قصبات البوص المجوف

تأليف: جابرييلا ميسترال
(شيلي)

جابرييلا ميسترال (١٨٨٩–١٩٥٧م)

وُلدَت في بلدة فيكونيا بشمال شيلي. وقد استبانت اهتماماتها الأدبية منذ صباها المبكر، وتأثرت بالنهضة الحديثة لأدب اللغة الإسبانية التي قاد لواءها «روبين داريو»، ونشرت أولى قصائدها في المجلة التي كان داريو يصدرها في باريس. عملت ميسترال فترة طويلة في التدريس، وتنقَّلت في مدن كثيرة منها تيموكو مدينة الشاعر بابلو نيرودا الذي التقى بها وهو في السادسة عشرة من عمره وتأثَّر بها وبتشجيعها له. ثم ذاعت شهرة ميسترال في الخارج، وزارت عدة بلدان في أوروبا وأمريكا كأستاذة زائرة للأدب الإسباني. وانتقلت بعد ذلك للعمل قنصلًا لبلادها في الخارج، في نابولي ومدريد وريودي جينيرو. وتكلل عملها بفوزها بجائزة نوبل للآداب في عام ١٩٤٥م. ومن أشهر دواوينها: «وحشة»، «حنان»، «تالا»، «لاجار». يتميز شِعرها بالنزعة الغنائية وقوة العواطف والصور البلاغية. وقد كتبت أيضًا القصص التي تستند إلى أساطير شعبية، ومنها قصتنا هذه.

***

حتى في عالم النباتات المسالم، حدثت ذات مرة ثورة اجتماعية. ويُحكى أنه في تلك الحالة، قادت الثورة قصبات البوص المغرورة. وقام سيد من سادات العصيان، الريح، بنشر الدعايات، وفي الحال، لم يَعُد هناك من حديث آخر في المراكز النباتية. وتآخت الغابات البكر مع الحدائق الصغيرة في صراع مشترك من أجل المساواة.

المساواة في أي شيء؟ في سُمك جذوعها، أم في حلاوة ثمارها، أم في حقِّها في الماء النقي؟

كلا. بكل بساطة، المساواة في الطول. فالأمر المثالي هو أن يرفع الجميع رءوسهم على قدم المساواة. فالذرة لم تكن تطمح إلى أن تكون في صلابة شجرة البلوط، بل فحسب أن تحرك شواشيها المشعرة على نفس العلو. ولم تكن شجرة الورد تسعى لأن تكون بنفس فائدة شجرة المطاط، بل أرادت وحسب أن تصل إلى ذلك التاج المرتفع نفسه وتصنع منه وسادة تهدهد فيها ورودها كيما تنام.

الغرور، الغرور! توهيمات العظمة، حتى لو كان ذلك ضد مذهب الطبيعة وتحايلًا على أهدافها. وعبثًا تحدثت بعض الأزهار المتواضعة — كالبنفسجة الخجول والزنبقة المفلطحة الأنف — عن الناموس الإلهي وعن شرور الكبرياء. بَيد أن حديثها بدا مجرد حماقة.

وعمد شاعر هرِم، له لحية كلحية إله البحار، إلى شجب المشروع باسم الجمال، وقال بعض الأمثال الحكيمة عن التوحُّد في كل شيء، وكان يكره ذلك من كل ناحية.

كيف حدث الأمر إذَن؟ كان الناس يتحدثون عن عوامل غريبة تقوم بفعلها. وحامت أرواح الأرض فوق النباتات بحيويتها المريعة، مما نتج عنه أن وقعت معجزة كريهة.

ففي اليوم التالي، استاء أهل الريف حين خرجوا من أكواخهم ليجدوا أعواد البرسيم قد تطاولت حتى أصبحت في ارتفاع الكاتدرائيات، وأن أعواد القمح تموج بالذهب!

كان الأمر جنونًا في جنون. وزأرت الحيوانات في هلع بعد أن ضلوا طريقهم في ظلام المرعى. وصوصوت الطيور في يأس؛ إذ ارتفعت أعشاشها إلى علو لم يُسمع به من قبل. كما أنها لم تَعُد تتمكن من الهبوط بحثًا عن الحبوب؛ فلم تَعُد هناك تربة تسطع عليها الشمس ويغطيها العشب بردائه المتواضع.

وتباطأ الرعاة إلى جوار قطعانهم أمام المراعي المظلمة؛ فقد رفضت ماشيتهم أن تدخل أي مكان بمثل تلك الكثافة؛ إذ خشيت أن يتم ابتلاعها فيه تمامًا.

وفي تلك الأثناء، كانت قصبات البوص تضحك عاليًا من انتصارها، وتضرب أوراقها الثائرة على الذرى الزرقاء لأشجار الكافور.

ويقال إن شهرًا كاملًا مضى والحال هكذا. ثم بدأ التداعي.

وجاء التداعي بهذه الصورة؛ فإن البنفسج، الذي يزدهر في الظل، جفَّ تمامًا حين تعرضت رءوسه الأرجوانية لضوء الشمس الغامر.

وسارع البوص قائلًا: «لا يهم ذلك. إنه لا شيء بالمرة.»

(ولكن، في بلد الأرواح، ساد الحزن على البنفسج.)

أما الزنابق فقد بلغ طولها خمسين قدمًا، فانقصف عودها. وانتثرت رءوسها البيضاء المرمرية في كل الأنحاء كأنها رءوس الملكات.

وقال البوص ما قاله سابقًا. ولكن الأرواح طافت تنوح ثائرة في الغابة.

وفقدت أشجار الليمون، وهي بذلك الارتفاع، كل براعمها بفعل الرياح القوية. فوداعًا إذَن لمحصول الليمون!

ومع ذلك ردَّد البوص مرة أخرى: «لا يهم. إن ثمارها مُرة للغاية.»

وجفَّت أعواد البرسيم، وتقصفت كالخيوط التي تلتهمها النيران.

وتهدلت شواشي أعواد الذرة، ولكن ليس بفعل الخمول. ذلك أن الطول الرهيب الذي كانت عليه الأعواد جعلها تسقط على الأرض، ثقيلة كأنها قضبان حديدية.

أما البطاطس فقد عملت على تقوية سيقانها بأن أخرجت حبات ضعيفة، حجمها أكبر قليلًا من حبوب التفاح.

وعند ذلك لم تَعُد قصبات البوص تضحك، بل انتهى بها الأمر أن أصبحت تفكر بجدية.

ولم يَعُد في الإمكان تلقيح براعم الشجيرات أو العشب؛ فلم يكن بوسع الحشرات الوصول إليها دون أن تسخن أجنحتها الصغيرة إلى حد الاحتراق.

وعلاوة على ذلك، قيل إن الناس لم يعودوا يجدون لا الخبز ولا الفاكهة ولا العلف لحيواناتهم، وساد الأرض الجوع والأسى.

وفي وسط هذه الظروف، لم يبقَ سليمًا سوى الأشجار الطويلة بطبعها، بجذوعها السامقة القوية كالعادة، فهي لم تستسلم للإغراء.

وكانت قصبات البوص آخر من يسقط، معلنةً بذلك الخطأ التام لنظريتها في أن تصبح في مستوى الأشجار؛ فالجذور قد تعفَّنت من زيادة الرطوبة، وحتى شبكة الأوراق الكثيفة لم تمنع من جفافها كلية.

وتبيَّن بوضوح عند ذلك أن قصبات البوص، مقارنة بحالتها السابقة التي كانت فيها مصمتة صلدة، سوف تصبح مجوَّفة. كانت تتطاول مسافات شاسعة إلى أعلى، ولكنها كانت فارغة من الداخل، فأصبحت عرضة للسخرية، كالدمى وعرائس اللعب.

وأمام هذه الدلائل، لم يكن هناك من أحد يدافع عن الفلسفة التي قدمتها قصبات البوص، ولم يقُل أحد شيئًا عن ذلك لآلاف السنين.

وقد قامت الطبيعة — الكريمة دومًا — بإصلاح العطب في ستة شهور، وعملت على أن تنبت جميع النباتات البرية من جديد بالطريقة الطبيعية.

وظهر الشاعر ذو اللحية التي تشبه لحية إله البحار بعد طول غياب، وتغنَّى بالعصر الجديد في غبطة وانشراح:

«هكذا تكون الأمور أيها الأعزاء. جميل هو البنفسج في دقته، وشجرة الليمون لشكلها الرقيق. جميلة هي كل الأشياء كما خلقها الله؛ شجرة البلوط الكريمة وأعواد الشعير الهشة.»

وطرحت الأرض الفاكهة مرة أخرى، وسمنَت الحيوانات، وتغذَّى الناس.

ولكن قصبات البوص — تلك النباتات المتمردة — حملت على مرِّ الدهر سمة خِزيها؛ فقد أصبحت مجوَّفة، مجوَّفة، جوفاء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤