ملك الشطرنج

في الحادية عشرة ليلًا دخل «تختخ» غرفة العمليات وبدأ عملية تنكُّر … وقد قرر أن يتنكر في شكل ولد متشرِّد، ولبس ملابس داكنة اللون، وأخذ بطاريته الصغيرة، وقرَّر أن يذهب إلى فيلا الأستاذ «مراد» سيرًا على الأقدام.

في مُنتصَف الليل تمامًا كان «تختخ» يَفتح نافذة غرفته، وعن طريق شجرة التوت نزل إلى الأرض بعد أن أغلق النافذة من الخارج إغلاقًا خفيفًا.

كانت الشوارع قد بدأت تخلو من المارة … و«تختخ» يقطع الطريق وحيدًا بدون أن يصحب معه «زنجر». وبعد نحو ساعة كان قد أشرف على فيلا الأستاذ «مراد». دار حولها دورة واسعة يبحث عن أفضل مكان ينفذ منه إليها … كان هناك أكثر من مكان صالح لتسلق السور … واختار مكانًا خلف الفيلا حيث يقل ضوء الشارع، وانتظر قليلًا حتى تأكد أن لا أحدَ هناك، ثم تسلق شجرة بجوار السور وعن طريق أغصانها تجاوز السور، ونزل إلى أرض الحديقة على الأعشاب الطرية، وجلس قليلًا بجوار شجرة يلتقط أنفاسه … وكانت إحدى الأشجار التي يتكوَّن منها الصف الثاني للشطرنج … هذا الشطرنج العجيب المكوَّن من الأشجار … وبعد أن هدأت أنفاسه بدأ يتحرك في اتجاه الفيلا … وكلما اقترب خُيِّل إليه أنه يرى أضواء تلمع داخلها … ولكنه ظنَّ أنه واهم … فربما كانت أضواء السيارات المارة من بعيد تنعكس على زجاج الفيلا … وظل يَقترب … وبدت له الأضواء المتحركة في الداخل أكثر وضوحًا … وقرر ألا يصعد السلم الطويل المؤدي إلى المدخل، فمن الأفضل أن يقفز إلى إحدى الشرفات وينظر خلال الشيش المُغلَق.

واقترب كالقط في هدوء حتى وقف تحت الشرفة، واستجمع قوته وقفز فأمسك بالسياج، ثم حمل جسمه الثقيل على ذراعيه وطوح بساقه إلى فوق، ثم تعلق بالسياج لحظات وقفز إلى الشرفة … بقيَ قابعًا هناك فترة، ثم وقف بهدوء خلف «الشيش» يُحاول أن يرى الضوء الذي خُيِّل إليه أنه رآه … ولكن الظلام كان مخيمًا تمامًا.

وقف «تختخ» لحظات يفكر في الخطوة التالية … وهبَّ نسيم الليل البارد، وخُيِّل إليه أن شيش الشرفة يتحرَّك مع الريح … وسمع صوت فرقعة خفيفة، فمد يده يختبر الشيش، وكم كانت دهشته أن وجده يتحرك، فجذبه إلى الخارج بهدوء، ووجد الزجاج مواربًا، فلم يتردد وفتحه ودخل، ووارب الشيش والزجاج خلفه، ووقف لحظات يسترد أنفاسه اللاهثة. كان الظلام مُخيِّمًا تمامًا على الغرفة التي دخلها فأخرج بطاريته من جيبه وأطلَق خيطًا رفيعًا من الضوء أداره فيما حوله … ومما شاهده أدرك أنه في غرفة طعام … مائدة طويلة صُفَّ حولها نحو عشرين كرسيًّا … وبوفيهات عليها تحف رائعة … ولوحات على الحائط … كان كل شيء يدلُّ على ثراء غير محدود وذوق رفيع.

وبدأ «تختخ» يتحرك إلى باب الغرفة، ووقف لحظات يتصنت … بدا له أنه يسمع صوت حركة في الداخل … حركة أقدام تسير … وأصواتًا تتحدَّث … ومدَّ يده وأمسك بمقبض الباب، وأخذ يُديره في هدوء … واستطاع أن يفتحه بدون أن يُحدث صوتًا … ومِن شقٍّ صغير استطاع أن يرى صالة الفيلا الواسعة، حيث الْتقى بالأستاذ «مراد» أمس … كانت الصالة غارقة في الظلام … ففتح الباب وتقدم … وفي تلك اللحظة حدَث ما لم يكن في الحسبان … انطلق ضوء بطارية قوية في الظلام سقط على عينيه فأعشاهما … وسمع صوتًا يقول: قف مكانك ولا تتحرك!

كانت مُفاجأة كاملة ﻟ «تختخ»، فوقف مكانه مصعوقًا لا يرى، ثم أغمض عينيه، وأخذ ذهنه يعمل بسرعة … مَن هذا الذي تحدث معه؟ هل هو «مراد»؟ لقد قال له إن هناك ألغازًا وأسرارًا في انتظاره، فهل هذه الحركة جزء من هذه الألغاز والأسرار؟!

وفتح عينيه … كان الظلام مخيمًا على الصالة لا يُبدِّده كثيرًا ضوء المصباح الذي كان موجهًا إلى جسمه، وسمع الصوت مرة أخرى يقول: من الأفضل لك ألا تُحاول الهرب أو القيام بأي عمل آخر … إنك محاصَر! ولم يكن أمام «تختخ» إلا أن يخضع للتعليمات … فسكت لحظات ثم قال: ماذا تريد مني؟

وكانت عيناه قد أَلِفَتا الظلام الذي خفف منه ضوء البطارية، فسمع الصوت يقول: أنا الذي سأسألك، وعليك أن تجيب فقط!

ثم سمع الصوت يقول: هل نجدُ غرفة لا يخرج منها الضوء لنتحدث معه!

وسمع صوتًا غريبًا عنه يقول: نعم، في غرفة المكتب حيث كُنَّا، فستائرها ثقيلة ومحكمة.

واتجه ضوء البطارية إلى أحد الأبواب، وسار «تختخ» حتى الغرفة، وأُضيء النور، ورأى «تختخ» الرجل الذي كان يتحدَّث معه … كان رجلًا نحيفًا للغاية، نافذ النظرات، يَحمِل في يده مسدسًا ضخمًا، وعلى وجهه علامات القسوة.

وعندما أدار «تختخ» عينيه إلى الرجل الآخر، كانت المفاجأة الثانية في هذه الليلة … فقد كان أمامه الزنجيُّ الضخم الذي شاهده أمس يقوم بخدمة «مراد»! ودارَت بذهن «تختخ» أكثر من فكرة عن سبب وجود الزنجي مع الرجل الغريب، ولم يشكَّ لحظةً في أن له علاقة بغياب «مراد» وصمْت الكلاب.

أخذ الرجل يتأمل «تختخ» بإمعان ثم قال له: يبدو لي أنك مُتنكِّر!

كانت هذه هي المُفاجأة الثالثة، فهي أول مرة يَكتشف فيها إنسان تنكُّر «تختخ»؛ فهو دائمًا يجيد التنكر.

لم يرُدَّ «تختخ»، فقال الرجل: لقد احتكَّ شيء بوجهك فأزال بعض الأصباغ، وبدا تنكرك واضحًا.

وتذكَّر «تختخ» أنه عندما كان يمر بين أغصان الشجرة احتك بوجهِه غصنٌ قوي، وأدرك أن إنكاره لن يكون مُجديًا.

قال الرجل موجهًا حديثه للزنجي: إنه بالتأكيد أحد الأولاد الذين ذكرتَ لي أنهم زاروا «مراد» أمس.

قال الزنجي: لقد كانوا اثنين، ولدًا وبنتًا، وهذا هو الولد!

قال الرجل مُحدِّثًا «تختخ»: ماذا قال لك «مراد» أمس عن ملك الشطرنج؟

رد «تختخ»: لم يَقُل لي أي شيء!

هز الرجل مسدسه قائلًا: أفضل ألا تضيع وقتنا في الانتظار … لقد ترك لك ورقة يحدثك فيها عن ملك الشطرنج!

ومدَّ الرجل يده بورقة إلى «تختخ» فأمسكها، وألقى نظرة عليها، فإذا فيها سطر واحد:

توفيق … حافظوا على ملك الشطرنج، فليسَت له قيمة على الإطلاق.

هز «تختخ» رأسه، وقال: إنني لا أفهم شيئًا!

قال الرجل: لا أظنُّني سأُصدِّقُك؛ فهذه ورقة موجهة إليك … وفيها كلام لا يفهمه سواك … إنه كلام متناقض وغير معقول … فكيف يحافظ الإنسان على شيء ليست له قيمة؟

تختخ: إنني سأسألك السؤال نفسه!

تقدم الرجل من «تختخ» بهدوء وقال: من الأفضل لك أن تتحدَّث … ماذا يقصد بهذا الكلام؟! وأين ملك الشطرنج؟!

أخذ «تختخ» ينظر حوله … ويفكر بسرعة … لم يكن هناك طريق للفرار … وفي الوقت نفسه فإن هذا الرجل لن يُصدِّقه مهما قال له إنه لا يفهم شيئًا من الكلام المكتوب … وإنه لم يرَ الملك المقصود!

ما معنى أن يطلب منك إنسان المحافظة على شيء ليست له أهمية على الإطلاق؟ شيء مُحيِّر! في ظروف مُحيِّرة … كيف يتصرف؟! وأخرجه من حيرته صوت الرجل وهو يقول: إنني أفهم من الورقة التي تركها «مراد» أنه أعطاك ملك الشطرنج … وأنه يَطلُب منك المحافظة عليه … وما يهمنا الآن هو الحصول على هذه القطعة … الملك!

تختخ: أؤكد لك أنني لم أرَ ملك الشطرنج هذا مُطلقًا، ولا أعرف إن كانت له قيمة أو لا!

قال الرجل بصوت بارد: إنني لا أُصدِّقك!

تختخ: لأكُن أكثر دقة. لقد شاهدت عند الأستاذ «مراد» أمس أنواعًا من قطع الشطرنج، ولعلِّي رأيت الملك المقصود في هذه الورقة. ولكن صدِّقني أنني لم آخذ معي شيئًا على الإطلاق … وقد كان هذا الرجل — وأشار إلى الزنجي — طول الوقت هنا … ولو أخذتُ شيئًا لرآه.

أخذ الرجل يتمشَّى في الغرفة وقد وضع يديه خلف ظهره وهو يفكر بعمق، ثم التفت إلى الزنجي قائلًا: هل تعرف أماكن كل قطع الشطرنج الموجودة في هذه الفيلا؟

الزنجي: نعم؛ فإنني أقوم بتنظيفها ووضعها في أماكنها!

الرجل: كم عددها؟

فكَّر الزنجي قليلًا ثم قال: تقريبًا عشرة أنواع من الشطرنج، ولكنِّي مُتأكِّد أن مجموعة الشطرنج التي تبحث عنها ليست بينها!

كانت هذه الجملة أول شيء مفهوم في هذا اللغز العجيب … فقد أدرك «تختخ» أن هذا الرجل يريد الحصول على شطرنج موجود عند «مراد»، وأنه ربما يُريد قطعة واحدة منه هي الملك. ولكن لماذا؟

ظلَّ «تختخ» يرقُب الرجل الذي عاد إلى السير في الغرفة، ثم التفت إلى الزنجي قائلًا: ولكن الشطرنج الذي أريده كان هنا — كما تقول — منذ يومَين … أليس كذلك؟

رد الزنجي: نعم … أنا متأكد أنه كان هنا منذ يومين … وكنت — حسب اتفاقنا — أحاول سرقتَه، ولكن «مراد» كان يُراقبه جيدًا، وعندما اختفى أبلغتك، وقمنا باختطاف …

وقبل أن يتمَّ جملته نظر إليه الرجل نظرةً صارمة فسكت، وقال الرجل: دعك من الثرثرة وتعالَ نرَ مجموعات الشطرنج!

الزنجي: إنَّ أكثرها هنا في غرفة المكتب …

وكان «تختخ» قد شاهد ثلاث مجموعات من قطع الشطرنج، واحدة منها على المكتب، والثانية فوق رف، والثالثة على مائدة صغيرة.

وأخذ الرجل يتطلع إلى المجموعات الثلاث، ويَرفع كل قطعة ويزنها في يده، ثم أخرج مِبردًا صغيرًا من جيبه، واستعمله في برد كل ملك … وأدرك «تختخ» أن الرجل يبحث عن قطعة من الشطرنج — هي في الأغلب الملك — وأنها مصنوعة من معدن معين.

وقال الرجل وهو يهزُّ رأسه: إنها ليست هي … ليس شكلها مطلقًا، إنني أعرف الشطرنج الذي أبحث عنه … إنه ليس واحدًا من هذه … تعالَ لأرى بقية المجموعات!

ثم التفت إلى «تختخ» قائلًا: وأنت تعالَ معنا …

وأطفئوا النور وخرجوا إلى الصالة … كان الصمت يُخيِّم على كل شيء … وفجأةً رن في السكون صوت نافذة تُفتح … وأقدام تتسلل … وأسرع الرجل يُطفئ البطارية التي كان قد أضاءها، وشمل الظلام المكان … وأدرك «تختخ» أنها فرصته، وبهدوء وحذر أخذ يبتعد عن مكانه مقدرًا أنه يتجه إلى غرفة الطعام ذات الشرفة المَفتوحة … وكانت عيناه قد ألِفتا الظلام، فاقترب من الحجرة مسرعًا وفتح بابًا، وفي تلك اللحظة شاهدَه الرجل والزنجي فصاح الرجل: اقبض عليه … ولكن «تختخ» كان أسرع، فأغلق الباب بسرعة خلفه، ووجد شبحًا في الغرفة … وأدرك أنه أصبح بين قوسَين … الزنجي في خارج الغرفة، وهذا الشبح في داخلها … وأخذ ذهنه يعمل بسرعة البرق … وأدرك أنه من الأفضل أن يقع في يد الشبح فقد يكون «مراد»، بدلًا من أن يقع في يد الزنجي، فأسرع إلى الشرفة وقفز منها إلى الحديقة … وكم كانت دهشتُه حين وجد الشبح يتبعه ويقفز هو الآخر … وأسرع يجري إلى سور الحديقة والشبح خلفه، ثم قفز السور، وقفز خلفه الشبح … وأسرعا يجريان مبتعدَين عن الفيلا بأسرع ما يستطيعان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤