الفصل الثاني عشر

نظريات ليون

بعد التحريات، اكتشف المحقِّق المفتش ميدوز أنه، في الليلة السابقة في تمام الساعة الثامنة، زار رجلان باربرتون. وُصف الأول بأنه رجلٌ طويل القامة ذو مظهر أرستقراطي نوعًا ما. كان يلبس نظارة طبية داكنة ذاتَ إطار سميك. ظن مدير الفندق أنه ربما يكون مريضًا؛ نظرًا إلى أنه كان يمشي ممسكًا بعصًا. أما الرجل الثاني فبَدا كأنه خادمٌ بشكلٍ أو آخَر؛ نظرًا إلى أنه كان يتحدث مع الزائر بكل احترام.

قال المدير: «كلا، لم يذكر أيَّ اسم، يا سيد ميدوز». وتابع: «أخبرته بالحادث الأليم الذي وقع للسيد باربرتون، كان منزعجًا جدًّا لدرجة أنني لم أرغب في الضغط عليه بالسؤال.»

كان ميدوز في طريقه المتعرِّج إلى كورزون ستريت حين سمع ذلك، ووصل في الوقت المناسب لتناولِ وجبة الإفطار. كان خدمُ مانفريد يَعُدُّون إحدى غرائب هذا الرجل النبيل العادي أنه يتناول دومًا وجبةَ الإفطار مع كبير خدَمِه وسائقه. كان هذا الموضوع مجالًا للنقاش المبتذل في قاعة الخدم الصغيرة، ولم تَعُد تُثار أي تعليقات حين أجرى مانفريد اتصالًا هاتفيًّا بالطابق السفلي وطلب طبقًا آخر.

كان الثلاثيُّ في حالةٍ مِزاجية مبتهجة. وبدا ليون جونزاليس مشرقًا وفكاهيًّا على نحوٍ استثنائيٍّ، كما هو الحال دومًا بعد تلك الليلة التي قضاها.

قال ميدوز حين وُضع الطبق: «فتَّشنا منزل أوبيرزون رأسًا على عقب من القبو وحتى الغرفة العلوية المائلة.»

«وبالطبع، لم تَجِدوا شيئًا. هل عثرتم على جيرتر المتأنق؟»

«لم يكن موجودًا هناك. سيبقى الرجل على مسافة إذا عرَف أن هناك أمرًا قضائيًّا ضده. أشك أن ثمة إشارةً من نوعٍ ما. كان هناك ضوءٌ أخضر ساطع جدًّا في واحد من تلك الأبراج القوطية السخيفة.»

ردَّ مانفريد وهو يكبت تثاؤبه قائلًا: «عاد جيرتر مباشرة بعد منتصف الليل، وظل هناك حتى عودة أوبيرزون».

سأله المحقِّق المندهش قائلًا: «هل أنت متأكد؟»

أومأ ليون برأسه، ولمعت عيناه.

ثم قال: «بعد ذلك، خيَّم ضباب النهر وحجب الرؤية؛ ولكن أتخيَّل قطعًا أن السيد جيرتر ليس بعيدًا. هل رأيت رفيقه، فايفر؟»

أومأ ميدوز. وقال: «أجل، كان يُنظف الأحذية عندما وصلت.»

قال جونزاليس: «يا له من منظر خلاب!» وتابع: «أظن أنه في المرة التالية التي يُودَع فيها بالسجن سيكون معه خادمٌ خصوصي، ما لم يتغير النظام منذ أيامك، يا جورج؟»

ابتسم جورج مانفريد الذي شغل زنزانة المدانين، في سجن تشيلمسفورد.

قال جونزاليس وهو مستغرقٌ في التفكير: «إن جيرتر رجل مثير للاهتمام». وأضاف: «ينتابني شعورٌ بأنه سيُفلت من الإعدام. إذن، عجزت عن العثور عليه؟ أنا عثرتُ عليه ليلة أمس. أما بالنسبة إلى السيدة، التي كانت بمثابة عائقًا وهدفًا على حدٍّ سواء، لعلنا قد وضعنا حدًّا لأنشطته.» التقت عينه بعين ميدوز. فأردف قائلًا: «كان ينبغي لي أن أُسلِّمه إليك، بالطبع.»

قال المحقِّق بنبرة جافة: «قطعًا!»

«رجلٌ رائع، ولكن عصبي. هل ستلتقي بالسيد جونسون لي؟»

تساءل المحقِّق مندهشًا، نظرًا إلى أنه لم يُفصح بعدُ عن نيته للرجال الثلاثة: «ما الذي جعلك تقول ذلك؟»

قال ليون: «سيُفاجئك». وتابع: «أخبرني، يا سيد ميدوز؛ عندما فتَّشت أنت وجورج بدقة وعناية بالغةٍ حقيبةَ السيد باربرتون، هل وجدتما أي شيء يوحي بأنه إسكافي، مثلًا … أو عامل في تجليد الكتب؟»

«أظن أن في خطابه إلى شقيقته إشارةً إلى الكتب التي صنعها. لم أجد شيئًا محددًا باستثناء مثقابٍ للجلد وقطعةٍ خشبية مستطيلة مغطاة بالثقوب. في واقع الأمر، حين رأيتها، كانت أولُ فكرة خطرت على بالي، أنه يعيش نوعيةَ الحياة التي لا بد أنه اعتادها في البرِّية، ومن المفيد نوعًا ما أن يكون قادرًا على إصلاح حذائه. أما فكرة تجليد الكتب فهي فكرة جديدة.»

علَّق مانفريد قائلًا: «في رأيي أنه لم يُجلِّد كتابًا في حياته، بالمعنى الحرفي للكلمة؛ وكما قال ليون، ستجد جونسون لي رجلًا مدهشًا جدًّا.»

«هل تعرفه؟»

هزَّ مانفريد رأسه برزانة.

ثم قال: «كنت قد تحدثتُ إليه هاتفيًّا فقط». ثم أضاف: «عليك أن تحترس من السيد لي، يا ميدوز. ربما تعترض صديقتُنا الأفعى طريقَه وتلدغُه، وستفعل، إذا شعرت بأن ثمَّة شكوكًا حول ثقة باربرتون فيه.»

وضع المحقِّق سِكِّينه وشوكته.

وقال، وجزءٌ منه يشعر بالانزعاج، وجزءٌ آخر يشعر بالتسلية: «أتمنى أن تتوقَّفا عن التصرف بغموض». وتابع: «ماذا وراء هذه المهمة؟ تتحدثان عن الأفعى وكأن باستطاعتكما أن تضعا أيديَكما عليها.»

قالا في نفَسٍ واحد: «يمكننا ذلك.»

قال المحقِّق في تحدٍّ: «ومَن تكون؟»

ابتسم جونزاليس قائلًا: «السيد الدكتور.»

«أوبيرزون؟»

أومأ ليون برأسه.

«ظننتُ أنك لا بد قد اكتشفتَ هذا من خلال الربط بين جرائم القتل الثلاث الأصلية — وهي جرائم قتل مؤكَّدة. أولًا» ثم أخذ يعدُّ الأسماء على أصابعه، ويقول: «لدينا سمسار بورصة. كان هذا الرجل مُضاربًا ثريًّا يُموِّل أحيانًا صفقاتٍ مشكوكًا فيها للغاية. وقبل ستة أشهر من وفاته، سحب مبلغًا كبيرًا جدًّا من المال نقدًا. وفي صدفة غريبة، رأى موظفُ البنك، أثناء خروجه لتناول الغداء، عميلَه وأوبيرزون يستقلَّان سيارة أجرة، وحين مرَّا من جانبه رأى ظرفًا أزرقَ كبيرًا يدخل جيب أوبيرزون. عندما سُحب المبلغ، وُضع في ظرف أزرق. لقد موَّل السمسار الدكتور، وعندما فشلت الخُطة خَسر المال، ومن الطبيعي أن يطلب ردَّ المبلغ. لم يكن يثق في أوبيرزون مطلقًا؛ كان إيصال التسلُّم في جيبه، ولم يكن يذهب إلى أي مكان إلا إذا كان مسلَّحًا … لم تظهر تلك الحقيقة أثناء التحقيق، ولكن أنت تعرف أنها صحيحة.»

أومأ ميدوز برأسه.

«هدَّد أوبيرزون بفضيحةٍ له خلال اجتماعٍ عُقد في وينشستر ستريت، في يوم وفاته. في تلك الليلة عاد من مسرح أو من ناديه، وعُثر عليه ميتًا على عتبة الباب. ولم يُعثر معه على إيصال تسلُّم. ماذا بعد؟

رجل، مبتز سيئ السمعة، مشرَّد ومعدم، كان يسير في طريق بايزووتر، يبحث على الأرجح عن مصدرٍ سهلٍ للحصول على مال، حين رأى سيارة السمسار في ميدان أورم. فذهب متتبعًا احتمالًا بعيدًا للحصول على المال من خلال تسوُّل بضع عملات معدنية. رآه السائق. ولا بد أن المشرد، من جهة أخرى، قد رأى شيئًا آخر. وقضى ليلته التالية في روتون هاوس، وأخبر صديقًا له، كان معه في السجن، بأنه وقع على فرصةٍ ستُدِرُّ عليه مليون جنيه …»

ضحك ميدوز رغمًا عنه.

وقال: «من الواضح أن نظامَ التحقيقات الخاصَّ بكم أكثرُ دقةً من نظامنا!»

قال جورج في هدوء: «إنه تكميلي لنظامك». ثم أضاف: «أكمل، يا ليون.»

«إذن، ما الذي حدث لصديقنا اللص؟ من الواضح أنه رأى شخصًا في ميدان أورم؛ إما أنه يعرفه أو تتبَّعَه حتى وصل إلى منزله. وعلى مدار اليوم أو اليومين التاليَين، أخذ يتردد على أكشاك الهاتف العمومية، على الرغم من عدم التوصُّل إلى رقم محدَّد. وذهب إلى هايد بارك، من الواضح أنه كان تلبية لموعدٍ ما … ثم جاءت لدغة الأفعى!

ثَمة خطرٌ آخر هدَّد العصابة. إذ ما إن علِم موظفُ البنك، بموت عميله، حتى شعر بالاضطراب. لديَّ دليل بأنه تحدَّث إلى أوبيرزون عبر الهاتف. إذا كنت تتذكَّر، عند التحقُّق من شئون السمسار وُجد أنه شبهُ مفلس. لقد سُحب مبلغٌ كبير من البنك وسُدِّد إلى «س». شعر موظفُ البنك المحترم بالقلق حيال معرفته اليقينية بمن يكون السيد «س»؛ ولذا اتصل بأوبيرزون، ليسألَه على الأرجح عن سبب عدم إدلائه بالشهادة، وذكر ذلك في تحقيقات الشرطة. وفي اليوم الذي أجرى خلاله اتصالًا هاتفيًّا بالرجل الأفعى، تُوفي.»

كان المحقِّق يستمع في تعجُّبٍ صامت. وقال: «تبدو كأنها صفحة من رواية مثيرة، ومع ذلك فهي مترابطة بشكل جيد.»

قطع بويكارت الحديثَ بصوته العميق قائلًا: «إنها مترابطةٌ لأنها حقيقية». وتابع: «هذا هو أسلوبُ أوبيرزون طَوال حياته. إنه صاحبُ منطقٍ قوي، لا يوجد تصرفٌ منطقي في الدنيا كلِّها أكثر من تدمير أولئك الذين يُهددون سلامتك وحياتك.»

أبعدَ ميدوز طبقَه، ولم يتناول سوى نصفِ وجبة إفطاره فقط. وقال باقتضاب: «والدليل.»

قال ليون بسخرية: «ما الدليل الذي يمكنك أن تحصل عليه، يا عزيزي؟»

قال ميدوز في إصرار: «الدليل هو الأفعى». ثم أضاف: «أرِني كيف يُمكنه أن يُدرِّب الأفعى المميتة كي تهجم وتلدغ، مثلما فعل، عندما تكون الضحية تحت المراقبة الدقيقة، كما في حالة باربرتون، وسأصدِّقك.»

نظر ثلاثتُهم بعضهم إلى بعض وابتسَموا في آنٍ واحد. ثم علَّق ليون قائلًا: «ذات يوم سأريك». ثم أضاف: «قَطعًا، لقد روَّضوا أفعاهم! يُمكنها أن تتحرك بسرعةٍ بالغة لدرجةِ أن العين البشرية تعجز عن تتبُّعِها. ودائمًا ما تلدغ الأجزاءَ الأكثر حيوية، وفي أنسب الأوقات. لقد هاجمَتني الليلة الماضية، ولكنها لم تُصبني. والمرة القادمة التي ستُهاجمني فيها» كان يتحدَّث ببطءٍ وينظر إلى المحقِّق عبر الشقين الدقيقين لِجَفنَيه نصف المغلقين، وتابع قائلًا: «في المرة القادمة التي ستُهاجمني فيها، لن يُنقذها من يدي، لا سكوتلاند يارد من جهة، ولا عصابتها المسلحة المتوافقة من جهة أخرى!»

نهض بويكارت فجأة. سمعت أذناه اليقظتان رنةَ جرس، ونزل السُّلم دون ضجيج.

حكَّ ميدوز ذقنه في انفعالٍ قائلًا: «يبدو الأمر كلُّه بالنسبة إليَّ كأنه قصةُ مغامرات». وتابع: «أنا أُحدِّق في غلاف الكتاب، في حين أنتما تقرآن الصفحات. أفترض أيها الشيطانان أنكما تعرفان بداية القصة ونهايتها؟» أومأ ليون برأسه. فأردف ميدوز: «إذن، لماذا لا تُخبرانني؟»

قال ليون بكل بساطة: «لأنني أُقدِّر حياتك». وتابع: «ولأنني أتمنى — نحن جميعًا نتمنى — أن نُبقي اهتمام الأفعى مُنصبًّا علينا.»

عاد بويكارت في تلك اللحظة وأدخل رأسَه من شقِّ الباب.

وسألهم: «هل تَودُّون مقابلة السيد إيليا واشنطن؟» وأدركوا من خلال البريق في عينَيه أن السيد إيليا واشنطن جديرٌ بالمقابلة.

بعد ثانية أو ثانيتين، دخل رجلٌ طويل، عريض المنكبين ذو وجهٍ يميل إلى الحُمرة. كان يلبس نظارةً بلا ذراعَين وخلف عدستَيها العديمتَي الإطار كانت عيناه نابضتَين بالحياة وبشوشتين للغاية. كان يلبس اللون الأبيض من قمةِ رأسه حتى أخمص قدمَيه؛ كان رِباط العنق المنساب فوق القميص الحريري الناعم لونه أصفر برَّاق؛ والحزام على خَصْره قرمزي برَّاق أيضًا.

وقف يُحدق في المجموعة، متأبطًا قبعتَه الخفيفة المصنوعة من القش، واضعًا كلتا يدَيه الضخمتين في جيبَي سرواله.

حيَّاهم بصوتٍ عميق قائلًا: «سعيد بالتعرُّف عليكم، يا رفاق». وتابع: «أظن أن السيد باربرتون أخبرَكم عني. ذلك الرجل المسكين الضئيل! اسمعوا: كان رجلًا قويًّا بحق؛ ولكنه غامض بطريقةٍ ما. قالوا لي إنني قد أجد رئيس الشرطة هنا؛ هل كابتن ميدوز هنا؟»

قال المحقِّق: «سيدي، أنا ذلك الرجل.»

مدَّ واشنطن يده الضخمة وأمسك بيد المحقِّق بقبضةٍ من شأنها أن تَليق بالأفعى العاصرة.

«سعيدٌ بالتعرف عليكَ! اسمي إيليا واشنطن — من جمعية التاريخ الطبيعي، شيكاغو.»

قال بويكارت وهو يدفع كرسيًّا إلى الأمام: «اجلس، يا سيد واشنطن.»

«أود أن أُخبركم، أيها السادة، أن المدعوَّ باربرتون قد قُتل. هل تظنون أن الأفعى قد قتلَته؟ اسمعوا، إن لديَّ درايةً كبيرة بالأفاعي … لقد تربيتُ معها! وتربية الأفاعي هي هوايتي؛ فأنا أعرف أنواعها بداية من آكلات البيض وحتى أفاعي النمر — نوتيشيس سينتاتوس، والأفعى القطنية الفم، والأفعى النُحاسية الرأس، وأفعى المامبا المرجانية وأفعى الحفر — يا إلهي! الأفاعي مألوفة مثل الذباب. وسأخبركم يا سادة الآن، بأنه ليس هناك أفعى في هذا العالم أو العالم الآخر يمكنها أن تتسلقَ حاجزًا، وتلدغ رجلًا وتهرب رغم وجود شرطي في المكان يُراقبه.»

كان يُقلِّب ناظِرَيه من شخص لآخر؛ كانت طريقته أبوية تقريبًا.

قال في أسف: «أودُّ أن أُريَكم يا رفاق ما هو أسوأ من أفعى المامبا؛ ولكن حمْل الأفاعي في جيبك هو مخاطرة كبيرة؛ الأمر أشبهُ بمليونير يلبس قُرطًا من الألماس ليتباهى بأنه في إمكانه تحمُّل تكلفتِه. لقد أعجبني ذلك الرجلُ الضئيل؛ أشعر بالحزن الشديد لأنه تُوفي، ولكن إذا قال لكم أي رجل إن أفعى قد لدغته، توجَّهوا إليه، واضربوه في أنفه، وقولوا له «أيها الكاذب!»»

قرَع مانفريد الجرس قائلًا: «هلا تتناول بعض القهوة؟»

«بالتأكيد يسرُّني ذلك؛ لم أعتدْ مطلقًا على شرب الشاي. كما أنني أحاول الإقلاع عن الشراب حاليًّا؛ لقد شعرت بالخوف هناك في أعماق أنجولا …»

سأله ليون: «ما الذي كنت تفعله هناك؟»

ردَّ عليه بإيجاز قائلًا: «الأفاعي». وتابع: «أنا أُمثِّل منظمةً توفِّر عيِّنات لحدائق الحيوان والمتاحف. كنت أبحث عن الأفعى الطائرة … ليس هناك شيء كهذا، رغم أن الأهالي يقولون إن هناك شيئًا كهذا. توصَّلت إلى كوبرا جديدة وأكثر لطفًا — وهي من نوع أفعى الحفر — ولكنها ليست ما أبحث عنه!»

حكَّ رأسه، ناشرًا جوًّا من الحيرة العِلمية في الغرفة. مال قلب ليون إليه.

لقد التقى باربرتون مصادفةً. واعترف بلا خجل أنه ذهب إلى قريةٍ داخلية بحثًا عن مُتعة العزلة الحقيقية، وبالعودة إلى هذه الدرجة من الحضارة التي تُمثِّلها موساميدس، وجد مجموعةً من القبائل البرتغالية تجلس حول النيران التي كانت تُشوى فيها قدم الرجل.

«لم أكن أعرف مَن يكون … ظننتُه مستكشفًا. كان واحدًا من أولئك الذين تُقابلهم على طول ذلك الساحل. لقد قابلت أمثاله في كل مكان تقريبًا؛ حتى أقصى الجنوب عند ميناء بورت نوتوش. في أنجولا أعداد كبيرة، يصبحون أصليين في النهاية.»

«ألا يمكنك أن تخبرنا بشيء عن باربرتون؟»

هزَّ السيد إيليا واشنطن رأسه نافيًا.

«كلا، يا سيدي، أعرفه بقدرِ معرفتي بكم. لقد أثار فضولي حين عرَفت السبب وراءَ التعذيب؛ لقد رفض الإفصاح عن مكانها.»

سأله مانفريد بسرعة: «مكان ماذا؟» فتفاجأ واشنطن.

«عجبًا! الكتابة التي أرادوا الحصول عليها. ظننت أنه ربما أخبركم. قال إنه أتى إليكم على الفور ليُفصح عن كلِّ ما يخصُّ ذلك الأمر. كان خطابًا قد وجده في صندوق صفيح … كان هذا كل ما قاله.»

نظر بعضهم إلى بعض.

أضاف السيد واشنطن، حين رأى شفتي جونزاليس تتحركان، قائلًا: «لا أعرف شيئًا أكثر من ذلك». وتابع: «إنه مجرد خطاب. لم يُخبرني قط مَن المرسل، وما السبب، وما فحواه. انطباعي الأول أنه كان يعبث مع النساء هنا، ولكن قوانين الطلاق واضحةٌ للغاية ولن يعجزوا عن التوصل إلى دليل بتلك الطريقة. لا يحتاج الرجل إلى أيِّ وثائق لكي يتخلصَ من زوجته. وفي رأيي أنكم يا رفاق تتساءلون عن سبب قدومي.» رفع السيد واشنطن فنجان قهوته الذي يتصاعد منه البخار؛ نظرًا إلى اقترابه من درجة الغليان، وشربه في رشفةٍ واحدة. ثم أردف قائلًا: «هذا جيد، أفضل مذاق قهوة حصلت عليه منذ أن غادرت الوطن.»

مسح شفتَيه بمنديل حريري كبير وزاهٍ.

«لقد جئت، يا سيدي؛ لأن لديَّ فكرةً جدية جدًّا بأنني سأكون مفيدًا لأي شخص يصطاد أفاعيَ في هذه القرية الصغيرة.»

قال مانفريد بهدوء: «يا لها من مهنة خطيرة، أليس كذلك؟»

أومأ واشنطن برأسه.

ثم قال: «هي كذلك بالنسبة إليك، لا بالنسبة إليَّ». ثم أضاف: «أنا محصَّن ضد الأفاعي.»

شمَّر كمَّه، كان ساعده مشوَّهًا ومصابًا بجروح قديمة ناتجةٍ عن عضَّات الأفاعي.

قال باقتضاب: «الأفاعي». ثم أضاف: «هذه لدغة كوبرا»، وأشار متفاخرًا. ثم استطردَ قائلًا: «عندما لدغَتني تلك الأفعى، لم ينتظر أبنائي أيَّ شيء، بل بدَءوا في تقسيم أدواتي. وكأنهم يُعيِّنون أنفسهم كمجلسٍ للمنفذين والورثة المشتركين لعقارات الأسرة.»

قال جونزاليس: «ولكنك كنتَ مريضًا جدًّا، أليس كذلك؟»

هزَّ السيد واشنطن رأسه نافيًا.

«كلا، يا سيدي، ليس أكثرَ من لدغة نحلة، وليس أكثر من مجرد اللدغة الأولى من دبور. يستطيع بعضُ الناس تناول الزرنيخ، والبعض يُمكنهم إعداد وجبة مورفين تكفي لتدمير مقاطعة بأكملها. أنا محصَّن ضد الأفاعي … تعرضت للَّدغ منذ أن كنتُ في الخامسة من عمري.»

مال نحوَهم، وفجأةً اكتسى وجهُه المرح بالصرامة ثم قال: «أنا الرجل الذي تريدونه.»

قال مانفريد بتروٍّ: «أظن أنك كذلك.»

«نظرًا إلى أن هذه الأفعى العتيقةَ لم تنتهِ من اللدغ. هناك ابتزازٌ في مكانٍ ما، وأريد أن أعثر عليه. ولكن أولًا، أريد أن أُبرئ الأفعى. وأيُّ شخص يقول إن الأفعى بطبيعتها وحشيةٌ لا يفهم شيئًا. الأفاعي خَجولة، وهادئة، ومحترمة، ولا ترغب في إثارة المشكلات مع أحد. إذا رأتك الأفعى قادمًا، فإنها تنسحبُ بطبيعة الحال إلى جُحرها. وحين تتجوَّل الأفعى الأمُّ مع أسرتها، فإنها تخشى بطبيعتها أن يطأَ أحدٌ صغارها، ولكنها لطيفة، وإذا أعطيتها الوقتَ، فإنها ستحملهم وتُدخلهم الجحر حيث لا يمكن لرجلٍ أبيض أن يطأ المكان بقدمه.»

نظر إليه ليون نظرةً تأملية.

قال وكأنه يتحدث إلى نفسه: «من الغريب أن تظنَّ أنك ستُصبح الوحيدَ بيننا الذي سيبقى على قيد الحياة هذا الأسبوع!»

شعر ميدوز الذي لا ينصدم بسهولة، بقُشَعريرة باردة تسري عبر عموده الفقري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤