الفصل الرابع

عبد الله بن الزبير

٦٤–٧٣ﻫ

(١) أوَّليته

هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي، وأمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، ولد عام الهجرة، وهو أول مولود في الإسلام، وحنَّكه النبي وتربى تربية إسلامية بحتة فحفظ عن النبي جملة من الأحاديث، كما روى عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وخالته عائشة، وهو أحد العبادلة وأحد الشجعان من الصحابة، ونقل ابن حجر في الإصابة عن البيهقي في دلائل النبوة عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أنه أتى النبي وهو يحتجم، فلما فرغ قال: يا عبد الله، اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد، فلما برز عن رسول الله عمد إلى الدم فشربه، فلما رجع قال: يا عبد الله، ما صنعت بالدم؟ قال: جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى عن الناس، قال: لعلك شربته، قال: نعم. قال: ولِمَ شربت الدم؟ ويل للناس منك، وويل لك من الناس.١

وقد شهد عبد الله وقعة اليرموك مع أبيه، وشهد فتح إفريقيا، وكان البشير بالفتح إلى عثمان بن عفان، وشهد يوم الدار، وكان مدافعًا عن عثمان، وشهد الجمل مع خالته عائشة وكان على الرجالة، وجُرح وأُخذ من بين القتلى وفيه بضعة وأربعون جرحًا، وأعطت عائشة البشير الذي بشرها بحياته عشرة آلاف. ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية اعتزل. وأول ما نسمع به بعد ذلك في الجيش الذي بعثه معاوية لغزو القسطنطينية سنة ٥٠ مع ابنه يزيد، وكان معاوية يلمح في ابن الزبير مطامحه فيترضاه ويغدق عليه، وقد رأينا أنه امتنع من مبايعة يزيد، وعاذ بالكعبة، وسمَّى نفسه عائذ فلما كانت وقعة الحرة وفتك أهل الشام بأهل المدينة، ثم اتجهوا إلى مكة قاتلهم ابن الزبير، ولما جاء نعي يزيد وانخذل الشاميون، بايع أهل الحجاز عبد الله بن الزبير بالخلافة، وانضم إليهم أهل مصر، وأكثر أهل الشام والعراق كما رأينا في عهد مروان بن الحكم، فلما مات مروان وخلفه ابنه عبد الملك، جرت بين الاثنين أمور نجملها فيما يأتي:

(٢) خلافته

كان عبد الله يطمع في الخلافة منذ زمن مبكر، يرجع إلى أيام فتنة عثمان الذي استخلفه على داره، فكان عبد الله يرى في ذلك تقديمًا له على الآخرين. قال ابن عبد ربه: كان عثمان استخلف عبد الله بن الزبير على الدار يوم الدار، فبذلك ادَّعى ابن الزبير الخلافة.٢ ثم إن تأمير النبي جده أبا بكر للصلاة بالمسلمين قد قوَّى في نفسه ذلك الأمر. ولقد لعب دورًا هامًّا في الفتنة بين علي ومعاوية، حتى قال علي للزبير: لقد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا (ابن الأثير ٣: ٢٠٢)، ولما وقعت الفتنة بين علي وعائشة، كان لعبد الله النصيب الأوفر فيها، ثم لما وقعت الفتنة بين الحسين ويزيد، شجع الحسين على ترك الحجاز للاستقلال بها كما رأينا، وكانت خالته عائشة الصديقة تحبه وتدعو الناس إليه.٣
ولما مات معاوية وتخلف الحسين وابن الزبير عن مبايعة يزيد، كان الحسين منافسه الأقوى، فلما قذف به إلى العراق حيث قُضِي عليه، لم يبقَ له منافس سوى محمد ابن الحنفية، فلما بايع ابن الحنفية يزيد خلا الجو لابن الزبير، فأخذ يدعو لنفسه، ويعمل على تقوية حزبه في الحجاز وخارجه، وتمكن ابن الزبير أن يؤلب الناس على الأمويين مستغلًّا ما قام به الأمويون من أعمال منافية للإسلام، كتحويلهم الخلافة إلى ملك عضوض، وكمعاملة ولاتهم الناس بالقسوة والعنف، وكقتل الحسين وغزو الحَرَمَين.٤ وهكذا استطاع ابن الزبير بدهائه أن يكسب عطف الرأي العام الإسلامي. ثم إن ما كان يتمتع به من دين وتقوى جعله صاحب القدم المعلى، فأحبه الناس وعطفوا عليه وأيدوه، فاستطاع أن يعكر صفو الأمويين ويقلق دولتهم، وتمكن في سنة ٦٣ أن يثير أهل المدينة على والي يزيد، فطردوه وبايعوا عبد الله، وانضم إليهم أهل مكة، بعد أن رأوا من ظلم الأمويين ما رأوا، ولم يشذ من الحجازيين عن بيعته إلَّا محمد ابن الحنفية وعبد الله بن عباس، ثم بايعه أهل اليمن والكوفة والبصرة بعد موت يزيد بن معاوية سنة ٦٤.
أما أهل الشام فقد انقسموا بعد موت معاوية بن يزيد — كما رأينا — إلى قسمين. قال ابن عبد ربه: «فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهل الشام كلهم الزبير إلَّا أهل الأردن، واستخلف ابن الزبير الضحاك بن قيس الفهري على أهل الشام.»٥ ثم كان من أمر يوم مرج راهط ما رأيناه.

وأما مصر، فإنها بايعت ابن الزبير، وكذلك كان حال أهل خراسان والمشرق، وهكذا بايع المسلمون في أكثر الأقطار لابن الزبير، وكاد يتم له الأمر، لولا مبايعة الشاميين لمروان، ثم لابنه عبد الملك اللذين استطاعا أن يقفا وقفة جبارة أمام ابن الزبير فانتزعا منه مصر، وهلك مروان وخلَّف لابنه عبد الملك مشكلتين جسيمتين.

أولاهما: فتنة المختار بن أبي عبيد الثقفي التي سنتحدث عنها بعد، والثانية: فتنة ابن الزبير. كان ابن الزبير قد بعث أخاه مصعبًا أميرًا على العراق، وفي سنة ٧٠ أقبل عبد الملك إلى العراق فاستعد له مصعب، ولكنه لم يستطع الوقوف أمامه؛ لأن جندًا كثيرًا من جند ابن الزبير، وعلى رأسهم المهلب بن أبي صفرة كانوا قد تعبوا من محاربة الخوارج، فاستطاع عبد الملك أن يستميلهم إلى جانبه، والتقى الجمعان عند باخمرا، فقُتل مصعب بعد أن أبلى بلاءً حسنًا، ودخل عبد الملك الكوفة فبايعه أهلها سنة ٧١ﻫ، وتمكَّن من السيطرة على العراق.٦ ولم يبقَ في يد عبد الله بن الزبير سوى الحجاز.

فلما توطد أمر العراق لعبد الملك وجَّه من العراق جيشًا كثيفًا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي لقتال ابن الزبير، وبعث معه أمانًا لابن الزبير إنْ هو أطاع، فسار في جمادى الأولى سنة ٧٢ﻫ، فنزل بالطائف، فكان يناوش ابن الزبير وهو هناك، ثم كتب إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم، فأذن له، وقدم مكة محرمًا في ذي الحجة، فحج بالناس إلَّا أنه لم يطُف ولم يسعَ بين الصفا والمروة؛ لأن ابن الزبير منعه، وحصر ابن الزبير فلم يستطع الحج، ثم نصب المنجنيق على أبي قبيس، ورمى به، فأصاب الكعبة، واشتد الحصار على أهل مكة حتى غلت الأسعار، فخرج أهل مكة مستأمنين إلى الحجاج، وممن استأمن ابنا عبد الله: حمزة وحبيب، فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر وقال لها: يا أماه، خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، ولم يبقَ معي إلَّا اليسير، ومن ليس عنده إلَّا صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك إنْ كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضِ له، فقد قُتل عليه أصحابك، ولا تمكِّن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإنْ كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك ومن قُتل معك، وإنْ قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين؛ كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن.

فقال: يا أماه، أخاف إنْ قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني.

قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بعد القتل من السلخ، فامضِ على بصيرتك واستعن بالله. فقبَّل رأسها وقال: هذا رأيي، والذي خرجت به دائبًا إلى يومي هذا، ما ركنتُ إلى الدنيا، ولا أحببت فيها الحياة، وما دعاني إلى الخروج إلَّا الغضب لله، وأن تُستحل حُرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه، فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك، وسلمي لأمر الله.

فقالت: أرجو أن يكون عزائي فيك جميلًا.٧ ثم طفقت تدعو له وتشجعه حتى ذهب فقاتل قتالًا عجيبًا، وأظهر من الشجاعة والجلد ما أدهش الحجاج وصحبه، ثم تمكن منه العدو فقتله، ثم صلبه، فتناولته أمه فغسلته وطيبته، وصلت عليه وكانت تقول: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته. فما إنْ أتت عليها جمعة حتى ماتت.٨

(٣) خاتمته ومناقبه

قُتل ابن الزبير في جمادى الآخرة من سنة ٧٣ وهو ابن ٧٢ سنة، وتمكن الحجاج بن يوسف بقتله أن يُسيطر على الحجاز وينظمه في سلك البلاد الخاصة لمولاه عبد الملك، وكان موقف عبد الله بن الزبير في وجه الحجاج موقفًا يدل على قوة نفس وإيمان عميق بحقه، وقد رأينا ذلك في حواره الأخير مع أمه. والحق أن عبد الله قد أوفى كثيرًا من الصفات الجليلة التي تخوله أن يقوم بحركته؛ من التقوى والشدة والدهاء، ولكنه كان ينقصه بعض الصفات الرئيسية للسيادة، كالكرم وتنظيم الدعاية والمسايرة؛ فقد كان قاسيًا لا يساير، وكان لا يهتم بخصومه، وكان بخيلًا يضن بالمال حتى على أقرب المقربين منه، وفي أشد المواقف حراجة؛ فقد روى ابن الأثير أنه لما اشتد حصار الحجاج على أهل مكة وأصابت الناس المجاعة لم يُخرج لهم ما في بيوته، وإنها لمملوءة قمحًا وشعيرًا وذرة وتمرًا.٩

ولما بعث إليه أخوه مصعب بوجوه أهل العراق أوصاه بالإحسان إليهم وعطائهم، فلم يعطهم شيئًا وردهم شرَّ رد، ولم يكن كذلك خصومه من بني أمية؛ فقد كان مروان وعبد الملك مساميح أجوادًا أفاضوا على الناس والشعراء خيرات وأموالًا، فسبحوا بحمدهم ونشروا دعوتهم.

قال علي بن زيد الجدعاني: كان عبد الله كثير الصلاة، كثير الصيام، شديدًا على الناس، كريم الجدات والأمهات والخالات، إلَّا أنه كانت فيه خلال لا يصلح معها للخلافة؛ لأنه كان بخيلًا، ضيق العطاء، سيئ الخلق، حسودًا، كثير الخلاف، أخرج محمد ابن الحنفية، ونفى عبد الله بن عباس إلى الطائف.١٠ وهكذا قُضي على ابن الزبير وحركته، التي كانت تهدف إلى إرجاع عاصمة الإسلام إلى الحجاز، كما كانت على عهد الرسول، وكان هو معتزًّا بذلك، ساعيًا له، ولما طُلب إليه أن يترك الحجاز إلى الشام امتنع، ولو أنه ذهب لاستقامت له الأمور، ولكنه لم يقبل فقضى على نفسه، رحمه الله.
١  الإصابة ٤: ٧٠.
٢  العقد الفريد ٣: ١٦٠.
٣  ابن الأثير ٤: ٨٨.
٤  العقد ٣: ١٤٥.
٥  العقد الفريد ٣: ١٤٥.
٦  ابن الأثير ٤: ١٢٥.
٧  ابن الأثير ٤: ١٢٦–١٣٨، والطبري ٧: ٢٠٢–٢٠٦، والاستيعاب ١: ٣٥٣.
٨  الاستيعاب ١: ٣٥٤.
٩  ابن الأثير ٤: ١٣٦.
١٠  الاستيعاب ١: ٣٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤