السجين

تأليف: أوجستو روا باستوس
(باراجواي)

أوجوستو روا باستوس (١٩١٧م)

وُلد أوجوستو روا باستوس في أسونسيون عاصمة باراجواي، وبدأ عمله كصحفي في سن مبكرة، وسافر خلال الحرب العالمية الثانية إلى كثير من بلدان أوروبا وأفريقيا كمراسل صحفي. وصدر حكم بنفيه من باراجواي عام ١٩٤٧م لكتاباته السياسية، فعاش في بوينوس آيرس عاصمة الأرجنتين منذ ذلك الوقت. بدأ نشاطه الأدبي بوصفه شاعرًا، بَيدَ أنه اشتهر عن طريق رواياته وقصصه القصيرة واستخدم في قصصه أساليب متعددة وموضوعات مختلفة. وأشهر رواياته هي «ابن الإنسان» التي صدرت عام ١٩٦٠م. وقد عمِل أيضًا في وضع سيناريوهات كثير من الأفلام الأرجنتينية. ونشرت قصة «السجين» في مجموعة قصصية عنوانها «الرعد بين أوراق الشجر».

***

أجابت الطلقات بعضها على بعض دون توقُّف في ليل الشتاء البارد. وشكَّلت خطًّا متعرجًا مترددًا حول الكوخ. وفيما بين فترات صمت قلقة، كانت أصوات الطلقات تتقدم وتتقهقر على طول حافة الغابة والمستنقعات المتاخمة لشاطئ النهر، مثل خيوط شبكة انغلقت في حرص وإنما بثبات. وطفِقت أصداء الطلقات تتردد خلال طبقات سمعية رقيقة في الهواء الذي كان ينكسر مع كل طلقة. وكان من الممكن حساب قُطر دائرة الشبكة من المدة التي يستغرقها الصدى؛ فإذا أخذنا الكوخ بوصفه المركَّز، يكون طول الدائرة حوالي أربعة أو خمسة كيلومترات. ولكن تلك الأرض المربعة، التي تحددت واستكشفت من كل نواحيها، كانت بلا حدود تقريبًا. وكان نفس الشيء يحدث في كل الأنحاء.

لقد رفضت الانتفاضة الشعبية أن تموت كلية. ودون أن تعلم أنها قد سلبت بالفعل من انتصارها بالخداع والتمويه، ظلت تثير الأمل في عناد بحرب عصابات متهالكة، وسط المستنقعات وفي الأحراش وفي القرى المقوضة.

ولقد سطرت الكراهية أبشع صفحاتها؛ حيث انتهت الانتفاضة وليس أثناء القتال ذاته؛ فقد انحطَّ القتال الفئوي فأصبح عربدة انتقام وحشي. وتحدد مصير عائلات بأكملها عن طريق لون الشارة الحزبية التي يضعها الأب أو الإخوة. ودمرت العاصفة المفجعة كل ما تستطيع تدميره. لقد كان الأمر كشعائر سفك الدماء، ولقد كشفت الآلهة المحلية الشرهة مرة أخرى عن عيونها النارية من خلال أوراق الشجر، وفيها كانت صورة الرجال تنعكس كظلال حلم بدائي قديم. وكان الفك الصخري الأخضر يطحن تلك الظلال المارقة. صرخة في الليل، عواء بومة من المستحيل تحديد مكانها، فحيح أفعى في الحشائش الطويلة، كلها ترفع أسوارًا لم يجرؤ الهاربون على عبورها. كانوا قد انحصروا في سرداب جهنمي، واقعين بين البنادق الآلية وبنادق «الماوزر» وراءهم، وبين موجات هلاوس الرعب الذي كان يرافق هربهم. وقد آثر البعض أن يواجه دوريات الحكومة وينهي الأمر.

كان الكوخ المحترق في وسط الأحراش رمزًا مناسبًا لما كان يحدث من أمور. كان مشهدًا حزينًا، وسلميًّا في ذات الوقت؛ مشهدًا تكمن فعاليته في براءته التي تمزَّقت أشلاء. لم يكن العنف قد أنهى مهمته بعد؛ فلم يكن قد تمكَّن من محو بعض التفاصيل الصغيرة التي كانت ذكرى زمن آخر. كانت الأعمدة المحترقة تشير مباشرة إلى السماء وسط الجدران الطوبية المتداعية. وكان القمر يخلع مسحة من البياض الحليبي على الأركان الأربعة المتفحمة. بَيدَ أن هذا لم يكن أهم شيء. فعلى إفريز نافذة في نهاية الكوخ، مثلًا، كان هناك أصيص زهر ما يزال؛ علبة صغيرة من الصفيح الصدئ يخرج منها ساق زهرة قرنفل ملفوحة من اللهيب. بقيَت على الرغم من كل شيء، كالذكرى المنسية، غافلة عن الزمن، محاطة بلمعة القمر الأبدية، كعين طفل أعمى حضر جريمة وإن لم يكن قد رآها.

كان الكوخ يقع في نقطة استراتيجية؛ فقد كان يتحكم في المنفذ الوحيد من منطقة المستنقعات؛ حيث كان البحث يجري على قدم وساق، وحيث كان يفترض أن آخر مجموعة من مجموعات رجال حرب العصابات المتمردين في هذه المنطقة مختبئة فيها. كان الكوخ بمثابة مركز العمليات لدورية الحكومة.

كانت الأسلحة وصناديق الذخيرة مرصوصة فيما كانت الغرفة الوحيدة للكوخ. وكان بين الأسلحة وصناديق الذخيرة مقعد خشبي متشقق ينام عليه جندي غطَّى عينيه بقبعته العسكرية. وعلى ضوء خفق النيران الضعيفة التي أوقدها الجنود ضد تعليمات الضابط الصارمة كيما يدفعوا عن أنفسهم غائلة البرد، كان يمكن رؤية أطراف المقعد المتهرئة وقد أصبحت ملساء بفعل سنوات وسنوات من استخدام الفلاحين وعرقهم. وفي مكان آخر، كان جزءٌ من الجدار يظلل بسطة حجرية تكاد تكون سليمة وعليها زجاجة سوداء تنضح بالدهن وثمة شمعة نصف محترقة مثبتة في فوهتها. ووراء الكوخ، كان هناك محراث حديدي صغير يرتكز على جذع شجرة برتقال، ونصله يلمع في خفوت، يبدو في انتظار يد صاحبه وهو يقبض على سطحه ويمسك بمقبضه في الصباح، تلك اليد المعروقة التي قد تكون الآن تتعفَّن تحت الثرى في أرض لا يعلمها إلا الله. وقد أعادت تلك الآثار ذكرى الحياة مرة أخرى. فلا الجنود ولا الأسلحة الأوتوماتيكية والرصاص والعنف يعنى أي شيء. الشيء الوحيد المهم هنا هو آثار الحنان المفقود.

ومن خلال تلك الآثار يمكن للمرء أن يرى الأشياء الخفيَّة، ويشعر في قصتها بنبض الدوام. وفيما بين الطلقات وبعضها الآخر الذي يردد صدى طلقات أخرى بعيدة، كان الكوخ يبرز إلى الأمام مرتكزًا على ما تبقَّى منه من بقايا محطمة. كانت العلبة الصفيح الصغيرة الصدئة التي يخرج منها ساق قرنفلة تبعث في الذهن يدَي شخصٍ ما، عينَي شخصٍ ما. وتلك اليدان وتلك العينان لم تختفِ تمامًا. كانت هناك صامدة بوصفها جزءًا من الهالة التي لا تنطفئ والتي تنبجس من الكوخ، هالة الحياة التي سكنته سابقًا. كان المقعد القديم الصقيل، والمحراث الذي لا يعمل، المستند إلى جذع شجرة البرتقال، والزجاجة السوداء التي بها بقية الشمعة والشحم الذي يقطر منها، كلها تبرز بحميمية أكثر كثافة وطبيعية من الصورة الكلية التي يوحيها الكوخ نصف المحترق. كان ثمة جذع متفحم ما يزال يعلق به فرع، يتصاعد منه دخان رقيق. كان عمود الدخان الرفيع يعلو ثم يتفكَّك في خصلات زرقاوية كنُدف القطن تتعارك عليها تيارات الهواء. كان الأمر كزفرات الخشب الصلد الذي سوف يواصل انصهاره أيامًا عديدة مقبلة. إن لبَّ شجرة «التمبو» صلب أمام النيران، صلابته أمام البلطة وأمام الزمن. بَيدَ أن الدخان كان يتصاعد منه أيضًا، وسوف ينتهي إلى أن يصبح رمادًا وردي اللون.

وعلى أرضية الكوخ الترابية، كان الجنود الثلاثة الآخرون في الفصيلة يستدفئون إلى جوار النار الضعيفة ويطردون النوم عنهم بتجاذب أطراف حديث مفكَّك يتخلله التثاؤب والإيماءات. لم يكونوا قد ناموا طوال ثلاث ليالٍ الآن. ذلك أن قائد الفصيلة قد أبقى رجاله في عمل دائم منذ وصولهم.

وراعهم صفير بعيد آتٍ من جهة الأحراش. كان كلمةَ السر المتفق عليها. فأمسكوا ببنادقهم، وقام اثنان منهم بإطفاء النار بسرعة بكعبَي بندقيتَيهما، وأيقظ الجندي الثالث الآخر الذي كان نائمًا على المقعد وهو يهزه بعنف: انهض يا سالديفار، قُم، استيقظ. سوف يسوِّي الضابط حسابه معك أيها الطري …

ونهض الجندي وهو يفرك عينيه، بينما هرع الآخرون لملء أماكن حراستهم المفترضة في الليل القارس البرودة.

وأجاب أحد الحراس على الصفير الخاص الذي تكرر مرة أخرى من مكان أقرب هذه المرة. وسمعوا خطوات أقدام تقترب. وبعد لحظات، ظهرت الدورية. كان بوسعهم أن يتبيَّنوا الضابط وهو يسير في المقدمة بين فروع شجر جوز الهند بسبب حذائه الطويل وقبعته وسترته الجلدية. وتقدَّم ظله السميك القصير في ضوء القمر حين كان ثمة سحابات صغيرة قد بدأت تغطيه. وكان ثلاثة جنود ممن جاءوا بعده يجرُّون جسم رجل. وفكر سالديفار أنه ربما كان رهينة أخرى، كالفلاح العجوز في الليلة الماضية الذي قام الضابط بتعذيبه كيما ينتزع منه بعض المعلومات عن مخابئ الثوار. ومات الفلاح دون أن يتمكَّن من قول أي شيء. كان الأمر مريعًا. فجأة، وهم يضربونه، بدأ العجوز وأسنانه مُطبقة يغنِّي في هدوءٍ شيئًا لا يكاد يبين، أغنية حيوية حزينة في نفس الوقت. كان يبدو وقد جُن. وارتعد سالديفار وهو يتذكَّر ذلك.

ولم يبدُ شيء حتى الآن على أن المطاردة ستؤدي إلى نتيجة، وتضايق الضابط «بيرالتا»، وقد تسلَّط عليه هذا المعقل الشبحي الذي يكمن في مكانٍ ما من المستنقعات والذي كان لا يزال يُفلت من قبضته.

كان الملازم بيرالتا رجلًا شديد المراس، استحوذت عليه مَهمته، وهي صفة مناسبة للعملية المحددة التي كان يقوم بتنفيذها. كان فيما سبق ضابطًا في الشرطة العسكرية خلال «حرب الشاكو»، وكان قد خرج من العمل حين اندلعت الثورة، ولما لم يكن إنسانًا وجلًا ولا خاملًا، فقد عاد إلى الخدمة. لم يكن اسمه قد تردد خلال القتال، ولكنه بدأ يُعرف حين دعت الحاجة إلى خبير ورجل صارم كيما يتعقب الثوار. وهذا هو السبب في أنه كان الآن في هذا المكان الذي هو بؤرة من بؤر الثوار. كان يريد أن يقضي عليها في أسرع وقت ممكن حتى يعود إلى العاصمة ويستمتع بنصيبه من احتفالات النصر.

ومن الواضح أن بيرالتا كان قد عثر على دليل يهديه خلال بحثه الدائب، وكان يستعد لإطلاق الضربة الأخيرة. وسمع سالديفار وسط خدر حواسه التام صوت بيرالتا يصدر أوامره. كما رأى على نحو مبهم زملاءه يضعون مدفعَين ثقيلَين في الشاحنة ويرحلون في الاتجاه الذي أوضحه بيرالتا. وسمع شيئًا عن أن رجال حرب العصابات محصورون في جزيرة مشجَّرة صغيرة في مستنقع. وسمع في غير وضوح بيرالتا يقول له: «سالديفار، سوف تبقى هنا وحدك. أما نحن فسوف نحاصر أولئك المجرمين في المستنقع. إني أترككَ لحراسة السجين والمؤن.»

وبذل سالديفار جهدًا مؤلمًا كيما يفهم. ولم يتبين الأمر إلا بعد أن رحل الآخرون بالفعل. كان الليل قد أوغل في سواده. وكانت الريح تعوي في عنف عبر أشجار جوز الهند التي كانت تحيط بالكوخ من كل جانب. وعلى الأرض الترابية كان يرقد جسد الرجل بلا حراك. ربما كان نائمًا، أو ميتًا. كان الأمر يستوي بالنسبة إلى سالديفار. كان ذهنه يتجوَّل بين مجموعة من المشاهد المتنوعة والمختلفة، فيما بينها اختلاف كبير، وكل منها غير مترابط. كان النوم يخدِّر إرادته بالتدريج. كان كالجراب المطاطي اللاصق الذي يحيط بأطرافه. لم يكن يبغي إلا أن ينام. ولكنه كان يدرك على نحوٍ مبهمٍ مشوشٍ أنه يجب ألا ينام. كان يُحس على عنقه بفقاعة هواء. كان لسانه قد أصبح شبيهًا بالعجين، وشعر أنه يتورم تدريجيًّا في فمه وأنه سوف يُخمد أنفاسه في لحظة من اللحظات. وحاول أن يمشي حول السجين، بَيد أن قدمَيه رفضتا أن تطيعاه. وترنَّح كالثمِل. وحاول أن يفكر في شيء محدد ومحسوس، بَيد أن ذكرياته المهوَّشة دارت في حلقات بطيئة كدائرة العنكبوت في اضطراب، وانزلقت عبر رأسه دون شكل ولا وزن. وفي ومضة أو ومضتَين من الصفاء، فكَّر سالديفار في أمه وأخيه. كانا مثل أخدودَين مثيرَين للألم في كتلة بلادته الناعمة الإسفنجية. لم يَعُد النوم يبدو ساكنًا جسده، بل أصبح شيئًا خارج نطاقه، عنصرًا من عناصر الطبيعة استكنَّ إليه هاربًا من الليل، من الزمن، من العنف، من تعب الأشياء، وأرغمه أن ينحني إلى أسفل أكثر فأكثر.

كان جسد الصبي يرتجف بفعل البرد أقل منه بفعل النوم الذي كان يطويه في استنفاد مؤلم. ولكنه ظلَّ واقفًا. كانت الأرض تناديه. كان الجسد الساكن للرجل الممدد على الأرض يناديه بمثاله الصامت المريح، ولكن الصبي قاوم الإغراء، ونبضاته ترتجف كفرخ الطائر فوق غصن هش.

كان هوجو سالديفار في الثامنة عشرة من عمره، وكان واحدًا من كثير من المجندين من مدينة «أسنسيون» العاصمة الذين استُدعوا للخدمة العسكرية مع اندلاع الحرب الأهلية. ولقد أدَّت سلسلة مريرة من الأحداث العفوية التي أرغمته على المرور بعديد من التجارب العبثية، إلى أن يصل إلى هنا على نحو عبثيٍّ ليخدم في فصيلة لاصطياد الثوار بقيادة الملازم بيرالتا في مستنقعات الجنوب بالقرب من منطقة «برانا».

كان الصبي الوحيد في المجموعة، غريبًا بين هؤلاء الرجال الآتين من أصول ريفية متنوعة مدفوعين إلى تنفيذ مهمة شريرة تتغذى على نفسها كالسرطان. وفكر هوجو سالديفار كثيرًا في الهرب من الخدمة العسكرية. ولكنه قرر في نهاية الأمر أنه لا جدوى من ذلك. كان العنف يعصف به، كان يوجد في كل مكان. لم يكن سوى بُرعم بائس، ورقة شجرة ذابلة، يتغذَّى على الكتب والمدرسة، على شجرة متعفنة تتهاوى ساقطة.

وفي الواقع، كان أخوه فيكتور قد حارب في ثبات. ولكنه كان قويًّا نشطًا، ولديه أفكاره التي يؤمن بها بشأن الإخوة بين بني الإنسان والجهد المطلوب لتحقيقها. كان يشعر بكلمات أخيه منقوشة على جلده، بَيدَ أنه كان يحب أن يراها منقوشة في قلبه: «علينا أن نتَّحد جميعًا يا هوجو، كيما نُزيل كل ما لم يَعُد قادرًا على أن يقدِّم لنا شيئًا، وأن نقيم مكانه نظامًا اجتماعيًّا نعيش في ظله دون أن نشعر بعداءٍ تجاه أحدنا الآخر، وحيث تكون الرغبة في العيش كأصدقاء هي الهدف بالنسبة للجميع …»

كان فيكتور قد قاتل في «حرب الشاكو» وعاد بعد ذلك حاملًا معه ذلك الشعور الماسَّ الهائج بضرورة عمل شيءٍ ما لرفاقه من بني الإنسان. كان التحوُّل الذي أصاب ذلك الأخ الأكبر ظاهرة مدهشة بالنسبة لصبي عمره عشر سنوات، وهو الآن، بعد ثماني سنوات، قد أصبح بالفعل رجلًا كبيرًا. كان فيكتور قد عاد من المحرقة الكبرى التي أشعلها البترول في «شاكو» بندبة غائرة على جبهته. بَيد أنه تحت هذا الجرح الثاوي، كانت له قناعة ذكية وسخية. ولقد شيَّد لنفسه عالمًا كان يزخر، إلى جانب الذكريات الملبدة والضيق، بالإيمان الرحيب والآمال المحددة لما يمكن أن يحرز من أشياء.

وكثيرًا ما كان الصبي يفكر أنه من الجميل حقًّا أن يعيش المرء لتحقيق مثل ذلك العالم الذي يحلم به أخوه فيكتور، وكان ذلك يؤثِّر فيه أيَّما تأثير. وبعد ذلك، رأى وفهم الكثير من الأشياء. كانت كلمات فيكتور تخترق جلده في بطءٍ لتنفذ إلى القلب. وحين التقيا مرة أخرى، كان كل شيء قد أصبح مختلفًا. بَيد أن كلَّ ذلك كان لا يزال بعيدًا.

لم يكن حتى يعرف أين كان فيكتور الآن؟ ورغم ذلك، كان يُحسُّ إحساسًا غامضًا أن أخاه قد توجَّه إلى الجنوب، إلى حقول الشاي، كيما يدبر لثورة بين العمال الزراعيين. وماذا لو كان فيكتور بين أفراد العصابات الآخرين الذين كان بيرالتا يطاردهم بين المستنقعات؟ ولقد خطرت تلك الفكرة الرهيبة على باله مرات عديدة، ولكنه حاول إبعادها عن ذهنه في هلع. كلَّا، يجب على أخيه أن يعيش، يجب أن يعيش … إنه بحاجة إليه.

واستمر ضغط النوم القاهر يحكُّ جلده وعظامه، ويلفُّ نفسه حواليه كأفعى دائبة شريرة تخنقه في بطء. لسوف ينام؛ لكن، هناك السجين، وقد يهرب وعندها يصبح الملازم بيرالتا صارمًا مع الحارس المهمل. لقد أظهر مدى صرامته قبل ذلك في مناسبات عديدة.

وتحرَّك سالديفار بثقل في دثاره المطاطي الثقيل، وتلمَّس ما حوله في الظلمة باحثًا عن قطعة من السلك أو الحبال كيما يقيد السجين. ربما كان جثة هامدة، ولكنه قد يكون يتظاهر بالموت حتى يتمكن من الهرب في لحظة إهمال من حارسه. وطافت يداه في كل ركن من أركان الكوخ المحترق دون جدوى. وأخيرًا، وجد قطعة من عروق الكرم، بالغة الجفاف والقِصر. لم تكن تصلح لشيء. وعندئذٍ، في ومضة صفاء يائسة، تذكَّر هوجو سالديفار أنه يوجد أمام الكوخ حفرة عميقة، ربما تكون قد حفرت من أجل إقامة دعامة للسقف الذي لن يُبنَى أبدًا بعد الآن. وتلك الحفرة تتسع لرجل يقف فيها قائمًا إلى صدره. وكان يحيط بالحفرة كَومة من التراب الذي كان قد أفرغ منها. وأسند هوجو سالديفار بندقية «الماوزر» على بقايا جدار. وبدأ يجرُّ السجين إلى الحفرة. واستخدم أقصى قواه كيما يضع الجسد في الحفرة المظلمة، التي كانت كماسورة صُنعت للغرض الذي يريده منها. ووقف السجين قائمًا في الحفرة، لا يبين منه سوى رأسه وكتفيه. وأهال سالديفار التراب بيديه وحذائه حتى ملأ الفراغات التي كانت تحيط بجسد الرجل. ولم يُبدِ السجين أي مقاومة في أي لحظة. فالظاهر أنه قد قبِل ما فعله الحارس بلامبالاة كاملة. ولم يكَد سالديفار يلاحظ ذلك، فقد أنعشه الجهد الذي بذله في ذلك العمل لفترةٍ ما، بل تولد له من الطاقة ما جعله يتناول بندقيته ويسوي التراب بكعبها. وبعد ذلك، سقط كالحجَر فوق المقعد، بينما تزايدت طلقات البنادق في سهل المستنقعات.

وعاد الملازم بيرالتا مع رجاله حوالي منتصف الظهيرة. كانت المَهمة قد أُنجزَت. وأضاءت ابتسامة قاسية وجهه، الذي كان مُسودًا كوَجه الطيور الكواسر. وكان الجنود يسوقون أمامهم سجينَين أو ثلاثة دامِيي الجراح. كانوا يدفعونهم إلى الأمام باللعنات والإهانات القبيحة وكعوب البنادق. كان معظم الأسرى من عمال المزارع في صعيد منطقة «بارانا». كانت أجسامهم فحسب هي التي انهزمت. وكان يطفو على عيونهم شعاعٌ من السعادة التي لا يقبلها المنطق. بَيدَ أن ذلك الشعاع كان يطوف بالفعل فيما وراء الموت. كانوا فحسب يتمهلون جسمانيًّا فترة أخرى على هذه الأرض الجامدة العطشى.

وصاح بيرالتا بصوت عالٍ: «سالديفار!».

وومضت عيون السجناء ببقية من الدهشة المؤلمة.

وأعاد بيرالتا النداء في غضب: «سالديفار!».

ولم يجِبه أحد. ثم لاحظ بيرالتا رأس السجين بارزة من الحفرة. كانت تبدو كتمثال نصفيٍّ منحوت من الخشب الذي غطَّته الطحالب، تمثال نصفي مهجور منذ فترة طويلة. وكان ثمة صفٌّ من النمل يصعد على الوجه المهجور إلى الجبهة، فبدا كالشريط الأسود الذي لا تسقط عليه الشمس. وعلى جبهة التمثال النصفي، كان هناك ندبة عميقة كالهلال الشاحب.

وكانت عيون السجناء مثبَّتة على ذلك النحت الغريب. ومن وراء القناع الأخضر الذي يزحف عليه النمل، تعرَّفوا على زميلهم الذي وقع في الأسر في الليلة السابقة. وقد اعتقدوا أن صيحة بيرالتا التي ينادي بها الرجل الميت باسمه العائلي الحقيقي، ما هي إلا صيحة انتصار من الضابط.

وكانت بندقية هوجو سالديفار ملقاة على أرضية الكوخ؛ الدليل الوحيد على هروبه. وكان بيرالتا يقلِّب في رأسه الضيق أنواع العقاب التي سينزلها بالهارب من الخدمة العسكرية. لم يكُن ليخمِّن أن هوجو سالديفار قد فرَّ في الفجر كالمجنون يطارده وجه أخيه النحاسي الدامي، الذي دفنه هو ذاته في الحفرة كأنه جذع شجرة.

وتسلَّق النمل وجه فيكتور سالديفار، رجل العصابات الميت، صعودًا وهبوطًا.

وفي اليوم التالي، عثر رجال الملازم بيرالتا على جثة هوجو سالديفار طافية على مياه المستنقع الموحلة. كان شعره قد ابيضَّ تمامًا، وغابت أي لمحة من لمحات التعبير الإنساني من على وجهه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤