الفصل الثلاثون

المعركة

وهمت مريم بأن تجيب بسطامًا، فسمعت ضجيجًا في البستان وقد علت الضوضاء، وسمعت رجلًا يقول: «إن الأمير هانئًا هنا.»

فلما سمعت اسم هانئ بغتت واشتغلت عن بسطام باستطلاع الخبر، فأسرعت إلى الباب وأسرع هو أيضًا فرأت جماعة من العرب قد وقفوا حول الجواد الأدهم، وهم يقولون: «أليس هذا جواد الأمير هانئ؟ فأين هو؟»

فأجابهم بسطام: «ليس هانئ هنا ماذا تريدون منه؟»

فتقدم أحدهم وقد غشيه الغبار وتجلت البغتة في وجهه وتصبب العرق من جبينه، وقد عرف الأمير بسطامًا فقال: «إن الإفرنج هاجمونا واشتبك القتال بيننا وبينهم، والأمير هانئ غائب من الصباح، وقد فشل فرساننا وكادت الدائرة تدور علينا فخرجنا للبحث عنه، فإذا لم يدركنا لم تقم لنا قائمة، والأمير عبد الرحمن لم يستطع قيادة الفرسان لاشتغاله بسائر الجند فلما رأينا هذا الجواد الأدهم ظنناه هنا.»

فقال بسطام: «ليس هذا جواده والظاهر أنه طلب النجاة بنفسه ابحثوا عنه في غير هذا المكان.» قال ذلك، وتحول إلى الداخل.

فرجع الرجل ورفاقه إلى الجواد، وتأملوه جيدًا، فتحققوا أنه ليس جواد هانئ، فرجعوا.

وكان جند العرب قد ضعف لغياب هانئ؛ لأنهم لم يكونوا يتوقعون نشوب الحرب في ذلك اليوم، وإنما خرج إليهم الإفرنج بغتة وهم في خيامهم لأسباب تقدم بيانها في أثناء حديث ميمونة، وكان عبد الرحمن في صباح ذلك اليوم في خيمته يصرف بعض الشئون منتظرًا مجيء هانئ إليه للمداولة في أمر الجند، فأبطأ هانئ عليه فانشغل خاطره وهم باستقدامه، وإذا ببعض الرجال قد جاءوه مسرعين ينادون: «إن الإفرنج قد خرجوا إلينا كالسيل الجارف.» وعلت ضوضاء الجند، فخرج عبد الرحمن إلى فرسه وبعث رسولًا إلى الأمير هانئ وسائر الأمراء ليجمعوا رجالهم ويتأهبوا للهجوم على عادتهم، ولم يكد يفعل ذلك حتى انهالت النبال على خيمته، فتطلع إلى ميدان المعركة فرأى الإفرنج يهجمون وقد تصاعد غبارهم، فركب جواده ونادى رجاله ووقف في انتظار هانئ ليقود الفرسان ويرتبهم، فعاد الرسول وهو يقول: «لم نجد هانئًا في خيمته ولا رأينا جواده في مربطه.»

فارتبك عبد الرحمن في أمره، وقد كان يعتمد كثيرًا على هانئ في تنظيم الهجوم؛ لأنه قائد فرسانه، والفرسان أقوى فرق الجند عند العرب، فغضب عبد الرحمن لتخلفه غضبًا شديدًا، وأخذ على نفسه قيادة الفرسان فلم يستطع تنظيمهم؛ لأنه لم يتعودهم ولا تعودوه والفرصة قصيرة، فالتحم الجيشان والعرب مرتبكون، ولولا شجاعة عبد الرحمن وحسن تدبيره في ذلك المركز الحرج لتشتت رجاله منذ الصباح لكنه ظل رابط الجأش، وأخذ يستحث الرجال ويمنيهم ويسير أمامهم إلى صفوف الأعداء لا يبالي بما يتساقط عليه من النبال؛ لأن موته في ساحة الحرب كان أيسر عليه من الفشل.

فلما مالت الشمس عن خط الهاجرة ولم يأتِ هانئ، بعث جماعة للبحث عنه، وظل هو يدبر أمور الجند ويصبرهم ويحثهم ويشجعهم حتى كادت الشمس تدنو من المغيب، وكاد الإفرنج ينتصرون على العرب وكان الفرسان يحاربون وعيونهم شائعة في عرض البر يتوقعون قدوم قائدهم أو سماع خبر عنه، وكان الأمراء كلما التقى اثنان أو ثلاثة منهم ولو تحت خطر الموت، تساءلوا عن هانئ وسبب غيابه، وشعروا بأهميته في حروبهم أكثر مما كانوا يظنون.

أما عبد الرحمن، فمع سعة صدره وشدة حبه للأمير هانئ، فقد حقد عليه وتوهم أن الحب حمله على المسير إلى حبيبته على أثر ما سمعه من رضائه عن حبهما، ولكنه كان في شغل عن التوسع في هذا الشأن بما يحيط به من المشاغل الهامة خشية الفشل على أنه أضمر إذا صح ظنه في هانئ أن يحرمه من مريم، كانت تلك الأفكار تتوارد على ذهنه متقطعة يتخللها ارتباكه في كيف يتدارك الخطر المحدق به وبجنده، وكان مع ذلك لا يفتر عن التلفت والتطلع لعله يرى هانئًا قادمًا، ولكنه لم يكن يرى إلا ما يزيده اضطرابًا بزيادة اضطراب الجند، وخاصة الفرسان، حتى كاد الإفرنج أن يصلوا إلى خيمته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤