الفصل الخامس والعشرون

المنديل

وفي الصباح، قام المسلمون للصلاة ثم نفخ في النفير فتأهبوا للسير، وساروا كأنهم بحر يتلاطم بالأمواج وفيهم الفرسان والمشاة وبينهم الرماحة والرماة وقائد الفرسان العام هانئ، وقد ركب جواده ولبس خوذته والتف بعباءته، وقوضوا الخيام، ولم يتركوا منها إلا ما وضعوا فيه غنائمهم، ومعها الأمير بسطام وبعض رجاله ونفر من رجال القبائل الأخرى.

وبعد المسير بضع ساعات، أشرفوا على جبال أخبرهم الجواسيس أن أود ورجاله متحصنون فيها فنزل المسلمون في سهل بالقرب من ذلك المضيق، وترجل الفرسان وسرحوا خيولهم للعلف والراحة، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر وبثوا سراياهم، يستطلعون أحوال أعدائهم ومناعة مواقعهم ليعلموا من أين يهاجمونهم، وذهب هانئ للاستراحة في خيمته، وفي المساء جاءت الطلائع فأخبروا أن الإفرنج مقيمون في الجبال — وهم كثيرون — وقد تحصنوا وأقاموا لا يبدون حراكًا، فاجتمع أمراء المسلمين وتفاوضوا في الأمر، فرأوا أن الهجوم على حصون الإفرنج شديد الخطر، فتمهلوا ليروا ما يبدو منهم فإذا لم يخرجوا من حصونهم فكروا في الهجوم عليهم.

figure
«فنزل المسلمون في سهل بالقرب من مضيق، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر، وبثوا سراياهم يستطلعون أحوال أعدائهم.»

فبات هانئ تلك الليلة وقد عادت إليه هواجسه، وعاد إلى التفكير في مفارقة المعسكر بضع ساعات، ولا خطر على الجند في غيابه للأسباب التي قدمناها على أنه ظل مترددًا في الذهاب خشية الفشل، وحياء من عبد الرحمن.

فأصبح في اليوم التالي وخرج على قدميه، وقد تراكمت عليه الهواجس، وهو يفكر في حاله وحال مريم وحال الجند، وبينما هو يتمشى في سهل خارج المعسكر، رأى رجلًا بلباس عربي قادمًا من عرض البر يهرول نحوه ويشير إليه، فوقف فلما دنا الرجل منه تفرس هانئ فيه فإذا هو ملثم، فناداه فمد الرجل يده إلى جيبه وأخرج منديلًا وسلمه إلى هانئ، فلم يكد هانئ يتسلم المنديل حتى شم منه رائحة مريم، عرف ذلك من طيبها الذي أعطاه لها بالأمس، فصاح في الرجل: «من أنت؟ وما خبرك؟»

فقال: «إن هذا المنديل ينبئك نيابة عني أن صاحبه في حاجة إليك على عجل.» قال ذلك وسار يعدو في عرض البر فبهت هانئ ثم انتبه لنفسه وصاح في الرجل أن يقف لم يلتفت إليه، فوقف هنيهة وهو يفكر فيما عسى أن يكون سبب تلك الدعوة المستعجلة، ولم يشك في أن المنديل مرسل من مريم وأن الطيب طيبها، فلم يرَ بدًّا من المبادرة إلى إجابة الدعوة وهو مطمئن البال على المعسكر، وأسرع إلى خيمته فركب جواده والتف بعباءته وسار يلتمس الخباء، ولم ينبئ أحدًا بمسيره لعلمه أنه سيعود قبل انقضاء النهار، فلا بأس من غيابه، وخشي إذا شاور عبد الرحمن أن يستخف بعمله أو أن يمنعه من الذهاب.

سار هانئ وهو يستحث جواده لا يلتفت يمينًا ولا شمالًا حتى وصل إلى الخباء، وقد مالت الشمس على خط الهاجرة وتبلل هو وجواده بالعرق، وحال وصوله ترجل ودخل توًّا إلى خباء الأمير عبد الرحمن، واستدعى القهرمانة فجاءت وهي تتوكأ على فخذيها وتمشي الهوينا وحالما وقع نظرها عليه ابتدرته قائلة: «أين مريم؟»

فبغت لسؤالها وقال لها: «أتسألينني عن مريم وأنا إنما جئت لأسألك عنها أين هي؟»

قالت: «هي عندك ألم تبعث في طلبها هذا الصباح؟»

قال هانئ: «أنا؟ بعثت في طلبها؟ أين هي؟ قولي إن الوقت لا يساعدنا على المزاح.»

فقالت وقد ظهرت علامات الدهشة على وجهها الكالح وامتقع لونها: «أظنك أنت الذي تمزح، ألم تبعث إليها في هذا الصباح مع رسولك ومعه جوادك وعباءتك وخوذتك؟»

فصاح فيها وقد اشتد غضبه: «كلا لم أبعث أحدًا، وهذا جوادي معي، وهذه عباءتي فكري فيما تقولين، قولي الحق وإلا قطعت رأسك بهذا السيف.» قال ذلك ويده تمسك بسيفه فخافت القهرمانة وتحيرت بماذا تجيبه، وقد ارتج عليها من الخوف والدهشة، وقالت: «تمهل يا بني لأقص عليك الخبر جاءنا في هذا الصباح رجل أظنه من رجالك، وقد ركب جوادًا ومعه جواد آخر أدهم لم تشك أنه جوادك عليه عباءة وخوذة وقال لي إنك تطلب مريم حالًا بأمر الأمير عبد الرحمن لأمر ضروري يتعلق بوالدتها، ودفع إليَّ هذا الكيس (ومدت يدها وأخرجت كيسًا فيه دراهم) فامتنعت في بادئ الأمر ولم أطعه، فألح عليَّ وأراني الجواد والعباءة، وقال لي إنك تطلب مريم لغرض عاجل يتعلق بالحرب، وإنك بعثت لها جوادك لتركب عليه فرفضت طلبه فذكر لي علامة لا يعرفها أحد سوانا وهي قارورة الطيب، وذكر أيضًا تدليلًا على صدقه أنك اجتمعت بمريم عندي وأعطيتها قارورة الطيب فلم أستطع إلا تصديقه، ومع ذلك فإني لم أسلم بإرسالها إلا بعد أن أتى بعلامة من الأمير عبد الرحمن لا يعرفها سواي، وأخيرًا سلمته إياها وأنا خائفة عليها، ولشدة خوفي أخرجت معها أكثر نساء الأمير عبد الرحمن حظوة عنده وأوصيتها بها.»

وكان هانئ يسمع كلام القهرمانة وهو يرتعد من شدة الغضب فلما تحقق من ذهاب مريم، قال: «ومن هي تلك الحظية؟»

قالت: «هي ميمونة الإفرنجية أظنك تعرفها.»

قال: «نعم أعرفها، وإلى أين ذهبا؟ وكيف؟»

قالت: «حينما توهمت صدق ذلك الرسول، ورأيت مريم راغبة في الذهاب أذنت لها فيه، فركبت الجواد الأدهم وركبت ميمونة جوادًا آخر، ومضوا نحو المعسكر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤