عدالة هندية

تأليف: ريكاردو خايمس فريري
(بوليفيا)

ريكاردو خايمس فريري (١٨٦٨–١٩٣٣م)

كاتب من بوليفيا عاش سنوات طويلة في الأرجنتين حيث نشر أول كتبه، وهو ديوان شعر بعنوان «باربارا». شارك بقصائده في حركة الحداثة في أدب اللغة الإسبانية التي قاد لواءها «روبين داريو»، وساهم بعديد من الابتكارات والأوزان الشِّعرية الجديدة ونماذج من الشِّعر الحر. وعاد إلى بوليفيا عام ١٩٢١م ليشغل منصب وزير التعليم ثم وزير الخارجية. مثَّل بلاده سفيرًا في عدد من الدول منها الولايات المتحدة والبرازيل. وله أيضًا عديد من القصص القصيرة، اشتهرت منها القصة المختارة هنا، وقد طبق فيها الأسلوب الحديث على مشكلة من مشاكل عصره، وهي استغلال السكان الأصليين. وقد تعمَّد المؤلف تصوير القسوة في انتقام الهنود من السادة الذين يستعبدونهم، ليصوِّر العدالة كما يفهمها هؤلاء الهنود، ورسم عالمَين متناقضَين يحكم كل منهما تقاليد خاصة لا يمكن التغلُّب عليها.

***

كان المسافران يشربان ما تبقَّى من نبيذ، وهما واقفان أمام النار الموقدة في الخارج. كانت نسمة الصباح الباردة تهزُّ قليلًا حواف قبعتَيهما العريضتَين المصنوعتَين من اللباد. كانت النيران قد بدأت تخفت بالفعل في إطار نور الفجر الرمادي المتردد، كما بدأت الأعمدة الصلصالية البدائية الثقيلة تبين شامخة قبالة الظلال التي تتبدَّى في الخلفية.

وكان هناك حصانان مربوطان في حلقة حديدية مثبتة في أحد الأعمدة، ينتظران وقد تم تجهيزهما، خافضَي الرأس، يمضغان أعوادًا طويلة من الحشائش بصعوبة. وكان هندي شاب يقف إلى جوار الحائط ومعه كيس مليء بالذرة في إحدى يديه، وهو يلقي بحباتها الصفراء إلى فمه.

وحين تهيأ المسافران للرحيل، ظهر هنديان آخران عند البوابة الكبيرة. ورفعا أحد العروق الخشبية الضخمة الموضوعة على الجدران الثقيلة، وفتحا الباب ودلفا إلى الساحة الرحيبة.

كان يبدو عليهما الفقر والبؤس، وزاد من فقرهما وبؤسهما سترتاهما الممزقتان وقميصاهما المفتوحان الخشنان والعقَد الكثيرة في أربطة صندلَيهما الجلدية.

واقتربا من المسافرين في بطء عندما كانا يقفزان على حصانَيهما، بينما كان المرشد الهندي يربط كيس الذرة إلى وسطه ويعقد رباط صندله حول ساقه.

كان المسافران ما زالا في شرخ الشباب؛ أحدهما طويل القامة، شديد البياض، ذو نظرة صارمة باردة. وكان الثاني صغير الحجم، أسمر، ذا مظهر بهيج.

وتمتم أحد الهنديَّين: «أيها السيد …» والتفت إليه المسافر الأبيض.

– أهلًا، ما الأمر يا توماس؟

– أيها السيد … أعطني حصاني …

– مرة أخرى، أيها الأبله! هل تريدني أن أسافر مشيًا على الأقدام؟ لقد أعطيتك حصاني مقابله، وهذا يكفي.

– ولكن حصانك ميت.

– طبعًا هو ميت؛ وذلك لأني قد ركبته خمس عشرة ساعة متواصلة. لقد كان حصانًا عظيمًا! إن حصانك لا يساوي شيئًا. هل تظن أنه سوف يتحمَّل ساعات كثيرة؟

– لقد بعت ما لدي من حيوانات اللاما كي أشتري هذا الحصان لأعياد القديس يوحنا … وبالإضافة إلى ذلك يا سيد، أنك قد أحرقت كوخي.

– طبعًا؛ لأنك جئت تضايقني بشكاواك. لقد قذفت رأسك بجمرة نيران كي أبعدك عني، وبما أنك أدرت وجهك؛ فقد وقعت على كومة من القش. ليس هذا ذنبي. كان يجب عليك أن تتلقى جمرتي باحترام. وأنت يا «بدرو»، ماذا تريد؟ قال هذا موجهًا الكلام للهندي الآخر.

– لقد حضرت إليك يا سيدي كي أضرع إليك ألا تستولي على أرضي؛ إنها أرضي، وقد قمت بزراعتها.

فقال السيد موجهًا حديثه إلى رفيقه: إن هذا الموضوع يخصك يا «قرطبة».

– كلا، ليس هذا من اختصاصي. لقد فعلت وحسب ما أمرت أن أفعل. إنك أنت، يا «بدرو كيسبي»، لست مالك هذه الأرض. أين هي حجة ملكك القانونية؟ أين هي أوراقك؟

– ليست لدي أي أوراق يا سيدي. ولم يكن لأبي أي أوراق هو الآخر. إنني لم أسِئ إليك أبدًا.

– هل تملِك حقيبة ملآنة بالنقود تخبئها في مكانٍ ما؟ أعطني الحقيبة ولك أن تحتفظ بالأرض.

وتطلع بدرو إلى قرطبة في ألم.

– ليست عندي أية نقود، كما أنه ليس بوسعي الحصول على مثل تلك النقود.

– في هذه الحالة، ليس هناك ما يقال. دعني وشأني.

– على الأقل، ادفع لي ما أنت مدينٌ لي به.

– ألن ننتهي من ذلك الموضوع أبدًا؟ هل تظن أنني من البلاهة كي أدفع لك ثمن شاة وبضع دجاجات أعطيتها لي؟ هل كنت تتخيل أننا نموت جوعًا؟

وصاح المسافر الأبيض الذي كان قد بدأ صبره ينفد: إذا واصلنا الاستماع إلى هذين المعتوهَين فسنبقى هنا إلى الأبد.

كانت قمة الجبل الذي كان المسكن الريفي يقع في جانب منه قد بدأت تلتمع بعد أن ضربتها أشعة الشمس الأولى. وبدأ النور يغزو الشريط الضيق من الأرض القاحلة، واستبانت الطبيعة الموحشة الجدباء التي تكللها سلسلة الجبال الداكنة اللون، تحت سماء زرقاء تقطعها هنا وهناك سحائب رمادية هاربة.

وأشار قرطبة إلى المرشد، فتحرَّك نحو البوابة وتبِعه الرجلان على حصانيهما.

واندفع كيسبي تجاههما وأمسك بعنان أحد الحصانَين. بَيدَ أن ضربة سوط على وجهه جعلته يرتد إلى الخلف. وبعد ذلك، جرى الهنديان خارج الفناء، تجاه تلٍّ قريب، وتسلقاه بسرعة وثقة أهل البلاد المحليين، وحين بلغا قمته، تطلعا حواليهما.

ورفع بدرو كيسبي إلى شفتيه بوقًا كان يحمله على ظهره وأصدر منه صوتًا عميقًا طويلًا. وتوقف لحظة ثم واصل إصدار النغمة السريعة الحادة.

كان المسافران قد بدآ السير بجوار الجبل، وكان المرشد يسير بخطى واثقة أكيدة لا يحفل بشيء وهو يأكل حبات الذرة. وحين ترددت أصداء البوق، توقف الهندي، ونظر إلى الرجلين على حصانيهما في فزِع ثم أخذ يجري بخِفة في ممر يُفضي إلى الجبال. وبعد لحظات، كان قد اختفى عن الأنظار.

وصاح قرطبة موجهًا حديثه إلى رفيقه: ألفاريز، لقد أخذ هذان الوغدان مرشدنا.

وأوقف ألفاريز حصانه وتطلع في كل الأنحاء بقلق.

– المرشد … ولماذا نحن في حاجة إليه؟ إني أخشى ما هو أسوأ.

واستمر البوق في النداء، واستبان على قمة التل جسد بدرو كيسبي على خلفية زرقة السماء وجدب قمم الجبال الحمراء.

وكأنما ألقيت على حواف الجبال وممراتها تعويذة سحرية. فمن وراء أكوام التبن الضخمة، ومن حقول الحشائش والأحراش البرية الطويلة، ومن تحت الخيام القماشية الكبيرة في مخيمات الهنود، ومن أبواب الأكواخ الصغيرة، وعلى قمم الجبال القصية، كانت تُرى أشباح آدمية تبرز وتختفي بسرعة. كانوا يتوقفون برهة، ويتطلَّعون تجاه الجبل الذي كان بدرو كيسبي لا يزال يُطلق صفيره منه، ثم يزحفون عبر التلال وهم حذرون.

وواصل ألفاريز وقرطبة سيرهما في الجبل، وكان حصاناهما يلهثان وهما يسيران في الممرات الضيقة الوعرة لتلك المنطقة الصخرية. وكان الرجلان يسيران في صمت وقد خيَّم عليهما قلق عميق.

وفجأة، سقطت إلى جوارهما صخرة ضخمة اقتُلعت من قمة الجبل في زئير مدوٍّ. ثم صخرة أخرى … فأخرى …

ودفع ألفاريز حصانه إلى الأمام بأقصى سرعته، ملتفًّا به حول الجبل. وفعل قرطبة نفس الشيء على الفور، ولكن الصخور الثقيلة تابعتهما. كان يبدو أن الجبل كله ينهار. وقفز الحصانان فوق الصخور وكأنهما قد وقعا في وسط عاصفة، وداسا بحوافرهما على الأطراف الصلبة متعلقَين في الفضاء على علوٍّ شاهق.

وسرعان ما تكلَّل الجبل بالهنود. واندفع الراكبان عند ذاك إلى الممر الضيق الذي كان يتعرَّج ويلتوى تحتهما؛ حيث كان هناك مجرًى مائي رفيع شفاف يتدفق في هدوء.

كانت الوهاد مليئة بالأصوات الغريبة، وكان صوت الأبواق يأتي من كل الأنحاء، وفي نهاية الممر برزت فجأة مجموعة من الرجال ووقفت تجاه النور الساطع الذي كان يفصل بين الجبلَين.

وفي تلك اللحظة، أصابت صخرة كبيرة حصان ألفاريز، فتردد فيما يبدو هُنيهة ثم سقط متدحرجًا على جانب الجبل. وقفز قرطبة إلى الأرض وأخذ يزحف تجاه الكتلة المتربة التي كان يمكن التعرُّف من بينها على الحصان وراكبه.

وبدأ الهنود يهبطون من على القمم، كانوا يأتون واحدًا واحدًا من الشقوق والثَّنيات، يتقدمون بحذر، ويتوقفون كل ثانية ليُراقبوا قاع الوادي. وحين بلغوا حافة الجدول، رأوا المسافرَين. كان ألفاريز مُمددًا على الأرض، فاقد الرشد. وكان رفيقه واقفًا إلى جواره وقد عقد ذراعيه على صدره في يأس لعدم قدرته على فعل أي شيء، وراقب نزول الهنود البطيء المخيف.

كان الرجال والنساء من العجائز قد تجمعوا انتظارًا لنتيجة المطاردة في السهل الصغير الذي يكوِّنه منخفضات سلاسل الجبال المحيطة به. وكانت النسوة الهنديات، بأرديتهن القصيرة المستديرة المصنوعة من القماش الخشن، وعباءاتهن على صدورهن، وضفائرهن غير المنتظمة على ظهورهن، عاريات الأقدام، متجمعات في أحد الأركان في صمت، وكانت ترى أصابعهن تقوم بعملية الغزل على البكرات الحديدية وكأنها ترقص في سرعة مخيفة.

وحين وصل الهنود، أحضروا المسافرَين معهم، مربوطَين إلى حصانَيهما. وتقدَّموا إلى وسط السهل الصغير، وهناك ألقَوا بهما على الأرض كجِوالَين. وعندها تقدَّمت النسوة وتطلعن إليهما في حب استطلاع، دون أن يتوقفن عن الغزل والحديث في همس.

وتشاور الرجال الهنود فيما بينهم هنيهة، ثم أسرع فريق منهم إلى سفح الجبل. وعادوا ومعهم جرَّتان كبيرتان ولوحان عريضان. وبينما أخذ البعض يحفرون حُفرًا في الأرض ثبتوا فيها لوحَين من الخشب، كان الآخرون يملئون بعض الأكواب الفخارية الصغيرة من السائل الذي كان في الجرتَين.

وشربوا حتى بدأت الشمس تغرب في الأفق؛ ولم يكن يُسمع من شيء سوى الحديث الخافت بين النسوة وصوت السائل وهو ينصبُّ إلى الأكواب من الجرتَين المرفوعتَين عاليًا.

ورفع بدرو وتوماس جسدَي المسافرَين وربطاهما إلى لوحَي الخشب المثبتَين في الأرض. وصدر عن ألفاريز أنين متطاول، فقد كان عموده الفقري قد انكسر في سقطته. وجرَّد الهنود الرجلَين من ملابسهما مطوِّحِين كل قطعة بعيدًا عنهما. وتطلعت النسوة إلى الجسدين الأبيضين في دهشة.

ثم بدأ العقاب. فانتزع بدرو كيسبي أجزاءً من جسد قرطبة وأحرق أجزاء أخرى. وغطى توماس جسد ألفاريز بطعنات من مدية صغيرة. ثم تقدم الهنود الآخرون وأخذوا يرشقونهما بالحجارة. وصبَّت شابة هندية محتويات كوبها على وجه ألفاريز.

كانت الظلمة تهبط. وكانت روحا المسافرَين قد صعدتا إلى بارئهما منذ فترة طويلة. ولكن الهنود كانوا لا يزالون يصبُّون عدالتهم على الجسدَين الهامدَين.

ثم حان وقت التعاهد على كتمان السر. ورسم بدرو كيسبي صليبًا على الأرض، وأقبل كل الرجال والنساء يقبِّلون الصليب. وبعد ذلك، أحل بدرو المسبحة التي تحيط بعنقه على الدوام، وأقسم الهنود عليها، ثم بصق على الأرض، وعبر الهنود فوق التراب المبتل.

وحين اختفت الآثار الدامية لما حدث، وانمحت كل آثار ما حدث على تلك الربوة العالية، كان الليل بكل جلاله ورحابته يهبط على تلك العزلة الجبلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤