الفصل الثالث

الطُّرُز أو الأساليب أو المدارس المختلفةفي الفنون الإسلامية

ومهما يكن من شيء، فإن الصناعات والمهن الحرة ظلت في أيدي أهل البلاد التي فتحها العرب، وتطورت الأساليب الفنية في كل إقليم من الأقاليم المفتوحة تطورًا خاضعًا فيه لكثير من القواعد التي فرضها عليها العرب الفاتحون، ونشأ من امتزاج العرب بأهل البلاد التي أخضعوها لسلطانهم فنون متشابهة في جملتها، متباينة في جزئياتها.

ومن ثم فإننا نستطيع، بوجه عام، أن نقول: إن الفن الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى بعد الهجرة كان يسوده طراز أموي أولًا، ثم طراز عباسي بعد سقوط بني أمية سنة ٧٥٠م، ولما ضعفت الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وخلفتهما دويلات وإمارات مستقلة في الأقاليم الإسلامية المختلفة، قامت على أنقاض الطراز العباسي أساليب فنية محلية يمكن تمييز كل منها، ولا سيما في ميدان العمارة؛ لأن منتجات الفنون الفرعية (أو الصناعية أو التطبيقية Minor arts) كان من السهل نقلها من إقليم إلى آخر، والتأثر بالأساليب الفنية فيها.
إذن فقد كان الفن الإسلامي بعد سقوط العباسيين يشتمل على طراز إسباني مغربي قام في شمالي إفريقية والأندلس، وعلى طراز مصري سوري قام في وادي النيل وفي سورية،١ كما كان يشتمل على طراز فارسي في إيران، وطراز عثماني في الإمبراطورية العثمانية، وطراز هندي في الهند الإسلامية، وكان أيضًا وثيق الصلة بفن صقلي نورمندي في جزيرة صقلية، وبفنون المدجنين والمستعربين، وهي الفنون التي قامت في إسبانيا بعد زوال سلطان المسلمين عنها. ويجدر بنا الآن أن نشير في إيجاز إلى كل طراز من هذه الطرز المختلفة في الفنون الإسلامية.

الطراز الأموي

كان استيلاء الأمويين على الخلافة وانتقال عاصمة الدولة الإسلامية من المدينة إلى دمشق خاتمة لعصر الخلفاء الراشدين، الذي غلب فيه على المسلمين تجنب البذخ والترف. وبدأ الأمويون يفكرون في تشييد مساجد توازي في العظمة كنائس المسيحيين، ويتخذون تحفًا فنية تتفق وعظمة ملكهم الجديد، وكان جل اعتماد الأمويين في بداية الأمر على عمال وفنانين من البيزنطيين والسوريين المسيحيين تتلمذ عليهم العرب، ونشأ على يد الجميع الطراز الأموي في الفن الإسلامي، ونقل القواد والحكام وأتباعهم أصول هذا الطراز إلى سائر الأقاليم الإسلامية، وثبتت هذه الأصول في الأندلس، حتى إن سقوط الدولة الأموية في الشرق لم يكن له صداه في الأساليب الفنية الإسلامية بإسبانيا، ولا سيما أن هذا الإقليم الإسلامي خرج عن الدولة العباسية، ونشأت فيه دولة أموية غربية كان لها طراز أموي غربي احتفظ بكل الأساليب الفنية في الطراز الأموي الشرقي.٢

وأهم الأبنية التي تنسب إلى الأمويين قبة الصخرة التي تقع في وسط الحرم الشريف ببيت المقدس، ثم الجامع الأموي بدمشق وبعض قصور بناها الخلفاء في بادية الشام؛ كقصير عمرى، وقصر المشتى، وقصر الطوبة.

أما قبة الصخرة فيطلق عليها في بعض الأحيان اسم جامع عمر؛ لأن عمر بن الخطاب كان قد أقام في موضعها مصلًّى من الخشب، ثم شيَّد عبد الملك بن مروان على أنقاضه البناء الحالي سنة ٦٩٠، وهو على شكل مُثمَّن فوقه قبة عالية تغطيها فسيفساء عليها زخارف باللونين الأخضر والذهبي، والقبة محمولة على دائرة من أعمدة ضخمة من الرخام الأخضر، وذات تيجان مذهبة، وقد عني عبد الملك بقبة الصخرة عناية زائدة؛ لأنه أراد أن يحول الحج من مكة إليها حين كانت الكعبة في يد منافسه عبد الله بن الزبير. وعلماء الآثار متفقون في أن عمارة هذا البناء مأخوذة من عمارة الكنائس المسيحية البيزنطية، بيد أننا نلاحظ أن هذا الشكل المثمن لم يتكرر في تصميم الجوامع الإسلامية؛ لأنه كان ملائمًا كل الملاءمة ليحيط بالصخرة المقدسة في الحرم الشريف؛ ولكن تصميم الكنائس المعروفة بالباسيليكا كان أوفق للعبادة الإسلامية، وقد اتخذه المسلمون في أكثر الأحيان أساسًا لتصميمات مساجدهم.

أما الجامع الأموي بدمشق، فقد أقامه الخليفة الوليد بن عبد الملك على أنقاض كنيسة القديس يوحنا، وفي وسطه الآن صحن كبير تحيط به أروقة وعقود وإيوانات من الحجر تحملها في الشمال دعائم Pillars، وفي الشرق والغرب دعائم وأعمدة، وأكبر هذه الأروقة رواق القبلة، ويشمل ثلاث بلاطات bays تقوم في وسطها قبة.

ولا شك في أننا نشاهد التأثير الذي كان لتصميم الجامع الأموي على تصميم الجوامع التي شيدت في الأمصار الإسلامية المختلفة في ذلك العصر؛ كجامع القيروان، وجامع الزيتونة بتونس، وجامع قرطبة بإسبانيا.

والقصور التي شيدها الخلفاء في بادية الشام أكثرها أبنية مربعة الشكل وسطها حيشان تحيط بها غرف للسُّكنَى، وكان يأوي إليها الأمراء للصيد أو حين تنتشر الأمراض في المدن، وكان الجزء المهم في بعضها حمامًا كما في قصر عمرَى، وكان البعض الآخر يشبه الحصون الصغيرة، وعلى كل فإن في تصميم هذه القصور وفي زخارفها عناصر عراقية وفارسية، إلى جانب العناصر الشرقية المسيحية التي امتاز بها هذا العصر وتلك الأقاليم.

وقد اشتهر قصر عمرَى بما فيه من نقوش آدمية على الأسقف والجدران بألوان زاهية، وأساليب فنية بيزنطية متأثرة في بعض نواحيها بالتقاليد الإيرانية.

الطراز العباسي

لما استولت الدولة العباسية على مقاليد الحكم سنة ٧٥٠م، أصبحت السيادة في العالم الإسلامي للعراق دون الشام، وأدى ذلك إلى تغيير كبير في أساليب العمارة والزخرفة، فانتقل البناءون إلى استعمال الآجرِّ بدلًا من الحجر، وإلى بناء القوائم Pillars بدلًا من اتخاذ الأعمدة columns، وغلبت الأساليب الفنية الفارسية على الفنون الإسلامية، كما غلب الطابع الفارسي على الأدب والحياة الاجتماعية. وفي سنة ٧٦٢، شيَّد الخليفة المنصور مدينة بغداد على نهر دجلة محاولًا بناءها على شكل دائرة في وسطها القصر والجامع، ويحيط بها سور كبير فيه أبراج ويوازيه سور آخر.

وفي سنة ٨٣٦، شيَّد الخليفة المعتصم مدينة سامرا أو سُرَّ مَن رأى على الضفة اليمنى لنهر دجلة، وعلى بُعد مائة متر شمالي بغداد، واتخذها عاصمة جديدة للدولة. وقد ذاع صيت سامرا بالقصور العظيمة التي شيدها فيها المعتصم وخلفاؤه، حتى هجرها الخليفة المعتمد سنة ٨٨٣، وأرجع البلاد والحكومة إلى بغداد، وسقطت أبنيتها الواحد بعد الآخر اللهم إلا الجامع. وقبيل الحرب العظمى قامت بعثات علمية أوروبية بحفائر كبيرة للكشف عن أنقاضها، ولا يخفى أن لهذه الأنقاض أهمية كبيرة في تاريخ الفن الإسلامي، ولا سيما في مصر؛ لأن أحمد بن طولون — الذي كاد أن يستقل بحكم وادي النيل سنة ٨٦٨م — كان قد نشأ في سامرا، فنقل إلى مصر ما كان في العراق من أساليب العمارة والزخرفة. ويتجلى ذلك كله في جامع أحمد بن طولون الذي يعتبر في عمارته وزخرفته الجصية مثالًا حيًّا من أمثلة الفن العراقي في القرن التاسع الميلادي.

وقد تم بناء هذا الجامع سنة ٨٧٨، وهو يتكون من صحن مربع مكشوف، وتحيط به أروقة من جوانبه الأربعة، وتقع القبلة في أكبر هذه الأروقة، وهناك ثلاثة أروقة خارجية بين جدران الجامع وبين سوره الخارجي، وتسمى الزيادات، ولعلها بنيت حينما ضاق الجامع عن المصلين، وجامع ابن طولون مشيد بآجر أحمر غامق، وأقواس الأروقة محمولة على دعائم ضخمة من الآجر تكسوها طبقة سميكة من الجص، بدلًا من الأعمدة التي كان المسلمون يأخذونها من الكنائس والمعابد القديمة، ولكن أهم ما يمتاز به هذا الجامع هو مئذنته أو منارته التي تقع في الرواق الخارجي الغربي، فتكاد لا تتصل بسائر بناء الجامع، وهي مبنية بالحجر، وتتكون من قاعدة مربعة تقوم عليها طبقة أسطوانية وعليها طبقة أخرى مثمنة. وأما السلالم فمن الخارج على شكل مدرج حلزوني، وليس لهذه المنارة نظير في الأقطار الإسلامية، اللهم إلا في المسجد الجامع وفي مسجد أبي دلف بسامرا.

وأبنية الجامع الطولوني مغطاة بطبقة سميكة من الجص، وعلى أجزاء كبيرة منها زخارف هندسية جميلة مأخوذة عن الزخارف العراقية في سامرا. وقد عثرت دار الآثار العربية في حفائرها بجهة أبي السعود جنوبي القاهرة على بيت من العصر الطولوني على جدرانه زخارف جصية مأخوذة عن نوع من الزخارف الجصية في سامرا.

ومما امتاز به العصر العباسي نوع من الخزف ذو بريق معدني lustre ذاع استخدامه في العراق وإيران ومصر والشام وإفريقية والأندلس، وكانت تصنع منه آنية يتخدها الأمراء والأغنياء عوضًا عن أواني الذهب والفضة التي كان استعمالها مكروهًا في الإسلام؛ لما تدل عليه من البذخ والترف المخالفين لتعاليم الدين، كما كانت تصنع منه أيضًا تربيعات تكسى بها الجدران كالتي لا تزال باقية حتى الآن في جامع القيروان.

وقد وصلت إلينا بعض صور وتزاويق من العصر العباسي وجدت على بعض الجدران في أطلال مدينة سامرا، وأشهر هذه الصور رسم فيه راقصتان، ويشهد بما كان للأساليب الفنية الفارسية من تأثير على التصوير في العصر العباسي.

الطراز الإسباني المغربي

قام في المغرب والأندلس على يد دولة الموحدين في القرن الثاني عشر الميلادي، والمعروف أن جمع المغرب والأندلس تحت سلطان واحد حدث على يد المرابطين، وهم أسرة من المسلمين البربر كانت تحكم شمالي أفريقيا منذ القرن الحادي عشر، ثم حدث أن استعان بها مسلمو الأندلس لمقاومة تقدم المسيحيين في طرد المسلمين من إسبانيا، فهب المرابطون لنجدة المسلمين في الأندلس مرة، ثم ساروا لنصرتهم مرة أخرى، ضموا بعدها بلاد الأندلس الإسلامية إلى دولتهم في إفريقية سنة ١٠٩٠، ولكن دولة المرابطين في المغرب لم تلبث أن اضمحلت وخلفتها أسرة الموحدين سنة ١١٣٠، وأرسل الموحدون إلى الأندلس جيشًا استولى عليها بين سنتي ١١٤٥ و١١٥٠، وظلوا يجاهدون ضد المسيحيين حتى هزموا سنة ١٢٣٥، وكان ذلك نذير طردهم من إسبانيا، ومنذ سنة ١٢٣٦ صار نفوذ المسلمين في إسبانيا قاصرًا على مملكة غرناطة التي كان يحكمها بنو نصر، والتي سقطت في سنة ١٤٩٢، فانتهى بسقوطها حكم المسلمين في الأندلس.

وقد كانت الزعامة في ميدان هذا الفن الإسباني المغربي لمراكش وإسبانيا، بينما لم يكن فيه للجزائر أو لتونس شأن خطير، ولا غرو فقد كانت الصلة وثيقة بين مراكش والأندلس حين كان الإقليمان خاضعين للموحدين، ثم بعد أن سقط الموحدون في بداية القرن الثالث عشر، وغدت الأندلس الإسبانية ممثلة في بني نصر بغرناطة، بينما كان يحكم مراكش بنو مرين (سنة ١١٩٥–١٤٧٠). فإلى عصر الموحدين تنسب بعض العمائر الشهيرة في الطراز المغربي؛ كجامع الكتبية في مراكش، والأبواب الجميلة في رباط ومراكش، وكالجيرالدا (منارة جامع أشبيلية)، وإلى عصر بني نصر في غرناطة يرجع قصر الحمراء سيد العمائر المغربية على الإطلاق، وقصر جنة العريف، كما ترجع إلى عصر بني مرين المدارس الجميلة في مراكش. واضمحل الفن المغربي في القرن الخامس عشر، وكانت له نهضة ثانية على يد أسرة الأشراف السعديين في مراكش. ويرجع إلى عهد هذه الأسرة مشهد السعديين المشهور ومدرسة بني يوسف في مراكش.

ومن مميزات الطراز الإسباني المغربي استخدام نوع من العقود على هيئة حدوة الفرس، واستخدام الدعائم المبنية من الآجر عوضًا عن الأعمدة، مما يكسب الأبنية هيبة وجلالًا عظيمين.

ولسنا نستطيع أن نستعرض هنا الظواهر المعمارية التي اختص بها هذا الطراز، وطبعته بطابع خاص يميزه عن سائر الطرز الإسلامية، وحسبنا أن نذكر المآذن المربعة (شكل ٦-١) والطنف أو الأفاريز الخشبية التي كانت تظل البوابات الخمسة. ونلاحظ أن الأعمدة في قصر الحمراء وفي العمائر التي تأثرت بهذا القصر قد امتازت برشاقتها وجمالها وتيجانها ذات الدلايات أو المقرنصات، كما أن استخدام الفسيفساء من الخزف في تغطية الجدران، والإسراف في الزخارف المحفورة على الجص ظاهرتان قويتان في الطراز الإسباني المغربي.
fig1
شكل ٣-١: منظر في قصر الحمراء بغرناطة يمثل صحن الرياحين برج قمارش.
كانت كل الظواهر المعمارية المذكورة تتجلى في العمارة الإسبانية المغربية، ولا سيما المساجد والأضرحة، وفي القصور التي يرجع أقدم الباقي منها — وهو قصر الحمراء (شكل ٣-١) — إلى القرن الرابع عشر، كما امتاز هذا الطراز بكثرة أبنية المدارس، أدخلها سلاطين الموحدين في إسبانيا والمغرب. وذاع صيت مدينة فاس بكثرة المدارس التي كانت تشتمل غالبًا على عدة غرف للطلاب، وعلى قاعة كبيرة للدرس كانت تستخدم للنوم أيضًا، وكان بناء المدرسة من طابقين، وفي وسطه صحن مكشوف، ولم يكن هناك قسم في البناء لأتباع كل مذهب من المذاهب الأربعة؛ لأن هذه المدارس كانت كلها للمذهب المالكي.

الطراز المصري السوري

كان الفن بمصر في العصر الطولوني (٨٦٨–٩٠٥) تابعًا للأساليب الفنية العباسية، ولما فتح الفاطميون مصر سنة ٩٦٩، ثم استولوا على جزء كبير من الشام، وصارت لهم دولة عظيمة نشأ على يدهم الطراز المصري السوري، وتطور بعد ذلك على يد المماليك (١٢٥٠–١٥١٧) تطورًا بعيد المدى، حتى ليمكننا أن ننسب إلى الفاطميين طرازًا خاصًّا، وإلى المماليك طرازًا آخر، ولكننا لسنا في معرض تفصيل المميزات الدقيقة في كل منهما، فلا بأس من أن نعتبرهما هنا طرازًا واحدًا، وأن ننظر في مميزاتهما على وجه عام.

وقد كان الطراز المصري السوري أكثر اعتدالًا واقتصادًا في الزخرفة من سائر الطرز الإسلامية، ولا سيما الطراز الإسباني المغربي.

وقد تأثر الفاطميون بالأساليب الفنية الفارسية بعض التأثير، فكثر رسم الإنسان والحيوان على التحف التي ترجع إلى عصرهم، وفي دار الآثار العربية ألواح خشبية كانت في أحد قصورهم، وعليها زخارف محفورة تمثل مناظر صيد وطرب وموسيقى وسفر، وغير ذلك من صور الحياة اليومية (شكل ٧-٩)، كما نجد كثيرًا من صور الحيوانات على الخزف ذي البريق المعدني، التي تعتبر صناعته من مفاخر العصر الفاطمي، وعلى قطع النسيج الفاخر التي كان لها تأثير كبير في صناعة النسيج في صقلية وفي إسبانيا.
وقد بقي من عمائر العصر الفاطمي الجامع الأزهر، ومن الظواهر المعمارية التي يمتاز بها العقود الفارسية الطراز، وهي مبنية من الآجر، وعليها طبقة من الجص غنية بزخارفها النباتية والخطية، ومن أبنيتهم أيضًا جامع الحاكم، ويمتاز بمنارته ذات القواعد الحجرية، والجامع الأقمر الذي يمتاز بواجهته ذات الزخارف الجميلة، وفي العصر الفاطمي استخدمت القباب فوق الأضرحة التي شيدت لبعض أولاد الإمام علي. وقد كانت القباب قبل ذلك تبنى فوق جزء من أبواب المحراب في المسجد، وصفوة القول أن الفن في العصر الفاطمي كان زاهرًا وكانت قصور الفاطميين عامرة بالتحف الفنية التي أقبلوا على جمعها، وأفاض في وصفها المؤرخون والرحال.٣
أما عصر الدولة الأيوبية (١١٧١–١٢٥٠) فقد امتاز بالعمائر الحربية ولا سيما القلعة، كما امتاز بالمدارس الكثيرة التي شيدها الأيوبيون لتدريس المذاهب الأربعة، ومحاربة العقيدة الشيعية؛ ولذلك كانت هذه المدارس صليبية الشكل، ولكل مذهب فيها رواق. ومن الظواهر المعمارية في العصر الأيوبي القباب الجميلة المحلاة زواياها بالمقرنصات كقبة الإمام الشافعي. أما في الزخرفة فقد انصرف الفنانون عن رسوم الإنسان والحيوان، وأبدعوا في الزخارف النباتية والهندسية، على أن عصر المماليك في مصر هو الذي جعل القاهرة متحفًا عظيمًا، تتيه بما فيها من مساجد وقصور تتجلى فيها عظمة الطراز المصري السوري، ولا يحد إعجاب المشاهد ما فيها من زخارف دقيقة، وفسيفساء بديعة، ورخام متنوع الألوان، وشرفات مسننة، وأبواب ضخمة، ومآذن رشيقة، وقباب منمقة وحسنة النسب. ومن أشهر هذه العمائر جامع الظاهر بيبرس، وجامع قلاوون، وجامع الناصر بالقلعة، وجامع السلطان حسن، وهو أحسن مثال للمدارس ذات الأربعة الأروقة، فضلًا عن أنه جمع بين الضخامة ودقة الزخارف، ثم جامع المؤيد، ويمتاز بمحرابه وبمنبره وبجدرانه المكسوة بالفسيفساء الجميلة.
fig2
شكل ٣-٢: مشكاة من الزجاج المُموَّه بالمينا، صناعة مصر أو سورية في القرن الرابع عشر.
ومن التحف النفيسة التي امتاز بها الطراز المصري السوري المشكاوات المصنوعة من الزجاج المموه بالمينا التي كانت تزدان بها مساجد القاهرة (شكل ٣-٢)، وتفخر دار الآثار العربية بامتلاك أكبر عدد منها في العصر الحاضر، كذلك تقدمت صناعة الخزف في عصر المماليك تقدمًا كبيرًا، وأتقن الفنانون المسلمون في مصر الزخارف النباتية والهندسية على الأحجار والأخشاب والأقمشة والمعادن.

ودار الآثار العربية في القاهرة متحف ثمين يكمل القاهرة نفسها بمساجدها وعمائرها للدلالة على عظمة الطراز المصري السوري، وامتيازه بين سائر الطرز الإسلامية بحسن الذوق وروعة المنظر.

الطراز الفارسي

إذا ذكرت إيران في الفن الإسلامي، فإن أول ما ينصرف إليه الفكر هو الصور البديعة التي رقمها الفنانون الفرس، والسجاد الجميل الذي لا يزال محط إعجاب الشرقيين والغربيين حتى الآن. وقد امتاز الطراز الفارسي بالزخارف النباتية ولا سيما الزهور، وبالإسراف في رسوم الإنسان والحيوان والطيور على مختلف التحف الفنية. وقد عُني الفرس بصدق تمثيل الطبيعة ومحاكاة الحياة في رسومهم النباتية. ولعل بعض السر في ذلك أنهم تأثروا بالأساليب الصينية في هذا الميدان.
fig3
شكل ٣-٣: مسجد قم بإيران.
fig4
شكل ٣-٤: مدخل مسجد شاه بأصفهان.

أما العمائر في الطراز الفارسي فتمتاز بكسوتها بألواح القاشاني التي نبغ الفرس في صناعتها.

ومن أزهى عصور هذا الطراز حكم الأسرة الصفوية في القرن السادس عشر والسابع عشر، وإليه يرجع الميدان الشاهاني في أصفهان، وهو من أجمل ميادين العالم، ويعد الجامع المطل عليه أفخم الجوامع الفارسية.

ومن الظواهر المعمارية في هذا الطراز العقد الفارسي (شكل ٣-٤) والوجهة المستطيلة التي يحف بها من الجنبين مئذنة أسطوانية الشكل، دقيقة الطرف في أعلاها، حيث تقوم شرفة تجعلها كالفنار (شكل ٣-٣ و٣-٤).

الطراز التركي

سقط السلاجقة في القرن الرابع عشر، وآل الحكم في آسيا الصغرى إلى العثمانيين الذين استطاعوا الاستيلاء على القسطنطينية سنة ١٤٥٣، وامتد ملكهم حتى وصل في القرن السادس عشر إلى المجر ومصر والعراق، وقام بينهم طراز فني إسلامي امتاز بتأثير الأساليب المعمارية البيزنطية من ناحية، وبتأثير الطراز الفارسي والأساليب الفنية السلجوقية من ناحية أخرى.

وقد كانت العلاقات وثيقة بين الترك والأوروبيين، فما لبث الطراز التركي أن تأثر منذ بداية القرن الثامن عشر بالأساليب الفنية في طراز الباروك الأوروبي، ثم في منتصف القرن الثامن عشر بطراز الروكوكو.

ولعل خير ما أنتج الترك تحف القاشاني والخزف التي كانت تصنع في آسيا الصغرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وامتازت بألوانها الجميلة وما فيها من رسوم الزهور والنباتات، كما اشتهر الترك بصناعة السجاجيد الصغيرة للصلاة، وبكتابة المصاحف وتذهيبها بالخط الجميل، وبنسج الأقمشة الحريرية البديعة وتطريزها بالموضوعات الزخرفية النباتية الجميلة، مما كان له أعظم الأثر على المنسوجات الإيطالية ومنسوجات الجزائر اليونانية.
fig5
شكل ٣-٥: جامع السلطان أحمد الأول في إسطنبول.
أما المساجد التركية فتمتاز بمآذنها الممشوقة والمتعددة، وبتصميمها الذي يشبه تصميم كنيسة أيا صوفيا، فيتكون من مربع فسيح تعلوه قبة كبيرة يحيط بها أنصاف قباب صغيرة (شكل ٣-٥).

ومن أعظم الذين اشتهروا في تاريخ العمارة الإسلامية المهندسُ التركي سنان، المتوفى سنة ١٥٧٨، ومن تصميمه جامع شاه زادة، وجامع السليمانية، وجامع البايزيدية. وقد امتاز الطراز التركي بما شيد فيه من قصور وأسبلة ومساجد، أكثرها مكسو بالقاشاني الجميل.

الطراز الهندي

تأثرت الهند الإسلامية بالطراز الفارسي تأثرًا كبيرًا، حتى إن كثيرين من العلماء يعتبرون الأساليب الفنية الإسلامية فيها منذ عصر المغول جزءًا من الطراز الفارسي، ولكن الواقع أن العمائر التي قامت في الهند تحت لواء الإسلام في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر احتفظت بظواهر معمارية خاصة بها، كما أن الفنانين الهنود اختاروا زخارف وألوانًا تتفق وتراثهم الهندي القديم، فيحسن اعتبار الطراز الهندي طرازًا قائمًا بذاته. وقد امتاز عصر الأباطرة «أكبر» (١٥٥٦–١٦٠٥) و«جهانجير» (١٦٠٥–١٦٢٨) و«شاه جهان» (١٦٢٨–١٦٥٩) بازدهار العمائر والفنون، وكانت العاصمة «أجرا» ثم فتح بور سكرى ثم لاهور ثم دلهي. ولا تزال هذه المدن محتفظة ببعض بدائع هذا الطراز الذي امتاز على الخصوص بما شيد فيه من أضرحة، مثل: تاج محل، وضريح محمود عادل شاه.
fig6
شكل ٣-٦: صورة مسجد الجمعة في دلهي بالهند.
وتمتاز العمائر الهندية باستخدام العقود الفارسية، وبمآذنها الأسطوانية، وبقبابها البصلية الشكل، وبزخارفها الدقيقة. وقد كان تأثير الطراز الفارسي أظهر في المساجد منه في سائر العمائر؛ كالقصور والبيوت والقلاع، ويمتاز الطراز الهندي كذلك بالقباب الصغيرة فوق الوجهات الكبيرة (شكل ٣-٦).
أما الصور الهندية، فقد ورثت كثيرًا من تقاليد التصوير الفارسي، ولكنها تختلف عنه في الألوان والمناظر الطبيعية ووجوه الأشخاص (أشكال رقم ٧-٢٢ إلى ٧-٢٩).
١  كانت الشام جزءًا من مصر في كل العصور التاريخية التي كانت فيها حكومة مصر مستقلة وقوية؛ كعصر تحتمس الثالث، ورمسيس الثاني، والطولونيين، والفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، كما أن مصر والشام كانتا في أغلب عصور الضعف والتبعية خاضعتين لسيادة دولة واحدة.
٢  الواقع أن خصائص الطراز الأموي ليست واضحة كل الوضوح، ولا غرو فإن غلبة العناصر البيزنطية والإيرانية فيه هي التي تميزه، مع بعض الأشياء الأخرى، لدى الأخصائيين من رجال الفنون والآثار الإسلامية.
٣  راجع كتابنا «كنوز الفاطميين في مصر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤