريق … رأى جزع نخلة ضخمًا ممدَّدًا على الأرض … فجلس عليه يستجمع قواه … ويجمع شتات تفكيره … ويسترجع ما حدث حتى الآن.

وأثناء استغراقه في التفكير … ومضت له فكرة لم ينتبه لها من قبل.

وهي أن يتتبَّع آثار الجنزير الذي رآه في الموقع الذي سُرقت فيه السيارة.

وسأل نفسه إنْ كان يستطيع القيام بهذا وليس لديه إلا مسدسه الخاص … وكرته الجهنمية … وليس لديه وسيلة اتصال إلا ساعته.

ورأى أنه من الصواب أن يعود إلى الإسماعيلية، ويقوم بالاتصال بالمنظمة … ليحصل على تجهيزات أخرى … وسيارة يستطيع بها تتبُّع المجنزرة سارقة السيارة.

ويحل لغز ما حدث بمعسكر الكشافة.

وتذكر أن لديه ساعة يده … فضغط زرًّا وقرأ الآتي «أحمد» لقد ضاعت سيارتي وبها كل معداتي في منطقة بالوظة على الطريق الدولي … وفقدتُ تليفوني المحمول … ووقعَت حولي هنا حوادث قتل وانفجارات والبوليس في الطريق.

وما إن انتهى من إرسال الرسالة وإغلاق الساعة … حتى شعر بوخز في رسغه من ساعة يده … فضغط زرًّا بها وتلقَّى رسالة «أحمد» … والتي يقول له فيها: «إن كنت تتوقَّع حضور البوليس إلى موقع هذه الحوادث … فلا تبقَ فيه … وتحرَّكْ بسرعة … وانتظرني في نقطة مُميَّزة على الطريق وحدِّدها لي … فأنا في الطريق إليك.»

كان «عثمان» قد انتابته رعشة خفيفة من تأثير المجهود الذي بذله … وشعر بدوار وصداع شديد في رأسه … فهو لم يأكل شيئًا حتى الآن … ولم يبرأ بعدُ تمامًا من الإنفلونزا … ولم يستطع مغادرة مكانه … وهو يعرف أن البوليس في طريقه الآن لمنطقة الحادث بعد أن أبلغ به المقر.

ورغم كل ذلك تحامَلَ على نفسه ووقف رغمًا عنه … وسار ببطء مبتعدًا عن جزع الشجرة … وعن موقع الأحداث.

سار يلهث والعرق يتصبَّب منه … وأنفاسه تتلاحق.

وانتصفت الشمس في كبد السماء … واشتدت حرارتها.

وجفَّ حلق «عثمان» … والْتصقَ لسانه بفكِّه العلوي.

ولم يستطع أن يتمالك نفسه وهو يهوي ساقطًا … مغشيًّا عليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤