الأسود والأبيض

حان وقت الغداء قبل أن يَصِل الأصدقاء إلى جديد في حلِّ اللغز، فانصرفوا، وسار كلٌّ منهم إلى منزله، واتفقوا على اللقاء في المساء إذا جدَّ جديد.

وسار «تختخ» إلى منزله يفكر بعمق … ما هي حكاية ملك الشطرنج بالضبط؟

إنه شيء غامض ولا يُصدِّقه عقل … وليس فيه ما يَستحِق إبلاغ الشرطة، ولا سيما أن «مراد» رجاه ألا يُبلغ الشرطة.

وبفرض أنه أبلغ المفتش «سامي» فماذا يفعل المفتش؟ ثم أين ذهب «مراد»؟ … أسئلة كثيرة بدون إجابة.

وعندما وصل «تختخ» إلى المنزل كانت في انتظاره مفاجأة … وبرغم كل المفاجآت التي مر بها خلال اليومين الماضيَين فقد كانت هذه أكبرها … فحينما وصل إلى المنزل قالت له الشغالة: لقد أحضر رجل لك طردًا صغيرًا.

تختخ: لي أنا؟!

الشغالة: نعم، بعد خروجك بقليل حضر رجل ومعه طرد، وسأل عنك، وعندما لم يَجدْك تركه.

تختخ: وهل عرفتِ من هو؟

الشغالة: لا، لقد انصرَف قبل أن أسأله … ولكنه رجل عجوز يلبس جلبابًا.

تختخ: وأين الطرد؟

الشغالة: إنه في غرفتك … وقد حاولتُ أن أتصل بك … ولكني … وقبل أن تكمل الشغالة جملتها كان «تختخ» يقفز سلالم الفيلا إلى الدور الثاني حيث غرفته … وعشرات الأسئلة تتزاحم في ذهنه … طرد؟! وماذا فيه؟ وهل له علاقة باللغز؟!

كان الطرد موضوعًا على المكتب الصغير في جانب الغرفة، فقفز إليه وأمسكه … كان طردًا متوسِّطًا في حجم حقيبة مدرسية ملفوفًا بعناية ومكتوبًا عليه اسمه وعنوانه بخط أنيق … وبأصابع مرتعشة أخذ يفكُّ الورقة، ثم ظهر صندوق أسود أنيق مُغلَق بقفلٍ فضِّي، وفوق الصندوق ظرف مغلق فتحه «تختخ»، فوقع منه مِفتاح صغير لامع … فانحنى «تختخ» والتقط المفتاح، وأمسك بالرسالة التي وجدها بالمظروف. وقبل أن يَقرأها ألقى نظرة سريعة على آخرها حيث كان اسم مرسلها «مراد» وتسارعت دقات قلبه … رسالة من «مراد»، إذن فهذا الطرد يتصل باللغز، بل ربما فيه حل اللغز! … وأخذ يقرأ الرسالة:

صديقي العزيز …

لا شك أنني سببتُ لك مشاكل كثيرة ودهشة أكثر … ولكن ثقتي فيك هي التي تدفعُني إلى كل هذا، إن هذه الرسالة لن تفسر لك كل شيء … فما زال عندي أمل في أن أحافظ على سرِّي إلى النهاية.

افتح الصندوق … وستجد ملك الشطرنج … وحافظ عليه، فليسَت له قيمة على الإطلاق.

مراد

وهز «تختخ» رأسه في ضيق … إن اللغز لم يُحل … بل ازداد غموضًا … وأمسك بالمفتاح وفتح القفل، وعندما انزاح غطاء الصندوق شاهد «تختخ» أجمل شطرنج رآه في حياته …

كانت مجموعة من قِطَع الشطرنج مصنوعة من الأبنوس الأسود ومن العاج الأبيض، محلاة بالفضة وبقطع الألماس الدقيقة البراقة، وأمسك بالملك … كان الملك الأسود تُحفة لا مثيل لها … وكان التاج الذي يعلوه قطعة واحدة من الزمرد الأخضر، تربطها أسلاك من الذهب … وكان الملك الأبيض مثل الملك الأسود تمامًا … كلاهما مُتشابه في الصناعة ولا يَختلِف إلا في اللون.

كانت أصابع «تختخ» ترتعش وهو يُخرِج القطع واحدة بعد الأخرى … لقد كان ما بين يديه كنزًا حقيقيًّا لا يُمكن تقدير قيمته … وعندما وصل إلى قاع الصندوق وجد رقعة الشطرنج مطوية وفتحها، وعلى أحد أطرافها من الخلف وجد رقعة فضِّية مكتوبًا عليها كلمات بلغة أجنبية لم يستطع أن يَتبيَّنها، ولكن تاريخ ومكان صناعة الشطرنج كان واضحًا: صُنع في أمستردام بهولندا سنة ١٦٨٨م.

وضع «تختخ» … الشطرنج أمامه وتأمَّله في إعجاب شديد … شيء لا يُصدِّقه عقل … ولكن ما حكاية «مراد» هذا بالضبط؟ ولماذا يخصُّه هو بسره … ولماذا يضع بين يديه هذا الكنز الخرافي … وأين ملك الشطرنج المقصود؟! أهو الملك الأسود؟! أم الأبيض؟!

وأمسك «تختخ» بالملك الأسود وأخذ يفحصُه بعناية … كان قطعة فنية لا مثيل لروعتها ولا لقيمتها، وكذلك الملك الأبيض … وبينما هو مستغرق في أفكاره سمع الشغالة تدعوه إلى الغداء فأسرع يَضع القطع مكانها في الصندوق، ثم أغلقه ووضعه في دولاب تحت ملابسه، وأغلق الدولاب ثم نزل مسرعًا، لتناول غدائه.

كان «تختخ» … يَجلس إلى مائدة الطعام، ولكنَّ أفكاره كلها كانت تتَّجه إلى فوق … إلى حيث أخفى الشطرنج الرائع … ولاحظ والده أنه كثيرًا ما كان يضع المِلعقة خارج الطبق، أو يمسك الشوكة والسكين والملعقة في يد واحدة ثم يمدها جميعًا ناحية قطع اللحم أو طبق السلطة، فقال الوالد: ما هي الحكاية بالضبط … هل اخترعت طريقة جديدة للأكل؟

وانتبه «تختخ» من شروده وحملق في والده قليلًا، ثم علت وجهه حمرة الخجل، وأخذ يركز تفكيره فيما يفعل … ثم أنهى طعامه مسرعًا بدعوى أنه ليس جائعًا، ثم ترك المائدة وغسل يديه وخرج إلى الحديقة … كان في حاجة إلى أن يخلوَ بنفسه وبأفكاره … ماذا يفعل؟

وبعد تفكير طويل استقر رأيه على الاتصال بالأصدقاء مساءً وشرْح الموقف لهم … وخرج يتمشى … وأمام الفيلا كانت هناك متسوِّلة عجوز، وبعض أطفال يلعبون الكرة، وسيارة معطَّلة يحاول أصحابها إصلاحها. وأخذ «تختخ» يتأمل كل شيء حوله، ويفكر في هذه المغامرة العجيبة … وفي الكنز الثمين القابع في دولابه … وظل يسير حتى وجد نفسه بدون وعي يقف أمام فيلا «مراد» … ولم يعرف كيف قطع كل هذا المشوار في هذه الساعة الساخنة من النهار … ودار حول الفيلا يتأملها … وينظر إلى الحديقة البديعة المنسَّقة على شكل شطرنج … هل تعني شيئًا في هذه المغامرة؟

هذا هو الملك على حسب ترتيب القطع … لقد اختار له «مراد» شجرة من الأشجار الحَمراء، فبدا واضحًا بين بقية الورود … ولاحظ «تختخ» أن هناك مياهًا تأتي من خرطوم في أحد جوانب الحديقة فتتبعها … وعند نهاية الخرطوم كان بستاني عجوز يسقي الزرع … وتذكر «تختخ» على الفور العجوز الذي تحدَّثَت عنه الشغالة والذي أحضر الصندوق. وتقدم «تختخ» حتى أصبح بجوار السور تمامًا وناداه … وأقبل الرجل ببطء، فقال له «تختخ»: لقد كنتَ تحمل اليوم طردًا لشابٍّ يُدعى «توفيق» … أليس كذلك؟

أخذ العجوز ينظر إلى «تختخ» باستغراب، ولكن «تختخ» أسرع يقول له: إنني «توفيق» … والأستاذ «مراد» صديقي.

ابتسم الرجل وهو يقول: نعم، إنني في خدمتك.

تختخ: أين الأستاذ «مراد»؟

العجوز: لا أعرف!

تختخ: هل من عادته أن يتغيَّب عن الفيلا طويلًا؟

العجوز: أبدًا!

تختخ: ومتى أعطاك الطرد؟

العجوز: منذ يومين … قال لي إنه ذاهب إلى حلوان، وعندما عاد من هناك كان مضطربًا، وأعطاني الطرد، وطلب مني أن أسلِّمه لك إذا خرج ولم يَعُد … وقد انتظرت أن أراه أمس، ولكنه لم يظهر، فذهبت إلى منزلك اليوم ولم أجدك، وتركت لك الطرد.

تختخ: ألم ترَ شيئًا غير عادي ليلةَ أمس؟

العجوز: إنني لا أبيت هنا.

اكتفى «تختخ» بهذا الحديث، وأسرع عائدًا إلى منزله، ووجد السيارة المعطَّلة ما زالت واقفة، والمتسولة العجوز ما زالت تستجدي … دخل المنزل، ثم اتصل بالأصدقاء وقال لهم إن هناك تطورات هامة حدثت، وطلب منهم الحضور في المساء.

في السادسة مساءً كان الأصدقاء جميعًا قد اجتمعُوا في غرفة العمليات في منزل «تختخ» … وجلسوا يستمعون … وقالت «نوسة»: نريد أن نرى الشطرنج، ومدَّ «تختخ» يده يفتح الدولاب … وخطر له في تلك اللحظة أن يكون أحد قد سرق الشطرنج الثمين، وأحسَّ برعشة قوية تسري في بدنه … ولكنه وجد الطرد مكانه … وأخرج الصندوق الأسود الأنيق، ثم فتحه ومد يده وأخذ يخرج قطع الشطرنج، ووقف الأصدقاء جميعًا وقد أصابهم الذهول أمام التحفة التي لم يرَوا لها مثيلًا من قبل! كانت قطع الشطرنج تبرُق كأنها منجم من الماس … وأحسُّوا جميعًا أنهم في حلم، حتى إنَّ «لوزة» هرشت ساقها حتى تتأكَّد أنها مستيقظة …

قال «محب»: لا أظن أنني سأرى في حياتي شيئًا أجمل من هذا.

وقالت «نوسة»: إنه أجمل مما يُمكن أن يصل إليه أي خيال.

وقال «عاطف»: إن الملك يبدو مَلِكًا حقيقيًّا وليس مجرد قطعة شطرنج … فكيف لا يساوي شيئًا على الإطلاق؟

تختخ: هذا هو السؤال الذي لم نجد له إجابة.

نوسة: وماذا نفعل الآن؟

محب: أعتقد أن من واجبنا أن نُبلِّغ المفتش «سامي»!

تختخ: لقد قررت أن أنتظر إلى الصباح، فقد يحدث شيء يفسر اللغز … ثم بعدها أتصل بالمفتش «سامي»!

وبعد أن قضى الأصدقاء نحو ساعتين يتحدثون خرجوا جميعًا، وكان الظلام قد بدأ يهبط على المعادي … وعندما خرجوا وجد «تختخ» السيارة ما زالت واقفة … أما المتسولة العجوز فكانت قد انتقلت إلى الرصيف الآخر.

وفجأةً ترك «تختخ» الأصدقاء واتجه إلى حيث كانت المتسولة العجوز … وكم كانت دهشة الأصدقاء عندما مد «تختخ» يده بسرعة وجذب شعرها الأبيض بقسوة أثارت استياء الأصدقاء، ولكن دهشتهم زادت عندما وجدوا المتسولة قد انتصبت واقفة مُحاوِلة أن تجري في اتجاه السيارة، ولكن «تختخ» ألقى بنفسه عليها … وعندما أسرع الأصدقاء ليتدخلوا كانت المتسولة العجوز قد ضربت «تختخ» لكمة قوية أسقطته على الأرض، ثم قفزت إلى السيارة التي كانت مكنتُها قد دارت ثم انطلقت كالبرق قبل أن يعرف الأصدقاء ماذا يجب أن يفعلوا!

أسرع الأصدقاء إلى نجدة «تختخ» … الذي وقف يَنفض ثيابه، وقالت «لوزة» منزعجة: ما هي الحكاية يا تختخ؟ كيف تضرب عجوزًا مسكينة؟

رد «تختخ» … وهو يفرد ذراعيه: إنها ليسَت مُتسوِّلة … وليست عجوزًا … بل ليست سيدة على الإطلاق، إنها الرجل الذي كان في فيلا «مراد» ليلة أمس … إنه الرجل الذي يبحث عن ملك الشطرنج!

محب: وكيف عرفت؟

تختخ: من النادر أن يأتي هنا مُتسوِّل … ثم إنني رأيتها تجلس هنا منذ عودتي بعد اجتماعنا … ثم اقتربت منها ونظرت إلى عينيها … إنك تَستطيع أن تتنكَّر كما تشاء … ولكن كيف تُخفي لون العينين؟! إن هذا مستحيل … وعندما نظرتُ إلى عينَيها … أقصد عينيه … أدركت على الفور الحقيقة.

لوزة: لقد أصبحَتِ المسألة خطيرة … وعلى كل حال أخذتُ رقم السيارة!

تختخ: قد يُفيدنا هذا … ولكن المهم الآن أنهم يعرفون مكان الشطرنج ولن يترددوا في عمل أي شيء للحصول عليه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤