الفصل التاسع والستون

هانئ ومريم

وكانت مريم تنظر إلى هانئ وتتوسم في وجهه خبرًا، وخاصة بعد تلك الأسئلة، وكانت القهرمانة قد خرجت ولم يبقَ هناك غير مريم والأميرين فنظرت مريم إلى هانئ نظرة فيها غنى عن كل حديث ففهم أنها تسأله عما يكتمانه، فالتفت إلى عبد الرحمن، فرآه مستغرقًا في التفكير فقال له: «الأرجح أن تلك الخائنة علمت بافتضاح أمرها ففرت إلى أبيها، ولكنها لن تنجو من حد هذا السيف بإذن الله.»

فبغتت مريم لما سمعته؛ لأنه يناقض اعتقادها في ميمونة وظهرت البغتة على وجهها بما تصاعد إليه من الدم، وأبرقت عيناها والتفتت إلى هانئ وسألته قائلة: «وما الذي حدث حتى استوجبت هذه المسكينة غضب الأمير، وعهدي أنها من أشد الناس غيرة وأصفاهم سريرة؟»

فالتفت هانئ إلى عبد الرحمن وقال: «هل تأذن لي بذلك الكتاب؟»

فاستاء عبد الرحمن من تسرع هانئ في طلب الكتاب؛ لأنه لم يكن ينوي إطلاع مريم عليه خوفًا من قلقها على والدتها، ولم يبد استياءه مراعاة لإحساس هانئ، ولكنه أنكر الكتاب وتظاهر أنه لا يعرف مكانه فازدادت مريم قلقًا واضطرابًا، وسبق إلى خاطرها أن لذلك التكتم سببًا يسوءها ذكره، ولم يخطر ببالها شيء غير والدتها، فصاحت بلغتها المعهودة ولم تستطع إمساك عواطفها: «ما الذي تكتمانه عني؟ هل أصاب والدتي شغ (شر)؟ أين هي؟» قالت ذلك وأجهشت بالبكاء.

فأثر منظرها في هانئ، فقال: «أطمئنك يا مريم إن والدتك في خير وأمان.»

قالت: «وأين هي؟»

قال: «هي في هذا الدير.» وأشار إلى دير القديس مرتين.

قالت: «ولماذا لم تأتِ إلى هنا، لعلها مريضة أو مسجونة أو ماذا؟»

فتظاهر عبد الرحمن عند ذلك بالبحث عن الكتاب حتى وجده فدفعه إليها وهو يقول: «هذا هو كتابها، وفي قراءته جواب كافٍ.»

فتناولته بلهفة، فلم تستطع رؤية الأحرف مما غشي عينيها من دموع البغتة والخوف والأمل والفرح معًا، فمسحت عينيها بكمها وقرأت الكتاب حتى أتت على آخره، ولما وصلت إلى قولها: «وأوصيك بفلذة كبدي مريم.» صاحت: «أماه!» وقد خنقتها العبرات، ثم أعادت النظر إلى ما ذكرته عن ميمونة فبغتت وحسبت نفسها في حلم، ثم رفعت رأسها إلى عبد الرحمن وقد تحول حنانها النسائي إلى غضب وقالت: «قبح الله تلك الخائنة قد فهمت الآن سبب اختلائها بذلك البربري الأحول في مساء الأمس ولكنها ستذوق جزاء تلك الخيانة إن شاء الله.» ثم سألته عمن حمل ذلك الكتاب لكي تقابله وتستزيده من أخبار والدتها، فقص عليها هانئ ما كان من أمره وأنه مات ودفنوه، فأسفت عليه كثيرًا حتى بكت، ولولا انشغال خاطرها بخيانة ميمونة والشوق إلى والدتها لندبته كثيرًا؛ لأنه رباها منذ طفولتها، وكان ضنينًا بها حريصًا على راحتها وراحة والدتها، ولكنها كانت في قلق عظيم على والدتها، وأصبحت لا تصبر عن رؤيتها فنظرت إلى عبد الرحمن بعينين يغشاهما الدمع، وتوسلت إليه بصوت يمازجه ذلك السؤال قائلة: «ألا يسمح لي الأمير بالمسير إلى والدتي لأشاهدها وأقبل يدها ثم أعود؟»

فتأثر عبد الرحمن لسؤالها ولم يسعه إلا الإجابة فقال: «لا أمنعك من الذهاب إليها ولكنني أحب أن أحافظ على وصيتها، وقد رأيت أنها ختمت هذا الكتاب بك.»

فقالت: «لا بأس عليَّ بإذن الله، والطريق سهل والمكان قريب وكأني أرى الدير من هنا.»

فقال هانئ: «لا نخاف عليك بأسًا بعدما شاهدناه منك في مضيق دردون، ولكنني أرى أن أسير في ركابك حتى تبلغي باب الدير وأعود.» قال ذلك بنغمة التصميم القاطع، فاستحسن عبد الرحمن رأيه فقال: «إذا كان لا بد من الذهاب فانهضا الآن حتى تصلا قبل الغروب، هل يحتاج هانئ إلى أن أستحثه لسرعة الرجوع؟ أما مريم فلا بأس من بقائها هناك، بل إن الدير أكثر أمانًا عليها.»

ففرح هانئ بتلك المهمة فنهض وأمر بفرس لمريم، فلبست ثوبها والتفت بعباءتها وركبت وركب هانئ والتف بعباءته وأصلح عمامته وساقا الجوادين سوقًا حثيثًا، وقطعا النهر الصغير على جسر مما نصبوه بالأمس، وسارا نحو الشمال الشرقي يلتمسان دير مرتين فبعد أن ركضا جواديهما برهة أمسكاهما ومشيا متحاذيين وقد حلت لهما تلك الخلوة فأراد هانئ مداعبة مريم، فقال لها: «أتعلمين ما وراء هذه الأبنية؟»

قالت: «النهغ الكبير (النهر الكبير) و…

قال: «وما اسمه؟»

قالت: «نهر لوار.» بلفظ الراء غينًا، ولم تكد تنطق بهذين اللفظين حتى فطنت للموعد المضروب لاقترانهما هناك، فخجلت وحولت وجهها إلى عرض البر وأرادت تغيير الحديث فقالت: «وكأني أرى جند الدوق شارل آتيًا نحونا.»

فبغت هانئ وتفرس في الغبار المتصاعد وراء محلة الدير وقال: «لا أشك أنك ترين معسكر الدوق شارل أما الغبار المتصاعد فوقه فليس نتيجة السير، ولكنهم يلاعبون خيولهم على سبيل التمرين.» قال ذلك وأخذ يفكر فيما يتوقعه من القتال الهائل في تلك الساحة، ولكنه كان شديد العزم قوي القلب؛ لأنه لم يصادف هزيمة في قتال بعد، ولذلك فأول ما يسبق إلى ذهنه عز الانتصار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤