الفصل السابع عشر

سلطان الكلمات

وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا (سورة البقرة)، يذكر ابن جنِّي هذه الآية الكريمة في سياق حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص»، ثم يجيء في تعليقه هذا التساؤل: وماذا عن الأفعال والحروف من مفردات اللغة؟ وكتاب «الخصائص» هذا، أي خصائص اللغة العربية، يكاد ينفرد وحده في التراث العربي كله، من حيث تناوله للغة العربية تناولًا هو أقرب ما يكون لما يصح تسميته ﺑ «فلسفة» اللغة، دون أن يورد المؤلف في كتابه الضخم هذه الصفة لما يكتبه، فلعلك تعلم أننا حين نضيف اسم «الفلسفة» إلى أي جزء من أجزاء المعرفة، كأن نقول — مثلًا — فلسفة التاريخ، فلسفة العلم، فلسفة الفن، فلسفة السياسة، فلسفة اللغة، فإنما نعني البحث عن المبادئ الأساسية العامة، الكامنة وراء مجموعة القواعد والقوانين الخاصة بالموضوع الذي نتحدث عنه، فاللغة — مثلًا — لها قواعد تضبط استعمالها استعمالًا صحيحًا كقواعد النحو وقواعد الصرف وقواعد الاشتقاق، وهكذا، فيكون السؤال هو: ما هو المبدأ أو المبادئ التي انبثقت منها تلك القواعد؟ فإذا وقع الباحث على ذلك المبدأ، أو على تلك المبادئ، كان ذلك هو ما يؤلف «فلسفة» اللغة، وكتاب «الخصائص» لابن جني هو أوفى ما عرفه الفكر العربي في هذا السبيل، وكان من بين أسئلته المطروحة ذلك السؤال الذي أسلفت لك ذكره، والذي جاء تعليقًا على الآية الكريمة وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وماذا عن بقية مفردات اللغة من أفعال وحروف؟

ولعل ما دعا ابن جنِّي إلى سؤاله هذا هو أن تكملة الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن المقصود ﺑ «الأسماء» هو أسماء الكائنات العينية على اختلافها؛ إذ تقول الآية الكريمة: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، وكلمة «عرضهم» تدل على أن المسميات بتلك الأسماء تشمل الكائنات العاقلة، والذي عُرض على الملائكة بعد أن علَّم الله آدم الأسماء كلها هو مسميات تلك الأسماء، ليطلب منهم أن ينبئوه بأسمائها، فإذا كانوا لا يعلمونها ويعلمها آدم — عليه السلام — كان ذلك بمثابة البيان عن بعض العلة التي لا تجعل الملائكة أحق بالخلافة ممن استخلفه الله سبحانه وتعالى، فقد اختص الله آدم بتعليمه ما لم تعلمه الملائكة، فإذا كان الذي علمه آدم — عليه السلام — هو «الأسماء» فهنا يجيء سؤال ابن جني: وماذا عن الأفعال والحروف؟ وعند قراءتي لهذا الجزء من أقوال ابن جني علقت عليه في مذكراتي، بكل التواضع الذي لا يسمح لي بأن أجعل لنفسي قدرًا أكثر من قدري، وكانت خلاصة تعليقي هي أن ابن جني قد نظر إلى المسألة من زاوية علم النحو، ولما كانت مفردات اللغة — من هذه الزاوية — تنقسم ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف، فقد حق له أن يطرح سؤاله عن الأفعال والحروف ماذا كان شأنها، إذا كان الله سبحانه وتعالى قد علم آدم — عليه السلام — «الأسماء كلها»؟

لكن السؤال لم يكن لينشأ لو أن ابن جني نظر إلى الموقف من زاوية «منطقية» لا من زاوية «علم النحو»، فمن زاوية المنطق الخالص يمكن اعتبار كل كلمة من كلمات اللغة «اسمًا» له مُسمَّاه الخاص به، فالفعل «يكتب» — مثلًا — هو اسم يطلق على نشاط حركي نعرفه جميعًا إذا ما رأينا كاتبًا ممسكًا بقلمه، يحركه على الصورة التي نعرفها عن الكتابة. ولولا أن أبناء اللغة المعينة قد تعلموا في لغتهم ماذا يطلقون على تلك الصورة الحركية من ألفاظ لما فهم بعضهم عن بعض حين يستخدم المتكلم اللفظة الدالة على فعل الكتابة. فلا فرق بين أن يعرف أبناء اللغة العربية — مثلًا — أن يكون اسم الأداة المعينة هو «قلم» وبين أن يكون اسم الصورة الحركية المعينة هو «يكتب»، وكذلك قل في «الحروف»، فالحرف دالٌّ على «علاقة» معينة بين الأشياء، فإذا قلنا إن الكتاب «على» المكتب، كانت كلمة «على» في هذه الجملة مشيرة إلى «العلاقة» بين الكتاب والمكتب، ومرة أخرى أقول إنه لا فرق بين اسم نسمي به كتابًا واسم آخر نسمي به علاقة معينة بين ذلك الكتاب وغيره من الأشياء، على أن قولي هذا لا ينفي ما يكون بعد ذلك من فوارق بين النوعين من أنواع اللفظ من حيث الطبيعة المنطقية لكل منهما على حدة، والمهم هنا أن ألفاظ اللغة جميعًا، أسماءها وأفعالها وحروفها، هي — من زاوية ما — أسماء كلها، برغم ما هنالك من اختلافات بين الحقائق الواقعية التي يسميها كل نوع منها.

فإذا كانت الآية الكريمة تنص على أن الله سبحانه وتعالى علم آدم «الأسماء» كلها، فهنالك وجه بأن تفهم على أنه — سبحانه — قد علمه «اللغة» بكل مقوماتها، فضلًا عن تعليمه «طبائع» الأشياء التي تشير إليها تلك الأسماء؛ إذ الأسماء بغير معرفة مسمياتها تفقد دلالاتها، وإنه لمما يرجح لنا أن نأخذ الأسماء على أنها تعني مقومات اللغة جميعًا، كما قد تعني كذلك الاستعداد الفطري لتعلم اللغة، وهو استعداد يميز بني آدم دون سائر الأحياء، أقول إنه مما يرجِّح لنا هذا الفهم الأوسع أن مفردات الأسماء، مهما بلغ عددها، لا تتضمن عملية «التفكير»، أو «العقل»؛ وذلك لأن عملية التفكير إنما تبدأ حين نربط اسمين أو أكثر برباط يجعل منهما جملة تحمل حكمًا ما، أي تحمل فكرة ما، فإذا نطقت بلفظة «كتاب» وحدها، وبلفظة «مكتب» وحدها، فلا جملة هناك، وبالتالي فلا فكرة، أما إذا ربطت الاسمين برباط دال على علاقة بينهما فنقول — مثلًا — الكتاب على المكتب، فقد أصبح عند السامع صورة متكاملة يمكنه أن يتصرَّف على أساسها إذا أراد، وقل هذا في كل فكرة عند إنسان.

ولقد طال بي التمهيد الذي أردت به أن أهيئ ذهن القارئ لما قصدت إلى عرضه، والذي قصدت إلى عرضه هو بدوره مستمدٌّ من آيات قرآنية كريمة، وأعني الآيات التي أشارت إلى ما أراده الله سبحانه وتعالى من أن يكون لبعض الأسماء «سلطان»، قال تعالى في سورة يوسف: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وقال تعالى في سورة النجم: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وقال تعالى في سورة الأعراف: أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، فهذا كله قد يعني فيما يعنيه أن الإنسان ربما استخدم اللغة على نحو يجعلها بغير «سلطان»، أي بغير قوة، وقوة اللغة إنما تكون في دلالتها، وفيما تثيره تلك الدلالة عند السامع من نزوع نحو أن يؤدي عملًا ما، فألفاظ اللغة، مفردة أو مركبة في جمل، تتفاوت تفاوتًا بعيد المدى بين من يستخدمونها، من حيث قدرتها على التعبير من جهة القائل وعلى التعبير من جهة المتلقي، وإنني لعلى عقيدة بأننا إذا ما درسنا حالة اللغة وطرائق استعمالها في أمة معينة، إبَّان عصر معين من عصور تاريخها، استطعنا أن نستدل على مقدار النشاط الإيجابي المنتج في حياة تلك الأمة، من صور اللغة التي استخدمها أبناؤها فيما كتبوه، وذلك لأن طريقة استخدامك للغة في محاولة التفاهم مع الآخرين، تحمل في طيِّها الدلائل على مقدار «القوة» الكامنة فيها، وأعني بتلك القوة قدرتها على استحداث التغير عند من يتلقونها، وهذا التغير قد يقف عند حد الاستنارة العقلية، وقد يتعدَّى تلك الاستنارة إلى ما يترتب عليها من ضروب الفعل.

وفي هذه المناسبة أروي عن بحث علمي كنت قد اطلعت على تفصيلاته وأفدت منه فائدة كبيرة، وهو بحث تجريبي قام به أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد، أراد به الباحث أن يعرف مدى الارتباط بين المادة التي يقرؤها أطفال المدارس في مطالعاتهم المقررة وبين ما يكون عليه المجتمع، ازدهارًا أو ذبولًا، عندما يكون هؤلاء الأطفال قد أصبحوا هم الرجال والنساء الذين على عواتقهم تقوم تبعات الحياة، فالارتباط الذي بحث عنه الباحث، وهو بين اللغة المقروءة في عهد الطفولة وبين ما يصيب المجتمع من تقدم أو تأخر، بعد ذلك العهد بنحو ثلاثين عامًا، وكانت الطريقة التي اتبعها الباحث في دراسته تلك هي أن اختار من التاريخ الأوروبي فترات ازدهار وفترات انكماش، ثم ارتدَّ بالسنين في كل فترة من تلك الفترات المختارة نحو ثلاثين سنة ليستعرض بالتحليل العلمي الدقيق ما كان يقرؤه أطفال المدارس عندئذٍ، وما هو إلا أن خرج من بحثه بنتائج فيها من الصواب رجحان حاسم، ومؤداها أن الارتباط قوي بين القراءة الحاثة بمضمونها على روح النشاط والابتكار والطموح، وبين ما يظهر بالفعل في حياة الناس العملية من تلك الصفات، بعد فترة القراءة لهؤلاء الأطفال، بمدة يصبحون بعدها هم الممسكين بالزمام في حياة المجتمع.

للكلمات كل هذا السلطان على عقول البشر؛ لأن الكلمات هي نفسها الأفكار، لا انفصال فيها بين مبناها ومعناها، وأقول ذلك لأني أعلم الخطأ الشائع بأن الكلمات كالأوعية الفارغة، التي قد تأتي لها المعاني فتملؤها، أو لا تأتي فتظل فارغة، أبدًا ليس هذا هو حقيقة الأمر، فالكلمة تحتوي على معناها كما تحتوي الزيتونة على زيتها، أو كما تحتوي الوردة على أريجها، إذا فصلنا الزيت عن الزيتونة لم تعد زيتونة، وإذا فصلنا العطر عن الوردة لم تعد وردة، والذي يحدث — تقريبًا — هو أن الزيتونة تترجم نفسها إلى زيت والوردة تترجم نفسها إلى عطر؛ وهكذا الحال في الكلمات ذات السلطان أو ذات القوة الدلالية حين تترجم نفسها إلى عمل، لولا أن الزيتونة والوردة تفنيان بعملية التحول كما تفنى دودة القز في شرنقة ثم في خيوط الحرير، فأما الكلمات فتظل محتفظة بسلطانها، لتتحول إلى عمل مرة ومرة وألف مرة، ما وجدت في الناس من يستجيبون لسلطانها، لكن هناك ما يشبه الكلمات وليس منها لأنها كلمات خاوية تستعصي على عملية التحول من حالة اللفظ إلى حالة العمل؛ لأن جوفها خواء ولا أشبِّه جوفها الفارغ هذا بجوف الطبلة كما تعوَّد كثيرون أن يفعلوا؛ لأن تجويف الطبلة الفارغ هو أمر مقصود فيها لتؤدي وظيفتها حين يقرعها الطبال، وأما الكلمات الجوفاء فتصنع في نفسها ما لا يراد لكلمات اللغة أن تصنعه؛ إذ أريد بتلك الكلمات دائمًا أن تكون مثقلات بالفحوى، الذي من شأنه في الحالات السوية أن يغير من المتلقي قليلًا أو كثيرًا، ونحن هنا إنما نعني — بالطبع — كلمات اللغة حين تبنى في جمل؛ لأنها وهي مفردات، تشبه المادة الخام قبل تصنيعها.

رسالات السماء كلمات، ورسالات المصلحين من البشر كلمات، والعلوم كلمات، أو هي رموز كالكلمات، مبدعات الشعراء والأدباء الناثرين كلمات، لكن الكلمات في تلك الحالات كلها إنما هي من ذوات السلطان، تجيء وفيها من القوة ما يدفع الناس دفعًا إلى مجاهدات ومغامرات، ومنشآت تنسج خيوطها بعضها مع بعض لتصبح آخر الأمر هي ثقافة الإنسان وحضارته، وبين الثقافة والحضارة ما بين الروح والجسد، فالحضارة منشآت تراها الأبصار وتمسها الأيدي أدت إليها ثقافة تسري فيها بقيمها وأذواقها ومعتقداتها سريان الروح في الجسد، فترى الجسد ناشطًا بفعلها، لكنك لا تراها، فإذا سألتني: ومتى تكون جملة الكلمات ذات سلطان على الناس؟ أجبتك بقولي: انظر إليها كم تحرك بها الناس نحو أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير لهم الله ظروف معاشهم، فإذا وجدت الجملة قد وقعت بكلمات على صمم، فقل عنها إنها قد كانت — لأمر ما — كالهباء يسقط على الأجساد فلا تحسه الأجساد، فالكلمات بنتائجها، وأذكر أن ابن جني الذي حدثتك عنه وعن كتابه في خصائص اللغة العربية منذ حين، أذكر أنه قد فرَّق لنا بين «القول» و«الكلام»، بأن القول تتحرك به الشفاه، سواء أكان له أثر يدوم في حياة الناس أم لم يكن، وأما «الكلام» فهو من الأصل اللغوي نفسه الذي منه جاءت لفظة «كلم» (بتسكين اللام) وهو الجرح، والمكلوم هو الجريح، فالكلام هو الذي يحز الجلود حزًّا ليدوم له في حياة الناس أثرًا، وليترتب عليه — بالتالي — فعل يغير من صورة تلك الحياة.

وهنا أشعر بضرورة التنبيه إلى أن مجموعات الكلمات ذوات السلطان في تغيير الحياة، ليس كلها من نوع واحد، ففيها ما سلطانه مباشر على ما يراد استحداثه وتغييره، وهذه هي العلوم، أو ما يدور مدارها من ضروب الكلام الذي تنصب دلالته على دنيا الواقع انصبابًا مباشرًا، ولكن منها كذلك ما يفعل فعله بطريق غير مباشر، وتلك هي مبدعات الأدب أو ما يسير مسارها؛ لأن العمل الأدبي كقصيدة الشعر أو الرواية، غايته هي أن يترك عند المتلقي «انطباعًا» من شأنه أن يميل به على المدى القصير أو المدى البعيد نحو أن يكوِّن لنفسه «اتجاهًا» معينًا نحو الحياة وأوضاعها، ولكي أزيد الواضح وضوحًا بمثل أقدمه أقول: قارن مهندسًا في تخطيط المدن وهو يجري تغييرات جغرافية على بعض شوارع القاهرة، قارنه بأديب يكتب عن سلوك القاهريين نحو مدينتهم ليتبين القارئ مقدار ما يكنُّه أهل القاهرة من ولاءٍ نحو مدينتهم، فبينما المهندس يغير بعلمه ما يريد تغييره على أرض القاهرة في مدة يعرف حسابها، ترى الأديب — إذا كان موفَّقًا — يعرض على قارئه صورة يرسمها في روايته — مثلًا — لحياة الناس كما تقع فيتأثر القارئ بما قرأ، ويختزن في نفسه ذلك الأثر لينضاف إليه أثر ثانٍ من عمل أدبي آخر، وأثر ثالث ورابع، فتنسج من هذه التأثرات «حالة» وجدانية، قد يشتد بها ضيقًا فيتحرك ضميره ليغير من سلوكه نحو مدينته، فكلمات العلم عند المهندس وكلمات الأدب عند الأديب، كلتاهما من ذوات السلطان، إلا أن الأولى تفعل فعلها — كما أسلفنا — مباشرة، والثانية تؤدي عملها مرورًا بأنفس القراء وتحولها التدريجي نحو «اتجاه» جديد.

وربما يكون من المفيد في توضيح الصورة العامة التي أود لها أن ترسخ في الأذهان أن أقول: صور لنفسك هذا العالم الذي نحيا بين جنباته وكأنه صفحتان منشورتان بين يديك، إحداهما هي الكون بكل ما فيه من كائنات والأخرى هي مجموعة الكلمات التي أثبتها الإنسان على طول تاريخه في كتب وصحف وما شئت أن يكون مضافًا إليها مجموعة الألفاظ التي تدور بها الأحاديث بيننا، فعلى يسارك أشياء وظواهرها، وعلى يمينك رموز لغوية أو ما يشبهها من رموز العلوم. ثم وجِّه إلى نفسك هذا السؤال: متى أحفل ومتى لا أحفل بما هو موجود في هذه المجموعة الضخمة من المركبات اللفظية التي تملأ الصحف والكتب وتجري على ألسنة الناس أحاديث يتبادلونها بعضهم مع بعض؟ فبماذا تجيب عن سؤالك هذا؟ أما أنا فأجيب لك عنه، وأقول إن المعول فيما أحفل به وما لا أحفل به هو مقدار علاقة المركب اللفظي الذي على يميني بالأشياء وظواهرها (وبينها الإنسان نفسه) التي على يساري فإذا وجدت في دنيا اللفظ كلمات بثَّ فيها سلطان تقوى به على تثبيت الصالح وتغيير ما عداه حتى يصلح احتفلت بها لأنها هي الأداة الفعالة التي أسلِّح نفسي بها عند مواجهتي لأجزاء العالم الذي أعيش فيه، أما إذا وجدت في دنيا اللفظ مركبات لا تقوى على أن تغير لي شيئًا أو على أن تثبت لي ما أريد له أن يثبت؛ أدرت لها أذنًا صماء إلا أن أجريها في ساعات اللهو دردشة ألغو بها مع من ألغو في ساعات السمر.

ولكن لماذا قلت كل هذا الذي قلته؟ فعلت ذلك لأثير في نفسك — أيها القارئ — شيئًا من الخوف كالخوف الذي ثار في نفسي من أن يكون بين العلل الكبرى التي أدت إلى كثير من مواضع النقص في حياتنا أن إحدى الصفحتين في دنيانا، وهي صفحة المركبات اللفظية التي نكتبها ونقرؤها لا تمس الصفحة المقابلة لها، وأعني عالم الأشياء وظواهرها إلا مسًّا رقيقًا، فبحر الألفاظ منبسط فسيح نسبح فيه ونبلبط في لهونا وجِدِّنا معًا، وعالم الأشياء وظواهرها قائم هناك على يسارنا لا نغير منه إلا القليل، ولا تغضب أيها القارئ لهذا القول ولا تقذفه متسرعًا بتهمة التشاؤم؛ لأنني لو كنت متشائمًا ليئست وتركت القلم في علبته، لكنني أكتب وأتحمل الصدمات.

أراد الله تعالى للإنسان أن «يقرأ» أولًا ليجيء إيمانه على ضوء ما قرأه إيمانًا بصيرًا، وذلك رمز يراد به أن تكون للمعرفة منزلة أولى حتى يكون الإيمان إيمان العارفين، فالكلمات ذوات السلطان هي كالمصابيح ويجيء الإيمان الصحيح على هداها، فإذا رأينا من يعكس ترتيب الخطوات أدركنا أنه قد ضيع على نفسه نور المعرفة وقوة الإيمان معًا، ولم يبقَ له إلا طيبة قلبه، وليكن واضحًا أنني قصدت بهذا الترتيب الأولوية المنطقية لا الأسبقية الزمنية، بمعنى أنني قد أبدأ مع طفلي الصغير ببث روح الإيمان في قلبه، أملًا أن يعود في المرحلة المناسبة من عمره فيعمل على كسب المعرفة التي يُقيم عليها صرح إيمانه، ولقد روى لنا التاريخ الأوروبي قصة صدام نظري عنيف حدث في أوروبا عند لحظة من أولى لحظات التحول مما يسمى في تاريخهم بالعصور الوسطى إلى ما يسمى في تاريخهم أيضًا بالعصور الحديثة، وأعني بها تلك المعركة الفكرية التي دارت بين «أبيلار» وخصومه، والتي تتلخص في قول هؤلاء الخصوم بأن الإنسان لكي يعرف لا بد له أن يؤمن أولًا. فكانت صيحة أبيلار هي أن العكس أصوب إذ لا بد للإنسان من أن يعرف أولًا لكي يؤمن مستندًا في إيمانه إلى عقل مستنير.

وكان أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى: اقْرَأْ، ولعل في ذلك ما يتضمن وجوب أن تكون المعرفة الصحيحة أساسًا للإيمان الصحيح، ويبقى أن نسأل: معرفة ماذا؟ فنجيب على هدي القرآن الكريم: معرفة خلق السموات والأرض وما بينهما، وهنا أعود بك إلى ما صوَّرته لك من صفحتين واسعتين منشورتين بين يديك: صفحة الكلمات من جهة، وصفحة الكون وكائناته من جهة ثانية، والحياة المثلى هي أن تكون الكلمات موصولة بالكون ليكون لها على الأشياء سلطانها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤