الفصل الحادي والعشرون

المكر المتبادل

علمت مما تقدم أن ميمونة سبية إفرنجية كانت في جملة خدم لمباجة بنت الكونت أود حاكم تلك المقاطعة في فرنسا، وقد سبيت في جملة غنائم المنيذر الإفريقي زوج لمباجة المذكورة، وكان أهل الخباء يعتقدون أن ميمونة كانت من خاصة نساء لمباجة وأقرب المقربات إليها، فكان عبد الرحمن يرجو الانتفاع من ذلك في بعض المخابرات مع أود أو بعض قواده ولكنه كتم هذا الأمر في نفسه ولم يظهره حتى ولا لهانئ، فلما بعثت ميمونة إليه في ذلك الصباح أسرع إليها على عجل يتوقع منها خبرًا يتعلق بالحرب من قبيل ما تقدم.

فلما رآها على تلك الصورة خيل له أنها تعشقه وتتفانى في خدمته فسره ذلك على أمل الاستعانة بها في تحقيق غرضه، فابتسم لها ودخل حتى جلس على وسادة هناك وهو يقول: «ما الذي تريدينه مني يا ميمونة؟»

فقالت وهي تحاول الجلوس بتأدب: «أريد أمورًا كثيرة، يا مولاي، لا أدري أيها أقوله أولًا.» قالت ذلك وتنهدت وأنزلت دمعتين رآهما عبد الرحمن تتساقطان على خديها وهي مطرقة تظهر أنها استحيت من افتضاح سرها بهما.

فانخدع عبد الرحمن، ولكنه أجابها على الفور: «لا أرى حاجة إلى ذلك وأنت تعلمين ما عاهدت عليه ربي منذ عزمت على هذه الحرب.»

فأسرعت في الجواب كأنها تريد إصلاح ما تبادر إلى ذهنه مما عسى أن يكون قد فهمه خطأ فقالت: «لا يتوهم مولاي أني أطمع في غير رؤية هذا الوجه الصبوح، ولكني مخطئة في التطاول إلى ما لا أستحقه، فإن في خباء مولاي الأمير عشرات من أمثالي وليس بينهن من تجرؤ على هذه الكلمة، أما أنا فلا أدري ما الذي جرأني عليها، فهل دلني قلبي على الصواب أو لعله خدعني؟ لا أدري، وعلى كل حال يكفيني أن يكون الأمير عالمًا بما له في القلب من الحب الشديد، على أني لا أكلفه مثله أو جانبًا منه؛ لأن الحب لا يكون قهرًا.» قالت ذلك وغصت بريقها وسكتت.

وكان عبد الرحمن يعتقد أن ميمونة تحبه، ولكنه لم يسمع منها مثل ذلك العتاب قبلًا، فتبادر إلى ذهنه أنها اندفعت إلى العتاب غيرة عليه من مريم، والغيرة تفعل العجائب فأراد أن يتأكد من ذلك فقطع حديثها قائلًا: «هل رأيت الضيفة الجديدة؟»

فسرت ميمونة؛ لأن عبد الرحمن بدأ بذكرها، فأجابت على الفور: «كيف لم أرها وقد وقفت نفسي لخدمتها منذ أن وصلت، لعلمي أن ذلك يرضي الأمير ولم أفارقها إلا ساعة في هذا الصباح لاشتغالها في غرفة القهرمانة مع الأمير هانئ!» قالت ذلك وهي تتظاهر أنها تقوله بسذاجة وسلامة ضمير، وأصغت بكل جوارحها لما عساه أن يبدو من عبد الرحمن بعد سماعه ذلك الخبر.

أما هو فأحس بشيء من الغيرة وتذكر أن والدة مريم إنما ادخرتها له، وفكر في اختلاء هانئ بمريم على تلك الصورة، فلم يرَ سببًا غير الحب المتبادل بينهما، فحدثته نفسه لأول وهلة أن يمنع هانئًا من ذلك، ولكن حبه لهانئ ورغبته في أن يستمر الوفاق معه إلى نهاية تلك الحرب — كما شرطاه على نفسيهما — غلب على ذلك الشعور، وتصور ما هم فيه من الأمر العظيم والخطر الشديد، فأسرَّ في نفسه أنهم إذا فرغوا من هذه الحرب فائزين وظل هانئ على ما شرطه على نفسه من البسالة والثبات ساعده على الظفر بها، فتجلد عبد الرحمن وأجاب ميمونة وهو يظهر عدم المبالاة: «لكن هانئًا خرج الآن من عندها، وشاهدت مريم مع القهرمانة، وقد سرني ارتياحها للإقامة في الخباء، فأرجو أن تعيريها اهتمامك؛ لأني موصٍ بإكرامها ولي في ذلك غرض أرجو أن تساعديني على تحقيقه.»

فلما سمعت ميمونة قوله استغربت ما يكتمه من أمر هذه الفتاة، وتأسفت لذهاب سعيها هباء منثورًا، ولكنها أرادت أن تتحقق من الأمر، فبالغت في التجاهل وإظهار السذاجة، وقالت: «أؤكد يا مولاي أني فاعلة ما تريده، وفي الحقيقة إن هذه الفتاة من نوادر الخلق جمالًا وعقلًا ورزانة وهي قريبة إلى كل قلب، لا يستطيع جلسيها إلا أن يحبها فإذا كنت لا أكرمها إكرامًا لمولاي الأمير فإني أفعل ذلك حبًّا لها ولا بأس إذا أحبها الأمير أكثر من سائر نسائه؛ لأنها أهل لذلك.»

فخشي عبد الرحمن إذا طال الحديث أن يبدو منه ما لا يريد التصريح به، فابتدرها قائلًا: «لقد خرج بنا الحديث عن الموضوع، ما الذي دعوتني من أجله الآن؟»

فأظهرت الاهتمام وقالت: «دعوتك لأمر هامٍّ وكان يجب ألا أتحدث عنه وربما كان فيه وحده ما يغنيني عن الأدلة على حبي للأمير عبد الرحمن وتفاني في خدمته فاعلم يا مولاي أني بثثت العيون من بعض الأفراد الذين تركتهم لخدمتي لاستطلاع أحوال العدو بعد سقوط بوردو، فعلمت أن الكونت أود ورجاله متربصون لكم في مضيق دردون على مقربة من هذا المكان، والمضيق في طريقكم إلى نهر لوار.»

ولم يكن عبد الرحمن غافلًا عن أخبار عدوه؛ لأن جواسيسه كانت في كل الأنحاء وأكثرهم من أهل البلاد الأصليين وخصوصًا اليهود فإنهم كانوا يبذلون كل رخيص وغالٍ في سبيل مساعدة المسلمين انتقامًا من المسيحيين، وطمعًا في الغنائم كما تقدم، فلم يكن خبر أود ودردون ليخفى على عبد الرحمن ولا كانت ميمونة تجهل اطلاعه عليه ولكنها تجاهلت وأظهرت الاهتمام بأمر الجند، وأوهمته أنها اطلعت على السر بسعيها الخاص ولو علمت أنه يجهل ذلك الخبر لبالغت في كتمانه، فسايرها عبد الرحمن وأظهر أنه فرح بذلك الخبر كي يحفزها على مصارحته بأخبار أخرى، فقال لها: «بورك فيك يا ميمونة قد تحققت الآن من حبِّك لنا وسعيك لنصرنا، وأرجو ألا تغفلي عن مثل هذه الأخبار.»

لم تكن ميمونة تجهل اطلاع عبد الرحمن على ذلك الخبر من قبل، ولكنها تجاهلت التماسًا لما يبرر لها استقدامه في ذلك الصباح لتطلعه على حب هانئ لمريم إيقاعًا للفتنة بين الأميرين، وقد ساءها أن حيلتها لم تأتِ بالفائدة المطلوبة، ونسبت إخفاق مسعاها إلى سعة صدر عبد الرحمن وطول أناته، فأضمرت أن تحول سهام مساعيها نحو هانئ؛ لأنه شابٌّ لا يصبر على الغيظ، وغرضها الأول إيقاع الفتنة بين القائدين وفي خصومتهما فشل الجند الكبير، فعزمت على تدبير الحيلة في وقت آخر، ولما سمعت ثناء عبد الرحمن على سعيها في خدمته ابتسمت ونظرت إليه نظرة عتاب ودلال واستعطاف ولولا رزانة عبد الرحمن وقوة إرادته لخرقت تلك النظرة صدره إلى قلبه، ولهاجت فيه لواعج الغرام وأنسته الجند والنصر الذي يسعى إليه، لما في عينيها من عوامل الجاذبية وما حول فمها من الملامح الفتانة وما في مجمل ذلك من السحر الآخذ بالألباب، ولا غرو إذا عبَّر الشعراء عن تلك الجاذبية بالسحر؛ لأن أثرها لا يمكن تعليله بغير السحر، وربما عبَّر عنه بعض علماء الطبيعة اليوم بالكهربائية، فمن كان حسنه جذابًا قالوا إن كهربائيته قوية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤