ليلة الكروان

تأليف: جابرييل غرسيه ماركيز
(كولومبيا)

جابرييل غرسيه ماركيز (١٩٢٨م– ؟)

رغم أن ماركيز قد ولد في مدينة أراكاتاكا في كولومبيا، فقد أمضى معظم حياته خارج وطنه، في المكسيك وأوروبا. فبعد أن التحق بجامعة بوجوتا، عمل بالصحافة والتحرير، وسافر بهذه الصفة إلى خارج بلاده. وقد أصدر روايته الأولى عام ١٩٦٨م بعنوان «لا أحد يراسل الكولونيل»، ثم أتبعها برائعته «مائة سنة من العزلة» بعد ذلك بسنتَين. ويظهر في كتاباته الأثر العميق الذي خلفه فيه الكاتب الأمريكي وليام فوكنر. ويَعتبر النقاد أن ماركيز هو مؤسس أسلوب الواقعية السحرية في الرواية، وإن كان آخرون يرجعونها إلى كافكا، بل وقصص ألف ليلة وليلة. وقد حصل ماركيز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٢م، وجميع كتبه مترجمة إلى اللغة العربية.

***

كنا نحن الثلاثة جلوسًا حول المنضدة، حين دفع أحدهم قطعة نقد معدنية في فتحة الآلة الموسيقية، فعادت تُذيع الأغنية التي ترددت طوال الليل. ولم تُتَح لنا نحن الآخرين فرصة التفكير في الأمر، فقد حدث ذلك قبل أن نستطيع تذكر المكان الذي التقينا فيه، وقبل أن نستعيد مقدرتنا على التصرف. ومدَّ أحدنا يده من فوق منضدة الحانة، تتحسس ما أمامها (ونحن لم نرَ يده، وإنما سمعناها)؛ فاصطدمت بكأس فتوقفت في مكانها، وبقيت اليدان ساكنَتين فوق السطح الخشبي الصلد. وعند ذلك، بحث ثلاثتنا الواحد منا عن الآخر في الظلمة وتلاقينا هناك، عند مفاصل أصابعنا الثلاثين التي تكومت فوق المنضدة. وقال أحدهم: «هيا بنا.» ونهضنا، كما لو لم يحدث شيء، ولم يُتَح لنا وقت بعد كيما تتبلبل خواطرنا.

وعندما مررنا بالردهة، تناهت ضجة الموسيقى القريبة إلى أسماعنا، تدور في مواجهتنا، وشممنا رائحة النسوة الحزانى، جالسات ينتظرن. وأحسسنا بالفراغ المتطاول للردهة التي تنبسط أمامنا بينما نحن نسير في اتجاه الباب، قبل أن تهبَّ لملاقاتنا تلك الرائحة النفاذة للمرأة التي تجلس إلى جوار الباب. قلنا: «سوف نخرج.» ولم تُجِب المرأة بشيء. وأحسسنا بصرير المقعد الهزاز وهو يتحرك عند نهوضها، وشعرنا بخطواتها على الخشب المتفكك ثم عودتها، عندما عادت مفصَّلات الباب إلى الصرير ثم انغلق وراء ظهورنا.

وارتددنا على أعقابنا، فهناك إلى الخلف كان الهواء القارس الحادُّ للفجر الخفي، وصوت يقول: «ابتعدوا عن هذا الموضع، فلسوف أمرُّ ومعي هذا.» وعدنا إلى الوراء، وعاد الصوت يقول: «ما زلتم أمام الباب.» وبعد أن تحرَّكنا في جميع الاتجاهات ووجدنا الصوت يصيح بنا في كل موضع؛ عند ذلك فقط قلنا إننا لا نستطيع أن نخرج من هنا، فقد انتزع الكروان عيوننا. وبعد هذا سمعنا أصوات أبواب كثيرة تُفتح، وانفلت واحد منا من أيدي الآخرَين وسمعناه ينسحب في الظلمة، مترددًا، متعثرًا في الحاجيات التي تحوطنا. وتحدَّث من مكانٍ ما في الظلام قائلًا: «لا بد أننا نقترب فعلًا، فهنا رائحة صناديق أمتعة متراكمة.» ثم شعرنا مرة أخرى بملمس يدَيه، واستندنا على الجدار حين مرَّ ثانية ولكن في الاتجاه المخالف، وقال أحدنا: «يمكن أن تكون توابيت.» وقال ذلك الذي انسحب ناحية الركن ووقف الآن يتنفس إلى جوارنا: «إنها صناديق أمتعة، لقد تعلَّمت منذ الصغر أن أميز رائحة الملابس المخزونة.» وعندئذٍ تحركنا إلى ذلك الموضع. كانت الأرض هناك طرية ملساء، ربما من كثرة الأقدام التي وطئتها. ومدَّ أحدنا يده، وشعرنا بملمس جلد إنسان رحيب، ولكن لم نَعُد نشعر بالجدار الذي يقوم على الجانب الآخر. قلنا: «هذا جسد امرأة.» وقال ذلك الذي تحدث عن التوابيت: «أعتقد أنها نائمة.» واهتز الجسد تحت ملمس أيدينا، وارتعش، وشعرنا به ينفلِت، ليس من جرَّاء ابتعاده عن نطاق أصابعنا؛ لكن كأنما قد زال كليةً عن الوجود. ورغم ذلك، بعد لحظة ران علينا السكون والجمود، وتساند الواحد منا على الآخر، سمعنا صوتها يقول: «من يسعى هناك؟» وأجبنا دون أن نتحرك: «نحن.» وسمعنا حركة في الفراش؛ صريرًا، وصوت قدمَين تبحثان عن الخفِّ في الظلمة. وعند ذاك تخيَّلنا المرأة وقد جلست تنظر إلينا دون أن تكون قد استيقظَت بعدُ تمامًا. قالت: «ماذا تفعلون هنا؟» وقلنا: «لا نعرف. لقد انتزع الكروان عيوننا.» وقال صوت المرأة إنها سمعت شيئًا من هذا القبيل، وإن الصحف قد تحدثَت عن ثلاثة رجال كانوا يشربون الجعة في فناء حانة كان بها كروان، حين انطلق أحد هؤلاء الرجال يقلِّد الكروان في غنائه. قالت: «ولكن شاء سوء الطالع أن تدق الساعة متأخرة عن موعدها، وعند ذاك قفز الكروان إلى المنضدة وانتزع عيون الرجال الثلاثة.» قالت إن هذا ما ذكرته الصحف، ولكن أحدًا لم يصدِّق ذلك. قلنا نحن: «لو ذهب الناس إلى الحانة فسيَرون الكروان.» وقالت المرأة: «لقد ذهبوا. لقد امتلأ الفناء بالناس في اليوم التالي، ولكن صاحبة الحانة كانت قد نقلت الكروان إلى مكان آخر.»

وحين استدرنا، سكتت المرأة عن الكلام، وقام الجدار هناك مرة أخرى. ما إن التفتنا حتى وجدنا الجدار يقوم من حولنا، يحيط بنا من كل ناحية. وعاد واحد منا إلى الانفلات من أيدينا، وسمعناه يتجوَّل مرة أخرى يتشمم الأرض قائلًا: «لا أدري الآن أين هي صناديق الأمتعة. أعتقد أننا نسير في موضع آخر.» وقلنا: «تعالَ هنا؛ إذ يوجد شخص غريب إلى جوارنا.» ولفحتنا أنفاسه الحارة في وجوهنا مرة أخرى. قلنا له: «امدد يدَك إلى ذلك الموضع، يوجد هناك شخصٌ ما يعرفنا.» ولا بدَّ أنه مدَّ يدَه، ولا بدَّ أنه قد تحرك إلى المكان الذي قلنا له عنه؛ لأنه عاد بعد لحظة ليقول لنا: «أعتقد أنه صبي.» وقلنا له: «حسن، اسأله إن كان يعرفنا.» وسأله، ووصل إلى أسماعنا صوت الصبي بسيطًا جامدًا وهو يقول: «أجل، أعرفكم، أنتم الرجال الثلاثة الذين انتزع الكروان عيونهم.» وارتفع صوت صرير المفصلات، ثم الصوت الناضج وقد اقترب عن ذي قبل. قالت: «اصطحبهم إلى منازلهم.» وقال الصبي: «لا أعرف أين يقيمون.» وقالت المرأة: «لا تكن خبيثًا، فالدنيا كلها تعرف أين يقيمون منذ أن انتزع الكروان عيونهم.» ثم واصلت حديثها بنغمة أخرى، كأنما توجِّه إلينا الحديث: «الحقيقة أنه ما من أحد يريد أن يصدِّق ما حدث، ويقولون إنه ادعاء كاذب روَّجته الصحف لكي تزيد مبيعاتها؛ فليس هناك من أحد رأى الكروان.» وقال الصبي: «ولكن أحدًا لن يصدِّقني لو أنني اصطحبتهم معي في الطريق.» أما نحن فلم نتحرك، بل وقفنا ساكنِين مستندين إلى الجدار نستمع إليها. وقالت المرأة: «لو شاء هذا أن يصحَبكم فسيكون الأمر مختلفًا؛ فعلى كل حال، لن يقيم أحد وزنًا لما يقوله صبي صغير.» وتدخَّل الصوت الصبياني قائلًا: «لو أنني خرجت إلى الطريق معهم وقلت إنهم الرجال الذين انتزع الكروان عيونهم فلسوف يقذفني الأولاد بالحجارة، فالجميع في كل مكان يقولون إن هذا لا يمكن أن يحدث.» وساد الصمت لحظة، انغلق الباب بعدها وعاد الصبي يقول: «فوق ذلك؛ فإنني مشغول الآن في قراءة قصة تيري والقرصان.» وأسرَّ إلينا واحد منا: «لسوف أقنعه.» ثم ابتعد إلى حيث كان صوت الصبي وقال له: «إنني أحب هذا. قل لنا على الأقل ماذا حدث لتيري في حلقة هذا الأسبوع.» وجال في خاطرنا أنه يحاول أن يحوز ثقة الصبي، ولكن هذا الأخير قال: «إني لا أهتم بهذا، فكل ما يجذبني إليها هو الألوان ليس إلا.» قلنا: «لقد كان تيري واقعًا في ورطة.» وقال الصبي: «كان ذلك في حلقة يوم الجمعة، واليوم الأحد، وأنا لا يهمني في الأمر كله سوى الألوان.» قال ذلك في صوت بارد، هادئ، غير مكترث. وحين عاد صاحبنا قلنا: «لقد مضى علينا ثلاثة أيام ونحن في هذا التيه، لم نسترِح فيها ولا مرة واحدة.» وقال واحد منا: «حسنًا، لسوف نستريح برهة، على ألا يترك أيٌّ منا يد الآخر.»

وجلسنا، وبدأت شمس خفية دفيئة تظلل أكتافنا بحرارتها. غير أن شيئًا لم ينجح في إثارة اهتمامنا، ولا حتى وجود تلك الشمس. كنا نستشعرها هناك في كل موضع بعد أن فقدنا الإحساس بالبعد وبالزمن وبالاتجاه. وعبرت بنا أصوات عديدة. قلنا: «لقد انتزع الكروان عيوننا.» وقال صوت من تلك الأصوات: «لقد صدَّق هؤلاء ما ذكرته الصحف.» وانقطعت الأصوات، وبقينا جلوسًا، متلاصقي الأكتاف، ننتظر أن يمرَّ في وسط تلك الأصوات التي تعبر بنا، وفي تلك الصور التي تتراءى لنا، صوت أو رائحة نعرفها. وبقيت الشمس تصبُّ حرارتها فوق رءوسنا. وعندئذٍ قال واحد منا: «لنذهب مرة أخرى ناحية الجدار.» وقال الآخران وقد بقيا ساكنَين، ورأساهما مرفوعان نحو الضياء الخفي: «ليس الآن، بل لننتظر إلى أن تحرق الشمس وجوهنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤