حياتي مع الموجة

تأليف: أوكتافيو باز
(المكسيك)

أوكتافيو باز (١٩١٤–١٩٩٨م)

وُلد في مكسيكو سيتي عاصمة المكسيك، من أسرة عريقة في النضال الشعبي والانتفاضات الثورية التي شهدَتها المكسيك منذ استقلالها. وقد بدأ باز الكتابة منذ سنٍّ مبكرة، واشترك في عام ١٩٣٨م في إصدار جريدة «الورشة» التي أعلنت ظهور جيل جديد من الكتَّاب والفنانين في المكسيك. وعمل الكاتب بعد ذلك في السلك الدبلوماسي، فسافر إلى باريس غداة انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية؛ حيث تأثَّر بالتيارات الفنية الحديثة هناك، وشارك أندريه بريتون احتفالاته السيريالية. وشهدَت فترة سفارته لبلاده في الهند صدور عدد من دواوينه الشعرية. وقد استقال باز من عمله احتجاجًا على قمع الحكومة المكسيكية للطلاب خلال دورة الألعاب الأولمبية بالمكسيك عام ١٩٦٨م، وتفرَّغ بعد ذلك للكتابة والعمل الصحفي والتحرير. وأصدر باز بعد ذلك مجلتَي «بلورال» و«فوتا» اللتين مارستا تأثيرًا كبيرًا في أوساط الأدب الإسباني. وقد حصل باز على جائزة نوبل للآداب عام ١٩٩٠م. ومن أشهر دواوينه الشعرية: «لن يمرُّوا»، «جذور الإنسان»، «بين الأحجار والأزهار»، «أبناء الهواء»، «أشعار». وكثير من شعر أوكتافيو باز مترجم إلى اللغة العربية.

***

حين خرجت من البحر، تقدمَت موجة من الموجات الأخرى وسبقَتها. كانت طويلة وخفيفة. وبالرغم من صيحات الآخرين الذين أمسكوا بثيابها الهفهافة، تعلقَت بذراعي ومشت إلى جواري وهي تتقافز. ولم أشأ أن أقول لها أي شيء؛ لأنني كنت أكره أن أجرح أحاسيسها أمام صديقاتها. وبجانب ذلك، فقد منعتني نظرات الكبار الغاضبة من التصرف. وحين وصلنا إلى المدينة، شرحتُ لها أن من المستحيل أن تبقى معي، وأن الحياة في المدن ليست كما تتخيلها بكل براءة الموجة التي لم تترك البحر أبدًا. ورمقَتني في رزانة ثم قالت: «كلا. لقد اتخذتَ قرارك وليس بإمكانك أن تتراجع عنه.» وجربتُ معها اللين، والشدة، والسخرية. وبكَت، وصرخَت، ولاطفَتني، وهددتَني. ووجب عليَّ أن أعتذر.

وفي اليوم التالي، بدأَت متاعبي. كيف كان يمكننا أن نستقل القطار دون أن يرانا السائق والركاب والشرطة؟ لم تكن اللوائح بالتأكيد تمنع أي شخص من نقل إحدى الموجات بالسكك الحديدية، ولكن ذلك لم يكن ليُقلل من حدَّة الحكم على موقفنا. وبعد تفكير عميق، توجهتُ إلى المحطة قبل الرحيل بساعة كاملة، واتخذتُ مقعدي، وقمتُ، حين لم يكن من أحد يراني، بإفراغ الصندوق الزجاجي للمياه المخصصة للمسافرين، ثم، بحرص شديد، أفرغت فيه صديقتي الموجة.

وجاءَت أولى المشاكل حين أعلن أطفال زوجين قريبين مني عطشهم الشديد. فأوقفتُهم ووعدتُهم بشراء المرطبات وأكواب الليمونادة لهم. وكانوا على وشك قبول العرض حين اقتربت منا إحدى المسافرات الأخريات العطشى. وكنت على وشك تقديم نفس العرض إليها حين منعني من ذلك نظرة الرجل المصاحب لها. وتناولت السيدة كوبًا ورقيًّا وتقدَّمَت إلى الصندوق وأدارَت الصنبور. كان كوبها نصف ممتلئ حين قفزتُ بينها وبين صديقتي الموجة. ونظرَت لي السيدة بدهشة. وبينما كنت أقدِّم اعتذاري، فتح أحد الأطفال الصنبور مرة أخرى، فقمتُ بإغلاقه في عنف. ورفعَت السيدة الكوب إلى شفتيها.

– آغ. هذه المياه مالحة.

وردد الصبي ما قالته. ونهض عدد من الركاب. واستدعى الزوج المحصل: لقد وضع هذا الرجل ملحًا في المياه.

واستدعى المحصل المفتش: إذَن فقَد وضعتَ ملحًا في المياه؟

وبدوره، استدعى المفتش الشرطة: إذَن، فقَد سمَّمت المياه؟

وبدوره، استدعَت الشرطة الكابتن: إذَن، فأنت من وضع السم؟

واستدعى الكابتن ثلاثة محققين. وأخذني المحققون إلى عربة خالية، وسط حملقة الركاب وهمساتهم. وفي المحطة التالية، أنزلوني من القطار ودفعوني دفعًا إلى السجن. ولعدة أيام، لم يكلمني أحد باستثناء الاستجوابات الطويلة. وحين شرحت قصتي، لم يصدقني أحد، حتى ولا السجان، الذي هزَّ رأسه وهو يقول: «إن القضية خطيرة، خطيرة جدًّا. إنك لم تكن تريد أن تسمِّم الأطفال؟» وفي أحد الأيام، مثُلتُ أمام القاضي.

قال: «قضيتك صعبة. سوف أُحيلك إلى قاضي العقوبات.»

ومرَّت سنة. وأخيرًا حكموا عليَّ. وإذ لم يكن هناك ضحايا، كان الحكم خفيفًا. وبعد زمن، حان موعد إطلاق سراحي.

واستدعاني مدير السجن وقال لي: حسنًا، أنت الآن حر. إنك محظوظ. محظوظ أن لم يكن هناك ضحايا؛ لكن لا تفعل ذلك ثانية، لأنه في المرة القادمة لن يكون الحكم خفيفًا.»

وتطلَّع إليَّ بنفس الصرامة التي كان يتطلع بها نحوي الجميع.

وفي نفس أصيل ذلك اليوم، أخذتُ القطار ووصلتُ بعد رحلة متعبة إلى مكسيكو العاصمة. واستقللتُ عربة أجرة إلى البيت. وعند باب شقتي، سمعتُ ضحكًا وغناءً. وأحسستُ بألم في صدري، كلطمة من لطمات الدهشة حين تضرب المفاجآت على قلوبنا؛ كانت صديقتي الموجة هناك، تغني وتضحك كما تعودَت دائمًا.

– كيف جئتِ إلى هنا؟

– أمر سهل؛ بالقطار. فقد قام أحدهم بعد أن تأكد أنني مياه مالحة، بإلقائي فوق ماكينة القطار. لقد كانت رحلة شاقة؛ فسرعان ما تحوَّلتُ إلى خيطٍ من البخار، وتساقطتُ بعدها مطرًا خفيفًا على القاطرة. وقد أصبحتُ أكثر نحافة. لقد فقدتُ قطرات كثيرة.

وقد غيَّر وجودها حياتي؛ فالبيت الذي كانت ردهاته مظلمة، وأثاثه متربًا، امتلأ بالهواء والشمس والأصوات والإشارات الخضراء والزرقاء، وعمر بالأصداء والترجيعات العديدة البهيجة. كم تمتلئ موجة واحدة بالعديد من الموجات! وكم كانت قادرة على تحويل الجدران والدواليب إلى شطآن وصخور بالزبد الأبيض الذي تكلل به هامات تلك الأشياء! بل إن يدَيها الحانيتَين قد مسَّتا حتى الأركان المهجورة، الأركان الكئيبة المغطاة بالغبار والأنقاض. وبدأ كل شيء يضحك، وغطَّى البياض الناصع كل مكان. ودخلت الشمس الغرفات القديمة بسرور وبهجة، وأصبحَت تمكث في بيتي ساعات طويلة، بل وهجرَت البيوت الأخرى، والحي، والمدينة، والبلد كله. وفي بعض الليالي، كانت النجوم ترقبها وهي تتسلل خارجة من بيتي في وقت متأخر جدًّا.

كان الحب لعبة، إبداعًا أبديًّا. كان كل شيء شواطئَ ورمالًا، وفراشًا تغطيه ملاءات جديدة دائمًا. وكنت إذا احتضنتُها تمتلئ فخرًا، بالغة الطول، كأنها الجذع السائل لشجرة الحور، ثم تتحول تلك النحافة إلى نبعٍ من الريش الأبيض، إلى ريشة من الابتسامات التي تسقط على وجهي وظهري وتغطيني بالبياض. وكانت أحيانًا تتسعُ أمامي، لا نهائية كالأفق، إلى أن تحوَّلتُ أنا الآخر إلى أفق وصمت. كانت مليئة ملتوية، فاجتاحتني كالموسيقى أو كالشفاه العملاقة. كان حضورها ذهابًا وإيابًا من المداعبات والهمسات والقبلات. وقد غمرَتني مياهها بالبلل، ووجدتُ نفسي في طرفة عين معلقًا في الهواء، أشعر بالدوار، لأسقط بعد ذلك كالحجر وأشعر بنفسي راقدًا أتجفف كالريشة. ليس هناك من شيء يضارع الرقاد في أحضان المياه، والاستيقاظ على الآلاف من الأضواء البهيجة، بآلاف من الهجمات التي ترتدُّ ضاحكة.

بَيدَ أنني لم أبلغ أبدًا مركز وجودها، لم ألمس أبدًا عُرى ذلك المكان الخفي الذي يجعل المرآة ضعيفة فانية، ذلك الألم والموت. ربما كانت تلك الأشياء لا توجد بين الموجات، المكان الكهربي الذي يلتقي عنده كل شيء ويلتوي ويستقيم كيما يُغشى عليه في نهاية الأمر. كان إدراكها كإدراك المرأة، ينتشر في صورة تموُّجات، غير أنها لم تكن متَّحدة المركز، بل متجهة إلى الخارج، وتنتشر في كل مرة أبعد وأبعد، حتى إنها تمسُّ مجرات أخرى. وكأن حبها يعني الانتشار إلى آفاق قصية، التفاعل مع نجوم بعيدة لا نعرفها. ولكن مركزها … كلا، لم يكن لها مركز، بل مجرد فراغ مثل الذي يوجد في دوامة الريح، يجتذبني ويغرقني.

وكنا حين نتمدد بجوار بعض نتبادل الأسرار والهمسات والابتسامات. وكانت تُقعي على نفسها ثم تتساقط على صدري وتتفتح كبراعم الهمس. كانت تُغني في أذني كأنها القوقع الصغير. كانت تصبح وديعة شفافة، وتُمسك بقدمي كأنها حيوان صغير أو مياه هادئة. كانت صافية تمامًا حتى إنه كان بوسعي أن أقرأ كل أفكارها. وكان جلدها في بعض الليالي تغطِّيه طبقة فسفورية، فكنت حين أحتضنها فكأنما أحتضن شذرةً من الليل موسومة بوشم ناري. ولكنها أصبحت أكثر اكفهرارًا ومرارة. كانت في ساعات غير متوقعة تزأر وتئن وتتلوَّى، بدرجة تلفت أنظار الجيران. وحين كان ريح البحر يسمعها، يخمش باب البيت أو يهذي بصوت عالٍ فوق السطح. وكانت الأيام الملبدة بالغيوم تضايقها، فتحطم الأثاث وتطلق ألفاظًا قبيحة وتغطيني بالإهانات وبالزبد الأخضر والرمادي. كانت تبصق، وتلعن، وتتنبأ. وتلجأ للقمر والنجوم وأثر نور العوالم الأخرى، كانت هيئتها وأحوالها تتغير على نحوٍ كنت أعتقد أنه مدهش، بَيدَ أنه كان مهلكًا كالمد.

وبدأت تفتقد الوحدة. وكان البيت مليئًا بالقواقع والأصداف، بالقوارب الصغيرة التي حطمتها في ثورات غضبها (مع القوارب الأخرى، المحملة بالصور، التي كانت تنطلق كل ليلة من جبهتي لتغرق في دواماتها العنيفة أو السارة). كم فقدت من كنوز في ذلك الوقت! بَيدَ أن قواربي والأغنية الصامتة للقواقع، لم تكن كافية. فوجب عليَّ أن أقيم في المنزل مستعمرة أسماك. وأعترف أنني أحسست بالغَيرة حين رأيتها تسبح في صديقتي، وتهدهد صدرها وتنام بين ساقيها، وتزين شعرها بومضات خفيفة من الألوان.

وكان من بين تلك الأسماك بعضٌ من أشدها ضراوة وكراهة، أشبه بالنمور الصغيرة، ذات أعين ثابتة كبيرة وأفواه مسنونة متعطشة للدماء. ولم أكن أفهم كيف تقوم صديقتي باللعب معها في سرور، وتُبدي لهم دون حياء، من الود ما كنت أفضِّل أن أتجاهله. كانت تمضي ساعات طويلة مع تلك المخلوقات البشعة. وفي يوم لم أعُد أطيق ذلك، ففتحتُ الباب وطردتها. وهربَت الأسماك من يدي في خفَّة كالأطياف، بينما أخذَت صديقتي تضحك وتدفعني حتى سقطتُ على الأرض. واعتقدتُ أنني أغرق. وحين كنت على شفا الموت، محتقن الوجه، ألقَت بي إلى الضفة وأخذَت تقبِّلني، وتقول لي أشياء لا أعرف ما هي. وشعرتُ بالضعف والتعب والمهانة. وفي نفس الوقت، دفعني جمالها إلى أن أغلق عيني؛ لأن صوتها كان عذبًا وهي تُحدثني عن جمال موت الغريق. وحين أفقتُ، بدأتُ أخافها وأكرهها.

وكنت قد أهملتُ أعمالي. فأخذتُ الآن أزور الأصدقاء وأجدد علاقات قديمة وعزيزة. وقابلتُ صديقة قديمة لي. وبعد أن استحلفتُها أن تحفظ سرِّي، حكيتُ لها عن حياتي مع الموجة. ولا شيء يؤثر في المرأة قدر شعورها أن بوسعها أن تُنقذ رجلًا. واستعملَت منقذتي كل ما لديها من فنون، ولكن ماذا بوسع امرأة تسود عددًا محدودًا من الأرواح والأجساد، أن تفعل مع صديقتي الموجة التي كانت تتغير باستمرار وتتشابَه دائمًا مع نفسها في تحوُّلاتها التي لا تنتهي.

وجاء الشتاء. وأصبحت السماء رمادية. وسقط الضباب على المدينة. وأمطرَت السماء رذاذًا متجمدًا. وكانت صديقتي تبكي كل ليلة. وخلال النهار، كانت تنفرد بنفسها في هدوء وتشاؤم، تُتمتم مقطعًا واحدًا كالعجوز التي تُدمدم في ركن من الأركان. وأصبحَت باردة، حتى إن النوم إلى جوارها أصبح يعني الارتعاد طوال الليل والشعور، قليلًا قليلًا، بالدم والعظام والأفكار تتجمد. وأصبحَت لا يسبَر لها غَور، ومستغلِقة على الأفهام، وقلقة. وكنت أرحل عن المنزل كثيرًا وتطول غَيبتي شيئًا فشيئًا. وكانت هي في ركنها تعوي عاليًا. وبأسنانها الحادة ولسانها القارض، أخذَت تقرض الجدران فتهدِمها. وكانت تقضي الليالي في حداد، تُوبِّخني. وانتابتها الكوابيس، والهلوسة عن الشمس والشطآن الدافئة. وحلمَت بالقطب وأنها تتحوَّل إلى كتلة ضخمة من الجليد تسبح تحت سماوات سوداء في ليالٍ طويلة كالشهور. وأهانَتني. ولعنَت، وضحكَت، وملأَت المنزل بالقهقهات والخيالات. وابتعثَت وحوش الأعماق العمياء السريعة الماكرة. ولما كانت صديقتي ممتلئة بالشحنات الكهربائية، كانت تُحيل كل ما تلمسه إلى فحم. ولما كانت مملوءة بالحوامض الكيميائية، كانت تُذيب كل ما تحتكُّ به. وأصبح عناقها العذب حبالًا غليظة تخنقني. وتحوَّل جسدها، مخضرًّا ومطاطيًّا، إلى سَوط يقرع، يقرع، يقرع. وهربتُ. وضحكَت الأسماك المُخيفة بابتسامات وحشية.

وهناك، في الجبال، وسط أشجار الصنوبر والوهاد، تنسمتُ الهواء البارد النقي كنفحة من نفحات الحرية. وبعد نهاية شهر عدتُ أدراجي. كنتُ قد عزمتُ أمري. كان الجو قد أصبح باردًا لدرجة أنني وجدتُ على رخامة المدفأة، إلى جوار النيران الخامدة، تمثالًا من الثلج. لم يُحرِّكني جمالها المرهق. ووضعتُها في جوال كبير من القماش وخرجتُ إلى الطرقات والجوال على كتفي. وفي مطعم في الضواحي، بعتُها إلى جرسون صديق أخذ على الفور يقطعها إلى قطع صغيرة، وضعها بعد ذلك بحرص في الدلاء التي تبرد فيها الزجاجات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤