الفصل الثاني والثلاثون

هانئ الآخر

ولبثا برهة صامتين لا يتكلمان، وكل منهما في خواطره يتنازعهما التفكير في مريم وفي ذلك الفارس، وبينما هما في ذلك، إذ سمعا وقع حوافر مسرعة نحو الخيمة فأصغيا، فإذا بغلام دخل مسرعًا وهو يقول: «إن فارسين بالباب يلتمسان الدخول.» فقال عبد الرحمن: «ليدخلا» فخرج الغلام ثم عاد وفي أثره رجل عليه خوذة وعباءة حمراء، فلما وقع نظرهما عليه علما أنه الفارس الذي سمى نفسه هانئًا، فلما رآه هانئ وقف وأقبل نحوه وتفرس في وجهه، فرآه قد تلثم تحت الخوذة بلثام أسود، ورأى من خلال العباءة ثوبًا أسود فصاح فيه: «يا أهلًا بالفارس الذي يسمي نفسه هانئًا.» قال ذلك وتقدم نحوه وهو يتوقع جوابه، فظل الفارس ساكتًا ينظر من خلال اللثام، فابتدره الأمير عبد الرحمن قائلًا: «إنك لذو فضل على هذا الجند بالله ألا رفعت لثامك وعرفتنا بنفسك.»

فرفع الفارس يده إلى الخوذة فنزعها، فبان من تحتها خمار أسود، وألقى العباءة عن كتفيه فبان من تحتها ثوب أسود، فعرف هانئ للحال أنه ثوب مريم، فلم يتمالك أن صاح: «مريم، مريم.»

فمد الفارس يده إلى الخمار فأزاحه، فبان من تحته وجه فتاة يتدفق حيوية وجمالًا، وقد زاده التلثم دفئًا فتورد وأبرقت العينان، ولا تسل عن هانئ حينما علم بما أظهرته مريم من البسالة التي تندر بين النساء، فقال وهو لا يستطيع إمساك نفسه: «مريم أهذه الفعال فعالك يا حبيبة؟ عهدناك ربة الجمال واللطف، ولم يخطر لنا أنك ربة الجواد والسيف، حبيبتي ما الذي جرى؟ أين كنت؟ ما هذا؟ ماذا أرى؟»

قالت: «إنك ترى مريم واقفة بين يديك ويدي الأمير عبد الرحمن، ولم أفعل أمرًا يستحق هذا الثناء وإذا كنت قد فعلت شيئًا، فما هو إلا لأني تسميت باسم الأمير هانئ، فالأمير هانئ هو الذي فعل ذلك.» قالت ذلك بلثغتها المعهودة، وقد تجلى على محياها شيء هو غير البسالة والأنفة تجلت على وجهها ملامح الحب، فذهب كل ما كان هناك من أمارات الشجاعة والرجولة، ثم تنبهت إلى أنها قالت ذلك بين يدي الأمير عبد الرحمن، فغلب عليها الحياء فأطرقت فابتدرها عبد الرحمن قائلًا: «بورك فيك، وبورك في الأمير هانئ إنكما متكافئان، ولولاكما لأصاب هذا الجيش ضيق تعصف بنا عاقبته، تفضلي يا بنية اجلسي وقصي علينا خبرك، وما الذي دعاك إلى اقتحام هذا الخطر العظيم فقد سمعت من أخي هانئ أنك خرجت من الخباء في هذا الصباح بخديعة، وذهب هو من الصباح للبحث عنك ولم يعد إلا بعد مجيئك، عاد وهو يائس من العثور عليك فما هو خبرك؟»

قالت: «أرجو قبل الشروع في الحديث أن تأمر باستقدام رفيقتي وصديقتي ميمونة التي تحملت العذاب من أجلي، فإنها خارج هذا الفسطاط.» وأشارت بأصبعها إلى الخارج.

وكان الأميران قد علما بأنهما ضلا معًا، فلم يستغربا كلامها، فصفق عبد الرحمن فدخل الغلام فأمره أن يدخل المرأة الواقفة في الخارج، وبعد هنيهة دخلت ميمونة وهي تتظاهر بالحياء والدعة، فأشار إليها عبد الرحمن أن تجلس على طنفسة في أحد جوانب الفسطاط وهو يتبسم لها اعترافًا بحسن صنيعها، ثم حول وجهه إلى مريم للاستماع إلى حديثها وكان هانئ لا يزال واقفًا، فأشار إليه عبد الرحمن أن يجلس بجانبه فجلس، وأصاخ الأميران بأذنيهما لسماع القصة.

فبدأت مريم تقص حديثها منذ جاءها الرسول يلتمس ذهابها إلى الأمير هانئ، وكيف أن ميمونة عرضت نفسها لخدمتها، وكيف آنستها وأعانتها حتى وصلتا معًا إلى القصر المهجور وما كان من مجيء بسطام وما أبداه من الوحشية، وكيف عرضت ميمونة نفسها للخطر دفاعًا عن مريم، فلما ذكرت مريم ذلك تحولت الأنظار إلى ميمونة، فتظاهرت بالحياء والإطراق، أما هانئ فإنه أحس منذ سمع اسم بسطام بارتعاد من شدة الغيرة، والتفت إلى الأمير عبد الرحمن وهمس في أذنه قائلًا: «يا ليتني قتلته في هذا الصباح.»

أما مريم فإنها استمرت في حديثها، فقالت: «فلما سمع بسطام دفاع هذه الصديقة عني أَمَر رجاله فقبضوا عليها، وأوثقوها وساقوها إلى إحدى الغرف وهي تصيح وتستغيث، فلما يئست من نجاتها توسلت إلى ذلك الوحش الكاسر أن يرفق بي، إني لا أنسى تلك الاستغاثة وإن كان بسطام لم يعبأ بها، فإنه لما خلا بي في ذلك القصر المهجور حدثته نفسه بأمور كثيرة وطال الجدال بيني وبينه، وفيما نحن في ذلك جاء بعض فرسان هذا الجند للبحث عن الأمير هانئ هناك، فعلمت منهم أن الإفرنج هاجموكم وهانئ غائب، وأن العرب في ضعف بسبب ذلك فأصبحت في قلق لأسباب لا تجهلونها، أما بسطام فإنه لم يبال بضياع جند العرب كله، ولما سمع توبيخي له على ذلك انتهرني وعرض بذكر الأمير (وأشارت إلى هانئ) واتهمه بالجبن وأنه فر من المعركة خوفًا من الموت؛ لأني قلت له: «ألا تزال تزعم أن هانئًا غلام لا شأن له وقد رأينا الجند لا يستطيعون شيئًا بدونه ولم نسمعهم يذكرون بسطامًا ولا سواه؟» فلما سمع هانئ ذلك الثناء حول نظره عن مريم حياء.

أما مريم فأتمت حديثها قائلة: «فوقع كلامي على بسطام وقوع الصاعقة، ولم يتمالك أن هجم عليَّ ويده على قبضة سيفه يهم أن يجرده وأن يضربني به، فصحت فيه: «اخسأ يا نذل الرجال إن مثلك لا يليق أن يسمى أميرًا، فبدلًا من أن تجرد حسامك على فتاة، اذهب لنجدة إخوانك، وقد علمت ما هم فيه من الضنك، وجرده على أعدائك ولو كان هانئ في مكانك ما فعل غير ذلك.»

فلم يزده هذا الكلام إلا حنقًا، وكنت أظنه يخجل من نفسه ويرتد عن غيه، فقال ويده لا تزال على قبضة السيف: «لو كان هانئ رجلًا ما تخلف عن ميدان الحرب في مثل هذا اليوم، ولكنه جبان.» ولم يتم كلامه حتى جرد سيفه، وهم بإطلاقه عليَّ فلما رأيت ذلك منه وتبينت الغدر في عينه تناسيت ضعف النساء وشددت عزيمتي، وعزمت على الفتك به التماسًا للسرعة في الخروج من بين يديه؛ لأنظر في أمر هذا الجند؛ لأن نجاحه يهمني كثيرًا كما تعلمون، ثم أمسكت نفسي وعدت إلى الملاطفة، فقلت له: «لا تخيفني بسيفك، ولا يغرنك أني فتاة فإني لا أخشى السيوف ارجع عن عزمك واتركني وشأني، وذلك خير لك.» وقبضت على زنده وهززته، فأكبر أن يصغي لنصحي فتخلص من يدي، وكان قد أنزل السيف فعاد وشهره، وأوهمني أنه مطلقه على عنقي فتراجعت لأخلو من الضربة، فظن أنني خفت فتبعني وسيفه يكاد يقع على رأسي، فلم أعد أستطيع صبرًا على ذلك فصحت فيه: «نصحتك فاقبل نصيحتي يا بسطام.» قلت له ذلك وهو يحاول أن يقبض على ثوبي ليتمكن من ضربي؛ لأنه كان يتوقع فراري، ولكنني بدلًا من الفرار هجمت عليه وأمسكت يمناه بيساري ومددت يمناي إلى منطقته، واستللت خنجره وغمدته في صدره، وقلت له: «أبيت إلا أن تموت قتيلًا وأن تدنس يدي بدمك.» فغاص الخنجر إلى قبضته فخر على الأرض وسقط السيف من يده، فالتقطت السيف ولم أنظر إلى وجهه؛ لأني قتلته مكرهة، وأسرعت إلى الجواد الأدهم فركبته والتففت بالعباءة، وجعلت الخوذة على رأسي، وهمزت الجواد نحو المعركة لأوهم الناس أني الأمير هانئ تشجيعًا لفرسانه، فإذا ترتب على عملي هذا نجاح فإنما الفضل لذلك الاسم المبارك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤