البحث عن «م. ش»

عندما اجتمع الأصدقاء في صباح اليوم التالي في حديقة «عاطف» كالمُعتاد، كان عندهم عمل ظريف، وهو البحث عن «مراد» أو «م. ش»؛ فقد وافقوا جميعًا على صحة استنتاج «نوسة» بأن المنديل يخصُّ «مراد»، وأنه أحسن وسيلة للبحث عنه في المعادي الواسعة.

قال «عاطف» معلقًا: إن حرفَي «م. ش» معناهما «مش»، وهو طعام لذيذ موجود في البلاليص … فتعالَوا: نبحث عن «مراد» هذا في بلاص، وسوف نجدُه.

هزَّت «لوزة» شقيقتُه رأسها قائلة: إنك أحسن واحد يُجيد القفز بيننا، وعليك بالقفز داخل بلاص المشِّ للبحث عنه … فاذهب أنت إلى هذه المغامرة!

نوسة: لا داعي لإضاعة الوقت في تبادُل الكلمات، وتعالَوا نفكر كيف نعثر على رجل نعرف اسمه، ونعرف شكله … ولا نعرف مكانه.

محب: هناك الوسائل العادية للبحث عنه … دليل التليفونات … وسؤال قسم الشرطة والبوابين والكناسين وغيرهم ممن تتَّصل أعمالهم بحياة الناس.

تختخ: ألا نسأل أنفسنا أولًا لماذا نبحث عنه؟!

لوزة: لأن خلفه لغزًا!

تختخ: أي لغز؟

لوزة: لغز أنه اختفى فجأة كما ظهر فجأة!

تختخ: أليس حرًّا في أن يظهر ويختفي كما يشاء؟

لوزة: مع غيرنا … أما معنا فلا بد أن يظهر بسبب ويختفي بسبب، وقد عرفنا لماذا ظهر، وبقي أن نعرف لماذا اختفى!

محب: وهذا على كل حالة تَسلية ظريفة، بالإضافة إلى أنه لاعب ماهر في الشطرنج نريد أن نتَتلمذ عليه!

هز «تختخ» رأسه قائلًا: لا بأس، فلنبحث عنه … هاتي يا «لوزة» دليل التليفون، لنبحث عن اسمه!

عاطف: إننا لا نعرف سوى نصف اسمه!

تختخ: لقد بحثْنا قبل الآن عن أشخاص لا نعرف أسماءهم ولا أشكالهم. وهذه المرة عندنا نصف اسم، وحرف من النصف الآخر، وشكل الشخص، فإذا لم نَصِل إليه فلنُسمِّ أنفسنا الأغبياء الخمسة لا المغامرين الخمسة!

وجاءت «لوزة» بدفتر التليفونات، وبدءوا يبحثون. كان هناك ١٢٥ مشتركًا في الدليل اسمهم «مراد»، ٤ منهم فقط من سكان المعادي … وليس بين الأربعة مَن اسمه الثاني يبدأ بحرف الشين.

استطاع الأصدقاء في دقائق قليلة الحصول على هذه المعلومات من دفتر التليفون … وصاح «محب» قائلًا: هل معنى ذلك أن «مراد» ش هذا ليس عنده تليفون؟

قال «تختخ»: هناك عدة احتمالات … أولًا ألا يكون عنده تليفون فعلًا … ثانيًا أن يكون اسمه مكونًا من ثلاثة أسماء … الثاني أو الثالث فيها أوله حرف «ش»، وهذا ليس موجودًا في الدليل، ثالثًا أن يكون التليفون ليس باسمه ولكن باسم الإنسان الذي يسكن عنده.

قالت «نوسة»: ولكنه قال لنا إنه اشترى فيلا … معنى هذا أن التليفون الذي عنده يحمل اسمه.

عاطف: هناك احتمال رابع أن يكون رقم تليفونه سريًّا؛ فبعض الناس يرفضون أن يظهر اسمهم في دليل التليفونات ويطلُبون أن تكون أرقامهم سرية!

محب: وقد يكون اشترى الفيلا من فترة قريبة وبها التليفون، ولم يُنقَل التليفون إلى اسمه بعد!

لوزة: ومن المُمكِن أن يكون قد أدخل التليفون قريبًا ولم يُسجَّل اسمه في دليل التليفونات بعد!

تختخ: لقد دخلنا في مَتاهة. فهذه ستة احتمالات، وربما كانت هناك احتمالات أخرى غابت عنَّا!

محب: وهناك احتمالٌ قوي لم يخطر على بالنا، هو ألا يكون اسمه «مراد» على الإطلاق، كأن يكون مُختفيًا تحت اسمٍ مُستعار لأسباب لا نعرفها!

تختخ: هذا احتمال قائم فعلًا، ولا سيما أنه كان يبدو مذعورًا وخائفًا، ولعلَّه لهذا السبب يُخفي اسمه الحقيقي!

صفَّقَت «لوزة» قائلة: ألم أقُل لكم إنه لغز … لقد أصبح لغزًا في عشر دقائق فقط من البحث!

محب: الواقع أنه لغز مدهش … وقد أصبح علينا كمغامرين أن نجده!

تختخ: إذا لم يكن دليل التليفونات كافيًا للبحث عنه … فمن أين نبدأ المرحلة الثانية؟

عاطف: نسأل الشاويش «فرقع»!

نوسة: إنك تريد أن تُعقِّد اللغز لا أن تحلَّه، فإنَّنا إذا سألنا الشاويش فسوف يتصوَّر أن هناك جريمة، وأننا سنصلُ إلى حلِّها قبله، فيطاردنا، وتصبح مهمتنا الهرب منه لا الاستعانة به.

تختخ: مرةً أخرى … من أين نبدأ؟

عاطف: عندنا قدر من المعلومات لا بأس به؛ فهناك «مراد» طويل القامة أشيب الشعر، أنيق، يَحمِل عصًا، ويُدخِّن «البايب»، ويُجيد لعب الشطرنج، وهو يَسكُن فيلا صغيرة تُحيط بها حديقة كبيرة يعتني بها بنفسه … وهو فوق كل هذا يَسكُن في المعادي … أليس هذا كافيًا للعثور عليه؟

لوزة: هذه أول مرة نتحدَّث فيها حديثًا معقولًا ومُفيدًا!

تختخ: هيا بنا!

وكأنَّما عرف «زنجر» — الذي كان يجلس طول الوقت مُتضايقًا من الحديث الذي لا ينتهي — أنهم سيجرُون، فأخذ يَقفِز على ركبتَي «تختخ» كأن يقول له: لا تَترُكني! فقال: إنَّ عندنا أحسن طريقة للبحث عن «مراد»؛ فعندنا منديلٌ يحمل رائحة الرجل، وعندنا أنف «زنجر»!

صاح الأصدقاء: يا لنا من أغبياء! كيف لم نُفكِّر في هذه الخطوة من قبل؟!

تختخ: على كل حال … إنها ليست مؤكَّدة المفعول، ولكنَّنا سنُحاول!

وانطلق الأصدقاء على دراجاتهم كلٌّ في طريقه، وقد اتفقوا جميعًا على اللقاء بعد ساعتين في المكان نفسه. وأخذ «تختخ» «زنجر» في السلة التي خلف دراجته، وانطلق مبتعدًا عن قلب المعادي المزدحم قائلًا لنفسه: إنَّ هذا الرجل الذي يُفضِّل أن يعيش وحيدًا بعيدًا عن الناس وبلا أصدقاء لا بد أن يختار مكانًا بعيدًا عن الزحام … فلنبحث بعيدًا …

وهكذا أخذ الطريق المؤدي إلى منطقة دجلة في المعادي، وهي منطقة بعيدة ساكنة.

كانت عيناه تبحثان عن الفيلا التي يتصوَّرها، وكلما عثر على فيلا شبيهة بما يتوقَّع أخرج المنديل الذي أخذه من «نوسة» وقرَّبه من أنف «زنجر» وأطلقه يجري … ولكن «زنجر» كان يدور حول نفسه ويجري هنا وهناك ثم يعود بدون أن يُحاول دخول الفيلا أو النباح.

بينما كان «تختخ» و«زنجر» يلفان ويدوران، كان بقية الأصدقاء قد اختار كل منهم طريقًا مختلفًا … كان «محب» مهتمًّا بسؤال أصحاب المحلات الصغيرة وباعة المثلَّجات والصحف، وكان يتذكر «لغز اللص الشبح»، وكيف عثروا على بعض الأدلة الهامة عند بائع مياه غازية.

أما «عاطف» فكان يبحث بطريقة مختلفة، كان يَنظُر إلى اللافتات الموجودة على أكثر الفيلات في المعادي باحثًا عن فيلا باسم «مراد» أو حتى فيلا الشطرنج، فلماذا لا يُسمِّي الفيلا التي يملكها فيلا الشطرنج أو فيلا الحصان أو الفيل أو الطابية؟! كان له تصوُّر ساخر حول هذا البحث … فما دام هذا الرجل يحب الشطرنج فلماذا لا يُسمي الفيلا التي يملكها بأحد أسماء قطع الشطرنج؟!

«نوسة» … و«لوزة» سارَتا معًا … كانت «نوسة» المتفائلة الخيالية تفكر أنها ستجد الرجل فجأة أمامها … ستجده يقف في حديقة الفيلا يَروي الزرع، وسوف تُشير له ويشير لها، ثم يدعوها إلى الدخول … لم تكن تبحث عن الفيلا، كانت تبحث عن الحديقة.

«لوزة» كانت تفكر بأسلوب مُختلِف … كانت تدير في رأسها كل الاستنتاجات والمعلومات والأدلة التي حصلوا عليها، وتحاول أن تصل إلى استنتاج محدد عن شخص «مراد»، استنتاج يؤدي بها إلى مكانه بدون بحث. كان كل واحد من الأصدقاء يفكر على طريقته … وكلٌّ منهم يتصور أنه سيصل إلى «مراد» أولًا.

فجأةً وجد «تختخ» نفسه أمام فيلا قديمة أوحت إليه بشيء غريب … كانت تشبه قلعة من قلاع القرون الوسطى، أو طابية من الطوابي القديمة التي كانت تُقام على سواحل البحار للدفاع عن الموانئ …

أوقف «تختخ» دراجته، ووقف من بعيد يتأمَّل الفيلا … كانت صغيرة مستديرة تتسع قاعدتها من أسفل وتضيق كلما ارتفعت … وفي آخرها سور متفرِّع يُشبه سور القلعة أو الطابية … وتذكر «تختخ» الشطرنج … بدت هذه الفيلا وكأنها قطعة من الشطرنج، وخفق قلبه، ثم أخرج المنديل ودفعه إلى أنف «زنجر» الذي جذب نفسًا عميقًا ثم انطلق حيث أشار له «تختخ».

وتقدم «تختخ» ببطء مقتربًا من الفيلا … وشيئًا فشيئًا بدت حديقتها الواسعة وتقدم «تختخ» أكثر فأكثر … وكانت مُفاجأةً كاملة له أن شاهد أغرب حديقة رآها في حياته … كانت الحديقة واسعة مربَّعة، وقد تكونت أرضيتها من نوعين من الحشائش … حشيش «الجازون» الأخضر الغامق … والحشيش العادي الأخضر الفاتح … ولم يكن هذا كل شيء … كانت أرض الحديقة قد قُسِّمت إلى مربعات مُتساوية. كل مربع غامق بجواره مربع فاتح … تمامًا … تمامًا مثل رقعة الشطرنج.

وعندما عاد «زنجر» نابحًا يجري بين «تختخ» وسور الفيلا لم يَعُد هناك مجال للشكِّ في أنه قد عثَر على فيلا «م. ش» الرجل الغريب الطويل القامة، الرياضي، ذي العصا الأنيقة و«البايب» الذي لا يُغادِر فمه … لاعب الشطرنج الماهر!

وقف «تختخ» يفكر فيما يفعل … واستند على سور الحديقة، وأخذ يتأملها وهي منبسطة خلف الأشجار العالية المحيطة بالسور، والتي تُخفي الحديقة عن الأعين … وتضاعفت دهشته عندما شاهد كيف زُرعت الأشجار في داخل الحديقة، أشجار الورد والليمون والخوخ … كانت كل شجرة تقف في مكان قطعة من قطع الشطرنج … ثماني أشجار في صف من نوع واحد تُشبه عساكر الشطرنج … خلفها ثماني أشجار أخرى مثل بقية القِطَع … طابية … فيل … حصان … ملك … وزير … ثم حصان وفيل وطابية مرة أخرى … رقعة شطرنج كاملة في حديقة رائعة … ووقف «تختخ» مذهولًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤