اللغز

سمع «تختخ» الشبح الذي يجري خلفه ينادي: «تختخ»، «تختخ» … وعرف على الفور أنه صوت «محب» … فأبطأ من سرعته في الجري وهو يلهث حتى لحق به «محب»، ووقف الصديقان لحظات بدون أن يتحدثا، ثم استأنفا الجري فلم يكن هناك وقتٌ للحديث.

بعد مسافة كافية توقَّفا مرةً أخرى، ثم سارا وقد تسارعت أنفاسهما، وقال «تختخ» بصوت متقطع: ما الذي جاء بك؟

رد «محب»: لقد كنتُ أتبعك منذ خروجك من المنزل، فعندما أعلنت عن عزمك على دخول الفيلا ليلًا قررت أن أتبعك؛ فقد تقع في مأزق فأتدخل، فإما أن أساعدك في الخروج منه، أو نقع معًا.

تختخ: شكرًا يا «محب» … لقد جئت في الوقت المناسب حقًّا، وإلا فتَكَ بي هذان الرجلان.

محب: ماذا حدث بالضبط؟!

تختخ: حدث أنَّ اللغز زاد تعقيدًا … لقد كان أمامنا لغز اختفاء «مراد» فإذا ذلك شيء بسيط … فهناك لغز أكثر غموضًا وتعقيدًا.

وكانا قد اقتربا من منزل «تختخ» فقال: سأصعد إلى النافذة ثم أنزل وأفتح لك. وبسرعة كان «تختخ» يتسلق الشجرة التي تحت نافذته، ثم دفع النافذة التي أغلقها بدون ترباس، وأعجب «محب» بسرعته برغم سمنته الواضحة، وبعد لحظات كان الصديقان يجلسان في المطبخ يشربان كوبين من الشاي ويتحدثان.

قال «محب»: لقد أدهشني أن باب الشرفة كان مفتوحًا، فهل أنت الذي فتحته؟

تختخ: لا … لقد وجدته مفتوحًا، ولعلهما تركاه كسبيل للفرار إذا حدث هجوم عليهما في داخل الفيلا.

محب: على كل حال … لقد استفَدنا مما فعلاه.

تختخ: ولعلهما يكونان قد تركا الغرفة مفتوحة لأدخل أنا … فقد وجدا رسالة من «مراد» موجهة لي … فأدركا أنني سأُحاول دخول الفيلا، فسهَّلا لي المهمة حتى يَقبِضا عليَّ لأحل لهما لغز الرسالة.

محب: وماذا في هذه الرسالة؟

تختخ: هذا هو اللغز … رسالة مهمَّة من «مراد» لي … لا يمكن أن تفهم منها شيئًا!

ثم أخرج «تختخ» الرسالة من جيبه، وقال: لقد أعطانيها الرجل لأقرأ ما بها مِن كلمات … والرسالة تقول: ««توفيق» … حافِظْ على ملك الشطرنج … فليست له قيمة على الإطلاق.»

استمَع «محب» إلى الرسالة وعلى وجهِه دهشة شديدة، وقال: شيء غير معقول ومُتناقض تمامًا … فكيف يُحافظ الإنسان على شيءٍ ليست له قيمة؟!

تختخ: هذا هو اللغز!

محب: لا بد أن نَجتمِع كلنا ونُناقش هذه الرسالة.

تختخ: ليكن ذلك غدًا في حديقة «عاطف»؛ فقد تأخَّر الوقت، وعليك أن تعود إلى المنزل قبل أن يَكشِف أحد غيابك.

وتصافَح الصديقان، ثم أوصل «تختخ» «محب» إلى قرب منزله، وعاد إلى غرفته. وبعد أن أزال التنكُّر جلس يُفكِّر في أحداث الليلة، ويحاول أن يفسر لغز ملك الشطرنج، ولكن غلبه النوم قبل أن يصل إلى أي تفسير.

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء في حديقة منزل «عاطف». كان هناك الكثير مما يُمكن أن يسمعوه ويقولوه … وبدأ «تختخ» الحديث، فرَوى للأصدقاء مغامرة الليلة الماضية في الفيلا العجيبة منذ قام بالتنكُّر حتى فراره مع الشبح الذي لم يكن سوى «محب» …

وقال «محب»: لقد راقبتُ منزل «تختخ» منذ عرفتُ أنه سيدخل الفيلا تلك الليلة، وعندما خرج كدتُ لا أعرفه، فقد تنكَّر تنكرًا جيدًا … ولكني عرفته من حَجمِه ومِن مشيته، وسرتُ خلفَه حتى قفز سور الفيلا … وانتظرت بعض الوقت ثمَّ قفزتُ وتبعتُه برغم الظلام، ورأيته وهو يدخل ودخلت خلفه بدون أن يُحسَّ، واستطعت أن أستمع إلى أكثر الحوار الذي دار بينه وبين الرجلين حتى اللحظة التي أدركت فيها أنه في خطر، فأحدثتُ صوتًا، وكنتُ متأكدًا أن هذا الصوت سيلفت انتباه الرجلين، وأن «تختخ» سيكون من الذكاء بحيث يستغله، وقد حدث فعلًا.

لوزة: إنك مُغامِر رائع يا «محب»!

عاطف: ولو كان قد وقع في أيدي الرجلين لقلت عنه: إنه أخيب مغامر في الدنيا.

تختخ: دعونا من هذا الآن … ما رأيكم في رسالة «مراد» لي؟! وماذا يقصد بأن أحافظ على ملك الشطرنج، وليسَت له قيمة على الإطلاق؟!

لوزة: المهمُّ أولًا … أين هو ملك الشطرنج الذي يَطلُب المحافظة عليه؟

محب: فعلًا … أين هو ملك الشطرنج هذا؟

نوسة: لقد وجدتُ في الفيلا كما تقول ثماني مجموعات من قطع الشطرنج … فهل يا ترى ملك الشطرنج المقصود بينهما؟

تختخ: لا أظنُّ، فقد كان الرجلان يَبحثان عن الملك نفسه، ولو وجداه لكان لهما موقف آخر.

عاطف: لا بدَّ أنه ملك الشطرنج الذي نملكه!

انفجر «محب» مُتضايقًا وقال: ما هذا الذي تقولُه يا «عاطف»؟ إننا نبحث عن حلِّ لغزٍ غامض وأنت لا تُلقي سوى النكات … شيء غير معقول!

ابتسم «تختخ» قائلًا: لا داعيَ للثورة يا «محب» … إن رأي «عاطف» معقول … أليس من المُمكِن أن يكون الشطرنج الذي عندنا فيه حلُّ اللغز!

هز «عاطف» رأسه متباهيًا ونظر إلى «محب» … وابتسم الصديقان، وقامت «لوزة» مُسرعة إلى داخل البيت، وعادت ومعها الشطرنج الذي يلعبون به … وبدا لهم جميعًا وهم ينظرون إلى قطعِه التي أخذت «لوزة» تُخرجها أنهم أمام شطرنج غامض يَحمل سرًّا!

وأخذت «لوزة» ترمي القطع فوق رقعة الشطرنج … وتركَّزت أنظار الأصدقاء جميعًا عليها … كانوا قد وقعوا تحت تأثير فكرة «عاطف» من أن حلَّ اللغز في هذا الشطرنج … فبدا لهم أنه أصبح مختلفًا عما ألِفوه، وأنه ملفوف بالغموض والسحر!

انتهت «لوزة» … من رمي القطع، ثم أخذت تدور حول رقعة الشطرنج وهي تُفكِّر … وساد صمت ثقيل، ومدت «لوزة» يدها وأمسكت بالملك الأسود … وأخذت تقلبه بين يديها فاحصةً مُدقِّقة، ولكنه لم يكن إلا قطعًا من البلاستيك … ولا شيء آخر … ثم وضعت الملك الأسود، وأمسكت بالملك الأبيض، وأخذت تقلبه كما فعلت مع الأول ولكن … لا شيء هناك … مجرد ملك من البلاستيك لا غير.

ووضعت «لوزة» الملك مكانه، وفجأة قطعت «نوسة» حبل الصمت قائلة: متى يُصبح الملك لا قيمة له على الإطلاق؟

رفع الأصدقاء أعينهم إلى «نوسة» وقد أخرجهم السؤال من جمودهم، ورد «محب»: عندما «يُزْنق» ويموت!

ردَّدت «نوسة» ببطء: عندما يزنق … ولا يستطيع الحركة … ويموت!

قال «تختخ»: إنها فكرة مُدهِشة … فأي مباراة في الشطرنج لا تنتهي إلا بموت الملك … فإذا مات الملك لم تَعُد له قيمة على الإطلاق!

لوزة: إذن فنحن نبحث عن ملك شطرنج ميِّت، فأين هو؟

تختخ: هذا هو السؤال!

في هذه اللحظة ظهر آخر إنسان يتوقَّع الأصدقاء حضوره … ظهر الشاويش «علي» على دراجته يقترب ببطء من باب الحديقة … والتفت الأصدقاء جميعًا إليه وهو يسند الدراجة ثم يفتح الباب ويدخل.

وظل الشاويش يتقدم والأصدقاء ينتظرون ما بعد التحية. وسحب الشاويش كرسيًّا وجلس، ثم أخذ يعبث بشاربه لحظات، وقال: «توفيق» … لقد حضَر إنسان إلى القسم اليوم يسأل عنك!

دهش «تختخ» وقال: عني أنا؟

الشاويش: نعم!

تختخ: لماذا؟

الشاويش: قال إنَّ عنده شيئًا يريد أن يسلمه لك!

تختخ: شيء غريب … ولماذا لم يحضر إلى منزلي؟

الشاويش: قال إنه لا يعرف سوى اسمك الأول فقط، ولا يعرف عنوانك، وطلب مني أن أدله على العنوان!

تختخ: إنني لا أفهم شيئًا يا حضرة الشاويش … لو سمحت أن تروي لنا الحكاية من أولها!

تدخلت «لوزة» قائلة: أرجو أن نقُوم بواجب الضيافة أولًا … هل يحب الشاويش أن يشرب شايًا أو قهوة؟

ابتسم الشاويش بإعجاب «للوزة»، ثم قال وهو يعبث بشاربه: شايًا … كوبًا من الشاي الثقيل لو سمحتِ!

لوزة: سأذهب لأطلب إعداد الشاي، ولكن لا تروِ شيئًا حتى أعود!

الشاويش: اتفقنا.

وأسرعت «لوزة» إلى المطبخ، وطلبت من الشغالة إعداد الشاي للشاويش، ثم عادت مسرعة لتستمع إلى ما يقوله، وانتظر الشاويش بدون أن يَنطِق بحرفٍ حتى وصَل الشاي، فتناول منه رشفةً كبيرة بصوت مسموع، ثم قال: كنت في المكتب أقوم بعملي كالعادة عندما دخل رجل لا أعرفه، وأظن أنه ليس من المعادي، وقال لي إنه يبحث عن شابٍّ يُدعى «توفيق».

وسكت الشاويش حتى رشف رشفة أخرى من الشاي، ثم مضى يقول: وبالطبع هناك أولاد كثيرون اسمهم «توفيق» … لهذا سألتُه عن أوصاف هذا الولد الذي يبحث عنه فقال: إنه سمين … وبالطبع لا بد أن هناك أولادًا سِمانًا يحملون اسم «توفيق» غيرك … ولكني لا أعرف أحدًا سمينًا يحمل اسم «توفيق» غيرك، وهكذا أخبرتُه بعنوانك بعد أن قال لي إنه يحمل لك هدية.

وسكت الشاويش فقال «تختخ»: هل هذا كل شيء؟

الشاويش: نعم هذا كل شيء.

تختخ: هل يُمكن أن تصف لنا هذا الرجل!

الشاويش: طبعًا … إنه طويل القامة، أنيق ورفيع، وله عينان قاسيتان.

نظر الأصدقاء إلى «تختخ»، ولكن «تختخ» ظلَّ ساكن الوجه بلا تعبير، وسأل الشاويشَ: وهل عرفت اسمه؟

ارتبك الشاويش وهو يردُّ: نعم … اسمه «سليمان حسني».

تختخ: إنَّ الاسم مزيف في الغالب … ولكن متى حدث هذا؟

الشاويش: هذا الصباح في الساعة التاسعة تقريبًا!

نظر «تختخ» إلى ساعته وقال: أيْ منذ ساعة ونصف ساعة.

وشرب الشاويش بقية كوب الشاي ثم قام منصرفًا، ولكن «عاطف» لم يَتركْه يَخرُج قبل أن يقول له: ولماذا جئت تُخبرنا؟ هل تُريد أن تعرف ما هي الهدية؟

وثار الشاويش كالمعتاد وصاح: لقد كنتُ مارًّا من هنا مصادفة ورأيتكم … إنني أستحق الشنق لأنني حضرت!

ثم أسرع إلى دراجته، والتفَتَ الأصدقاء إلى «تختخ» الذي قال: إنَّ هذا الرجل الذي سأل عني … الأنيق الرفيع … القاسي النظرات هو الرجل الذي كادَ أن يَفتِك بي ليلًا … ولا شكَّ أنه سيَظهر مرةً أخرى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤