الشيء الغامض

اتجه «تختخ» إلى الباب الكبير في سور الفيلا … كان بابًا من الخشب المصفَّح بالحديد … يشبه أبواب القلاع، وأخذ يبحث عن الجرس، ولكنه لم يجد سوى مطرقة من النحاس، وأدرك أنها تقوم مقام الجرس، فرفعها ثم تركها تنزل. وكم كانت دهشته حينما وجدها تنزل ببطء فلا تُحدِث أيَّ صوت. وخُيِّل إليه أنه يسمع جرسًا يدقُّ من بعيد … ولم يمضِ سوى ثوانٍ حتى ظهر عملاق أسود مُقبِل من بعيد تقفز حوله مجموعة من الكلاب الضخمة الشرسة، فوقف «تختخ» مذهولًا ليرى تطورات الأحداث.

وصل العملاق الأسود إلى الباب، والكلاب حوله، ثم نظر إلى «تختخ» نظرة نافذة وقال: ماذا تريد؟ قال «تختخ» بثبات: أريد مقابلة الأستاذ «مراد»!

العملاق: اسمك؟

تختخ: توفيق!

دخل العملاق «كشكًا» بجوار الباب، وأخذت الكلاب تَنبح، ووقف «زنجر» يبادلها النباح، وبرغم شجاعة الكلب الأسود فإنه أدرك أن هذه الوحوش إذا انطلقت عليه، فسوف تكون معركة رهيبة تنتهي بهزيمته … لهذا كان ينبح ثم يتراجع. وأدرك «تختخ» المحنة التي فيها كلبه العزيز، فأخذ يربت على ظهره لتهدئته.

عاد العملاق بعد لحظات ووضع مفتاحًا في الباب وأداره، ثم فتح مجموعة من الأقفال من الداخل وقال ﻟ «تختخ»: تفضَّل … الأستاذ «مراد» في انتظارك!

نظر «تختخ» إلى الكلاب الشرسة التي كانت تقفز لتَخرُج، وفهِم العملاق معنى نظرته، فصاح بالكلاب صيحة عالية آمرًا إياها بالعودة إلى أماكنها … وكم كانت دهشة «تختخ» حينما رأى الكلاب تُرخي ذيولها وتعود تعوي جارية إلى حيث أتَت، ودخل «تختخ» وخلفه «زنجر» يقدم رجلًا ويُؤخِّر أخرى … قال العملاق: اتبَعني.

مشى «تختخ» خلف العملاق ينظر حوله إلى ما حوَتْه الفيلا من بدائع ونفائس، وكان يلمح بين نظرة وأخرى أنها مُحصَّنة جيدًا، وكأنها أُعدَّت فعلًا كقلعة تحمي من يسكنها.

بعد أن سارا في عدة دهاليز ضيِّقة مفروشة بالسجاد الفاخر، وصلا إلى غرفة مغلقة، ومد العملاق يده وفتح الباب وقال ﻟ «تختخ»: تفضل! …

ودخل «تختخ» وخلفه «زنجر» إلى غرفة واسعة، جدرانها من الزجاج الملوَّن بعشرات الألوان. وقد تسلَّلتْ منه أشعة الشمس، فصنعت من جو الغرفة مهرجانًا من الألوان المتداخلة.

في طرف الغرفة الواسعة، وعلى كرسيٍّ كبير، كان يجلس الأستاذ «مراد» وسمع «تختخ» صوته يقول: تفضَّل … لقد كنتم عند حسن ظني بكم!

تقدَّم «تختخ» بعد أن طلب من «زنجر» أن يبقى بعيدًا، ووصل إلى مكان «مراد» الذي سلم عليه وهو جالس قائلًا: معذرة فإنني لا أستطيع أن أقف! … وتطلَّع «تختخ» إلى وجهه، كان شاحبًا ومُتعَبًا … وكانت ذراعه اليسرى مربوطة بالشاش … وبدا كل شيء ﻟ «تختخ» عجيبًا وخياليًّا، ولا سيما كلمات «مراد»: لقد كنتم عند حسن ظني … وإنني لا أستطيع أن أقف … ماذا يقصد؟! ولماذا هو شاحب إلى هذا الحد؟!

أشار «مراد» إلى مقعد أمامه، فجلس «تختخ»، ولاحَظَ أن هناك «طاولة» صغيرة أنيقة عليها رقعة شطرنج، وأن قطع الشطرنج مصنوعة من العاج ومطعَّمة بالفضَّة اللامعة … كانت تحفة لا مثيل لها؛ وأخذ يتأمَّلُها لحظات، ثم سمع صوت «مراد» يقول: مرحبًا!

عاد «تختخ» إلى نفسه وقال: لقد جئت أردُّ إليك المنديل الذي سقط منك!

ابتسم مراد وقال: إنه لم يَسقُط مني … لقد أسقطته عامدًا!

وهمس «تختخ» قائلًا: أسقطته؟! شيء غريب!

مراد: أعترف لك أنني لم أَحضُر إلى حلوان مصادَفة، ولم أقابلكم مصادفة … ولم يسقط مني المنديل مصادفة، لقد فعلتُ كل هذا عامدًا متعمدًا!

تختخ: غير معقول!

مراد: لماذا؟ لقد سمعت عن مغامراتكم، فأردتُ أن أَختبِر ذكاءكم، وقد كنتم عند حسن ظني بكم … فاشرح لي كيف وصلت إلى هنا؟

روى «تختخ» ﻟ «مراد» تفاصيل الأحداث التي مروا بها منذ غادرهم، والاستنتاجات التي وصلوا إليها، والخطط التي وضعوها للبحث عنه، وكيف وصل إليه. فهز «مراد» رأسه إعجابًا وقال: إنكم أكثر ذكاءً مما تصورت.

تختخ: لقد سألتني، وجاء الأوان لأسألك أنا!

مراد: عن أيِّ شيء؟

تختخ: أولًا عن سبب شُحوبك والإصابة التي في ذراعك، لقد غادرتنا أمس وأنت أوفر ما تكون صحة، فماذا حدث؟

فكَّر «مراد» قليلًا ثم قال: لا شيء … لقد أُصبت في حادث سيارة بعد أن تركتكم مباشرة، والحمد لله أنني ما زلت حيًّا!

أحس «تختخ» أن «مراد» لم يَقُل الحقيقة، ولكنه بالطبع لم يكُن يستطيع تكذيبه فسأله: ماذا تعني بقولك إنَّنا كنا عند حسن ظنك بنا؟

مراد: لقد سمعتُ عنكم منذ فترة، وعرفت أنكم مغامرون شُرَفاء تقومون بالمساعدة على تحقيق العدالة ونصرة المظلومين … فقررت أن أختبر ذكاءكم، لأنني أحب الأذكياء، ولما كنت بلا أصدقاء تقريبًا، فقد قررتُ أن أختاركم كأصدقاء، وبخاصة أنكم من هواة الشطرنج مثلي!

تختخ: ولماذا غادرتنا أمس فجأة؟

مراد: لا داعيَ لهذا السؤال الآن … أو لا داعيَ للإجابة عنه، وسوف تَعرفُون كل شيء في حينه، فهناك أشياء كثيرة أحب أن أشارككم فيها، ولكن الوقت لم يَحِن بعد … والآن أين بقية الأصدقاء؟ نظر «تختخ» في ساعته ثم قال: لقد اتفقنا على أن نَلتقي بعد ساعتين في حديقة منزل «عاطف»، كما اعتدنا أن نتقابل، وقد مضت ساعة وربع ساعة منذ افترقنا؛ فبعد ثلاثة أرباع الساعة سوف نتجمَّع مرة أخرى!

مراد: معنى هذا أنهم الآن ما زالوا يبحثون عني!

تختخ: نعم!

مراد: دعهم يبحثون لنرى من الذي سيَصلُ إلى مكاني غيرك!

تختخ: لقد كنتُ حسَن الحظ لأني وجدتُك، ولستُ أعتقد أن أحدًا منهم سيصل! … ولكن «تختخ» لم يَكَد ينتهي من جملته حتى سمعوا جرس الباب يدقُّ … كان جرسًا موسيقيًّا رقيقًا … ثم سمع «تختخ» بعد لحظات صوت تليفون هادئ يدقُّ بجوار «مراد» الذي رفع السماعة ثم تحدث ووضع السماعة وهو يبتسم قائلًا: «تختخ» … واحدة من المغامرين وصلت! هزَّ «تختخ» رأسه قائلًا: لا بد أنها «لوزة»!

وبعد لحظات سمعوا صوت الباب يُفتح وظهرت «لوزة» في الباب، فابتسم لها «تختخ» قائلًا: كيف وصلتِ؟ كانت «لوزة» مُتسارعة الأنفاس، وقد احمر وجهها من الحر والانفعال، وبعد أن سلمت على «مراد» جلست وشرحت لهما كيف وصلتْ … لقد توصَّلتْ إلى نفْسِ الاستنتاجات التي توصل إليها «تختخ»، وهكذا قادت دراجتها إلى أطراف المعادي حيث وجدت الفيلا، ولاحظت شكلها الذي يشبه الطابية … وأدركت أنها ستجد «مراد» في هذه الفيلا.

قال «مراد» مبتسمًا: إنني مُعجَب بكما جدًّا … وسوف تكون في انتظاركم في المستقبل ألغاز أخرى أكثر غموضًا … ولكن مهما حدث فلا تُبلِّغوا رجال الشرطة!

تختخ: ألغاز؟! أي ألغاز؟

مراد: لا داعي لاستباق الحوادث … سيأتي كل شيء في حينه … وقد لا يأتي … من الذي يعلم؟!

قضى «تختخ» و«لوزة» وقتًا جميلًا مع «مراد» وشاهَدا بعض أنحاء الفيلا العجيبة، واتفقا مع «مراد» على أن يحضر الأصدقاء في اليوم التالي لزيارة الفيلا، وأن يستمعوا من «مراد» إلى بعض خطط لعب الشطرنج المهمة التي يعرفها كبار اللاعبين.

وفي مساء اليوم التالي كان الأصدقاء الخمسة في طريقهم إلى الفيلا، وهم جميعًا في غاية الابتهاج والتشوُّق للقاء هذا الرجل الغريب … وبخاصَّة بعد أن عرَفوا أنه كان يتْبعهم وأن لقاءَهم به لم يكن مصادفة كما تصوروا.

وصلوا إلى الفيلا في الموعد المتفق عليه … وكانت الشمس قد مالت للمغيب، والشوارع قد أضيئت … ومع ذلك لم يكن في الفيلا فرد واحد … واقتربوا حتى أصبحوا بجوار السور، وأخذوا ينظرون خلال الحديقة العجيبة، ولكن لم يكن هناك أثر للحياة فيها … ومد «محب» يده وضغط الجرس … وانتظروا، لكنَّ أحدًا لم يظهر … ومضت فترة … ومرة أخرى ضغط «محب» الجرس … ومضت فترة أطول ولم يرد أحد … ونظر الأصدقاء بعضهم إلى بعض … وبدا واضحًا في وجوههم أن شيئًا غير عادي قد حدث … هل خرج الأستاذ «مراد»؟! وإن كان قد خرج فأين العملاق الأسود الذي رآه «تختخ» و«لوزة»؟ … وأين الكلاب الضَّخمة؟ وهل من المُمكِن أن يخرج ويُخلِف موعده معهم؟ وإذا لم يكن قد خرج فلماذا لا يرد؟! لماذا لا يرَون أثرًا للحياة في الفيلا؟!

ومضت فترة ودقوا الجرس مرة ثالثة، ولما لم يرُد أحد، ركبوا دراجاتِهم مرة أخرى، وطلب منهم «تختخ» أن يدُوروا حول الفيلا دورة، أخذوا يتأملون خلالها الحديقة والفيلا، ثم اتجهوا إلى منزل «عاطف» حيث اعتادوا الاجتماع … وعندما جلسُوا ظلوا صامتين فترة، ثم قالت «لوزة»: هناك شيء غامض لا أعرفه قد حدث! ما الذي حدث في تصوركم؟

ردت «نوسة»: نحن لا ندري، لعلَّكِ أنت و«تختخ» أكثر معرفة بما يمكن أن يحدث للأستاذ «مراد»!

قال «تختخ»: كانت آخر كلماته لنا أن هناك مزيدًا من الألغاز في انتظارنا، ولكنه لم يفصح عن ماهية هذه الألغاز!

عاطف: لقد جاء اللغز أسرع مما نتصوَّر … هذا إذا كان لغزًا حقيقيًّا ولم يكن هذا الرجل يلعب بنا!

تختخ: سأعرف الليلة … أو سأحاول أن أعرف!

محب: كيف؟

تختخ: سأدخل فيلا الأستاذ «مراد» هذه الليلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤