الفصل السادس عشر

راث هول

في إحدى الغرف المحظورة الممتلئة بالأجهزة التي جمعَها دكتور أوبيرزون بغرض متعته ومنفعته، كان هناك فرنٌ كهربائي صغير يُجري من خلاله العديدَ من تجارِبه المثيرة. وكان هناك بعضُ مكونات الأدوية المعروفة، التي يرغب في التخلُّص منها. كان الدكتور أوبيرزون شديدَ الإيمان بالكثير من الأمور التي قد يرفضها أيُّ كيميائي معاصر لكونها أمورًا خيالية.

فكان يؤمن بحجَر الفلاسفة، وبتحويل المعادن الرخيصة إلى أخرى نفيسة؛ صحيحٌ أنه صنع ماسات، عديمة القيمة من الناحية التِّجارية؛ ولكن كان أمَلُه الأسمى هو العثورَ على أحد العقاقير التي تصلح لتكون إكسيرًا ناجعًا يُطيل الحياة لتتجاوز المتوسط الطبيعي لعمر الإنسان. وتُشبه إمكانيةُ العثور عليه إمكانيةَ العثور على عنصر الراديوم في تركيبة المعدن الأسود البيتشبليند. وهو ما لا يمكن اكتشافُه إلا على يدِ أحد علماء الماورائيات، ولا يستطيع تحقيقه سوى كيميائيٍّ يتحلى بالصبر. فقد حرَص على تكريس جُلِّ أوقات فراغه للعمل على المهمة التي أصبحت مصدرَ شغفٍ له؛ وكان منشغلًا في إحدى تَجاربه حينما دقَّ جرس الهاتف وأعاده إلى غرفة مكتبه. وأنصت للمتحدث، وظهر على وجهه ملامحُ التأثر الشديد، على وقع الكارثة التي أخبرَه بها مونتي نيوتن. «هل لا يزال الحريقُ مستمرًّا؟ ألا يوجد في لندن سياراتٌ لإطفاء الحرائق؟»

سأل مونتي للمرة الثانية: «هل هناك تأمينٌ على المبنى أم لا؟»

صمتَ الدكتور أوبيرزون متأملًا. وقال: «ليس هناك تأمين». وتابع: «ولكن ليس هذا بالأمر المهمِّ الآن مقارنةً بالأمر الجلَل الذي ينتظرنا، ولن أنشغلَ بالتفكير فيه.»

قال نيوتن بغضب: «كان الحريقُ متعمدًا». وأضاف: «رجال الإطفاء يؤكِّدون ذلك. هؤلاء الأوباش الملاعين ينتقمون منَّا بسببِ ما حدث عصْرَ ذلك اليوم.»

أجاب الدكتور أوبيرزون ببرود: «أنا لا أعلم شيئًا عمَّا حدث عصرَ هذا اليوم. وأنت أيضًا لا تعلم شيئًا. كانت حادثةً استهجنَّاها جميعًا. أما بالنسبة إلى هذا الرجل فسنرى.»

أغلق سماعة الهاتف بحذرٍ شديد، وعبَر الممر، وهبط السلالمَ المظلمةَ الشديدةَ الانحدار، ثم توجَّه إلى مطبخ الطابَق السفلي. وقبل أن يفتح الباب سمع أصواتًا غاضبة، ووقف لحظةً ليستبينَ المشهد، وهو يشعر بالرضا التام. كانت الغرفة فارغة تمامًا إلا من رجلَين. كان الخدم يستخدمون المطبخَ الفعلي الموجودَ في الجزء الأمامي من المنزل، أما هذا المكان فلم يزِد عن كونه غرفةً لغسيل الأطباق. كان جيرتر يقف عند أحد طرَفَي طاولة اللعب، بوجهٍ شاحب كالموتى، وعينَين مستديرتين تُشِعَّان غضبًا. وعلى الطرَف الآخر، وقف البولندي الروسي، البدينُ القصير القامة، بوجهٍ شديد الشحوب، وعينَين منتفختين؛ وبدَت على ملامحه وشاربه الصغير ولحيته ملامحُ الغضب. وقد تناثرت أوراق اللعب فوق الأرض والطاولة، ففهم السيد الدكتور أن هذا هو الشجار المتكرر المعتادُ بينهما.

قال جيرتر بلهجة غاضبة: «أيها الكلب اللعين!» وتابع: «رأيتك وأنت تُخفي المَلك بكفِّك في أثناء اللعب. أيها اللص السارق للأعمى …»

«أيها الكلب الألماني! إنك …»

تحدَّث كلاهما بالألمانية. ثم لمح الدكتور يد جيرتر وهي تتخفَّى وتلتقط شيئًا.

فناداه قائلًا: «جيرتر، اذهب إلى غرفتي … بالخطوة السريعة!» واستدار الآخر لينظر نحوه.

ودون أن يتفوَّه بكلمة، تحرَّكَ الرجل أمامه، وبقي الدكتور مع الروسيِّ الذي يلهث غاضبًا.

وخاطب الدكتور بصوتٍ يرتعد غضبًا: «سيدي الدكتور، لا يمكنني تحمُّلُ جيرتر هذا!» وتابع: «أُفضِّل العيش برفقة خنزير على العيش مع هذا الرجل؛ فهو لا يُصبح في حالته الطبيعية إلا وهو تحت تأثير المخدرات.»

صاح أوبيرزون قائلًا: «كفى!» وأشار إلى الكرسي. وأضاف: «فلتنتظرني حتى أعود.»

وعندما عاد إلى غرفته، وجد جيرتر يقف في انتباه.

تحدَّث إلى جيرتر بلطف وهو يربِّت على كتفه، قائلًا: «الآن، يا جيرتر، لا بد أن تنتهيَ من أمر المدعو جونزاليس. هل يسعني أن أترك رجلي المفضَّل جيرتر مختبئًا هكذا مثلما تختبئ الديدان تحت الأرض؟ كلا، لن أسمح بحدوث ذلك. سأُرسلك الليلةَ إلى هذا الرجل، وأنا أعلم مدى مهارتك فلا يُمكنك أن تفشل في هذه المهمة. لقد ضربَك بالسوط، يا جيرتر … قيَّدك وضربك بقسوة … لا تنسَ ذلك أيها الشجاع … لقد ضربَك حتى أدماك. والآن ستُقابل الرجل مرةً أخرى. سترتدي ثيابًا ملائمة». وتابع: «كالتي يرتديها موظَّفو المدينة. وستُراقبه بطريقتك البارعة، وستقتله، لقد منحتُك الإذن بفعل ذلك.»

«أجل، سيدي الدكتور.»

واستدار بخطوةٍ عسكرية وغادر الغرفة. انتظر الدكتور حتى سمعه يصعد السلَّم ثم استدعى فايفر. أتى الرجل متجهِّمًا. صحيحٌ أنه يفتقر إلى الانضباط العسكري الذي يتمتع به جيرتر؛ ولكن كان أوبيرزون يعلم أنه أكثر الرجلين دهاءً ويقظة.

قال: «فايفر، لقد علمت أنك مُعرَّض لخطرٍ ما. الشرطة ترغب في إعادتك إلى وارسو، حيث وقعَت بعض الأمور الشنيعة، كما تعلم جيدًا.» وخفَّض صوته، وتابع قائلًا: «ولقد أخبَروني أن أحد الأصدقاء سيَسعَد لرؤيتك تذهبُ إلى هناك، ألا تُوافقني؟»

لم يرفع الرجل عينَيه العابستَين عن الأرض، ولم يَرُد، ولو بإيماءةٍ أو إشارةٍ توحي بأنه سمِع ما قاله الرجل العجوز.

«سيرحل جيرتر غدًا؛ إما لإنجاز مهمتنا، وإما للتحدث سرًّا إلى أصدقائه في الشرطة … مَن يدري؟ لديه مهمةٌ ليُنجزها؛ دعه يُنجزها، يا فايفر. سيكون جميع رجالي موجودين في مكانٍ يُدعى برايتلينجسي. أنت أيضًا ستذهب. ألن يسرقَ جيرتر رجلًا أعمى؟ حسنًا! ستفعل أنت أيضًا. أما بالنسبة إلى جيرتر، فأنا لا أتمنى عودته. لقد سئمته؛ إنه مجنون. جميع الرجال الذين يستنشقون ذلك المسحوقَ الأبيض ليسوا إلا مجانينَ … أليس كذلك، يا فايفر؟»

ظلَّ الرجل المرتبك على صمته.

«اتركه ليُنهيَ عمله، ولا تتدخَّل، إلى أن … يُنجز مهمته.»

نظر إليه فايفر الآن، وبدَت ملامح السخرية على وجهه.

وقال: «إن عاد هو، فلن أعود أنا». وتابع: «هذا الرجل يُخيفني. أتت الشرطةُ إلى هنا مرتين، لا بل ثلاث مرات … تذكَّر تلك المرأة. إنه رجل خطير، يا سيدي الدكتور. لقد أخبرتك بذلك منذ اليوم الذي أحضرته فيه إلى هنا.»

قال الدكتور بلُطف: «بإمكانه أن يتنكَّر ويتظاهر بكونه رجلًا نبيلًا من رواد نوادي النبلاء.»

تأفَّف الآخر بازدراء قائلًا: «أف!» وأضاف: «أليس ممثلًا يُجيد التلونَ والتصنُّع وفعل أي شيء مقابل حصد الكثير من الأموال كلَّ أسبوع؟»

غمغمَ الدكتور قائلًا: «سأرتاح إن لم يَعُد». وتابع: «ولكن مِن الخطأ أن نتركَه ونسمحَ لهؤلاء الرجال الماكرين بالتدخل في شئوننا.»

لم يقُل فايفر شيئًا؛ لقد فهم تعليماته؛ ولم يكن هناك ما يُقال. ثم تساءل قائلًا: «متى سيذهب؟»

«صباح الغد، قبل طلوع ضوء النهار. ستراه، بالتأكيد.»

قال شيئًا بنبرةٍ خافتة، لم يسمعه إلا فايفر. ولم يستطِع الرجلُ الواقفُ على الباب ليسترقَ السمع، مرتديًا جوربه فقط دون حذائه، أن يسمع إلا كلمتين فقط. ابتسم جيرتر ابتسامةً واسعة في هذا الظلام، وأشرقت عيناه ببريقٍ لامع. وسمع رفيقه يتحرك نحو الباب، فأسرع يصعد السلَّم بلا صوت.

كانت راث هول مبنًى أبيضَ ضخمًا كثيرَ الممرات، ذا طابَقَين، يقع وسط حديقةٍ صغيرة، كثيفةِ الأشجار للحد الذي جعله يبدو غيرَ مرئي من الطريق؛ ونظرًا إلى أن المدخلَ الرئيسيَّ للمكان كان بوابةً عادية الشكل جدًّا، دون وجود بيت حراسة أو مَن يقف خلف البوابة، كاد جونزاليس يتخطَّى المكان، لولا أن تعرَّف على الرجل الجالس فوق الجدار المتحطم الذي نمَتْ فوقه الطحالب، والذي قفز لأسفل بينما يوقف ليون سيارته.

«السيد ميدوز في المنزل، يا سيدي، وقال إنه في انتظارك.»

سأله جونزاليس، وهو يتراجع للخلف: «وأين هذا المنزل بحق السماء؟»

فتح المحقِّق البوابة على مِصراعَيها إجابةً عن السؤال، وانطلق ليون بالسيارة في طريق متعرج وسط الأشجار، وعندما اقترب تعرَّف على الطريقِ غيرِ الممهَّد المفروش بالحصى الذي قطعه من قبل، ورأى أيضًا آثارَ السيارات على الأرض الناعمة. وصل في اللحظة التي كان السيد جونسون لي يصطحب ضيفَيه لتناول العشاء، وبدا ميدوز سعيدًا برؤيته. استأذن، وأخذ ليون جانبًا إلى الرَّدهة، حيث لا يستطيع أحد سماعهما.

وقال: «لقد تلقَّيت رسالتك». وتابع: «لم يحدث أيُّ شيء غير مألوفٍ بخلاف تلقِّي الخدم دعوةً لحضور حفلٍ موسيقيٍّ كبير في برايتلينجسي. هل توقعتَ ذلك؟»

أومأ ليون برأسه.

«أجل؛ آمُل أن يدعَهم السيد لي يذهبون. من الأفضل أن يظَلُّوا بعيدًا عن الأمر. خطة بسيطة … ولكن أوبيرزون يفعل هذه الأمور. هل حدث شيء آخر؟»

«لا شيء. سوى وجود شخصَين غريبين.»

«هل أطلعك على الرسائل التي تلقَّاها من باربرتون؟»

واندهش عندما أجابه المفتش بالإيجاب.

«أجل، ولكني أراها أصعبَ من اليونانية. فهي ليست إلا نقوشًا صغيرة على ورقٍ بُني سميك. إنه يحتفظ بها في خِزانته، قرأ لي بعضها، ولم أجد فيها شيئًا مفيدًا.»

سأل ليون بقلق: «ولكن ماذا عن الحروف التي كُتبت بها الرسائل؟» وتابع: «تلك التي كان يُرسلها السيد لي ردًّا على رسائله، ولكن بالمناسبة هل تعلم أن السيد لي كتب جميعَ رسائله بطريقة الحروف البارزة؟»

أومأ المحقِّق برأسه قائلًا: «لقد رأيت الورقة». وأضاف: «إلا أنني حينما سألته عن ذلك، بدا حريصًا ألَّا يتحدث إلا في حضور محاميه الذي سيأتي مساءً. في الحقيقة، كان من المفترض به أن يكون هنا، بحلول وقت العشاء.»

اتجها معًا إلى غرفة الطعام. كان الرجل الأعمى ينتظر بصبرٍ على رأس الطاولة، واعتذر ليون وجلس في المكان المخصَّص له. جلس وظهره إلى الحائط، في مواجهة إحدى النوافذ الثلاث الطويلة المطلَّة على الحديقة. كانت ليلةً دافئة، والستائر مفتوحة، وكذلك النافذة الوسطى التي كانت في مواجهته. فأشار إلى السيد واشنطن الجالسِ أمامه ليتنحَّى قليلًا، وأدرك الأمريكي أن الآخر يودُّ مشاهدة الحديقة دون حائل.

مال السيد لي إلى الأمام، مخاطبًا جميع الجلوس على الطاولة، وقال بابتسامة بسيطة: «هل ترغبون في إغلاق النافذة؟» وتابع: «أعرف أنها مفتوحة لأنني مَن فتحَها؛ فأنا أعشق الهواء الطلق.»

تمتموا معلِنين موافقتهم على تركها، ثم واصلوا تناول الوجبة دون وقوع أي حدث عارض. كان السيد واشنطن واحدًا من أولئك الأشخاص الذين يُجيدون التكيُّف مع أي بيئة يجدون أنفسهم فيها. بدا وكأنه في منزله تمامًا لا في راث هول وأنه وُلد وترعرع في هذا الحي. ولكنه، امتلك دافعًا آخرَ جعله مبتهجًا، وهو عثوره هذا الصباحَ على أفعى نادرةٍ وهو يتجول في الغابة، وقضى عشر دقائق في شرح أوجُه الاختلاف بينها وبين أي أفعى إنجليزية أخرى.

سأل ميدوز بعصبية: «هل ماتت؟»

أجابه السيد واشنطن بلهجة ساخطة: «أقتلها؟» وأضاف: «ولِمَ أفعل ذلك؟ لقد رأيت الكثير من اليَمام في الحديقة هذا الصباح، هل كان يجدر بي قتلهم؟ بالطبع، لا يا سيدي! فأنا لا أُكِنُّ مثل هذه المشاعر البغيضة تجاه الأفاعي. أنا مؤمنٌ بأن الله أرسل الأفاعي إلى هذ العالم لسببٍ آخر غير ملاحقتها وقتلها على يد كلِّ مَن يراها. لقد أرسلتها اليوم بالقطار إلى صديق لي يعمل في حدائق الحيوان. سيرعاها حتى أصبح مستعدًّا لإعادتها إلى المنزل.»

تنهَّد ميدوز طويلًا بارتياح.

وقال: «جيد، ما دامت ليست في جيبك.»

«هل تُمانع ذلك؟»

على الفور، علا صوتُ ليون وهو يشير إلى السيد واشنطن للتنحِّي قليلًا جهةَ اليسار، وعندما حرَّك الرجلُ الضخم كرسيَّه، أومأ ليون برأسه ليشكره. كانت عيناه مثبتةً على النافذة والعشب المظلم. ولم يبعد ناظرَيه ولو للحظة.

قال السيد لي: «هذا أمرٌ غير معتاد بالنسبة إلى السيد بول، محاميَّ». وأضاف: «لقد وعد بكل تأكيد أنه سيأتي إلى راث هول بحلول الساعة السابعة، كم الساعة الآن؟»

نظر ميدوز في ساعته.

وقال: «إنها الثامنة والنصف.» ولاحظ امتقاع وجه الأعمى مالك راث هول.

«هذا غريب! هل تأذنون لي …»

لامستْ قدمُه جرسًا أسفلَ الطاولة، ودخل خادمه الشخصي.

«هل يمكنك الاتصالُ بمنزل السيد بول لترى ما إذا كان قد غادر أم لا؟»

عاد الخادم بعد قليل.

«أجل يا سيدي، لقد غادر السيد بول منزله بالسيارة في السادسة والنصف.»

تراجع السيد جونسون لي في مقعده.

«السادسة والنصف؟! كان من المفترض به أن يصل الآن.»

«كم يبعد منزلُه عن هنا؟»

«حوالي خمسة عشر ميلًا. أظن أنه وصل من لندن متأخرًا قليلًا. هذا غيرُ معتاد.»

قال ليون، دون أن يُغيِّر موضع نظره الثابت على النافذة: «ربما واجه مشكلةً مع إطار سيارته».

«كان بإمكانه الاتصالُ هاتفيًّا.»

سأله جونزاليس: «هل هناك مَن علم بقدومه — أي شخص بخلاف أفراد منزلك؟»

تردَّد الرجل الضرير.

«نعم، لقد ذكرتُ الأمر في مكتب البريد هذا الصباح. ذهبتُ لتسلُّم رسائلي، ووجدت أن الرسالة التي كتبتها إلى السيد بول عادت بسبب خطأٍ مني. أخبرتُ مدير مكتب البريد أنه قادمٌ هذا المساء، وأنه لم يَعُد هناك حاجةٌ إلى إرسالها.»

«هل كنتَ موجودًا في الجزء العمومي لمكتب البريد؟»

«أعتقد ذلك.»

«ألم تقُل شيئًا آخرَ يا سيد لي … أي شيء يخصُّ الغرضَ من الزيارة؟»

تردَّد مضيفه مرةً أخرى. وقال: «لا أدري. أخشى أنني فعلتُ ذلك.» ثم اعترف قائلًا: «أتذكَّر أنني أخبرتُ مدير مكتب البريد بأنني سوف أتحدَّث مع السيد بول عن باربرتون المسكين؛ فالسيد باربرتون كان مشهورًا في هذا الحي.»

قال ليون: «هذا لا يُبشِّر بخير بتاتًا.»

كان يُفكِّر في أمرَين في الوقتِ ذاتِه: الأول هو مكان المحامي المفقود، وأما الأمر الثاني فكان الساترَ الرائع الذي يُوفِّره الجدار بين النافذة والأرضية لأي شخص قد يتسلل بعيدًا عن الأنظار لحين عودته فجأةً لإرسال الأفعى في مهمتها المميتة.

«بالمناسبة، كم عدد الرجال الذين أحضرتهم لحراسة الأرض المحيطة بالمنزل، يا ميدوز؟»

«رجلٌ واحد، ولكنه لا يحرس الأرضَ حول المنزل، وإنما في الخارج على الطريق. وأدخله في الليل، أو وقتَ المغيب، للقيام بدوريات داخل الأرض المحيطة بالمنزل، وهو مسلَّح.» ذكر ذلك بطريقةٍ ذاتِ مغزًى مهم. فالشرطي الإنجليزي المسلح يُعد ظاهرةً نادرة الحدوث لم يشهَدْها سوى قلة.

قال ليون: «هذا يعني امتلاكَه مسدسًا لم يُطلقه إلا عند التدرُّب على هدف». وتابع: «معذرة … أعتقد أنني سمعت صوت سيارة.»

نهض من على الطاولة في هدوء، وذهب خلف السيد لي، واندفع نحو النافذة، ونظر إلى الخارج. كان هناك حوضٌ من الزهور بالقرب من الجدار، وخلفه ممرٌّ عريض من الحصى. وبين الحصى والزهور كان هناك شريطٌ عُشبي عريض. يمتد الممرُّ نحو خمسين قدمًا يمينًا، قبل أن يتغير مساره أسفلَ مجموعة من الورود المتسلِّقة. إلى اليسار، امتد لأقلَّ من عشرة أقدام، ومن هذه النقطة كان هناك مسارٌ مُوازٍ إلى جانب المنزل يقطع الممر.

سأله لي: «هل سمعتها؟»

«كلا، يا سيدي، كنت مخطئًا.»

أدخل ليون يده في جيبه الجانبي، وأخرج حَفنةً مما يُشبه الشموع الصغيرة ملفوفة في ورق ملون. ولم يُلاحظه أحد وهو يُبعثرها يمينًا ويسارًا باستثناءِ ميدوز، ولكنه كان شديدَ الحذر فلم يسأله عن السبب، لاحظ ليون علاماتِ التساؤل على ملامحه وهو يعود إلى مقعده، ولكنه تعمَّد ألا يُفصح عن شيء. وبعد ذلك، تابع تناوُل عشائه ولم يُلقِ إلا نظرةً عارضة على النافذة.

قال السيد لي: «أنا لا أعتمد كليًّا على مشورة محامِيَّ». وأضاف: «لقد أرسلت برقية إلى لشبونة لأطلب من الدكتور بينتو كايو المجيءَ إلى إنجلترا، ولعله أيضًا أفضل من بول، على الرغم من …» قاطعه دخول الخادم الشخصي في هذه اللحظة.

«سيدي، اتصلت السيدة بول للتو. تعرَّض زوجها لحادث سيئ؛ اصطدمَت سيارته بجذع شجرة كان ملقًى على الطريق قُرب لاولي. كان على الجانب الآخر من المنعطف، ولم يرَه إلا بعد فوات الأوان.»

«هل إصابته خطيرة؟»

«كلا، يا سيدي، لكنه في مستشفى الكوخ. تقول السيدة بول إنه يستطيع العودة إلى المنزل.»

جلس الرجل الأعمى مشدوهًا. وكان أولَ المتحدثين فقال: «يا له من حدث مروع!» قال ليون بابتهاج: «السيد بول محظوظ. خشيتُ أن يُواجه مصيرًا أسوأ من ذلك …»

ومن مكانٍ خارج النافذة أتى صوت «فرقعة!» هذا الصوت الذي تُصدره مفرقعات الكريسماس. نهض ليون من على الطاولة، وسار سريعًا باتجاه النافذة وقفز إلى الخارج. وعندما اصطدَم بالأرض، داس إحدى حلوى البونبون الصغيرة التي نثَرها فانسحقَت تحت قدمَيه.

لم يلمح أحدًا. ركض سريعًا فوق الأرض العُشبية، وأبطأَ في سيره عندما وصل إلى نهاية الجدار، ثم استدار عائدًا، وشهَر سلاحه بقوة. ولكن لم يجد أحدًا. كان أمامه سياجٌ مربعٌ من النباتات، به فتحة. وسمع صوت طقطقة صادرةٍ من الخلف، وخمَّن أنه ميدوز، وانضم إليه المحقِّقُ في الحال. وضع ليون إصبعه فوق شفتيه مشيرًا إليه بالتزام الصمت، وقفز عبر الطريق نحو العشب على الجانب الآخَر، واختبأ خلف شجرةٍ حتى يتمكنَ من الرؤية عبر الفتحة في السياج المربَّع. وخلفه كان هناك حديقةُ ورود، تنمو فيها مجموعةٌ من الزهور الوردية والحمراء والذهبية اللون.

أدخل ليون يده في جيبه وأخرج أسطوانةً سوداء، ووضعها على فوهة مسدسه، دون أن يرفع عينَيه عن فتحة السياج. سمع ميدوز دويَّ انفجار خافتًا قبل أن يراه شاهرًا مسدسه. تناثرت وُريقات الأشجار والأغصان، وعلا وقعُ خُطًى متسارعة. اندفع ليون عبر الفتحة في الوقت المناسب ليرى رجلًا ينسلُّ بين الزروع.

«طاخ!»

أصابت الرصاصة الشجرة على بُعدٍ لا يتجاوز مسافة قدم من الهارب.

قال ليون: «هكذا تم الأمر!» ونزع كاتم الصوت. وقال: «أتمنَّى ألا يكون أحدُ الخدم قد سمعها، بل الأهمُّ ألا يكون سمعها السيد لي؛ فلسوء الحظ أنه يمتلك حاسةَ سمعٍ حادةً، ولعله ظن أن الرصاصة كانت لشيءٍ آخر.»

عاد إلى النافذة، وتوقَّف لالتقاط تلك المفرقعات التي لم تنفجر.

قال بابتهاج: «إنها أشياءُ مفيدة، احرِصْ على نثرها في أرضية غرفتك إذا كنتَ تتوقعُ مجيء أحدهم لقتلك في منتصف الليل. وتابع: «لا تزيد تكلفتها عن دولارين مقابل المائة، وقد أنقذَت حياتي مراتٍ لا أحصيها. هل سبق لك أن وقفتَ في الظلام في انتظار أن تلقى حتفك وتُقطَع رقبتك؟» وأضاف: «لقد شهدت ذلك ثلاثَ مرات، وأعترف أنها ليست بالتجرِبة التي أتوق إلى تَكرارها. مرةً في بوهيميا، في مدينة براغ؛ والثانية في نيو أورليانز، وكانت الثالثة في أورتونا.»

سأله ميدوز بقُشَعريرة: «وماذا حدث للقتَلة؟»

أجابه ليون قائلًا: «هذا سؤال يُجيبك عنه أحدُ رجال الدين، سامحني على هذه المزحة المبتذَلة». وتابع: «أظن أنهم قابعون في جهنم، لكن ربما أنا متحامل.»

كان السيد لي قد غادرَ مائدة الطعام، ووقف عند الباب الأمامي متكئًا على عصاه؛ وبرفقته السيد واشنطن الذي بدَت عليه ملامح القلق.

سأل الرجل العجوز بصوت قَلِق: «ما الخطْب؟» وتابع: «صحيحٌ أن عجزي عن رؤية الأشياء هو معوق كبير. ولكنني أعتقد أنني سمعتُ صوت طلق ناري.»

أجابه ليون على الفور: «بل اثنان». وأضاف: «كنتُ آمُل ألا تسمعهما. لا أعرف مَن كان هذا الرجل يا سيد لي، لكنه بالتأكيد لا يمتلك الحقَّ لدخول هذه الأراضي، وقد حاولت إخافته.»

«لا بد أنك استخدمت كاتمًا للصوت؛ فأنا لم أسمع دويَّ الطلقات بالكامل. هل رأيت وجه الرجل؟»

أجابه قائلًا: «كلا، لقد رأيت ظهره.» ظن ليون أنه ليس ضروريًّا الإفصاحُ عن أنَّ ظهر رجلٍ ووجهه يُصبحان مألوفَين له بالقدرِ ذاتِه. لأنه عندما درَس أعداءه، كانت دراسته شاملة ووافية جدًّا. بالإضافة إلى أنَّ كتف جيرتر تتمايل بشكل غريب عندما يركض.

توجَّه فجأةً نحو السيد مالك راث هول. وسأله: «هل يُمكنني التحدُّث معك على انفراد بضعَ دقائق يا سيد لي؟» لقد توصَّل إلى قرارٍ مفاجئ.

أجابه الآخر بأدبٍ: «بالطبع!» واتجه إلى الرَّدهة، ودخل غرفة مكتبه الخاصة.

انفرد ليون بصحبته داخل المكتب عشر دقائق. وعندما خرج، كان ميدوز قد خرج للقاء رَجُله عند البوابة، أما واشنطن فكان يقف متجهمًا بمفرده. فجذبه ليون من ذراعه وقاده إلى الحديقة.

قال: «ستقعُ مشكلة حقيقية هنا الليلة»، وأطلعَه على الاستعدادات التي اتفق عليها مع السيد جونسون لي. واستطرد قائلًا: «لقد حاولتُ إقناعه بالسماح لي برؤية الرسالة الموجودة في خِزانته، لكنه عنيدٌ بشدة بصدد هذا الشأن، وأنا أكرهُ السطو على خِزانة صديق. أنصِت.»

أنصَتَ إيليا واشنطن وأطلقَ صفير اندهاش.

وتابع جونزاليس حديثه: «لقد منعوا المحاميَ من الحضور، وهم الآن خائفون بشدة أن يُخبرنا العجوز، في غياب محاميه، بما كان ينوي الإفصاحَ عنه لمحاميه.»

«سيذهب ميدوز إلى لندن، أليس كذلك؟»

أومأ ليون برأسه برفق.

«أجل، سيذهب إلى لندن … بالسيارة. هل علمتَ أن جميع الخَدَم سيخرجون الليلة؟»

حدَّق فيه السيد واشنطن.

«هل تقصد النساء؟»

قال ليون بهدوء: «أقصد النساءَ والرجال». وتابع: «سيُقام الليلةَ حفلٌ موسيقي رائع في برايتلينجسي، ولكنهم سيتأخرون عن النصف الأول من العرض، وسيستمتعون جدًّا بالجزء الأخير من البرنامج. لستُ أنا صاحبَ الدعوة، ولكنني أوافق عليها تمامًا.»

«ولكن هل سيوافق ميدوز على الانصراف وقد بدأ وقت المرح؟»

يبدو أن المحقِّق ميدوز لم يكن كارهًا للمغادرة في هذه اللحظة الحرجة. الحقيقة أنه بدا سعيدًا جدًّا بالرحيل. وتبدَّل رأي السيد واشنطن فيما يخص ذكاء رجال الشرطة إلى الأسوأ.

قال الأمريكي: «ولكن لا شك في أن بقاءه أفضل، أليس كذلك؟» وأضاف: «فإذا كنت تتوقع هجومًا، فمن المؤكد أنهم سيحشدون كل قواتهم؟»

قال جونزاليس بهدوء: «أجل بالتأكيد، ها هي ذي السيارة.»

خرجت السيارة الرولز في تلك اللحظة من الجزء الخلفي للمنزل وتوقفتْ أمام الباب.

قال ميدوز وهو يسترخي في مقعده بجانب السائق ويضع حقيبته على المقعد: «لا أودُّ أن أترككم.»

قال ليون: «أخبِر السائق أن يتفادى لاولي كتفاديه الموتَ بالطاعون. فهناك شجرةٌ قد وقعت، لعل السلطات المحلية تولَّت إزالتها … ولكنه أمرٌ مستبعَد للغاية.»

انتظر حتى توارت الأضواء الخلفية للسيارة في الظلام، ثم عاد إلى الرَّدهة.

قال كبير الخدم، وهو يُحاول ارتداء معطفه الضخم: «معذرة، يا سيدي. هل ستكونون على ما يُرام؟ فلم يتبقَّ أحد في المنزل لرعاية السيد لي. يمكنني البقاء …»

أجابه جونزاليس سريعًا: «السيد لي هو مَن اقترح انصرافكم جميعًا». وتابع: «كل ما عليك فِعله هو الانتظار بالخارج، وأخبِرني عندما تَلمح أضواء الحافلة المكشوفة. فأنا أرغب في التحدث إلى السيد لي قبل انصرافكم.»

ذهب إلى المكتبة وأغلق الباب خلفه. وبينما كان كبيرُ الخدم ينتظر، سمع هَمهمة صوتِه وشعر بوخزة ضمير. التذاكر صادرة من وكالة محلية؛ إنه لم يتخيَّل أبدًا أن يسمح المالك بانصراف الموظفين بالكامل، رغم وجود ضيوف في المنزل.

لم تكن حافلة مكشوفة، بل حافلة كبيرة مغلقة وصلَت متأخرةً واعتذر سائقها بسبب الطريق، ودارت الحافلة حول الجزء الخلفي للمنزل، مما أثار انزعاجَ الخدم الذين تجمَّعوا في الرَّدهة.

خاطبَهم ليون قائلًا: «لا تنزعجوا، سأُخبره.» بدا أنه تولَّى زِمام أمور المنزل بالكامل، وهي جريمة لا تُغتفر في نظر خدَمٍ شديدي الانضباط مثلهم.

غاب عن الأنظار عبر ممر طويل يؤدِّي إلى الأجزاء الداخلية الغامضة، وعاد ليُعلن أن السائق قد صحَّح خطأه وأنه قادمٌ إلى المدخل الأمامي، وهو تفسيرٌ لا طائل منه؛ فبينما يتحدث إلى الرفاق ظهرَت العربة الكبيرة أمامهم.

قال، بينما عَلا صرير مكابح السيارة وهي تتَّجه نحو المنحدر المؤدِّي إلى البوابة المستترة: «ها قد غادرَت مجموعةٌ من الشخصيات الاحتفالية الأكثرِ قلقًا بين مَن رأيتُهم في حياتي». وتابع: «على الرغم من أنهم سيقضون أجملَ وقت في حياتهم. لقد رتَّبت لهم ليتناولوا العشاء في فندق بيتش، إنهم يجهلون ذلك، ولكنني نقلتُهم إلى مكانٍ كانوا سيَدفعون أموالًا طائلة في مقابل دخوله — لو لم يذهبوا!»

قال السيد واشنطن بوجهٍ متجهِّم: «هكذا لم يتبقَّ أحدٌ سوانا»، ولكن تهلل وجهه على الفور. وقال: «ولكن هذا لا يعني أنني أُمانع وجودَ اشتباكٍ عنيف، سواءٌ في وجود أسلحة أو من دونها.» تفحَّص أرجاء الرَّدهة المظلمة بنظرة يشوبها القلق. وقال: «ماذا عن غلق الأبواب الخلفية؟»

قال ليون: «فلتتركْها على حالها». وتابع: «فالخطر لن يأتيَنا من الخلف. اخرج واستمتع بنسيم الليل؛ لا يزال الوقت مبكرًا جدًّا على المتاعب الحقيقة.»

ولكنه في هذا الأمر، وللمرة الأولى، كان مخطئًا.

تبِعه إيليا واشنطن إلى الحديقة، وسار خطوتَين، ثم فجأةً رآه ليون يترنَّح. وفي لحظةٍ كان مَلقيًّا إلى جانب الرجل، منحنيًا ومحدقًا، ونظارته مُلقاة على العشب.

قال واشنطن: «أدخِلني إلى المنزل.» وكان يتَّكئ بقوة على صاحبه.

أحاطت ذراعُ ليون بخَصره، وهو يكاد يحمله، واتَّجه بالرجل إلى الرَّدهة ولكنه لم يُغلق الباب. فبدلًا من ذلك، بينما جلس الأمريكيُّ على مقعدٍ في الرَّدهة وهو يُصدر أنينًا مكتومًا، وجلس ليون على الأرض، وأطلَّ على خطِّ الأفق المتخيَّل الذي صنعه. لم يكن هناك وجودٌ لأي حركة، ولا علامةٌ على وجود أي مهاجم. عندئذٍ، وعندئذٍ فقط، أغلق الباب وأسقط المزلاج، ودفع باب غرفة المكتب ليفتحه على مِصراعَيه، وحمل الرجل إلى الغرفة وأضاء الأنوار.

تمتم واشنطن قائلًا: «أعتقد أنَّ شيئًا ما قد أصابني إذن.»

كان خدُّه الأيمن أحمرَ اللون ومتورمًا، ورأى ليون اللدغة المنذرة، ورأى شيئًا آخر. وضع يده على خدِّه وفحصه بأطراف أصابعه.

«أحضر لي بعض الويسكي، هل يمكنك ذلك؟ أريد جالونًا منه.»

كان واضحًا أنه يُعاني ألمًا شديدًا وبدأ يتمايل للأمام وللخلف.

تأوَّه قائلًا: «يا إلهي! هذا مروِّع!» وتابع: «أنا لم أُعانِ لدغةَ أفعى كهذه من قبل!»

«أنت لا تزال على قيد الحياة، يا صديقي، لم أُصدِّقك عندما قلتَ بأنك محصَّن ضد الأفاعي.»

سكب ليون كأسًا من الويسكي الصافي، ووجَّهه إلى شفتَي صديقه الأمريكي.

غمغم واشنطن قائلًا: «أخفِض يدك بالكأس!» ولم يرفع شفتَيه عن الكأس إلا وهي فارغة. وقال: «أحضر لي كأسًا أخرى؛ فأنا لن أثمل.»

وضع يدَه على وجهه، ولمس الجرح الصغير بحذر شديد، وقال في دهشة: «إنه مبتلٌّ.»

«بمَ شعرت؟»

اعترف الخبيرُ قائلًا: «لا شيء سوى لدغة أفعى.»

انتفخ وجهه خاصةً الجزء الموجود تحت عينَيه، وامتُقع لون جلده وتبدَّل للأسود والأزرق.

اتجه ليون إلى المدفأة وقرع الجرس، وكان واشنطن يُراقبه في دهشة.

«أخبِرني، ما فائدة قَرعِك الجرسَ؟ لقد انصرف الخَدَم.»

كانت هناك أصواتُ طقطقة أقدام في الرَّدهة، وفُتح الباب ودخل جورج مانفريد، واندهش الزائر عندما رأى خلفه ميدوز وعشَرةً من الرجال.

وقال بصوتٍ غالَبَه النعاس: «يا إلهي!»

أوضح ليون قائلًا: «لقد جاءوا في تلك الحافلة، مستَلْقين على الأرض، وكان العذر الوحيد لإحضار الحافلة إلى هنا هو إرسالَ الخدم إلى ذلك الحفل الموسيقي.»

سأل مانفريد: «هل أبعدتَ السيد لي عن هنا؟»

أومأ ليون برأسه.

«كان في السيارة التي أقلَّت صديقنا ميدوز، الذي انتقل إلى الحافلة في مكانٍ بعيد عن المنزل.»

أخرج واشنطن من جيبه علبةً صغيرة من الورق المقوَّى، وفرك بحذرٍ مسحوقًا أحمرَ اللون فوق العلامتين ذواتَيِ الحواف البيضاء، وهو يئنُّ.

وقال: «من المؤكد أنها أفعى يُمكنها التسببُ في موت الكوبرا سلخًا، ولدغة الأفعى الجرسية ليست أسوأَ من عضة الكلب. إنها ليست المامبا، أنا أعرف المامبا؛ إنها قاتلٌ شرس، لكن ليس بهذا السوء.»

نظر مانفريد إلى ليون.

وسأل ببساطة: «جيرتر؟» فأومأ جونزاليس بالإيجاب.

«من الواضح أنني كنت الشخص المقصود، ولكن، كما قلت من قبل، جيرتر يشعر بالتوتر. لذلك لم يُفلح في إطلاق النار.»

«هلا تحرصون، أيها الرفاق، على ألا تتحدَّثوا بصوتٍ صاخب؟» نظر إلى الستائر الثقيلة التي تُغطي النوافذ. هناك مصاريعُ خلف هذه الستائر، ولكن الدكتور أوبيرزون رجل ماكر.

فحص ليون سريعًا آثارَ قدم الزائر؛ ووجد أنه لبس نعلًا من الصوف.

وقال: «لا أعتقد أنه بإمكاني التفوقُ على خطط الآنسة ليستر الرائعة»، وصعد إلى غرفة نوم السيد لي، التي تتوسط المنزل ولها شُرفة صغيرة، كانت أرضيتها عبارةً عن الجزء العلوي من المدخل.

كانت النوافذ الطويلة ذات الطراز الفرنسي مفتوحة، فزحف ليون في الظلام، وبدأ بالمراقبة من خلف أعمدة الدرابزين. أصبحوا الآن مكشوفين، ولم يُحاولوا الاختباء. وقد أحصى سبعةً منهم، إلى أن لمح آخرَ يُدخن سيجارة بالقرب من نهاية الممر. تساءل ما الذي ينتظرونه؟ لم يتحرك أيٌّ منهم؛ ولم يُطوقوا المنزل. حيَّره هذا السكون. بدا وكأنهم ينتظرون إشارة. ولكنْ أيُّ إشارة؟ ومِن أين تأتي؟

رأى رجلًا يتسلل خِلسة عبر العشب … خدعه بصره؛ هل هو واحد أم اثنان؟ إذا كانا شخصَين فلا بد أن أحدهما هو جيرتر. لم يكن ليُخطئه. وللحظةٍ غاب عن الأنظار خلف أحد عمدان الشرفة. حرك ليون رأسه، فرأى جيرتر يسقط! رآه يجثو على ركبتَيه ويتمدَّد على الأرض. ماذا يعني ذلك؟

كان لا يزال متحيرًا حتى سمع صوت كشطٍ هامس، وأنفاس لاهثة، وحاول تحديدَ مصدر الصوت. وفجأةً، وعلى بُعد بوصات من وجهه، خرجت يدٌ في هذا الظلام الدامس، وأمسكت بالحافة السفلية للشرفة.

تراجع جونزاليس، سريعًا، إلى داخل الغرفة، في صمتٍ، ووقف منتصبًا تحت غطاء الستائر وانتظر. لامسَت يدُه شيئًا، تبيَّن أنه حبلٌ طويل لجذب الستائر. وصنع حلقة شنق محكمة.

صعد الدخيل بالاستعانة بالدرابزين، وخطا للداخل بهدوء، حتى اقترب من النافذة المفتوحة. لم يشكَّ في شيء؛ لأن النوافذ الفرنسية كانت مفتوحةً طوال المساء. ودون صوت، صعد إلى الغرفة وانعكس ظلُّه على النافذة عندما سقط عليه ضوء النجوم.

قال ليون في نفسه: «إنه لا يلبس قبعته». جعل هذا الأمورَ أسهل. فعندما خطا الرجلُ خطوةً أخرى خِلسة، التفَّت حلقة الشنق حول عنقه، واجتذبه ليون بقوة، واختنقت الصرخةُ في حلقه. وفي غضون لحظةٍ كان مستلقيًا على الأرض، وركبة ليون تجثو فوق ظهره. كافح لينهض، لكن قبضة ليون كانت حديدية، وهدأ فجأة.

أرخى جونزاليس العقدة، ورفع الرجلَ فوق كتفه، وحمله خارج الغرفة، وهبط به السلالم. خمَّن أنه سيكون الدخيل الوحيد، ولكنه لم يترك شيئًا للصدفة، فبعد أن سلَّم سجينه إلى الرجال المنتظرين في الرَّدهة، ركض عائدًا إلى الغرفة، ووجد ما توقعه، لم يجرؤ أحدُهم على المغامرة ليحذوَ حذوه. كانوا لا يزالون يقفون على مسافاتٍ غير منتظمة حيث شاهدهم آخرَ مرة. كانت الإشارة ستأتيهم من المنزل. لكنه تساءل ما هي يا تُرى؟

ترك أحدَ رجاله لحراسة الغرفة، وعاد إلى المكتب ليجد أن اللصَّ المرتجف كان صديقًا قديمًا. أخذ ليو كوتشيني يجول بناظِرَيه بين محتجِزيه باستياءٍ وذهول. ولكنَّ الأمرَ الأكثرَ غرابة الذي اكتشفه ليون عند عودته إلى غرفة المكتب، كان عودةَ مروِّض الأفاعي الأمريكي إلى حالته الطبيعية وابتهاجه القديم، وباستثناء مظهره البشع، بدا أن حالته جيدة بالنسبة إلى رجل تعرَّض لتجرِبة رهيبة كانت لتُنهي حياةَ تسعةٍ وتسعين رجلًا من أصل مائة إذا تعرَّضوا لها. «أنا مُحصَّن ضد الأفاعي. هل هذا مَن فعلها؟» قالها وهو يشير إلى كوتشيني.

سأل مانفريد: «أين جيرتر؟»

ابتسم له كوتشيني ابتسامةً عريضة.

وقال: «من الأفضل لك أن تكتشف ذلك بنفسك أيها الزعيم». وتابع: «لأنه سيأتي للانتقام منك. بمجرد أن أصرخ …»

قال ليون بصوت هادئ: «كوتشيني …» ولا شكَّ أن سنَّ السكين ذاتَ النصل الطويل التي يُوجِّهها إلى عُنق الرجل كانت حادةً. إذ تراجع كوتشيني للخلف. وأردف ليون قائلًا: «أنت لن تصرخ. وإن فعلتَ فسأنحَرُ عنقك، وأُفسد كلَّ هذا السجاد الجميل، إنه سجاد بخاري حريري فاخرٌ يا جورج. أنا لم أرَ مثله منذ عشر سنوات». وأشار برأسه إلى السجادة الناعمة التي يقف عليها جورج مانفريد. ثم تحوَّل انتباهه مرةً أخرى إلى الأسير وسأله: «ما الإشارة، يا كوتشيني؟» وأضاف: «وماذا سيحدث عندما تُطلق هذه الإشارة؟»

قال كوتشيني: «انظر، تلك التهديدات بقطْع عنقي لا تعني لي شيئًا. فهذا البلد لا يعرف تعذيب الدرجة الثالثة الوحشي، فلا تنسَ ذلك.»

ابتسم ليون ابتسامة صِبيانية مبتهجة. وقال: «أنت لم ترَ من قبل درجتي التاسعةَ والتسعين. هل يمكن أن تضع قطعةً من القماش في فمه، من فضلك؟»

لفَّ أحد الرجال وشاحًا من الصوف حول رأس كوتشيني.

«أرقده على الأريكة.»

كان بالفعل مقيدَ اليدَين والقدَمين، لا حول له ولا قوة.

«هل لديكم أعوادُ ثقاب شمعيَّة؟ أجل، ها هو بعضٌ منها» أفرغَ ليون وعاءً زجاجيًّا في راحة يده، ونظر حوله إلى الرفاق الحائرين. «والآن، يا سادة، هلا تسمحون أن تتركوني وحدي خمسَ دقائق بالضبط، سأُقدم للسيد كوتشيني محاكاة ممتازة لأساليب جيان فيسكونتي للإقناع، وهو أحدُ مواطني بلده، ومخترع النظام الذي أنا بصدد تجرِبته.»

كان كوتشيني يهزُّ رأسه بشراسة. وغمغمَ من خلف الوشاح بأصوات غير مفهومة.

قال ليون: «صديقنا ليس غبيًّا. من يقول منكم إن ساينر كوتشيني هو شخصٌ غبي سيُثير استيائي الشديد.»

أجلسا الرجلَ وتحدث مترددًا، بانكسار. وعندما أنهى حديثه، قال ليون: «رائع». وتابع: «خُذه إلى المطبخ، وقدِّم له مشروبًا … ستجد الصنبور أعلى حوض المطبخ.»

قال جورج، مخاطبًا ليون عندما أصبحا بمفردهما: «لقد تساءلتُ كثيرًا، يا ليون، هل كنتَ تنوي بالفعل تنفيذ تلك التهديدات المرعبة بالتعذيب والوحشية الخطرة؟»

قال ليون ببساطة، وهو يُشعل سيجارة مستعينًا بأحد أعواد الثقاب الموجودة على الطاولة، ويُعيد الباقيَ إلى الوعاء الزجاجي بحرص: «نصف التعذيب يكمن في ترقُّب التعذيب». وتابع: «يستطيع أيُّ متمرس في فن الأوصاف الموحية الاستغناءَ عن البراغي اللولبية وكاويات الوسم، والمقاصل الصغيرة، وجميع أدوات العدالة الجنائية المروعة التي استخدمها أسلافنا. أنا أيضًا تساءلت» كان يتأمَّل وهو ينفث حَلْقةً من الدخان تتصاعد باتجاه السقف، وتابع قائلًا: «ما إذا كان بإمكاني تنفيذُ تهديداتي؟ يجب أن أُحاول يومًا ما.» وأومأ برأسه في ابتهاج، وكأنه يَعِدُ نفسه بهدية رائعة.

نظر مانفريد في ساعته.

«ماذا تنوي أن تفعل؛ إعطاء الإشارة؟» أومأ جونزاليس برأسه إيجابًا. «ثم ماذا؟»

«سنسمحُ لهم بالدخول. ربما نلجأ للاختباء في المطبخ. أظن أن ذلك سيكون أكثرَ حكمة.»

أومأ جورج مانفريد برأسه. وقال: «هل ستسمح لهم بفتح الخزينة؟»

قال ليون: «بالضبط». ثم أضاف: «هذا ما أتمنَّاه تحديدًا؛ أن يفتحوا هذه الخزينة، فبالنظر إلى اعتراض السيد لي على فتحها، ستُصبح هذه أفضلَ طريقة. شغلني هذا الأمر طَوالَ الوقت. هل رأيت الخزينة، يا جورج؟ أنا رأيتها. لا أحد يستطيع تحطيمها سوى خبير. وأنا لا أملك أدوات. ولست مستعدًّا لمواجهةِ احتمالٍ كهذا، وأتحرَّج من فعْل ذلك. أما أصدقاؤنا فيمتلكون الأدوات — ولا يمنعهم أيُّ وازع!»

«والأفعى … هل هناك أي خطر منها؟»

نقر ليون بإصبعه.

«الأفعى قد هاجمَت هذه الليلة، ولن تُجريَ المزيد من الهجمات خلالها! أما بالنسبة إلى جيرتر …»

«إنه مَدينٌ لك بشيء.»

ألقى ليون بحَلْقة معدنية ولم يتحدث حتى ارتطمت بالسقف.

وقال ببساطة: «لقد مات جيرتر». ثم أضاف: «لقد ظلَّ مستلقيًا على العشب أمام المنزل طوال الدقائق العشر الماضية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤