ملاريا

تأليف: فكتور كاساريس لارا
(هندوراس)

فكتور كاساريس لارا

عمل لارا مدرسًا في المدراس الثانوية وفي الجامعة، كما عمل في الصحافة، وقد شارك كذلك في الحياة السياسية لبلده هندوراس؛ فكان نائبًا بالبرلمان سنوات عديدة، وسفيرًا لبلاده في فنزويلا. وقد بدأ نشاطه الأدبي في مجال الشعر؛ فنشر ديوانَين من الأشعار الشعبية، قبل أن يكتب أول مجموعة من قصصه القصيرة التي تضمنت هذه القصة: ملاريا. وقد وضعه فنُّه القصصي الواقعي على رأس كتَّاب القصة القصيرة في عصره.

***

كان الليل قد بدأ يُسدل الظلمة والشجن في أركان الحجرة المتداعية؛ حيث كان الهواء يدخل في كميات محددة، وحيث لم يكن الضوء، حتى في أكثر أوقات النهار شمسًا، يتيح إنارة كاملة أبدًا. وفي الخارج، كان ثمة صنبور يقطر دون صوت، كأنما كان يخشى أن يسمعه أحد. كان الصنبور الوحيد الذي يطفئ عطش الجماهير التي تقطن المبنى. كان هناك طفل يطلب خبزًا في نبرة باكية، وردَّت الأم على طلبه، ربما بدافع من اليأس، بكلمات مقذعة: أغلق فمك أيها الوغد … ليس هنا من أحد قد أكل!

وراقبَت المرأة المريضة الراقدة في الحجرة المتداعية كيف يختفي آخر شعاع من الضوء، لم يكُن لديها كهرباء، وكان الزيت في المصباح الرخيص قد أوشك على النفاد. لم تكن تشعر بأدنى قوة في عضلاتها، ولا بفيضٍ من الدفء في عروقها الخاوية. كانت ثمة برودة مؤلمة تزحف على لحمها الناحل، عابرة إلى وسطها، الذي كان فيما مضى مرنًا رقيقًا كفروع شجرة الصفصاف البرية، ثم تقبض على قلبها الذي بدا الآن مجدولًا بالأحزان، ومتفجرًا بصلاة صامتة، مرتعدًا من العاطفة المكثَّفة التي يشعر بها.

كان ضوء النهار يذبل تدريجيًّا. وكان بالوسع سماعُ خطوات الناس في الطريق وهم يبددون حياتهم هباءً، ساعِين إلى ألوان الترفيه الرخيصة؛ الحانة التي تلتهم الطاقة والمال، ودار البغاء المليئة بالأجساد العفنة التي تباع بأسعار عالية، وباختصار، كل تلك السلسلة من التسالي التي يمكن للفقراء من بيئتنا أن ينغمسوا فيها والتي، بدلًا من أن توفِّر لهم البهجة أو المتعة، تتسبب لهم في الخَور والمرض والشقاء واليأس والموت …

والآن، في مطلع الليل؛ إذ الطيور تغرد في سعادة في الخارج، كانت المرأة تشعر أنها تموت. كانت تشعر أن السيدة الشاحبة تحتضنها وتخنقها ببطء بلا رحمة، بينما البرد القارس يدمر عظامها ويجعل صدغيها ينبضان في جنون.

كانت في عزلة تامة، لا أحد يأتي إليها بكلمة، بكسرة من حنان، بكوب من اللبن. كان عليها أن تخرج بنفسها، فيما بين نوبات الحمَّى الراجفة؛ لتبحث عن فطيرة جافة لتأكلها، دون أي شيء آخر؛ حيث إنه يستحيل عليها شراء أي طعام آخر. وحين تخرج، تشحذ من الناس وتحصل على بعض الملاليم وهي تعاني ذلًّا كبيرًا.

ولم يكن بوسعها أن تفسِّر سبب عزلتها القاسية تلك … كانت دائمًا طيبة مع الناس، وكانت مُحبة للخير وكريمة. وكانت تقوم بكل ما تستطيع لجيرانها، كانت دائمًا محبة للأطفال، ربما لأنها لم يكن لها أيٌّ منهم؛ ولكن ربما ظن الناس أنها نحيفة ومصفرة اللون أكثر من اللازم. ربما سمعوها تسعل واعتقدوا أنها تعاني من مرض السل. كانت تعرف أن الملاريا هي التي تقتلها؛ ولكن ماذا تستطيع أن تفعل كي تقنع الناس بذلك. وفي أثناء ذلك عليها أن تقاسي، وأن تنتظر لحظة النهاية، حتى تتوقف آلامها الكابية وتجوالها اليائس، والنزيف المرعب من باطن قدمَيها …

كانت ثمة ظلال غريبة قد بدأت تتراقص على السقف، وكان صدغاها يدقَّان بصورة أقوى، وبدأ بصرها يعود إلى الماضي القصي البعيد، ماضٍ مشوش بلا حدود معلومة، ولكنه يخلق لها صوتًا يقدِّم لها راحة وقناعة، ويفتح أمامها طريقًا من النور يقودها إلى أصفى لحظات حياتها وأكثرها محبة.

كانت تعيش في ذاكرتها أيام طفولتها في قرية بعيدة؛ حيث يتماوج عبير أشجار الصنوبر التي تبعث الانتعاش، وتغريد البلابل العاشقة، ورائحة العجول الصغيرة الممتلئة بالحيوية والنشاط، وإيقاعات الجداول المتدفقة، وطزاجة الحقول التي يُبللها الندى، وبساطة حياة الريف تتخللها الصلوات على المسبحة.

وفي ثنايا جنبات القرية الصافية الباهرة، بدأت تلاحظ كيف بدأ صدرها ينمو، وكيف تفاعل جسدها مع أول تباشير الحب، الحب البسيط، دون تعقيدات المدنيَّة، بل بالعذوبة البدائية التي اتصفت بها كتابات الحب الرعوي. وبعد ذلك، جاء حنينها للذهاب إلى الساحل، بما يوحي به الحلم بذلك من سعادة وآمال واعدة.

وأشعلت خيالاتها جمرات متوهجة في عقلها البسيط الطيب، وبدأت غرائزها تحرق جسدها الأسمر، بنار تختلف عن نار شمس المناطق المدارية السخية. وبدأت تشعر بالسعادة من التطلع إلى نفسها وقد تخففت من قيود الثياب، فيبرز بهاء جسدها الرائع إلى النور، وحين تداعب النسمات العابثة صدرها، فينفر ثدياها من حدود بلوزتها كأنهما قمعان من النار.

وعندئذٍ قابلت الرجل الذي أوقد نيرانها الداخلية وتحوَّل بها تجاه المغامرة، تحت إغراء غزو آفاق جديدة. وسمعت الدعوة إلى التوجُّه إلى الساحل كأنما هي دعوة للذهاب إلى الفردوس. كانت تحب الرجل لقوته، ونظراته الطيبة، وذكائه، لأنه قد قدَّم لها ما كانت تريد: الحب، وبجانب الحب، الساحل الشمالي.

قال لها: هناك، تنمو أشجار الموز إلى حدٍّ فخم، والأجور مرتفعة، وسرعان ما سيكون بوسعنا أن نكسب الكثير من المال. سوف تساعدينني قدر إمكانك وسننطلق معًا.

– وماذا لو أحببتَ امرأة أخرى وأرسلتَ بي إلى هنا ثانية؟

– لا يمكن أن يحدث ذلك يا حبيبتي؛ فأنتِ الوحيدة التي أحبها وسنعيش معًا إلى الأبد! سوف نركب القطارات … والعربات … سوف نذهب إلى السينما، وإلى الحفلات، وإلى كل مكان.

– وهل القطارات جميلة؟

– إنها كالديدان الضخمة السوداء التي تزفر الدخان من رأسها! وهي تحمل كل أشكال الناس من مكان إلى مكان، من «لاليما» إلى «بويرتو». وهناك رجل يهتف بأسماء المحطات: إنديانا … موبولا … تيبمبو … كيلي-كيلي … إنه رائع، سوف ترين!

كانت تتوق إلى الرحيل من بلدة جدودها، أن تحب وترى الدنيا. كانت ترى أن بلدتها تُقعي تحت ليل لا نهار له، وأن جمالها ليس له قيمة فيها، حينما تميل فوق الجدول الهامس ذي القاع المليء بالصخور والحصباء. كانت تريد أن ترحل عن البلدة الصغيرة اللطيفة التي قضت فيها طفولتها وحيث أودَع الريف البكر والأرض العاطرة في جسدها العبير والرغبات. وهكذا مضَت في طريقها، إلى جوار رجلها، يعبران الوهاد والأنهار الثائرة، ويمران بالوديان التي تحترق بنيران الشمس ويسمعان صرير الجداجد الرتيب الذي يُدخل الجديد على الأيام الرتيبة.

وأي رجل كان رجلها! ففي الليالي التي استغرقتها الرحلة، حين كانا ينامان تحت النجوم، كان يحقق لها كل آمالها وأحلامها ورغباتها. وحين كانت الظلمة تنسدل على الحقول، ثم يبلغ الليل أقصى درجات ظلمته، وحين يبدأ الفجر في رسم سحائبه الوردية على السماء الشرقية البعيدة … كانت تشعر بالتوقد، بالنيران، بالجسارة، بالشجاعة التي لا يحدُّها حدود التي يتحلى بها رجلها، وتشعر بجسدها كله يطنُّ بنبضات الأمل والكبرياء.

ووصلا أخيرًا إلى مدينة «لاليما» وبدأ البحث عن عمل. وكان «ديمتريو» قادرًا دومًا على العثور على عمل؛ لأن مرحه ونكاته كانت كفيلة بكسبه صداقة ملاحظي العمال والأسطوات والرؤساء؛ بَيدَ أنه سرعان ما يفقد عمله لأنه في الواقع كان سريع الانفعال ميالًا إلى المشاكسة. وطافا بمدن مونتفستا وأومونيتا وموبالا وإنديانا وتيبمبو، والحقول عبر الحدود … وباختصار، غطيَا كل حقل موز افتتحته شركة الفواكه، في رحلتهما للبحث عن رزقهما. كان أحيانًا يعمل في تنقية الحشائش، وأخرى في قطع أو جمع الموز، وأحيانًا في نشر المبيدات الحشرية التي تغطيه باللون الأخضر من رأسه إلى أسفل قدمَيه. دائمًا من الفجر إلى الغروب، محترقًا من شدة الحر الذي يجعل أوراق أشجار الموز تئز من التعب في الظهيرة … وفي الليل، يعود متعبًا، منهوك القوى، لا قدرة له على الكلام من التعب الذي ينخر عضلاته التي كانت سابقًا مرنة مرونة الحيوانات البرية في الغابة.

وسقط فريسة للملاريا عدة مرات، فكان يلجأ أكثر فأكثر إلى شراب الويسكي كيما يعالج نفسه. ولكن بلا جدوى؛ ذلك أن المرض استمر معه، والتوقف عن العمل كان يعني الموت جوعًا. وفي تلك الفترة، كانا يعملان في مدينة كيلي-كيلي؛ كانت هي تبيع الطعام، وكان هو يعمل بعقدٍ بسيط. وفي إحدى ليالي شهر أكتوبر، كان الرجال يحصنون ضفة النهر بأكوام أجولة الرمال. وكان تدفق مياه نهر «أولوا» مريعًا. كانت المياه ترتفع فوق مستوى الحاجز، واختفى ديمتريو في التيار الهادر الذي كان يتضخم دقيقة بدقيقة في العاصفة.

وبقيت وحدها مريضة. وداهمتها الملاريا أيضًا. وتركت الحقول والغُصة في حلقها وذهبت إلى الميناء. وجالت هناك تبحث عن عمل، ولم تجد عملًا إلا في «لوس مارينوس»، وكان عملًا لا ترضى عنه ويملؤها بالخزي والعار. كان الآلاف من الرجال من كل حجم ونوع يتسلَّون بجسدها. وتركت المكان مريضة منهكة وقد ملأت المرارة روحها إلى الأبد. وانتهى بها المآل في بلدة «سان بدروسولا». لم تكن الملاريا لتتركها. كانت نوبات الحمى تشتد يومًا بعد يوم، وها هي الآن ممددة على الحشية البائسة، وقد هجرتها الدنيا، بينما ضوء النهار ينحسر، وظلال مذعورة تعبر وتترك حركتها في الأشعة المرتسمة على السقف.

واستحالت عيناها اللتان عرفتا من قبل كيف تحبَّان إلى بئرَين جافتَين ليس فيهما إلا الألم، ولم تَعُد يداها تحملان آمال الهدهدة أو الدفء الساحر، وأصبح ثدياها الضامران لا يكادان يظهران تحت بلوزتها القطنية المتواضعة. لقد عاثت فيها عاصفة البؤس خرابًا، ولم يَعُد متبقيًا منها سوى يقين الموت البارد.

وفي الطريق كان الأطفال يلعبون في حبور. وثمة اثنان يتحادثان بحديث الحب القديم الجديد. وتكسر سيارةٌ الصمت بعجرفة بوقها القاتلة. وعلى البُعد تسمع صفارة القطار الحادة، وتسير الحياة قدمًا، بحكم الواجب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤