في الوقت المناسب

انقضى جزء من الليل بدون أن تُعاود العصابة الاتصال. وكان المفتش «سامي» قد حصل على رقم السيارة الذي التقطته «لوزة»، وطلب من رجاله ضبط السيارة التي تحمله في أي مكان. وبعد فترة انصرف الأصدقاء، وبقيَ «تختخ» والمفتش معًا، فقال المفتش: أعتقد أنهم لن يتَّصلوا بك الليلة، وعلى كل حالٍ سأضع تليفونك تحت المراقبة حتى نسجِّل كل المكالمات التي تصل إليك ونعرف من أين تأتي … وسأَنصرِف الآن، وسنكون على اتصال دائم.

وانصرف المفتش، وبقي «تختخ» وحيدًا يفكر … لم يَعُد الشطرنج هو ما يشغل باله ولكن صديقه «محب» … لقد اتفق مع «نوسة» أن تقول في منزلهم إن «محب» سيبقى الليلة عنده … وعلى هذا يجب أن يكون «محب» موجودًا في الصباح … ولكن كيف؟

وفي هذه اللحظة حدث ما لم يكن في الحسبان … دقَّ جرس التليفون، فرفع السماعة وسمع صوت آخر إنسان ممكن أن يتحدث إليه، صوت الأستاذ «مراد» الذي قال: اسمع يا «توفيق» … إنني أرجوك أن تُسلِّم الشطرنج لمن أُرسلُه لك … لقد أعطيتك الشطرنج كوديعة تحتفظ بها عندك، والآن أريد أن أستردها!

لم يعرف «تختخ» بماذا يرد، فظلَّ لحظات صامتًا، وسمع «مراد» يقول له: هل تسمعني؟ أنا «مراد»! رد «تختخ» بصعوبة: نعم … نعم … إنني أسمعك، وأعرف أنك «مراد» ولكن الحقيقة أن الشطرنج ليس معي!

مراد: كيف؟

تختخ: ألم تَعرِف من «محب» … أليس معك؟

مراد: نعم، «محب» معي، لقد خطفوه كما خطفُوني … ولكنه رفض أن يقول أين الشطرنج … وقد عرفوا أنك أبلغت الشرطة، وأن الوقت ليس في مصلحتهم، فسيتصرَّفون بسرعة، فلا بد أن تعيد الشطرنج الليلة!

كان صوت «مراد» يبدو فيه الإجهاد والتعب، وتأكَّد «تختخ» أنه تعرَّض لتعذيب شديد، وعاد «مراد» يقول: لا بد أن نحصل على الشطرنج أينما كان … ثم أضاف بصوت حزين: من أجل خاطر «محب»!

ووقع قلب «تختخ» في قدميه … فلا بد أن «محب» يتعرض لخطر شديد، حتى إن «مراد» خضع لتهديد العصابة، وقَبِل أن يتحدث إليه تليفونيًّا. عاد «مراد» يقول: ألا تسمعُني؟

رد «تختخ»: إنني أسمعك، ولكن الشطرنج في مكان لا أعرفه.

مراد: كيف؟

تختخ: إنه في سيارة أبي … أخفيته في حقيبة السيارة وقد خرج أبي ولم يعد حتى الآن!

مراد: ابحث عنه حيث يكون … وأرجوك ألا تبلغ الشرطة بهذه الحادثة، ولا تجعلهم يتخذون أية إجراءات … من أجل خاطر «محب»!

وسكت «مراد» لحظات كان واضحًا خلالها أنه يتحدَّث إلى شخص بجانبه، ثم عاد يقول: سأتصل بك كل نصف ساعة حتى يكون والدك قد عاد!

تختخ: أرجوك … أريد أن أتحدث مع «محب»!

وسمع «تختخ» أصواتًا تتحدَّث، ثم سمع صوت السماعة وهي توضع في مكانها، وأحسَّ بالخوف يجتاحه … إن «محب» في خطر شديد … والعصابة مصرَّة على الحصول على الشطرنج، وهو لا يعرف أين الشطرنج الآن! لم تمضِ سوى ثوانٍ قليلة حتى دقَّ جرس التليفون مرة أخرى … وكان المتحدث في هذه المرة المفتش «سامي» الذي قال بسرعة: لقد استمعنا إلى المكالمة وسنحاول الآن متابعة مكانها … وإن كنت أرجح أن العصابة ستُغيِّر مكانها فورًا … المهم الآن … ابحث عن والدك عند أصدقائه بالتليفون، ثم اتصِل بي وقل لي أين هو … فإذا اتصلت بك العصابة فقل لهم على مكانه أيضًا … ودع الباقي لي.

تختخ: ولكن «محب» …

المفتش: لقد استمعت إلى المكالمة جيدًا، وأعرف أن «محب» في خطر شديد. فنفِّذ التعليمات، وسيتم كل شيء على ما يرام.

أسرع «تختخ» إلى غرفة مكتب والده، وأخذ أجندة التليفونات التي يحتفظ فيها والده بأرقام تليفونات أصدقائه، وأسرع إلى التليفون … كانت هناك عشرات الأرقام والأسماء، ولكن «تختخ» لم يَيئس، وبدأ بسرعة يضرب رقمًا ويسأل بسرعة، وعندما يتلقَّى الرد يقطع المكالمة ويطلب رقمًا آخر … كان يتصرف بسرعة محمومة … فالثواني لها قيمتها … وفي حوالي ربع الساعة كان قد تحدث مع أكثر من اثني عشر صديقًا، ثم سمع من الثالث عشر شيئًا جعَل قلبه يدق سريعًا … لقد كان من أعز أصدقاء والده، وقال له: إنني أظن أن والدك يسهر الليلة عند الأستاذ «عبد القادر»، في عمارة البرج بالزمالك، ورقم تليفونه هو ٨٠١٥٠٥.

وشكره «تختخ» بحرارة، ثم طلب الرقم، ولكنه للأسف كان مشغولًا … وطلبه مرة ومرة ومرات، وفي كل مرة كان الرقم مشغولًا. وأحسَّ «تختخ» أنه سينفجر من الغيظ، ووضع السماعة … ولم يكَد يضعها حتى دق جرس التليفون، وكم كانت دهشتُه حين وجد والده هو المتحدث، وقال له: لقد كنت أتحدث مع أحد أصدقائي الآن، وعرفت منه أنك كنتَ تسأل عني فطلبتك، ولكن التليفون كان مشغولًا.

«تختخ» بسرعة: لا وقت للشرح يا أبي … وآسف لأنني سأُشركك معي في مغامرة.

الأب: ماذا؟

تختخ: لقد وضعت شيئًا في حقيبة سيارتك … وسيأتي شخص ليطلبه منك فأعطِه إياه بدون نقاش!

الأب: عن أي شيء تتحدَّث … إنني لا أفهم شيئًا!

تختخ: أرجوك يا أبي … انزل من الآن، وقف بجوار سيارتك، وسلِّم الطرد الذي تجده في حقيبة السيارة إلى أيِّ إنسان يتقدم منك … إلى اللقاء يا أبي!

ووضع «تختخ» السماعة وقد سال عرقه غزيرًا، ثم تذكر أنه لا بد أن يتصل فورًا بالمفتش «سامي»، وهكذا أسرع يتصل به، وقال له إن والده في عمارة البرج بالزمالك … وسيارته ماركة نصر «١٣٠٠» … ورقمها «٢٦٢١٥»، ووضع السماعة … كان نصف الساعة قد انقضى ولم يبقَ سوى ثوانٍ قليلة … ودقَّ الجرس مرة أخرى، وكان المتحدث هو «مراد» فقال له «تختخ»: سيارة أبي تقف أمام عمارة البرج بالزمالك، وهي ماركة نصر «١٣٠٠»، رقم «٢٦٢١٥» وسيُسلِّم أبي الطرد الذي به الشطرنج لأي إنسان يطلبه منه.

مراد: إياك أن تكون قد اتصلت بالشرطة، وإلا أوقعتني أنا و«محب» في خطر شديد.

لم تكن أعصاب «تختخ» تحتمل مزيدًا من الكلام، وهكذا وضع السماعة بدون كلمة واحدة، ثم أخرج منديله، وأخذ يُجفِّف عرقه … كانت هذه أول مغامرة لا يشترك في نهايتها … وبعيدًا عنه تجري المغامرة، وفيها «محب» يتعرض للخطر … وفيها الشطرنج الثمين، وفيها لغز لم يُحل … لغز ملك الشطرنج الذي ليس له قيمة على الإطلاق!

ونظر «تختخ» إلى ساعته … كانت الحادية عشرة ليلًا … وقام ففتح الثلاجة وأخرج زجاجة باردة تجرَّعها مرة واحدة، ثم خرج إلى الشرفة ووقف يحدق إلى الشوارع والناس … كان يطير بتصوراته وأفكاره إلى حيث تجري أحداث المغامرة في هذه اللحظات … ماذا يفعل والده؟ ماذا يفعل المفتش «سامي»؟ ماذا تفعل العصابة؟ وماذا يفعل «مراد» و«محب»؟ وكيف تنتهي هذه المغامرة؟ ومرت الدقائق بطيئة في ساعة «تختخ» … أما حيث كانت تقف سيارة والد «تختخ»، فقد كانت الدقائق تمر بسرعة البرق … فقد نزل والد «تختخ» في غاية الدهشة ووقف بجوار السيارة ولم يمضِ سوى دقائق قليلة حتى اقترب منه رجل يقول: هل معك الشطرنج؟

لم يرُد والد «تختخ»، ولكنه تقدم وفتَح حقيبة سيارته، ثم مدَّ يده إلى الطرد الثمين، وسلمه إلى الرجل بدون أن يَحدُث شيء … حمل الرجل الطرد بعناية شديدة، ثم وقف على رصيف الشارع الذي كان يزدحم بالسيارات … وانتظر لحظات ثم عبر الشارع واتجه إلى أمام سنترال الزمالك حيث كانت تقف سيارة من أحدث طراز، وفتح باب السيارة ودخل، وسمع صوتًا من الداخل يقول: الشطرنج!

ردَّ الرجل في صوت مبتهج: أخيرًا … الشطرنج … هيا بسرعة إلى الإسكندرية!

واتجهت السيارة إلى جسر «كوبري» الزمالك … وكانت إشارة المرور مفتوحة، وأخذت السيارة تقترب من الجسر، ومن بداخلها يتبادلون الأحاديث المبهجة بعد أن فتحوا الطرد وتأكَّدُوا مما فيه … وفي هذه اللحظة والسيارة تقترب من «الكوبري» تلقَّى شرطي المرور إشارة من رجل كان يقف قريبًا منه، فمدَّ يده وأغلق الإشارة الخضراء … ولمع الضوء الأحمر … ثم برزت سيارة قادمة من الكورنيش ووقفت بالعرض أمام السيارة، فقال أحد ركابها: من هذا السائق المجنون الذي وقف أمامنا بعرض سيارته؟! ولم يكن هذا السائق مجنونًا … لقد كان أحد رجال الشرطة … ومن الخلف تقدمت سيارة أخرى، ثم خرج من تحت الأشجار رجال يتحركون في صمت … وأطبقوا على السيارة، وفتح أحدهم بابها في هدوء، وأطلَّ بوجهه داخل السيارة قائلًا: لا داعيَ لأيِّ تصرُّف … إنكم محاصرون! ولم يكن هذا الرجل إلا المفتش «سامي»!

فتح أحد الرجال باب السيارة الآخر وحاول القفز إلى الشارع ومعه الطرد ولكن من السيارة التي كانت بجانبه برَز ثلاثة رجال أمسكوه!

وهكذا وقعت العصابة … لقد تركهم المفتش «سامي» يأخذون الطرد ويركبون السيارة بعد أن أعد لهم كمينًا محكمًا من السيارات والرجال لا يُمكِن أن يفلتوا منه … وهكذا استسلموا.

قال المفتش: والآن … أين «محب»؟

ولم يكن أمام رجال العصابة إلا أن يُرشدُوه إلى المكان … وطارت السيارات إلى حيث كان «محب» و«مراد» معًا محبوسَين في مكان بعيد.

عندما دقت الساعة معلنة منتصف الليل كانت هناك سيارة تشقُّ طريقها بسرعة إلى منزل «تختخ» … كان بها المفتش «سامي» … و«محب» … و«مراد»، وعندما توقفت أمام منزل «تختخ» أسرع يجري إليهم فاتحًا ذراعَيه ﻟ «محب». وفي غرفة الصالون كان والد «تختخ» ووالدته والمفتش «سامي» و«محب» و«تختخ» يجلسون يستمعون إلى قصة ملك الشطرنج من «مراد» … ذلك الملك الذي ليست له قيمة على الإطلاق!

قال «مراد»: عشت فترة من حياتي بالخارج … وكنت من هواة التحف الثمينة … أشتريها وأحضرها إلى مصر … وذات يوم وأنا في «أمستردام» بهولندا — وهي أكبر مركز لتجارة الماس في العالم — سمعت لأول مرة عن هذا الشطرنج … وكان الناس يتحدثون عنه كأسطورة من الأساطير … مثل خاتم الملك سليمان … أو كنز القرصان «مورجان»، وأثارتني قصة هذا الشطرنج، وبدأتُ أبحث عنه … وكانت عصابة من أكبر عصابات أمريكا تبحث عنه أيضًا … وذات يوم عثرتُ في مكتبة قديمة على كتاب عن أهم قطع الشطرنج في العالم … كتاب نادر ممزق … وعرفت من هذا الكتاب أن هذا الشطرنج صنعه جواهرجي لأحد أمراء أوروبا منذ نحو ٣٠٠ سنة، وأن هذا الأمير كان يُخفي ثروته في مكان مجهول، ثم دهن الشطرنج كله بدهان حتى لا يعرف قيمته أحد، ورسم لمكان ثروته خريطة أخفاها في ملك الشطرنج الأسود.

وسكَت «مراد» والعيون كلها متعلِّقة به، ثم مضى يقول: ومات الأمير فجأة، ولا يعرف أحد كيف تسرب السر بعد ذلك عن كنز الأمير … ولكن عددًا كبيرًا من الناس اهتم بالحصول على هذا الشطرنج — ليس لقيمته كمجموعة نادرة من القطع — ولكن للخريطة التي في ملك الشطرنج … وظل الشطرنج مُختفيًا لا أحد يعرف مكانه.

وتوقف «مراد» حتى أخذ رشفة من الشاي، ثم عاد إلى الحديث: واستطعت عن طريق هذا الكتاب أن أصل إلى الشطرنج، وأحصل عليه بثمن بخس، فلم يكن الذي يملكه يعرف قيمته، فقد كان مدهونًا كما قلت لكم، ويبدو شطرنجًا عاديًّا.

وهنا سأله «تختخ»: وهل عثرت على خريطة الكنز؟

مراد: لا … لقد فتحت ملك الشطرنج الأسود فلم أجد به الخريطة … وكانت هناك عصابة كما قلت لكم تُطاردني للحصول على الشطرنج، والحصول بالتالي على خريطة الكنز، ولكني استطعت الوصول به سالمًا إلى القاهرة، واحتفظت به عندي في القصر، ثم بدأت أحسُّ أن العصابة تطاردني … وأخفيته، وكانوا قد دسُّوا عليَّ خادمًا خائنًا هو الذي مهَّد لهم خطفي.

وبعد لحظات من الصمت مضى «مراد» يقول: كنت على استعداد لأن أبيعه لهم … ولكني كنت واثقًا أنهم لن يصدقوني إذا قلت إنني لم أجد الخريطة … وكنت أخشى أن يقتلوني إذا عرَفوا الحقيقة، وهكذا أرسلت الشطرنج مع البستاني لكم قبل أن يحدث شيء حتى لا يعثروا عليه في القصر مهما بحثوا.

محب: وهل تعرف أين ذهبت الخريطة؟

مراد: أبدًا … وبدونها يُصبح الشطرنج مجموعة من القطع الثمينة، ويصبح ملك الشطرنج لا قيمة له على الإطلاق بالنسبة للعصابة … إنها عصابة ضخمة تمتد فروعها في أوروبا وأمريكا، وتسرق وتتعامل كل سنة في ملايين الجنيهات … وهذا الشطرنج مهما كانت قيمته — ولنَقُل إنه يساوي مثلًا خمسة آلاف جنيه — لا يهمُّ عصابة من هذا النوع … إن ما يهمهم حقًّا هو الخريطة التي تركها الأمير … هذه الخريطة التي لو وُجدت لاستطاعوا الوصول إلى كنز الأمير … والذي لا بد أنه يساوي الملايين … لهذا عندما ضاعت الخريطة أصبح ملك الشطرنج لا قيمة له — بالنسبة للعصابة — على الإطلاق!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤