الفصل الثامن والثلاثون

داتوس

فلما رأت سالمة ذلك الشاب ترجح عندها أنه أصيب بجنون أو سكنه شيطان لكنها أحبت أن تتحقق من ظنها، فلما عاد الرئيس عادت هي معه وقد توسمت في وجهه تغيرًا زادها رغبة في السؤال عنه، وأنساها البحث عن حسان، على أنها لم تكد تبدأه بالسؤال حتى سمعته يخاطبها بصوت منخفض قائلًا: «ألا تزالين تجادلينني في شأن أولئك العرب وتزعمين أنهم أهل ديانة ورفق؟»

فاستغربت سالمة قوله هذا أكثر من استغرابها عمل داتوس وقالت: «لم أفهم يا أبتي صلة هذا الحادث بالمسلمين أو العرب، بل أرى هذا الإفرنجي قد تعدى على خادمي؛ لأنه عربي حتى كاد يقتله.»

وكانا قد دخلا الغرفة فأغلق الرئيس بابها وأومأ إلى سالمة فجلست على وسادة فوق طنفسة، وجلس هو على وسادة أخرى بالقرب منها وقال: «لو عرفت قصة هذا الشاب وسبب ما ظهر من هياجه وتعديه لثبت لك صدق قولي في العرب، وأقلعت عن اعتقادك فيهم الخير.»

فأصاخت بسمعها ولسان حالها يقول: «ما هي قصة هذا الشاب يا ترى؟»

فقال الرئيس: «اعلمي يا ابنتي أن هذا الشاب من جملة الإفرنج الذين تجندوا لمحاربة أولئك العرب حين بلغهم إقدامهم على فتح هذه البلاد، وكانت له والدة لا يعرف من الأهل سواها ولا هي ترجو سواه، فتركها في بيتها وسار إلى الحرب فاتفق في أثناء غيابه أن جاء المسلمون إلى ذلك البلد، ونهبوا بيت المرأة وساقوها في جملة السبايا إلى قلعتهم في تلك المنطقة فلما عاد الشاب إلى بلده وأخبروه بما حدث لأمه، ساق جواده إلى تلك القلعة ومعه جماعة من الرفاق، فأطل على القلعة وكانت موصدة، فأشرف عليه أحد المسلمين من فوق السور وسأله عن غرضه، فقال له: «أطلب والدتي فإنها أسيرة عندكم.» فأجابوه: «لا نرد لك أمك إلا إذا أعطيتنا الجواد الذي تركبه، وإلا فإننا نذبحها أمام عينيك.» فغضب داتوس لذلك غضبًا شديدًا وقال لهم: «لا أعطيكم جوادي، وافعلوا بوالدتي ما تشاءون.» قال ذلك وهو يظن أنهم يخوفونه بتهديده بقتلها، وأنهم لا ينوون إعدامها فعلا، ولكنه ما لبث أن رآهم اجتزوا رأسها ورموه إليه وهم يقولون: «هذه والدتك فإليك هي.» فلما رأى رأس والدته صعد الدم إلى رأسه وغاب عن رشده، ولما عجز عن الوصول إلى القاتلين لتحصنهم وراء الأسوار جعل يلطم وجهه ويصفق ويبكي ويركض فرسه يمينًا وشمالًا كالمجنون، ثم انقطع عن أصحابه وأقام عندنا وقد قص عليَّ خبره فاعتقدت من ذلك الحين أن العرب أهل ظلم وعسف لا دين عندهم ولا رحمة، وقد مضى على داتوس هنا بضعة أعوام لا يتكلم ولا يجالس أحدًا كأنه أصيب ببله ويبدو أنه رأى خادمك واستشف من مظهره أو كلامه أنه عربي، فهاج به الغضب وتذكر مصيبته فاندفع إلى ما كان منه.»

وكانت سالمة تسمع ذلك الحديث وهي في دهشة شديدة فلما أتم الرئيس رواية القصة أحست بضعف حجتها في الدفاع عن العرب ولكنها تجلدت وقالت: «لا أنكر على مولاي الرئيس حدوث مثل ذلك من بعض العرب، كما قد يحدث من الإفرنج وغيرهم ولكن المعول في الأمر على أغراض الجند بجملته.»

فقطع كلامها قائلًا: «وما عسى أن تكون أغراضهم وقد شاهدنا من أعمالهم في أثناء فتوحهم ما لم يبقَ معه حاجة إلى دليل ألم ينهبوا الأديرة ويأخذوا آنيتها؟ ألم يأسروا الرهبان ويختاروا أجملهم خلقة ويبيعوهم بيع الأرقاء في إسبانيا، وعهدنا بذلك لا يزال قريبًا؟»

فسرت سالمة لاحتجاج الرئيس بهذه الحجة، وقالت: «نعم إن بعض العرب نهبوا بعض الكنائس والأديرة ولكن أمراءهم لم يكونوا يقبلون ذلك، وكثيرًا ما كانوا يعيدون الآنية إلى أصحابها ويطلقون سراح الأسرى وخصوصًا الرهبان؛ لأن نبيهم أوصاهم بهم خيرًا، وآخر ما حدث من هذا القبيل أن بعض الملحقين بجند العرب من البرابرة ونحوهم نهبوا كنيسة بوردو فلما علم أميرهم بذلك رد ما أخذ واعتذر وأوعز إلى جنده ألا يعودوا إلى مثل ذلك، فالعرب أهل رفق وعدل، وفي اعتقادي أنهم خير لأهل هذه البلاد من أولئك الإفرنج، أقول ذلك بين يديك على سبيل الاعتراف السري وأرجو ألا يطلع عليه أحد، فإذا قضت الأحوال بانتصار العرب تحققت من صدق قولي.»

فبغت الرئيس لقولها وصاح: «ينتصر العرب! معاذ الله.»

فضحكت سالمة لبغتته وقالت: «والنصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وتحققت من أن الرئيس ممن لا يرجى إقناعهم بفضل العرب فسكتت، ولكنها خشيت أن يكون عليها بأس مما جاهرت به من ميلها إلى العرب، فألحت عليه أن يعتبر كلامها في هذا الشأن من قبيل سر الاعتراف، فوعدها بذلك وهو صادق في وعده؛ لأنهم شديدو المحافظة على ذلك السر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤