كش ملك

كانت «نوسة» هي التي بدأت الهواية التي شغلت الأصدقاء بعد ذلك شهورًا طويلة؛ هواية لعبة الشطرنج. فقد تابعت «نوسة» المباراة العالمية التي جرت بين «فيشر» الأمريكي و«سباسكي» الروسي في الجرائد، تلك المباراة التي استمرَّت أيامًا طويلة بين بطل العالم الرُّوسي ومتحدِّيه الأمريكي، واهتم بها العالم كله. وكانت «نوسة» — وهي أكثر المغامرين الخمسة حبًّا للقراءة — تتابع أخبار المباراة بشغف بدون أن يكون عندها معرفة بلعبة الشطرنج … فقررت أن تتعلم اللعبة لعلها تعرف كيف لعب البطلان الروسي والأمريكي … وكيف كانا ينقلان قطع الشطرنج في خطط محكمة في محاولة لأن يهزم أحدهما الآخر.

وأسرعت «نوسة» بشراء كتاب «كيف تتعلم الشطرنج»، ثم اشترت رقعة شطرنج ومعها القطع الخاصة بها … ولما كانت لعبة الشطرنج كباقي الألعاب تحتاج إلى شخصين أو أكثر ليلعباها، فقد حاولت أن تُشرك معها شقيقها «محب»، لكن «محب» الذي يحبُّ الحركة بطبيعته كان ضيق الصدر بالجلوس ساعات طويلة أمام الرقعة يُحاوِل أن يتعلَّم كيف يَنقل الحصان أو كيف يَستخدم الطابية استخدامًا صحيحًا … فلجأت «نوسة» إلى «تختخ» الذي رحَّب بالفكرة. وسرعان ما كان الأصدقاء الخمسة مُنهمِكين جميعًا في اللعب … كان اثنان منهم يلعبان في حين يقوم الثلاثة الباقون بالتشجيع … وكانت المباريات تأخذ طابعًا حماسيًّا، وبخاصَّة عندما تصلُ الأدوار إلى نهايتها … ويحاصر أحد اللاعبين الملك … وهو القطعة التي يحاول كلٌّ من الطرفَين القضاء عليها، أو بتعبير اللاعبين … يأكله … فيُنهي المباراة لمصلحته.

كانت الأصوات تَرتفِع … انقل الفيل … هنا … اهجم بالوزير … هات العسكري هنا … وكان «تختخ» يصيح: أرجوكم … إن لعبة الشطرنج أكثر لعبة تحتاج إلى الهدوء وتركيز الذهن … وبهذا الصياح لن نستطيع إتقان اللعبة!

ولكن اعتراض «تختخ» كان يذهب سُدًى … فقد كانت الصيحات ترتفع والتشجيع يستمر ويضيع صوته في الأصوات المتصارعة.

وشيئًا فشيئًا تحولت لقاءات الأصدقاء في أثناء الإجازة إلى مباريات في الشطرنج؛ فقد أحبها الجميع وتحمَّسوا لها، ولا سيما بعد أن عرفوا أنها تساعد على تركيز الذهن وبُعد النظر؛ لأن كل لعبة فيها تؤدي إلى آثار بعيدة في المباراة أكثر من أي لعبة أخرى.

وذات يوم قرر الأصدقاء أن ينسَوا لعبة الشطرنج، ويخرجوا إلى النزهة في مكان بعيد … فاستيقظوا مبكرين، وركبوا دراجاتهم، وأخذوا «زنجر» معهم، ثم انطلقوا إلى حلوان …

كانت الساعة التاسعة عندما وصلوا إلى الحديقة اليابانية، فوضعوا دراجاتهم جانبًا، ثم أخذوا يجرُون ويقفزون هنا وهناك … وبعد أن استمتعوا باللعب جلسوا في الحديقة الهادئة يتحدثون … وقالت «لوزة» ضاحكة: لو كان معنا رقعة الشطرنج للعبنا دورًا الآن!

ولم تكد «لوزة» تنتهي من جملتها حتى كانت في انتظارهم مُفاجأة، فقد فتحت «نوسة» حقيبتها وأخرجت رقعة الشطرنج … وصفَّق الأصدقاء مسرورين وهم يُحيُّون «نوسة»، وسرعان ما اجتمعوا حول الرقعة يتابعون مباراة حامية بين «نوسة» و«عاطف».

كان «عاطف» المَرِح يحب اللعب بطريقة هجومية … يتبعها بسيل من الكلمات اللاذعة: لقد وقعتِ يا «نوسة» … لا داعيَ للمقاومة … لقد سقطَت القلعة، وسيموت الملك!

كانت «نوسة» هادئة الأعصاب لا تؤثر فيها كلمات «عاطف» الذي يحاول أن يجعلها ترتبك وتفقد الثقة بنفسها … أو كما يقولون كان «عاطف» يشنُّ على «نوسة» نوعًا من الحرب النفسية، وهي الحرب التي تُحاول التأثير في عزيمة الخصم وتُزعزع ثقته بنفسه … كانت «نوسة» صامدة تحرك قطعها بحساب … وتفكر عشر مرات قبل أن تأخذ قرارًا في اللعب … فكان هدوءُها يثير «عاطف» فيزيد من هجومه.

انشغل الأصدقاء الخمسة باللعب … ووقف «زنجر» معهم يتطلَّع إلى ما يجري أمامه في حسرة … كيف يترك الأصدقاء الجري والقفز إلى هذه الرقعة المقسَّمة إلى مربعات والتي لا يفهم هو فيها شيئًا؟!

كان الأصدقاء مُستغرقين تمامًا في اللعب، فلم يَلتفتُوا إلى رجل كان يجلس غير بعيد عنهم يرقبهم في صمت.

كان متوسط العمر … طويلًا، مفتول العضلات … يرتدي ثيابًا أنيقة مكوَّنة من قميص أزرق مرفوع الأكمام، وبنطلون رمادي، وفي رجليه حذاء خفيف … ويمسك بيده عصا، وعلى عينيه نظارة شمس … ويضع بين أسنانه «بايب» يدخنها باستمرار.

ظلَّ الغريب يرقب الأصدقاء ويستمع إليهم … حتى إذا احتدم النقاش بينهم قام في هدوء ثم اقترب منهم حتى وقف بجوارهم بدون أن يشعروا به وأخذ يُراقِب اللعب.

كان هناك خلاف بين «نوسة» و«عاطف» حول حركة فنية قام بها «عاطف» بالوزير — وهو أهم قطعة في الشطرنج — وأصبح الوزير محصورًا، وتستطيع «نوسة» أن تأكلَه … و«عاطف» ثائر يريد أن يتراجع في الحركة التي قام بها … وبينما هما كذلك والأصدقاء بين مؤيد ومعارض ﻟ «عاطف» امتدت يد الرجل الغريب وحركت الوزير حركة أبعدته عن الخطر!

وذهل الأصدقاء لحظات، ثم رفعوا وجوههم إلى صاحب اليد التي امتدَّت وأنقذَتِ الوزير، وشاهدوا الرجل الأنيق يبتسم قائلًا: لقد كان من السهل إنقاذ الوزير بدون خناقة!

كانت الحركة التي قام بها بارعة حقًّا أدهشت الأصدقاء، فلما تحدَّث إليهم زاد إعجابهم بصوته القوي فقال: معذرة لتدخُّلي … ولكني مثلكم من هواة الشطرنج … ولكني للأسف لا أمارس اللعب الآن.

وأفسح له الأصدقاء مكانًا، وقال «تختخ»: تفضَّل بالجلوس معنا … إننا ما زلنا نتعلم اللعب، ويسرنا حقًّا أن نلتقي بمن يجيد اللعب مثلك … التفت الرجل حوله ثم جلس قائلًا: إن لعبة الشطرنج من أمتع الألعاب المُسلية … وهي اللعبة الوحيدة التي لا تَعتمِد على الحظ … إنها تعتمد على مهارة اللاعب وقدرته على أن يحسب نتائج كل لعبة مقدمًا … وبعض اللاعبين يستطيع أن يحسب خمس أو ستَّ لعبات مقدمًا … فكلُّ لعبة في الشطرنج لا بد أن ترتبط بما قبلها وبما بعدها.

قال «تختخ»: نُعرفك بأنفسنا أولًا … هذه «لوزة» وشقيقها «عاطف»، وهذه «نوسة» وشقيقها «محب»، ثم أنا «توفيق» وهذا صديقنا الكلب «زنجر»!

قال الغريب وهو يُحيِّيهم واحدًا واحدًا: وأنا «مراد»!

تختخ: إننا نسكن في المعادي … ونُسمِّي أنفسنا المغامرين الخمسة، ونحب الألغاز وكشف الأسرار.

لم يردَّ الغريب لحظات، ثم قال: من المُدهش أنَّنا نسكُن في الحي نفسه؛ فأنا أيضًا أسكن المعادي.

لوزة: مدهش جدًّا … سوف نُصبح جميعًا تلاميذك في لعبة الشطرنج!

مراد: إنَّ هذا يُسعدني جدًّا … فمن فترة طويلة لم يَعُد لي أصدقاء!

نطَقَ الغريب بهذه الجملة، وبدا كأنه ندم عليها، فعاد يقول مُسرعًا: أقصد أنني أعيش وحيدًا أغلب الوقت!

تختخ: هل تسكن في المعادي منذ فترة طويلة؟

مراد: لقد سكنتُ فيها منذ ثلاثين عامًا … ثم غبتُ عنها فترة، وعدتُ أسكن فيها مرة أخرى بعد أن اشتريتُ فيلا صغيرة أقيم فيها، وعندي حديقة واسعة أهتمُّ بزراعتها؛ فأنا من هواة زرع الحدائق، وهي هوايتي الثانية بعد لعب الشطرنج!

نوسة: وهل تعلَّمت الشطرنج وأنت صغير؟

مراد: نعم … ولكني أجدته في مكان … وصمت الغريب مرةً أخرى، ثم عاد يقول: أُتيحت لي فرصة أن أنفرد بنفسي فترة طويلة حيث قضيت أغلب وقتي ألعب مع نفسي!

عاطف: تلعب مع نفسك؟!

مراد: هذا ممكن في الشطرنج؛ ففي إمكانك أن تلعب لعبة بالأبيض ثم ترد عليها لعبة بالأسود!

عاطف: معنى هذا أن يهزم الإنسان نفسه!

مراد: أو ينتصر على نفسه.

نوسة: إنَّ هذا أشبه بحوار الفلاسفة!

مراد: تعالَوا نَعُد إلى لعبة الشطرنج، ونرى ماذا تفعلون وكيف تلعبون …

وانهمك الأصدقاء مرةً أخرى في اللعب، وجلس «مراد» يتفرَّج وهو يوجههم، ويعرف نهاية المباراة متى تأتي وكيف، ويشرح لهم أسرار اللعبة. كان ماهرًا جدًّا … يُجيد النقلات ويستنتج.

وفجأة رآه الأصدقاء ينظر بعيدًا … ثم يقوم مسرعًا فيسحب عصاه ويُودِّعُهم في كلمات سريعة مضطربة، ويغادرهم ويختفي كأنه شبح لم يعد له وجود.

أخذ الأصدقاء يتلفتون حولهم بدون أن يجدوا أثرًا للرجل … وكان أول من أفاق من دهشته «محب» الذي قال: أين هو؟ شيء غريب!

قال «عاطف»: إنه لم يكن موجودًا … لقد كان مجرَّد حلم!

تختخ: هل لاحظتم نظراته؟ … لقد كان ينظر بعيدًا بين فترة وأخرى كأنه ينتظر أحدًا!

نوسة: أو يخشى أحدًا!

تختخ: بالضبط لقد كان مضطربًا جدًّا وهو يغادرنا!

لوزة: إنه رجل لطيف حقًّا … ولا أدري لماذا بدا خائفًا هكذا!

نوسة: من المؤسف أننا لم نأخذ عنوانه حتى نزوره … لقد شغلَنا الحديث في اللعب عن سؤاله! وسكت الأصدقاء. وكلٌّ منهم يفكر في الرجل الغريب! كيف حضر؟ … كيف اختفى؟ … وشيئًا فشيئًا عادوا إلى اللعب … ونسوا ما حدث … وعندما جاء موعد الغداء أخرَجُوا «الساندوتشات» التي أعدوها. وانهمكوا في الأكل وهم يتبادلون الأحاديث والضحكات … وعندما بدأت الشمس تميل إلى الغروب أخذوا يجمعون حاجياتهم استعدادًا للرحيل. وعندما كانت «نوسة» تميل على الأرض لتأخذ بعض أشيائها شاهدت منديلًا أبيض مُلقًى تحت أحد المقاعد … وعندما أمسكته ونظرت فيه بدا غريبًا عليها، ولكنها عرضته على كل الأصدقاء، فقالوا إنه لا يخصُّهم … وفردت «نوسة» المنديل وشاهدت عليه حرفين مطرزين باللون الأزرق «م. ش»، وتذكَّرَت الرجل الغريب … كان اسمه «مراد» ولا شك أن هذا منديله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤