الفصل الثاني

الوليد بن عبد الملك

٨٦–٩٦ﻫ/٧٠٥–٧١٥م

(١) أوَّليته

هو الوليد بن عبد الملك بن مروان، وأمه ولادة بنت العباس بن جرير بن الحارث بن زهير الربعية، ولد في سنة ٥٠ﻫ وقيل في سنة ٤٩، فعُني به أبوه فهذبه ومرسه بالحكم والحرب، وكان خطيبًا أديبًا، ولكنه وصف باللحن، روي في الفخري أن أباه قال له: إنه لا يلي العرب إلَّا من يُحسن كلامهم، فدخل الوليد بيتًا وأخذ معه جماعة من علماء النحو، وأقام مدة يشتغل فيه.١ ولكنهم يتوركون عليه فيقولون: إنه خرج من ذلك البيت أجهل مما كان يوم دخوله.

(٢) خلافته

صلَّى الوليد على أبيه ودفنه، ثم أتى المسجد وصعد المنبر، واجتمع إلى الناس فخطبهم فقال: أيها الناس، إنه لا مقدِّم لما أخَّر الله، ولا مُؤَخِّر لما قَدَّم الله. وقد كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار أبي إلى منازل الأبرار، وليَ هذه الأمة بالذي يحق عليه لله من الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامته ما أقام الله من منار الإسلام وأعلامه، من حجِّ هذا البيت، وغزو هذه الثغور، وشن هذه الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزًا ولا مفرطًا. أيها الناس، عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها لناس، من أبدى لنا ذات نفسه جزيْنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. أيها لناس، إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة. قوموا فبايعوا.٢ فكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السلولي، ثم قال:
الله أعطاك التي لا فوقها
وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلَّا سوقها
إليك حتى قلَّدوك طوقها

ثم تتابع الناس على البيعة. وكان الوليد موفقًا في اختيار رجاله، وهو إنْ فقد الحجاج فقد عوضه عنه بعدد من القُوَّاد الفاتحين المدبرين، نذكر منهم: قتيبة بن مسلم الباهلي، ومحمد بن القاسم بن محمد الثقفي، وموسى بن نصير، وعبد الرحمن الغافقي، الذين فتحت في عهدهم الهند والصين والأندلس وجنوبي فرنسة، وتوسع الملك الإسلامي إلى أقصى حدوده، كما سنرى. وفي عهده تمت عدة من المشاريع الاجتماعية والعمرانية والإدارية الخالدة التي سنتحدث عنها بعد.

(٣) الفتوح في عهده

فتوح المشرق

في سنة «٨٦» بعث الحجاج بن يوسف من قِبله قتيبة بن مسلم الباهلي أميرًا على خراسان، فأتاها ورتب أمورها، ثم سار حتى قطع نهر بلخ بجيش كثيف. وتلقف أخباره ملوك ما وراء النهر فخافوا، وتلقاه ملك الصغانيان بالهدايا وهو يحمل مفاتيح بلاده من ذهب، فدخلها، ثم سار إلى «أخرون» و«شومان» في طخارستان، فصالحه صاحبها، ثم انصرف إلى مرو، وبعث أخاه صالح بن مسلم ومعه نصر بن سيار لفتح كاشاه وأورشت في فرغانة، وأخسكيث مدينة فرغانة، وقد أبلى نصر بلاءً عظيمًا في تلك الفتوح خلَّد اسمه.

وفي سنة ٨٧ كتب قتيبة إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من الأسرى، فأطلقهم وكتب إلى قتيبة يسترضيه ويخضع له، فلما أمِن قتيبة جانب نيزك سار نحو بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر، فاستنصر صاحبها بالصغد وتجمعوا عليه، فانقطعت أخباره عن الحجاج مدة شهرين، فقلق وأخذت الناس تدعو لهم في المساجد، وجَدَّ قتيبة في غزوه، فهزم عدوه وفتح بيكند، وقتل من كان بها من المقاتلة، وغنم المسلمون مغانم كثيرة، وأسرى لا يحصون، وكان فيهم رجل أعور، فقال لقتيبة: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف، فاستشار قتيبة الناس فقالوا: وما عسى أن يبلغ كيد هذا؟ فقال قتيبة: لا والله. فأمر به فقتل، ثم رجع مسلم إلى مرو.

وفي سنة ٨٨ غزا نومشكت فصالحه أهلها، ثم اجتمع عليه الصغد والترك والفرغانيون في مائتي ألف فشتت شملهم وغنم.

وفي سنة ٨٩ غزا بخارى، ولم يتمكن من القضاء على ملكها فرجع، وجاء كتاب من الحجاج يقول له فيه: صوِّرها وابعث إليَّ بصورتها وما يُحيط بها من الجبال والسهول، فبعث بذلك إليه فأجابه بقوله: تُب إلى الله جلَّ ثناؤه مما كان منك، وأْتها من مكان كذا وكذا. فعمل قتيبة بما أشار عليه الحجاج فاستطاع فتحها في سنة ٩٠، وفتك بصاحبها وبمن جاء لنصرته من الصغد والترك، وقد أبلى الأزد وتميم في ذلك اليوم أحسن بلاء، وخرج خاقان وابنه، وكتب قتيبة إلى الحجاج يبشره بالنصر.

وفي تلك السنة اضطر ملك الصغد إلى مصالحته.

وفي تلك السنة تمكَّن قتيبة من فتح الطالقان.

وفي سنة ٩١ غزا شومان وكش ونسف، ففتحها وغنم عدة مغانم.

وفي سنة ٩٣ غزا ملك خوارزم فصالحه، ثم توجه إلى سمرقند ففتحها، وصالحه صاحبها غورك على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال كل عام، وأن يعطيه بتلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل، فبنى فيها قتيبة مسجدًا ويدخل ويُصلي ويخطب ويتغدَّى ويخرج، فدخلها ولم يخرج، وأتى بالأصنام وكانت كالقصر العظيم، وأخذ ما عليها وأمر بها لتحرق، فجاءه غورك فقال له: لا تحرقها، فإن فيها أصنامًا إنْ أحرقتها أتلفتك. فقال: أنا أحرقها بنفسي. ثم كبروا حرقها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال، وأصاب بالصغد جارية من بنات الملوك، بعث بها إلى الوليد، فولدت له ابنه يزيد، ثم رجع قتيبة إلى مرو.

وفي سنة ٩٤ غزا قتيبة الشاس وفرغانة، ففتح خجندة وكاشان عاصمة فرغانة ففتحها، ولما رجع جاءه نعي الحجاج، فغمه ذلك، ثم جاء كتاب أمير المؤمنين الوليد وفيه: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين. وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فأتم مغازيك وانتظر ثوابك من ربك، ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.٣

فرد على أمير المؤمنين بكتاب شكر فيه نعمة الله عليه، وبلاءه في قتال الكافرين، واستمداده العون من الله.

وفي سنة ٩٦ غزا بلاد الصين ووصل كاشغر، وجمع مع المقاتلة عيالهم ليضعهم بسمرقند، فلما وصل أرض الصين كتب إليه صاحبها: أن ابعث إليَّ رجلًا يخبرني عنكم وعن دينكم، فبعث إليه بعشرة لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فلما أتوه سألهم عن حالهم وعن الإسلام، فأحسنوا إجابته وأخبروه أن قتيبة قد حلف ألا يعود حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطوا الجزية، فقال لهم: فإنا نخرجه عن يمينه، فنبعث إليه بتراب أرضنا فيطأه، ونبعث إليه ببعض غلماننا فيختمهم، ونبعث إليه بالجزية، فقبل قتيبة. وقد بلغه خبر موت الوليد فرجع بعد أن نشر لواء الإسلام في المشرق، وأباح للناس قراءة القرآن بالفارسية والتركية.

فتوح بلاد الروم

في سنة ٨٧ بعث الوليد أخاه مسلمة لغزو الروم، فوصل سوسنة من ناحية المصيصة، وفتح حصونًا وقتل منهم مقتلة عظيمة، وقيل إن الذي غزا هو هشام بن عبد الملك، وأنه فتح حصن لولق، وحصن الأحزم، وحصن بولس، وحصن قمقم.

وفي سنة ٨٨ غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم، ففتح حصن طوانة وشنى بها.٤
وفي سنة ٨٩ غزا مسلمة وابن أخيه العباس أيضًا بلاد الروم، ففتح مسلمة حصن عمورية وهرقلة وقونية، وفتح العباس «أذرولية» و«البدندون»، ثم رجع مسلمة وسار إلى بلاد الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصونًا ومدنًا.٥
وفي سنة ٩٠ غزا مسلمة بلاد الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا العباس بن الوليد بن عبد الملك حتى بلغ أرض الروم.٦

وفي سنة ٩٢ غزا مسلمة بلاد الروم، ففتح حصونًا وجلا أهل سوسنة عنها إلى الروم.

وفي سنة ٩٣ غزا مسلمة ففتح ثلاثة حصون، وفي تلك السنة غزا العباس بن الوليد الروم، ففتح سبسطية والمرزبانيين وطرسوس، وفتح المصيصة وحصن الحديد، وغزالة من ناحية مليطة.

وفي سنة ٩٤ غزا الروم العباس، ففتح أنطاكية، وغزاها عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وغزاها الوليد بن هشام المعيطي فبلغ برج الحمام.٧

وفي سنة ٩٥ كان الغازي ببلاد الروم العباس بن الوليد، ففتح حصون طولس والمرزبانيين وهرقلة.

فتوح المغرب

عُني الوليد بفتح بلاد المغرب، فولَّى موسى بن نصير على إفريقية سنة ٨٩، وبعث معه جيشًا كثيفًا وزوده بالسلاح والأموال، فلما دخل القيروان بلغه أن بعض البربر قد خلعوا الطاعة، فبعث إليهم ابنه عبد الملك فأخضعهم، وبلغ الأسرى نحو ستين ألفًا، ولم يُسمع بسبي أعظم منه، ثم وطدت له إفريقية وسار إلى طنجة، وبلغ السوس الأدنى كاسبًا من البربر، وفتح طنجة، ووضع عليها مولاه طارق بن زياد، فأخذ طارق يُعنَى بالبربر فعلمهم القرآن، وجعل منهم جيشًا قويًّا، فاستمر طارق يقوي نفسه ويعزز هؤلاء البربر حتى سار باثني عشر ألف منهم في سنة ٩٢ فدخل الأندلس، وكانت خاضعة للقوط Visingoth منذ أوائل القرن الخامس للميلاد، وكانت دولتهم قوية في أول أمرها. ثم ما لبثت أن فسدت وسيطر عليها الأشراف رجال الدين والقادة، فاقتطعوا البلاد وساموا الناس خسفًا، وعذبوا اليهود، وأكثروا من الرقيق.
وكان أهل الأندلس يسمعون بأحوال العرب في شمال إفريقية وبعدلهم فيتمنون إنقاذهم، وقد حاول المسلمون منذ النصف الثاني من القرن السابع فتح الأندلس، ولكنهم فشلوا في عهد الإمبراطورين فامبا Vamba، وخلفه Erving. ولما سيطر موسى بن نصير على الأندلس وتمكَّن طارق من تدريب جيش بربري قوي، فكر في غزو الأندلس. ولما سيطر موسى بن نصير على بلاد المغرب غزا «سبتة»، التي كانت تحت سيطرة الكونت جوليان حاكمها من قبل القوط، ففتحها واتخذها منذ ذلك الحين مركزًا لتهيئة الجيش المُعد لغزو الأندلس.
في سنة ٨٩ (٧٠٩) عزل الإسبان إمبراطورهم غيطشة Witica وولوا آخيل Achil، ثم في سنة ٩٠ (٧١٠) عزلوه وولوا رودريق Rodric مكانه، فانقسمت البلاد إلى حزبين: أحدهما مع آخيل، والثاني مع رودريق، وتحالف جوليان مع حزب آخيل للقضاء على رودريق، كما كتب إلى موسى بن نصير يستعين به، فرحب موسى بهذه الفكرة، واستشار عبد الملك فتردد أولًا ثم أذن له في الغزو، وحذره من غدر جوليان، فأرسل موسى سنة ٩١ جيشًا فيه خمسمائة مقاتل بقيادة طريف بن مالك، فدخل طريف بعض الثغور الجنوبية الأندلسية، وعاد وهو منصور. تشجع الأمير على إتمام الغزو، فجيَّش جيشًا مكونًا من سبعة آلاف، أكثره من البربر، لفتح الأندلس بقيادة مولاه طارق، فعبر طارق البحر في سفن جوليان، ونزل بإقليم البحيرة جنوبي إسبانيا، وكان رودريق مشغولًا بحرب آخيل، فلما علم رودريق بمقدمه جمع جموعه، وكانت تقرب من مائة ألف مقاتل، ولقي طارقًا، فتخوف من كثرة جيش الكفر، فاستنجد بموسى، فأمده بخمسة آلاف جدد، والتقى الجمعان على ضفاف وادي بكمة سنة ٩١ (٩ تموز سنة ٧١١)، وكتب الله النصر لجنده. ومما ساعده على ذلك انضمام ابنَي غيطشة إلى العرب، ثم أخذ طارق يفتح المدن، فاستولى على إشبيلية وقرطبة وطليطلة، التي لم يبقَ فيها إلَّا رجال الدين اليهود، ولما علم موسى بالفتح طمع في أن يكون له نصيب في هذا الفتح المبين، فكتب إلى طارق أن يتوقف ليحضر إليه، فلم يستمع طارق لقوله؛ لأن في ذلك ضعضعة للموقف.

وفي سنة ٩٣ (سنة ٧٦٢م) قدم موسى ففتح ماردة، ثم التقى بطارق فعاتبه وأنبه في سجنه، وعلم الخليفة بأمر طارق، فكتب إلى موسى بإطلاقه، فأطلقه وسارا لإتمام الفتح، فغنما إقليم «أرغونة» وقشتالة، وكتالونة، وسرقسطة، وبرشلونة، حتى بلغا جبال البرانس في عهد قصير، وتم لهم فتح الأندلس كلها، ولجأ أشراف الأندلس إلى الجبال الشمالية الغربية، ولم تقف أطماع القائدين عند هذا، وعزما على مواصلة الفتوح والوصول إلى القسطنطينية عن طريق البر، وجعل البحر الأبيض المتوسط بحرًا عربيًّا، ولما بلغ ذلك الوليد طلب إليهما الكف عن ذلك لما فيه من المغامرة، ثم إن الوليد طلب إلى القائدين أن يجيئاه، فرحل موسى إلى دمشق بعد أن ولَّى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وبينما هو في الطريق بعث إليه سليمان أخو الوليد أن يتأخر في الطريق فإن الوليد مريض، وذلك طمعًا في استئثاره بالغنائم والتحف، فلم يلتفت موسى لقوله، واستمرَّ في طريقه حتى دخل دمشق، فحنق عليه سليمان وعزله حين تولى الأمر، وما إنْ دخل حتى مات الخليفة.

figure

(٤) أعمال جليلة في عهده

توسيع مسجد الرسول

كان الوليد مغرمًا بالعمران وإشادة المساجد والأماكن العامة؛ ففي سنة ٨٨ بعث الوليد إلى عامله على المدينة عمر بن عبد العزيز، يأمره بإدخال حجر أزواج الرسول في المسجد، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتين، ويقول له: أن قدِّم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وأنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوِّموا ملكه قيمة عدل، واهدم عليهم، وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة حسنة. فأحضرهم عمر، وأقرأهم الكتاب فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه.

وبعث ملك الروم إلى الوليد من الفسيفساء أربعين حملًا وعمالًا وذهبًا، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز. روى الطبري عن محمد بن عمر، عن موسى بن يعقوب، عن عمه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يهدم المسجد ومعه وجوه الناس: القاسم، وسالم، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عمر يُرونه أعلامًا في المسجد ويقدرونه، فأسسوا أساسه، وأول ما هدموا بيوت أزواج النبي في صفر سنة ٨٨ حتى قدم الفعلة الذين بعث بهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يُعلمه أنه أمر بهدم مسجد رسول الله، وأن يعينه فيه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهب، وبعث إليه بمائة عامل، وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين حملًا، وأمر أن يتتبع الفسيفساء في المدائن التي خربت، فبعث بها إلى الوليد، وأرسلها إلى المدينة.٨

في سنة ٩١ قَدِم الوليد إلى الحجاز فحجَّ بالناس، ثم قصد مسجد النبي فأخرج الناس منه، وبقي سعيد بن المسيب ما يجترئ أحد من الحرس أن يُخرجه، وما عليه إلَّا ريطتان ما تساويان إلَّا خمسة دراهم في مصلاه، فقيل له: لو قمت! قال: والله لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. قيل: فلو سلَّمت على أمير المؤمنين؟ قال: والله لا أقوم إليه.

قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالخليفة في ناحية المسجد رجاء ألَّا يرى سعيدًا حتى يقوم، فحانت من الوليد نظرة إلى القبلة فقال: مَن ذلك الجالس؟ أهو الشيخ سعيد بن المسيب؟ فجعل عمر يقول: نعم يا أمير المؤمنين، ومن حاله ومن حاله، ولو علم بمكانك لقام إليك، وهو ضعيف البصر.

قال الوليد: قد علمت حاله، ونحن نأتيه، فدار في المسجد حتى أتى القبر، ثم أتى سعيدًا فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد، ولا قام. فقال: بخير والحمد لله، فكيف أمير المؤمنين وكيف حاله؟

قال الوليد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس. ثم إنه قسَّم بالمدينة رقيقًا كثيرًا عَجَمًا بين الناس، وآنية من ذهب وفضة وأموالًا، وطاف بالناس على قبر رسول الله، وقد صُفَّ له الجند صفين من المنبر إلى جدار مؤخر المسجد، وقدم بطيب مسجد النبي ومجمرة وبكسوة الكعبة، فنُشرت وعلِّقت على حبال في المسجد من ديباج حسن لم يُرَ مثيله.٩

بناء مسجد دمشق

تولَّى الوليد وجامع دمشق الأعظم مجاور للكتدرائية العظمى، فعزم الوليد على توسيع الجامع، فطلب من النصارى إعطاءه نصف الكنيسة الذي بأيديهم على أن يبني لهم كنيسة حيث شاءوا، فأبوا ذلك ثم رضوا فهدمها، وبدأ الهدم بنفسه في سنة ٨٦، وشرع في البناء سنة ٨٧، وأقام فيما بنى سبع سنين، فمات الوليد ولم يتم فأتمه سليمان.١٠ قال ابن عساكر: لما أراد الوليد بناء مسجد دمشق احتاج إلى صُنَّاع كثيرين، فكتب إلى الطاغية أن وجِّه إليَّ بمائة صانع من صناع الروم، فإني أريد أن أبني مسجدًا لم يَبنِ من مضى قبلي، ولا يكون بعدي، مثله، فإن أنت لم تفعل غزوتك بالجيوش، وخربت الكنائس التي في بلدي، وكنيسة بيت المقدس، وكنيسة الرها وسائر آثار الروم، فكتب إليه: والله لئن كان أبوك فهمها فأغفل عنها فإنها لوصمة عليك، ولئن كنت فهمتها وغابت عن أبيك فإنها لوصمة عليك، وأنا موجه لك بما سألت. فأراد أن يعمل له جوابًا، فجلس له عقلاء الرجال في حظيرة الرجال يفكرون، فدخل عليهم الفرزدق فقال: ما بال الناس؟ فقيل له: السبب كيت وكيت. فقال: أنا أجيبه من كتاب الله؛ قال الله تعالى: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا، فسُرِّي عنهم. وفي ذلك قال الفرزدق:
فرقت بين النصارى في كنائسهم
والعابدين من الأسمار والعتم
وهم جميعًا إذا صلَّوا وأوجههم
شتى، إذا سجدوا لله والصنم
وكيف يجتمع الناقوس يضربه
أهل الصليب له القُراء لم تنم
فهمك الله تحويلًا لبيعتهم
عن مسجد فيه يُتلى أطيب الكلم
فُهِّمت تحويلها عنهم كما فهما
إذ يحكمان له في الحرث والغنم
وداود والملك المهدي إذ جزءا
ولادها واجتزاز الصوف بالجلم
والله ما من أبٍ في الناس نعلمه
خيرٌ بنينَ ولا خير من الحكم١١
وقال أبو قصي: أنفق على المسجد أربعمائة صندوق، في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار١٢ حتى قال الناس لما أخذ في تزويقه وبنائه وعظم مؤنته: أيُنفق أموالنا ويتلف ما في بيوت أموالنا في نقش الخشب وتزويق الحيطان! فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: بلغني مقالكم، وليس الأمر على ما ظننتم، ألا وإني أمرت بإحصاء ما في بيوتكم من المال، فأصبت فيه عطاءكم ست عشرة سنة مقبلة من يومي هذا. ثم نزل.١٣ وقد تأنق في البناء تأنقًا غالى فيه، فجعل أرض الجامع مفروشة بالفصوص المزمكة بالذهب المُسمَّاة بالفسيفساء، وإن الرخام كان في جدرانه سبع وزرات، ومن فوقه صفات البلاد والقرى، وما فيها من العجائب مُصوَّرة بالفسيفساء، والكعبة المشرفة وضع صورتها فوق المحراب، ثم فرق صور البلاد يمينًا وشمالًا، وجعل سلاسل المصابيح من نحاس مُحلًّى بالذهب، وجعل في محراب الصحابة درة لا تقوَّم، كانت إذا أطفئت المصابيح يقوم نورها مكانها، وبنى مغارة العروس والمقاصير الضخمة المحملات، وفرشه بأغلى الفرش، وزينه أحسن تزيين حتى صار من أعاجيب الدنيا.

أعمال عمرانية أخرى

كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلفائهم، بنى المساجد: مسجد دمشق ومسجد المدينة والمسجد الأقصى، ووضع المنابر، وأعطى الناس وأعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس. وأعطى كل مقعد خادمًا وكل ضرير قائدًا.١٤
قال الأستاذ كرد علي: وكانت أيامه من أبرك أيام بني أمية، عمَّر الجوامع، وكتب إلى جميع البلاد بهدم المساجد والزيادة فيها، وتسهيل الطرق، وبث في الأمة روح العمران، فكان الناس إذا التقوا في زمانه يسأل بعضهم بعضًا عن الأبنية والعمارات في كلِّ مكان، وكان أول من عمل أعمالًا جسيمة ابتدعها في الصدقات والقربات. هذا مع أن الخراج انكسر في أيامه، فلم يُحمل كثير شيء من العراق وغيره، فاضطر إلى إحصاء أهل الديوان، وألقى منهم بشرًا كثيرًا بلغت عدتهم عشرين ألفًا، والحق أنه كان شديد الاهتمام بالعمران والقيام بمصالح الأمة، وتفقُّد أحوال العجزة والمساكين. وهو أول من شاد البيمارستان في الإسلام وبنى دور المرضى للمجذومين، وأجرى الأرزاق على العميان والمرضى، والقُرَّاء والفقهاء وقُوَّام المساجد، وأقام طعمة رمضان، وغير ذلك من أعمال الخير والبر.١٥

(٥) خاتمته ومناقبه

مات الوليد في دير مران للنصف الثاني من جمادى الثانية سنة ٩٦، وله من العمر ٤٢ سنة ونصف، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان الوليد من محاسن الخلفاء كما رأينا؛ لما سهل الله على يديه من الفتح، ولما تمَّ على يديه من العمران وضروب الإصلاح.

(٦) كبار الرجال في عهده

لمع اسم نفر من كبار رجال الإسلام في عصره نذكر منهم:
  • (١)
    سعيد بن جبير الأسدي الكوفي (٤٥–٩٥) حبشي الأصل، تابعي جليل عالم، بل هو أعلم التابعين، أخذ العلم عن ابن عباس وابن عمر، وكان مع علمه ودينه بارعًا بالشطرنج، ولما خرج عبد الرحمن بن الأشعث على عبد الملك والحجاج، انضم إليه سعيد لتألُّمه من سيرة الحجاج وبطشه، فلما قُتل عبد الرحمن ذهب إلى مكة، فقبض عليه أميرها خالد القسري، وبعثه إلى الحجاج فقتله. قال أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيدًا، وما أحد على وجه الأرض إلَّا وهو مُفتقرٌ إلى علمه.١٦
  • (٢)
    سعيد بن المسيب (١٣–٩٤) المخزومي القرشي، سيِّد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة، جمع بين الزهد والورع والدين والعلم والفقه والحرمة والنبل، وكان يعيش من التجارة، لا يأخذ عطاء على علمه، وكان أحفظ الناس لأقضية عمر حتى سمي راوية عمر.١٧
  • (٣)

    يزيد بن المهلب بن أبي صفرة (٥٣–١٠٢) أمير قائد شجاع جواد، تولَّى خراسان سنة ٨٣ بعد أبيه، فمكث إلى سنة ٨٩، ثم عزله عبد الملك خوفًا منه، ثم حبسه الحجاج فهرب إلى الشام، فبقي في عهد الوليد بدمشق إلى أن مات الخليفة، ثم في عهد سليمان ولاه خراسان، وافتتح جرجان وطبرستان، ولما ولي عمر بن عبد العزيز عزله فحبسه بحلب، ولما مات عمر وثب غلمان يزيد فاستنقذوه، وسار إلى البصرة فغلب عليها، ونشب بينه وبين مسلمة بن عبد الملك حروب انتهت بقتله.

  • (٤)
    خالد بن عبد الله بن يزيد القسري (؟–١٢٦) أمير العراقين، الخطيب الجواد، ولي مكة سنة ٨٩ للوليد، ولي العراق لهشام إلى سنة ١٢٠، وكان يُرمى بالزندقة، قُتل بالحيرة.١٨
  • (٥)

    موسى بن نصير اللخمي (؟–٩٧) كان أبوه من أهل الحجاز، واتخذه معاوية قائد جيشه، ونشأ موسى في خدمة بني أمية، بعثه الوليد واليًا على إفريقية سنة ٨٨، واستطاع أن ينشر الإسلام في إفريقية، وفي زمنه تم للمسلمين فتح الأندلس.

  • (٦)

    طارق بن زياد (١٠٢) بربري أسلم على يد موسى بن نصير، اتخذه موسى أميرًا على طنجة سنة ٨٩، وعلى يديه تم فتح الأندلس. استدعاه الوليد إلى الشام فقصدها مع موسى سنة ٩٦، وخاتمة حياته مجهولة.

١  الفخري، ص١١٦.
٢  الطبري ٨: ٥٩، وابن الأثير ٤: ٢٠٠.
٣  ابن الأثير ٤: ٢٢٢.
٤  ابن الأثير ٤: ٢٢٢.
٥  ابن الأثير ٤: ٢٠٦.
٦  ابن الأثير ٤: ٢٠٩.
٧  الطبري ٨: ٩١.
٨  ابن الأثير ٤: ١٠٩، والطبري ٨: ٦٥.
٩  الطبري ٨: ٨٢، والوسائل، للسيوطي، ص٢٥.
١٠  ابن عساكر ١: ٢٠٠، وترجمة الأنام في محاسن الشام، للبدري، ص٣٢ وما بعدها.
١١  ابن عساكر: ١: ٢٠٢.
١٢  ابن عساكر ١: ٢٠٦.
١٣  نزهة الأنام في محاسن الشام، ص٤: ٦٠، وأوائل السيوطي، ص٣٧.
١٤  الطبري ٨: ٩٦، والفخري، ص٩٢.
١٥  خطط الشام، للمرحوم كرد علي ١: ١٥٣.
١٦  وفيات الأعيان وتهذيب التهذيب.
١٧  طبقات ابن سعد ٥: ٨٨.
١٨  الأغاني ١٩: ٥٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤