الابن والأم

تأليف: رينالدو أريناس
(كوبا)

رينالدو أريناس (١٩٤٣م)

وُلد في مقاطعة الشرق بكوبا، وتلقَّى دراسته في مدرسة التخطيط ثم في كلية الآداب جامعة هافانا. وعمل بعد تخرجه في معهد الإصلاح الزراعي وفي المكتبة المتنقلة. وقد نشر معظم قصصه القصيرة في مجلتَي «الاتحاد» و«بيت الأمريكتين». ونالت قصصه شهرة كبيرة في بلاده. وقد كتب عدة روايات أيضًا، أهمها روايته المعنونة «عالم الهذيان». وتمتاز قصصه بغلَبة الرمز فيها، إلى جانب الحس الأخلاقي الفياض والغوص في نفوس الشخصيات.

وتُعتبر القصة التي نقدمها هنا نموذجًا جيدًا للقصة القصيرة الفنية، التي يبين فيها البناء المحكم والاستخدام البارع للرموز، والتي تتضافر كل أجزائها في الوصول إلى أثر عام ينقل الإحساس الذي يرغب الكاتب في إيصاله إلى القارئ.

***

كانت الأم تنتقل بين غرفة الطعام والمطبخ.

كانت الأم تمشي وهي تقفز قفزات صغيرة كما يفعل الفأر وقد بلَّله الماء.

كانت الأم جالسة في الردهة وهي تتمايل في مقعدها جيئة وذهابًا.

كانت الأم تنظر عبر النافذة.

كانت يدا الأم مليئتَين ببقعٍ صغيرة من النمش. مع أنها لم تكن عجوزًا.

وتأوهت الأم.

واختفت الأم في المطبخ؛ حيث أخذت تُحادث نفسها.

وقفت الأم على قدمَيها ومشت إلى المطبخ.

كانت الأم قد ماتت.

هبط الابن من الغرفة (الغرفة الوحيدة التي كان يشتمل عليها الطابق الأعلى، كانت أشبه بقفص ضخم للطيور) وهو يحمل كتابًا في يده. وجلس. ولكنه لم يشرَع في القراءة.

وقالت الأم وقد حضرت من المطبخ: «سيكون الطعام جاهزًا حالًا.»

وفتح الابن الكتاب.

كانت الردهة واسعة. وعبر ستائر النافذة المعدنية التي احتلت الجزء الأعلى كله من الحائط، تسرب الهواء الذي كاد يكون ريحًا؛ وكان يهزُّ الزجاج هزًّا ويدفع أحيانًا جانبي النافذة.

قالت الأم وهي تغلق النافذة: «عليك أن تُقلل من القراءة. أو لا تقرأ على الإطلاق. إن هذا يؤذيك.»

وحمل الابن الكتاب إلى الرفِّ الذي لا يحوي سوى بعض المجلات، ورماه فوقها.

وكانت الأم في هذه اللحظة تنتقل بين غرفة الطعام والمطبخ، دون أن تتوقف في مكان معين.

وكان يراها تدخل وتخرج، بطريقة تبعث على الدوار. تدخل، وتخرج … حتى بلغت السرعة حدًّا تخيل معه أنها ثابتة أمام عينيه. وعند ذلك توجَّه الابن إلى المقعد الذي يواجه المقعد الأول بجوار النافذة، وجلس. ربما تكون الساعة قد بلغت الخامسة، ويجوز أن تكون قد تعدَّت ذلك. ربما السادسة أو السادسة إلا خمس دقائق. وهذا يعني أن الزائر سيصل خلال خمس دقائق. وهو لم يذكُر بعد شيئًا من ذلك الأمر إلى الأم. وهو على وشك الحضور في أي لحظة. واقترب من عرائش الستائر العالية وشاهد ضوء الشمس يتراوح على أوراق شجرة اللوز التي عرَّتها العاصفة من أوراقها. كان الموضوع يتلخص في أنه ينتظر صديقًا. وهو، الذي لم ينتظر أحدًا أبدًا؛ لعدم وجود مكان.

– كيف يمكن ألا يكون لديك مكان؟

– إني أعيش مع أمي.

– سأكون عندك في الساعة السادسة.

وأعطاه العنوان، وأرقام الحافلات التي تذهب إلى تلك المنطقة.

وتركَّزت الآن أصوات العصافير وشقشقتها بين أوراق الشجرة المتراكمة. ونظرًا لالتفاته إلى تلك الأصوات، لم يسمع صوت أمه التي كانت تدعوه من المطبخ لكي يتناول طعامه، واضطره تكرار الدعوة إلى إجابتها.

قالت الأم وقد وصلت إلى الردهة ووقفت إلى جواره:

– الطعام جاهز على المائدة.

وخطر بباله أن لا حاجة إلى قول كل تلك الكلمات؛ إذ كان بوسعها أن تقول تعالَ لتأكل، أو لقد جهز الطعام، أو لقد جهز، أو جهز.

كانت المائدة قد أعدَّت للابن. وأخذ هذا يأكل في بطء. وجلست الأم هي الأخرى إلى المائدة، ولكنها لم تكن تأكل. كانت تتحدث.

– لقد عادت جميع ملابسك من المكواة. ينقصها فقط البنطلون البني … يجب أن أذهب للسؤال عنه.

وخطر ببال الابن: إنه الآن أمام الباب، وحتى الآن لم أذكر لها أي شيء … سيصل الآن، ستذهب هي لفتح الباب، لأني آكل. إنه يصل في هذه اللحظة.

ووقفت الأم وتوجَّهت إلى الحوض لغسل الأطباق التي انتهى الابن من الأكل فيها.

وجال في ذهن الابن أنها كانت تستطيع أن تنتظر حتى ينتهي من طعامه ثم تغسل الأطباق، ولكنه لم يقُل لها شيئًا. وشاهدها تمشي، وهي تقفز قفزات صغيرة، كما يفعل الفأر وقد بلَّله الماء.

ولكنه انتهى من طعامه ولم يظهر الزائر المنتظر، وترتَّب على ذلك أن الوقت المتاح له لكي يخبر أمه بالموضوع كان يتناقص باستمرار. وتوجَّه إلى الردهة وفتح الراديو؛ لكنه لم يعلن عن الوقت وظل يذيع الموسيقى. موسيقى بلا غناء، وكان ذلك من أشد الأشياء التي تضايق الأم لأنه «لا يقول شيئًا»؛ مع أنه كان يحبه لنفس ذلك السبب. وأغلق الراديو واقترب من الباب دون أن يسترق النظر إلى الشارع. وكانت الأم في هذه اللحظة جالسة في الردهة تتمايل في مقعدها جيئة وذهابًا. وبدت كما لو كانت تغني. وذهب الابن إلى المقعد الذي كان في مواجهة الأم، وأسند يده إلى ذراع المقعد، وجلس.

كان الابن والأم في مواجهة أحدهما الآخر، يجلسان على مقعدَين متماثلَين، إلى جوار النافذة ذات الستائر والزجاج؛ حيث تبين من ورائها البسطة التي فرشتها أوراق شجرة اللوز المكوَّمة التي لا تكفُّ العصافير من الزقزقة عليها. وكانت الشمس الغاربة في تلك اللحظات تتسلل عبر الستائر وتسقط على الأم والابن على شكل أهداب صفراء لا تحرق ولا تؤذي. ووصل إلى أسماعهما من المطبخ صوت الخرطوم المركَّب على صنبور الحوض والذي ينفث منه الماء. وانبعث في نفس الابن — وكان يشعر أن الزائر قد اقترب في هذه اللحظة — انتعاشٌ لا عهد له به من قبل، وحاول أن يتحدث مع الأم في ذلك الموضوع، ولكنها رفعت عنقها في تلك اللحظة دون أن تنهض من على المقعد.

كانت الأم تنظر عبر النافذة … وشاهد عنق الأم في تطاوُله، شاهده يتشمم الستائر، ويستمر في طريقه. وشاهده يصطدم بالسقف ويحطمه. واستمر العنق في النمو … وعندئذٍ انفتحت إحدى شراعات النافذة بعنف بقوة الرياح واصطدمت بأنف الأم. وضحكت الأم بصوت عالٍ.

وعملت ضحكة الأم على إغلاق شرَّاعة النافذة، ضحكة الأم التي دوت في الردهة الضخمة وغطَّت على صوت خرطوم حوض المطبخ، وربما كانت تغطي في هذه اللحظة على صوت أي طرقة على الباب، ضحكة الأم التي أفزعت كل العصافير التي حطَّت على أوراق الشجرة؛ فاختفت هاربة وهي تصيح وتزقزق.

وتوقفت الأم عن الضحك.

قال: ماذا حدث؟

ونظر عبر النافذة، ثم خفض بصره نحو أصابع الأم وقد وضعتها فوق ركبتيها. وكانت يدا الأم مليئتَين ببقع صغيرة من النمش؛ رغم أنها لم تكن عجوزًا.

– لا شيء.

ونظرت إلى أشعة الشمس وقد بدأت تتضاءل.

وكان الوقت يمرُّ، وفي الشارع، لم تعُد تمر أية عربة. ولم تَعُد تُسمع أية ضوضاء. وجال بخاطر الابن أن اللحظة قد حانت (اللحظة مرة أخرى)، وتأهب للكلام. ولكن انتابت الأم الآن حركات مسرحية، فقد وقفت فوق المقعد الذي أخذ يهتز تحتها، بينما تغير لون رأسها وهو يتمايل؛ حتى لم تَعُد الردهة كلها في عينيه سوى إعصار مضيء بدا له شيئًا محزنًا وكئيبًا.

وجلست الأم مرة ثانية، وتأوَّهت.

وحالًا بدأ الليل يُسدِل أستاره، كما يحدث عادة في تلك المناطق التي لا يكاد يبين فيها تغير الفصول. وكسر حدَّة الصمت عدد من الأصوات الجديدة، كالبحر الذي يشرع فجأة في التموج، وحيث تتحول الكلمات حين ينطق بها إلى رموز بالغة الغرابة؛ لأن الظلمة تُسدل أستارها. ولكن لم تكن الدنيا ليلًا بعد.

وخفتت الضوضاء، كما لو كانت محاولة البحر قد فشلت. وتخلَّف على النافذة نوع من الهالة المائلة إلى اللون الذهبي ثم أخذت تختفي شيئًا فشيئًا وهي تتقاطع مع طيف الأم والابن وتجمع بينهما في تشابهٍ واحد.

ورفع الابن رأسه ونظر إلى الستائر مرة أخرى بحركة تدل على قلق داهم.

ونهضت الأم.

قال: ماما.

وتوجَّه إليها ليسندها، ولكنه شعر بالعرق يبلل أصابعه لدرجة تكونت معها بحيرة من الماء بالقرب من مقعده، فلم يمدَّ يده إلى الأم حتى لا يبللها. وجال بخاطره، إذ رأى يدَيه كأنما هما نبع من الماء، أن قدَرًا هائلًا أو ربما رائعًا يميزه عن باقي المخلوقات وحتى عن بقية الأشياء.

وكانت الأم تسير في أحد جوانب الردهة. وكان يبدو في بعض الأحيان كما لو كانت تسير على الهواء، أو على قدم واحدة. وقد رآها أخيرًا تختفي في المطبخ؛ حيث أخذت تُحادث نفسها.

وكان همس الأم يصل إلى الردهة، كما لو كان حفلًا موسيقيًّا ينبجس من سوق مزدحمة بالناس. وشعر الابن بالخوف عند سماع صوتها، خوف أشد مما أحس به في أي وقت حتى الآن. وتدفق العرق مرة أخرى من يديه وسقطت قطراته على نفس المكان حيث تكوَّمت البحيرة. وكان همس الأم يرتفع حتى تحول إلى همسٍ جهنمي.

وحينئذٍ سُمعت أول دقة على الباب، كأنما هي آتية من حيث لا زمن.

انتهى الانتظار. ها هو. ووقف الابن. وتحوَّلت موجات حديث الأم من المطبخ إلى انبعاثات أسيفة لا يُمكن احتمالها.

حينئذٍ سُمعت ثاني دقة، بقوة غطَّت على الضجة الجهنمية التي تصدرها تلك البهيمة في المطبخ.

– «من قال البهيمة؟»

أجل، البهيمة التي تكبر الآن وتتطاول بينما أنت واقف متردد. البهيمة المغبرة الملوثة بالشحم (من جراء سناج أوعية المطبخ ودهنها) التي كانت تلهث وتنمو بين أصوات المواء … غير أن الابن سار نحو الباب، فأخذت البهيمة الكبيرة تتضاءل في الحجم، وقفزت تُضارب السقف مرة أخرى عند قدمَي الابن، متوسلة بينما يتطاير الشرر من عينيها.

ولكن هذا ازداد اقترابًا من الباب، وأمسك بالمقبض.

– «أي مقبض؟»

لم يكن بذلك الباب أي نوع من المقابض على الإطلاق.

ها أنت قد أمسكت بالمقبض ولسوف تفتح.

ولكن الهاتف الآخر وصل في هذه اللحظة، ونظر الابن إلى الأم، ضئيلة، غارقة في بحيرة العرق الذي تساقَط من يديه. وتردد. وانتابه الخوف من أن يكسر الاتفاق.

– «أي اتفاق؟ من يتحدث عن اتفاقات؟»

الاتفاق الذي عقدتَه مع أمك. الاتفاق الذي حافظتَ عليه طوال حياتك، وينتابك الآن الشك فيه … «ابني ليس له أصدقاء»، «ابني لا يستقبل أحدًا في المنزل»، «ابني …» الاتفاق الذي تخرقه دائمًا، حتى لو كان ذلك عن طريق التفكير ليس إلا.

وبرزت الأم مرة أخرى، هائلة، حين ترك الابن مقبض الباب. واستمرت تنمو حتى استردت حجمها البهيمي. وبجناح من جناحَيها الهائلَين، ضمَّت ابنها إلى صدرها المليء بالحشرات.

– «الحشرات!»

وعندئذٍ رنَّت الدقة الرابعة، وخرج الابن وجِلًا يجري، ولجأ إلى الحجرة الشبيهة بقفص الطيور في الطابق الأعلى. وفتح ستائر الحجرة قليلًا ونظر إلى الباب الخارجي في وجَل.

وهناك كان الصديق، حقيقيًّا، يدق الباب دون كلل. يدقُّ وينتظر. يدقُّ بخبطات أكيدة. هناك كان الصديق، ينتظر. والأم في الداخل، تلهث كالحصان، وتملأ المنزل جميعه بجناحَيها الهائلَين … ولم ينقطع الزائر عن الدق. ولقد رأيتَه من أعلى يُصرُّ على موقفه، حتى جال بخاطرك أن تدعوه إليك.

– حقًّا!

آه، ادعُه. تكفي إشارة بسيطة. هل …؟ هس، كما تفعل الصراصير. ادعُه، ادعُه بحق الإله.

وعاود الزائر إصراره، فدق الباب من جديد. وانتظر.

وبعد ذلك، سار في الاتجاه المخالف. أغلق شباك المدخل الحديدي وخرج إلى الشارع.

وشاهده الابن يبتعد. وبعدها هبط مرة أخرى إلى الردهة. وساد البيت صمت عميق. وسار دون هدًى عبر الردهة الخالية، وطاف دون هدًى خلال جميع الحجرات الخالية، ووصل إلى المطبخ الخالي، وأفرغ في جوفه لترًا من اللبن دون هدًى. وقال كما كان يقول في الأزمنة الخالية، حينما كان شابًّا وكان ابنًا: «ماما». قال ماما؛ لأنه لم يكن قد تعلَّم أن يقول شيئًا آخر. وتذكَّر كل ما حدث خلال النهار، والانتظار، ووصول الزائر. وتمشَّى وحده عبر ذلك البيت الهائل. وانتابته في لمحة واحدة رؤيةُ وحدته السابقة، ورؤيةٌ واضحة مضيئة لوحدته المقبلة؛ لدرجة أنه شعر بحاجته إلى تفسيرات ومشورات. ولكن أحدًا لم يجِبه كما هي العادة … مضى زمن طويل كانت أمه فيه مصدر تصرفاته دون أن تكون معه، تُشعِره بالضآلة، تضطهده، تقضي عليه.

قال: «ماما». وشاهدها تسير في جانب من جوانب السماء على عارضتَين خشبيتَين، دائمًا كما لو كانت في محنة، دائمًا وهي تحاول أن تكسب الوقت لتُضيعه بعد ذلك في الأعمال التافهة … ولكنها لم تردَّ عليه هي الأخرى هذه المرة، فمنذ وقت طويل، كانت الأم قد ماتت.

وفي الظلمة، سار الشيخ نحو أحد جدران الردهة. قال وهو يضع الوصلة الكهربائية كأنما هو خالق تلقائي جديد: «أضيئوا الأنوار!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤