كسوف الشمس

تأليف: مانويل زيليدون
(كوستاريكا)

مانويل زيليدون (١٨٦٤–١٩٣٦م)

وُلد في سان خوسيه عاصمة كوستاريكا، ودرس في المعهد القومي بها. وسافر في مقتبل عمره إلى كولومبيا ليعمل نائبًا للقنصل هناك. ولما عاد إلى بلاده عمل بالسياسة وانتُخب عضوًا بالبرلمان. بَيدَ أن السياسة خيبت آماله، فسافر هو وعائلته إلى الولايات المتحدة وأقام فيها ثلاثين عامًا. وهناك، عينَته بلاده قنصلًا عامًّا لها في نيويورك ثم سفيرًا في واشنطون.

وزيليدون هو عميد الأدب في كوستاريكا، ومؤسس حركة «العادات والأعراف في الأدب والفن» التي شاعت في زمانه في أمريكا اللاتينية. وتتألف معظم كتبه من الروايات والقصص القصيرة.

***

ليست هذه مجرد حكاية. إنها قصة حقيقية تتدفق من سن قلمي حينما كانت تتدافع من شفتي السيد «كورنليو كتشيدا»، أحد أصدقائي الأعزاء الذين أعرفهم في أرض الله الطيبة. وكان قد حكاها لي منذ خمسة شهور؛ فأدهشتني غرابتها حتى إنني اعتبرتها جريمة ألا أحكيها بدوري حتى يتمكَّن العلماء والملاحظون من دراسة الحالة بالعناية التي تستحقها.

وربما كان بوسعي أن أعطي تحليلًا جادًّا للموضوع، بَيدَ أنني سوف أحتفظ به إلى ما بعد سماع رأي القراء. وعلى أية حال، فيما يتعلق بالشيء الغريب الذي أشرت إليه سابقًا، ها هو بكل بساطة ووضوح.

جاء كورنليو لزيارتي مصطحبًا معه ابنتَين في الثانية والنصف من عمرهما، ولدتا في نفس «القماط» كما قال عنهما، واسمهما «ماريا دي لوس دولوريس» و«ماريا دل بينار»، وكلتاهما شقراء كعيدان القمح، بيضاوان مشربتان بالحمرة كالخوخ الناضج، وجميلتان كاللوحات الفنية، وهو تعبير آخر من تعابير كورنليو. وكان ثمة تناقض صارخ بين الجمال الطفولي للبنتَين وبين ملامح كورنليو التي لا تناسق فيها؛ إذ كان قبيح التقاطيع داكن البشَرة وجاف الجلد من أظافر يديه القذرة إلى شقوق كعبيه. وخطر لي على الفور بالطبع أن أساله: من هو الأب السعيد لهاتَين الطفلتَين الجميلتَين؟ وامتلأ الرجل العجوز زهوًا، وعقَص وجهه، ومسح لعابه بظهر يده المغطاة بالشعر وأجاب:

– حسنًا، إني أنا أبوهما، صدِّق أو لا تصدِّق! إنهما لا تشبهاني كثيرًا، ولكن أمهما حسنة الشكل، وليس هناك شيء بعيد على قدرة الله العلي العظيم.

– ولكن قل لي يا كورنليو، هل زوجتك شقراء أم أن البنتَين تشبهان جدودهما؟

– كلا. ليس في العائلة كلها من يشبه الواحد منهم الآخر. لقد كنَّا جميعًا من المخلطين.

– حسنًا إذَن، كيف تفسر أن تولد البنتان بهذا الشعر وتلك البشرة؟

وأطلق العجوز ضحكة ساخرة، ووضع ذراعيه في وسطه، وصوَّب نحوي نظرة احتقار واستهجان.

– علام تضحك يا كورنليو؟

– حسنًا، ألا يجب أن أضحك يا سيد «ماجون» حين أجد أن شخصًا فقيرًا جاهلًا مثلي، فلاحًا أجيرًا، يعرف أكثر مما يعرف شخص مثلك، يقولون عنه إنه من أكثر الناس علمًا وقراءة في الكتب، حتى إنك تحرر القوانين لرئيس الجمهورية ووزرائه؟

– حسنًا إذَن. اشرح لي الأمر.

– ستعرف ما حدث.

وتناول كورنليو، قطعة كبيرة من الحلوى من خُرجه، وأعطى جزءًا منها لكل من البنتَين الصغيرتَين، وجذب مقعدًا جلس يستريح عليه وهو يزهو بانتصاره المرتقب. وتمخَّط بصوت عالٍ، مغطيًا كل فتحة من أنفه بأصبعه، نافخًا في الأخرى بكل قوته، ونظف الأرض بحذائه، ومسح يديه في داخل سترته، وبدأ شرحه بهذه الكلمات:

– أنت تعرف أنه في مارس منذ ثلاث سنوات، حدث كسوف، تحوَّل فيه وسط الشمس إلى اللون الأسود. حسنًا، وحوالي عشرين يومًا قبل ذلك، ظهرت على «لينا» زوجتي علائم الحمل في هاتَين البنتَين الصغيرتَين. ومنذ ذلك الوقت، انتابتها علائم القلق وأمسكت بخناقها. لقد كان شيئًا عجيبًا. لم يكن من شيء يخفف عنها. كانت تغادر المنزل، ليل نهار، متطلعة دائمًا إلى السماء. كانت تذهب إلى الخرائب، وإلى الغدير، وإلى سور الأعشاب البرية، وما يمليه عليها خيالها ومرضها ذاك، فلم يكن هناك أي شيء نفعله معها. وكانت كثيرة «التوحُّم» في كل مرة من مرات حملها. وقد حدث هذا عند مولد الابن الأكبر؛ فقد أيقظتني ذات ليلة وطلبت مني الذهاب للبحث عن عِرق شجرة برقوق لها. كان أفضل لي الخروج للبحث عن ذلك المطلب الغريب من أن يولد الطفل وبه عيب خِلقي. وقد أحضرت لها العِرق. وبعد ذلك، كانت لها طلبات غريبة أخرى، ولكني لم أرَها بتلك الكثرة التي واكبت حملها في تلكما البنتَين. وهكذا كما ذكرت لك، كانت تتطلع إلى السماء ليل نهار، وكنت قد ذهبت يوم الكسوف إلى منطقة الشجيرات عند سور العشب منذ انبلاج الفجر … وحتى لا أطيل عليك بالتفاصيل، استمر الحال على ذلك المنوال حتى ولادة البنتَين. وإني لأعترف أن رؤيتي لهما هكذا شقراوين بيضاوين قد ملأتني بالدهشة، ولكن يبدو أنهما قد جلبتا معهما بركات الله. فمعلمة المدرسة تحبهما وتخيط لهما ملابسهما، والنائب السياسي يمنحهما كل ما في جيبه من فكة، والقسيس يطلب مني أن يُجلسهما بالقرب من هيكل الكنيسة في الملابس الكتانية في احتفالات الأسبوع المقدس، وهم يخرجون بهما في المسارات الدينية في تلك الاحتفالات، وفي أعياد الميلاد، يلبسونهما ما يناسب وضعهما إلى جوار العائلة المقدسة. وكل النفقات يدفعها منظمو الاحتفالات من جيوبهم، كما أنهم يمنحونهما عملات كبيرة، وحتى نقودًا ورقية، أو هدايا ثمينة. تبارك الله الذي خلقهما لخدمته من أب قبيح الشكل مثلي! … كما أن «لينا» شديدة التعلق بالبنتَين حتى إنها لا تطيق ألا يسرف الناس في الثناء عليهما. وقد حدث فعلًا أن تشاجرَت مع عجائز الحي حول هاتَين القطتَين الجميلتَين.

وقاطعت كورنليو بعد أن خشيت ألا ينتهي حديثه، وعُدت به إلى موضوعنا.

– حسنًا، ولكن ماذا كان الأمر؟

– ما الأمر؟ ألا تدرك الآن أنه بسبب تطلع الأم إلى كسوف الشمس جاءت البنتان شقراوين؟ ألا تفهم ذلك؟

– … لا أفهم ذلك. ويدهشني أنك توصَّلت إلى ذلك وأنت لم تنَل أي قدر من التعليم.

– لن أخفي عنك يا سيد ماجون، فلم أكن أنا الذي توصَّلت إلى سرِّ ذلك الأمر. هل تعرف مهندس البناء الإيطالي الذي أقام برج كنيسة البلدة؟ ذلك الرجل الضخم الأحمر الشعر والأبيض البشرة الذي كان يتناول طعامه في منزلنا طوال أربع سنوات؟

– كلَّا يا كورنليو.

– حسنًا، لقد كان هو الذي شرح لي موضوع كسوف الشمس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤