الفصل الحادي عشر

جيرتر

عاد مونتي نيوتن متثاقلًا إلى بيته؛ إذ كان مُتعبًا وغاضبًا، وفتح الباب بمفتاحه. حيث وجد الخادمَ مستلقيًا على أرضية القاعة وقد غطَّ في النوم، مُغطًّى بمعطفه السميك، فهزَّه بطرَفِ حذائه ليوقظه.

وزمجرَ قائلًا: «استيقظ». ثم سأل: «هل أتى أحد؟»

فنهض فريد، مرتبكًا بعض الشيء، يفرك عينَيه.

قال: «الرجل العجوز في غرفة الاستقبال»، فمضى سيده دون أن يتفوَّه بكلمة.

فتح مونتي الباب، حيث وجد كلَّ أنوار غرفة الاستقبال مُضاءة. ووجد الدكتور أوبيرزون قد سحب طاولةً إلى جوار المدفأة، وجلس أمامها بظهرٍ مستقيم، واضعًا أمامه رقعةَ شِطْرنج، مستغرقًا في التفكير في مسألةٍ ما. نظر إلى الزاوية الجديدة للحظة واستكمل تأمُّله لرقعة الشطرنج؛ ثم حرَّك قطعة …

عندها تنهَّد في ارتياح، وقال: «آخ!» وتابع: «كان ليسكينا مُخطئًا! من المحتمل أن يموت الملك بعد خمس حركات!»

ثم دفع قِطع الشطرنج لتقع بلا ترتيب، واستدار ليُصبح مواجهًا تمامًا لنيوتن.

وقال: «حسنًا، هل أنهيت هذه الأمور على نحو مُرضٍ؟»

فأجابه مونتي، بينما كان يفتح صندوقًا على طاولةٍ جانبية ليشرب الويسكي، قائلًا: «لقد أحضر القوات الاحتياطية». وتابع: «وأصابوا كوتشيني في فكِّه. ليس هناك شيء خطير.»

فوضع الدكتور أوبيرزون يدَيه النحيلتين على ركبتيه.

وقال: «لا بد من تأديب جيرتر. فمن الواضح أنه فقد أعصابه؛ وعندما يفقد المرءُ أعصابه يفقد أيضًا إحساسه بالتوقيت. وتوقيته … كم هو مؤسف! فالسيارة لم تصل؛ ورجال الشرطة البارعون التابعون لي لم يتخذوا مواضعهم … مؤسف!»

فنظر نيوتن من فوق كأسه، وقال: «كما أن الشرطة تتبعه؛ أظنك تعرف هذا، أليس كذلك؟»

فأومأ الدكتور أوبيرزون بالإيجاب.

وقال: «إن عملية تسليمه التي تجنَّبناها بمهارةٍ قيد الإنجاز الآن. لكن جيرتر عضوٌ جيد في العصابة ولا يمكننا خَسارته. لهذا جهزتُ له مَخبأً. فهو مفيد من نواحٍ عديدة.»

فسأله نيوتن: «إلى أين ذهب إذن؟»

فحرَّك الدكتور أوبيرزون حاجبيه المُنعقدَين لأعلى ولأسفل.

وقال: «مَن يدري؟» وتابع: «إن السيارة الصغيرة بحوزته. ربما ذهب إلى المنزل — وسوف يُحذِّره النور الأخضر في النافذة العُلوية ومن ثَم سيتحرَّك بحذر.»

توجَّه نيوتن إلى النافذة وراقب تشيستر سكوير الذي بدا في ضوء الفجر الرماديِّ كمدينة الأشباح. ثم رأى، خلال الضباب، شخصًا يتحرَّك ويمشي ببُطء في الاتجاه الجنوبي من الميدان. فقال ضاحكًا: «إنهم يُراقبون هذا المنزل.»

فسأله أوبيرزون: «أين آنستي؟» بينما يُحدِّق بتجهُّم في نار المدفأة.

فأجابه نيوتن قائلًا: «لا أعرف … ثَمة سيارة خرجَت من المرأب وتوقفَتْ بينما كان أحد رجالنا «يغلق» المدخل. ربما عادتْ إلى مزرعة هيفيتري، ويمكنك بيع مختبرك. فليس أمامنا الآن إلا طريقةٌ واحدة، وهي الطريقة الصعبة. ما زال أمامنا وقتٌ — وبوسعنا فعلُ الكثير في مدة ستة أسابيع. وسوف يأتي فيلا صباح اليوم — كم أتمنى لو أننا قد أخذنا ذلك التمثال من الشاحنة. فهذا قد يضع الشرطةَ على المسار الصحيح.»

فضمَّ الدكتور أوبيرزون شفتَيه وكأنه سيُطلق صافرة، لكنه لم يفعل مثل هذا العبث.

وقال بالضبط: «يُسعدني أنهم وجدوه». وتابع: «فهو بالنسبة إليهم مجرد أثر. فما الذي قد يعتقدونه، سوى أن باربرتون تعيسُ الحظ قد عثر بالصدفة على كنز مَحلي عتيق؟ لا، لا أخشى ذلك»، وهز رأسه. ثم استطرد قائلًا: «إن أكثر مَن أخشاه هو السيد جونسون لي والأمريكي، إيليا واشنطن.»

ثم وضع الدكتور أوبيرزون يده في جيب سُترته وأخرج منه رِزمةً ضئيلة من الخطابات. وقال: «بالنسبة إليَّ يصعب فَهمُ جونسون لي. فما علاقته بذلك الرجل الفظ كي يكتبَ له خطابات لطيفة؟»

فسأله مونتي: «كيف حصلت عليها؟»

فأجابه الدكتور أوبيرزون: «أخذها فيلا؛ كما كان قرارًا ذكيًّا منه أن يتركَ التمثال.»

وأعطى واحدًا من الخطابات إلى نيوتن. كان الخطاب مرسَلًا إلى عنوان «في انتظار وصوله، باستا ريستانت، موساميدس.» وقد كان الخطاب مكتوبًا بخطٍّ صِبياني، دائري على نحوٍ غريب. كما كانت هناك حقيقةٌ أخرى لافتة للنظر؛ وهي أن الخطاب كان مثقوبًا بعرض الصفحة على مسافات منتظمة، وفوق السطور التي صنعها هذا التثقيب كتب السيد جونسون لي:

«عزيزي بي»، ويتوالى الخِطاب: «لقد أمرتُ موظَّفي البنك أن يرسلوا إليك ٥٠٠ جنيه. آمُل أن تعينك وأن يتبقَّى ما يكفي لدفع أجرة العودة إلى الوطن. تأكَّدْ أنني لن أنطق بكلمة، وأنه لا أحد في المنزل يقرأ خطاباتك، طبعًا، سواي. قصتك رائعة وأنصحك بالعودة إلى الوطن ومقابلة الآنسة ليستر.

صديقك،
جونسون لي.»

وقد أرسلت الأموال إلى «راث هول، في الثالثَ عشر من يناير.»

قال الدكتور أوبيرزون: «حصلت عليها اليوم. لو رأيتها من قبل، لما جرى ما نحن فيه الآن من أحداث مؤسفة.»

ثم نظر إلى صديقه بتمعُّن. وقال: «أتوقَّع أنهم سيُمثلون عقَبة لنا»؛ وكان مونتي يعرف أنه يقصد رجال العدالة الثلاثة. وتابع قائلًا: «لكن تذكَّر، يا عزيزي نيوتن أنهم أيضًا زائلون؛ هم أيضًا زائلون.»

فقال نيوتن في حزن: «مثلما سنزول.»

فردَّ أوبيرزون: «تلك هي المسألة التي تَهُمني كثيرًا.»

لم يكن الدكتور أوبيرزون يمزح مطلقًا؛ إذ كان يتحدَّث بكل هدوء وثقة. ما جعل الرجل الآخر يُحدِّق به.

رغم كونه خافتًا، ظهر مصباحٌ أخضر واضحٌ في غرفة البرج الصغير من منزل الدكتور حين دخل في حيز مرمى البصر من المكان القبيح. لكنه، عندما رأى هذا التحذير، لم يتوقَّع أن يُقابل جيرتر في الممر. إذ كان الرجل قد بدَّل ملابسه الأنيقة وارتدى مجددًا الملابسَ الرثَّة المتسخة التي كان قد خلعها قبل ليلة واحدة.

فسأله الدكتور أوبيرزون: «هل عُدتَ، يا جيرتر؟»

فأجابه جيرتر: «نعم، سيدي الدكتور.»

فصاح الدكتور قائلًا: «إلى غرفة استقبالي!» وتقدَّمه في المسيرة.

تَبِعه جيرتر ووقف مُسنِدًا ظهره إلى الباب، مُنتصبًا رافعًا ذقنه، مُثبِّتًا عينيه البرَّاقتَين المتسائلتين فوق رأس سيده ببضعة إنشات.

فسأله الدكتور بينما بدَتِ السخافة على وجهه القبيح: «أخبرني الآن.»

فحكى جيرتر: «لقد شاهدتُ الرجل، يا سيدي الدكتور، وهاجمته، ثم انطفأت الأنوار وانبطحتُ أرضًا، متوقعًا أن يُطلق النار — أظنه قد اختطف السيدة الكريمة. لم أرَ ما حدث؛ إذ كانت هناك نخلةٌ تحول بيني وبينه. وعلى الفور عُدتُ إلى القاعة الكبرى، وسِرت في قاعة الرقص بين الناس. لقد كانوا خائفين للغاية.»

فسأله أوبيرزون: «وهل رأيتَهم؟»

فأجابه جيرتر قائلًا: «نعم، سيدي الدكتور». وتابع: «فليس من الصعب عليَّ أن أرى في الظلام. بعدها هُرِعت إلى المدخل الآخر، لكنهم كانوا قد رحلوا.»

فقال له الدكتور: «تعالَ إلى هنا.»

اتخذ الرجل خطوتين رسميتين نحو الدكتور، فصفعه أوبيرزون على وجهه براحة يده مرتين. إلا أنه لم تتحرَّك عضلة واحدة في وجه الرجل؛ وقف منتصبًا، بل وارتسمت على شفتيه نصفُ ابتسامة، وظلَّت عيناه تحدِّقان إلى الأمام دون حركة.

وقال أوبيرزون: «هاتان الصفعتان عقابٌ لك على سوء التوقيت يا جيرتر. هل رآك أحدٌ أثناء عودتك؟»

فأجابه جيرتر قائلًا: «كلا، سيدي الدكتور، لقد عُدتُ سيرًا على الأقدام.»

فسأله الدكتور: «هل رأيتَ الضوء؟»

فأجابه جيرتر: «نعم، سيدي الدكتور، وظننتُ أنه من الأفضل أن أكون هنا.»

فرد أوبيرزون قائلًا: «كنت محقًّا». وتابع: «سِر!»

دخل الغرفة الممنوعة، وأدار المفتاح، ودخل إلى أجواءٍ ذات حرارة بالغة. وقف جيرتر عند الباب مترقبًا. وسرعان ما أتى الدكتور، حاملًا تحت ذراعه صندوقًا طويلًا مُغطًّى بالجوخ الأخضر. أعطاه إلى جيرتر الذي ظلَّ منتظرًا، ودخل الغرفة، وبعد أن غاب بضع دقائق، عاد بصندوقٍ آخر، لكنه أكبر قليلًا.

وقال له: «سِر!»

فتبعه جيرتر خارج المنزل عبر «حديقة» عشبية، كريهة الرائحة باتجاه المصنع. بينما يتصاعدُ من القناة ضبابٌ أبيض يُغلف أرجاء المكان، ليغطي المصنع والأراضي.

قاد الدكتور الطريق وصولًا إلى الفجوة المستطيلة الشكل المصنوعة في الجدار حيث كان مُثبَّتًا فيها يومًا ما باب، وسلك الطريق المتعرِّج بين الدِّعامات المُسْودَّة والعوارض المُقوَّسة التي تُغطي الأرض. إذ لم تَجرِ بعد الحريق أيُّ محاولات لمحو آثاره إلا محاولةً وحيدة فاترة، كما كانت الأرض مغطَّاةً بارتفاع كاحل بقصاصاتٍ من القماش المتفحم. وبالقرب من الناحية الأخرى من المبنى، توقَّف أوبيرزون، ووضع صندوقه وأزاح الرماد بقدمه حتى أصبحت لديه رقعةٌ نظيفة مساحتها ثلاثة أقدام مربَّعة. ثم انحنى، وأمسك حَلْقة حديدية وجذبها، فظهر حجرٌ لوحي من دون مجهودٍ يُذكر؛ إذ كان متوازنًا بثقل مكافئ. ثم حمل الصندوق ثانيةً ونزل السُّلَّم الحجري، وتوقَّف لتشغيل النور.

لم تمسَّ النار سرداب المخزن. كانت هناك رفوفٌ لا تزال تحمل بالاتٍ مُغبرةً من البضائع القطنية. وقد كان أوبيرزون مُتعجِّلًا. حيث عبَر الأرضية الحجرية في خطوتَين واسعتَين، وجذب مقبض بابٍ آخر، وسار في الظلام، ثم وضع الصندوق على الأرض.

كانت الطاقة الكهربائية للمصنع، قديمًا، مُقسَّمة إلى دائرتين كهربائيتين منفصلتين، ولم يُؤثِّر الانفجار على الوصلة الكهربائية للسراديب تحديدًا.

وصل الرجلان الآن إلى غرفةٍ أصغر، مفروشةٍ بأثاث مريح. وكان جيرتر يعرف هذه الغرفة جيدًا، فلقد قضى فيها معظم الشهور الستة الأولى من مدةِ إقامته في إنجلترا. وكان الهواء يأتي إلى الغرفة من ثلاث شبكاتِ تهوية صغيرة بالقرب من السطح. كما كان هناك فرن، ومخزونٌ وفير من الوقود، مثلما يعرف جيرتر، في واحد من المخازن الثلاثة المفتوحة على السرداب.

قال أوبيرزون إلى جيرتر: «ستمكثُ هنا حتى أرسل لك». وتابع: «ربما الليلة بعد أن يكونوا قد أنهَوا بحثهم. هل معك مسدس؟»

فأجابه جيرتر: «نعم، سيدي الدكتور.»

ففتح أوبيرزون مخزنًا آخرَ وجَرَد مخزون الطعام، قائلًا: «الطعام، والماء، وأغطية النوم … كل ما يلزمك. قد آتيك الليلة — أو ربما مساءَ غد — مَن يدري؟ وسوف تشعل المدفأة على الفور.» مُشيرًا إلى الصندوقين المُغطَّيَين بالجوخ الأخضر، ثم قال: «عِمت صباحًا يا جيرتر.»

فردَّ جيرتر، قائلًا: «عِمت صباحًا، سيدي الدكتور.»

صعد أوبيرزون إلى المصنع، وأعاد الحجر اللوحي إلى مكانه ليُخفي المخبأ، وأعاد بقدمه الرمادَ الذي يُخفي أثره، وعَبَر الحديقة إلى بيته بعينَين حذِرَتين تجوبان الأرجاء. وكان قد دخل مكتبه للتوِّ، عندما أتت سيارة الشرطة الأولى ترتجُّ على طول الطريق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤