الفصل الحادي والعشرون

دفتر الحساب

كانت الساعة الخامسة صباحًا حينما اجتازَت السيارة طراز سبانز، الملطَّخةُ بالطين، الضبابَ والأمطار المتساقطة أعلى تلال تشيلترن وعبرَت طريق جلوستر الرئيسي، وتوقفَت وهي تهتزُّ أمام مزرعة هيفيتري. قفز مانفريد خارجَ السيارة، ولكن قبل أن يصلَ إلى باب المنزل، وجد العمةَ ألما تفتحه، وعلم من ملامحها أنها لم تَذُق النوم تلك الليلة.

سألها: «أين ديجبي؟»

أجابته ألما قائلةً: «ذهب لمقابلة مأمور الشرطة». وتابعت: «تفضَّل بالدخول سيد جونزاليس.»

كان ليون مبتلًّا من قمة رأسه إلى أخمص قدميه؛ دون رُقعةٍ واحدة جافة. ولكنه كان لا يزال محتفظًا ببهجته المعتادة وهو يدخل ردهة المنزل، ونزع عنه معطفَه الثقيلَ الواقيَ من المطر.

«لا شك، بالطبع، أن ديجبي لم يسمع شيئًا، يا جورج.»

قالت العمة ألما: «أنا أكثرُ شخصٍ نومه خفيف في العالم، ورغم ذلك لم أسمع أيَّ صوت. ولم أعلم شيئًا إلا حينما أتى شرطي يطرق الباب ليُخبرني أنه وجد البابَ الأماميَّ مفتوحًا.»

«ألم يكن هناك أيُّ دليل؟»

قالت العمة ألما: «بلى.» ومِن ثَم دخلوا إلى غرفة الاستقبال، وأخذَت من فوق الطاولة زجاجةً سوداء صغيرة متصلةً بأنبوب وقناع. وقالت: «وجدتُ هذا خلف الأريكة. لقد تمددت فوق الأريكة؛ فالوسائد كانت مُلقاةً على الأرض، ومزَّقت القماش وهي تقاوم لتحرير نفسها.»

أدار ليون صنبور الأنبوب، واستنشق الغاز المنبعث.

وقال: «إنه الغاز المخدِّر الجديد المستخدَم في مجال طب الأسنان». وتابع: «ولكن كيف دخلوا؟ فلا أثرَ لاقتحامٍ أو نافذة مفتوحة.»

قالت ألما بلهجةٍ متفاخرة: «دخلوا من الباب؛ أنا واثقةٌ من ذلك. وكان برفقتهم امرأة.»

«كيف علمتِ بذلك؟»

قالت العمة ألما: «لا بد من وجود امرأة. لم تكن ميرابيل لتفتحَ الباب دون إيقاظي أنا أو السيد ديجبي، لولا وجودُ امرأة.»

أومأ ليون برأسه، وعيناه تلمعان.

وقال: «هذا بديهي.»

«ووجدتُ أيضًا آثارَ أقدام امرأة في الرِّواق. لقد جفَّت الآن، ولكن لا يزال بإمكانك رؤيتُها.»

أجابها ليون بقوله: «لقد رأيتُها بالفعل». وتابع: «إنها إلى يسار الباب؛ حذاء صغير مدبَّب، وكعب مطاطي. لقد فتحَت الآنسة ليستر البابَ للمرأة، ودخل الرجال، والباقي كان يسيرًا.» ثم وجَّه حديثَه لجورج ملاطفًا: «لا يُمكنك إلقاء اللوم على ديجبي.»

لقد كان على علاقة طيبة بجميع العملاء، لكن مانفريد لم يُجادله هذه المرة.

وقال: «أنا ألوم نفسي. لقد أخبرني بويكارت …»

قالت العمة ألما: «لقد كان هنا.»

سألها مانفريد مندهشًا: «مَن … بويكارت؟» وصفع جونزاليس ركبته بكفه.

«هكذا إذن، بالطبع! يا لنا من حمقى! كان يفترض بنا أن نُدرك السببَ وراء ترك هذا العجوز الماكر مكانَه. في أي وقتٍ كان هنا؟»

أخبرته ألما بملابَسات الزيارة كافة.

قال ليون بابتسامة توحي بالسرور: «لا بد أنه غادر المنزل بعدنا مباشرة، واستقلَّ قطار الخامسة المتجهَ إلى جلوستر، واستقل سيارةَ أجرة إلى هنا.»

سأله مانفريد: «وبعدها؟»

حكَّ ليون ذقنه.

«أتساءل إن كان قد عاد؟» وأمسك بالهاتف وأجرى طلب مكالمةٍ هاتفية إلى لندن. «أشك أنه عاد. ها هو ذا ديجبي، يبدو كمَن يتوقع إعدامه دون محاكمة.»

كان الشرطي المتقاعد حزينًا وفي حالةٍ يُرثى لها.

وشرَع في الحديث قائلًا: «لا أعلم ما ستظنه بي، يا سيد مانفريد …»

ابتسم جورج ابتسامةً خافتة وقال: «لقد صرَّحت بالفعل عن رأيي بهذا الشأن. أنا لا ألومك يا ديجبي. لقد كان من الحماقة الشديدة أن أتركَ رجلًا مثلك، تعرَّض لاعتداء، دون دعم بعدد كافٍ من الرجال. لم أكن أتوقَّعُ عودتهم بهذه السرعة. في الحقيقة، إنني أنوي تعيينَ أربعة رجال بدءًا من اليوم. هل كنت تُجري تحرياتك؟»

«أجل، يا سيدي. مرَّت السيارة بجلوستر في الصباح الباكر، ثم سلكَت طريق سويندون. شاهدها شرطيٌّ على دراجته؛ وقال إن الشاحنة كان يُظللها غِطاء سميك من القماش المشمع.»

سأله مانفريد بلهفة: «ألم يكن هناك أثرٌ لشخص داخل سيارة، أو على دراجة نارية يُطارد العربة؟»

فقد اتجه بويكارت مؤخرًا إلى ركوب الدراجات النارية.

«لا، يا سيدي.»

«هل رأيت السيد بويكارت؟»

«أجل، كان في طريقه للعودة إلى لندن. قال إنه يريد معاينةَ المكان بأمِّ عينَيه.»

شعر جورج بخيبة أمل. فإن كانت زيارة بويكارت بدافع الفضول، فبهذا يكون غيابه عن المدينة مبرَّرًا. ولم يكن ليعودَ في الوقت الذي هاتفَه فيه.

كانت العمة ألما تُعِد فطورًا سريعًا، وقبِلا دعوتها بامتنان؛ فكلاهما كان جائعًا للغاية، وفي أثناء تناولهما وجبتَيهما أتتهما مكالمة لندن.

«بويكارت، أهذا أنت؟»

جاء صوت بويكارت متحدثًا: «أجل أنا مَن يُحادثك». وتابع: «من أين تُهاتفني؟»

«من مزرعة هيفيتري. هل رأيت الآنسة ليستر؟»

ساد الصمت لحظة.

«هل اختفت؟»

«ألم تعلم؟»

سادت لحظةٌ من الصمت مرةً أخرى.

«حسنًا، أجل، لقد علمت؛ في الحقيقة، لقد رافقتها جزءًا من الطريق إلى لندن، ثم انفصلتُ عنها عندما سلكَت الشاحنة طريق جرايت ويست. ميدوز هنا، لقد أتى للتو من منزل أوبيرزون. يقول إنه لم يعثر على شيء.»

فكَّر مانفريد قليلًا.

وقال: «سنعود سريعًا بعد التاسعة.»

فأجابه بسخرية: «وليون هو السائق؟»

«أجل … ورغم هذا سنعود في تمام التاسعة.»

بعدما أخبره مانفريد بما دار في محادثتهما، قال ليون: «هذا الرجل يُضمر حقدًا تجاه أسلوبي في القيادة. كنت أعلم أنه هو عندما وصف ديجبي السيارة وقال إنها مظلَّلة بغطاءٍ واقٍ من المطر. «غطاء سميك» ليس وصفًا سيئًا. هل تعلم ما إذا كان بويكارت قد تحدث إلى الآنسة ليستر أم لا؟»

«أجل، فقد سألها عمَّا إذا كانت تزرع البصل في مزرعتها.» تسبَّب ردُّه هذا في دخول ليون في نوبةٍ من الضحك المكتوم.

انتهت وجبة الإفطار وكانا يستعدَّان للمغادرة، عندما سأل ليون فجأةً: «هل تمتلك الآنسة ليستر طاولة كتابة خاصة بها؟»

أجابته ألما قائلةً: «نعم، في غرفتها.» ورافقته لتُريَه المكتب القديم.

فتح الأدراج دون استئذان، وأخرج بعض الرسائل القديمة، وبعثرها وقرأها بلا خجل. وفتح بعدها دفترَ المسودة. كان هناك الكثيرُ من الأوراق الفارغة بعنوان «مزرعة هيفيتري»، وورقتان تحملان توقيعها في الأسفل. أوضحت ألما أن الحساب المصرفي للمزرعة كان باسم ميرابيل، وعند الحاجة إلى إجراء سحب نقدي، كان البنك يقتضي إرفاقَ خطاب إحالة — وهو أمرٌ لا يزال متعارفًا عليه إلى الآن في بعض المؤسسات المصرفية العتيقة في غرب البلاد. وفتحت قُفل أحد الأدراج التي لم يتمكَّن من فتحها، وأخرجَت له دفتر شيكات به ثلاثة شيكات فارغة تحمل توقيعَها.

قالت ألما بسخرية: «هذا المصرفي يعرفني منذ شبابي. لن تُصدق أنَّ هناك قدرًا كبيرًا من البيروقراطية.»

أومأ ليون بالإيجاب.

«هل تحتفظين بأيِّ دفاتر حسابات؟»

أجابته ألما باندهاش: «أجل، أحتفظ بها. هل تقصد حساباتِ المنزل؟»

«هل يمكنني رؤية أحدها؟»

خرجت، ثم عادت بدفتر حسابات صغير، طالعَ محتوياته سريعًا. ظنَّت ألما أن ذلك لم يكن كافيًا على الإطلاق، مقارنةً بالمشقة التي واجهَتها والاهتمامِ الذي أظهره.

قال: «هذا يكفي! والآن، يا جورج، هيا بنا إلى السيارة!»

سأله مانفريد وهما ينطلقان في الطريق: «لماذا أردتَ رؤية دفتر الحسابات؟»

وجاءه رَدُّه مخيبًا للآمال: «تعلم أنني أتمتع بعقلية مادية. ولكن يا جورج يوشك الوقود أن ينفد منا. فلْتدعُ الله دعوةً صادقة أن نُصادف محطة وقود في غضون الدقائق العشر المقبلة.»

إن كان جورج قد دعا، فقد استُجيبت دعوته؛ فقبل بُرهة من نفاد الوقود في أسطوانات المحرك، كانت السيارة تفف أمام مِرآب، وتزوَّدوا بما يكفيهم للوصول إلى وجهتهم ويفيض. كانت الساعة قد بلغَت تمام التاسعة صباحًا عندما توقفَت السيارة أمام المنزل. وابتسم بويكارت الذي كان يُراقب وصولهما من غرفة جورج، ابتسامةً كالحة، بعد النظرة الوقحة التي رمَقه بها السائق.

وخلفَ الأبواب الموصدة، جلس الرجال الثلاثة يتشاورون.

وأخيرًا قال ليون: «لقد أفسد ذلك كلَّ مخططاتي». وتابع: «إن كانت الفتاة بأمانٍ، فيجب تسوية الأمر مع أوبيرزون الليلة.»

حكَّ جورج مانفريد ذقنه وهو يُفكِّر. منذ كانت لحيته طويلة بعضَ الشيء ومشذبة، وهو لم يتوقف عن عادة تمسيدِ لحيته.

وقال بجدِّية: «إننا نفكر على نحوٍ متشابه تمامًا. كنت عازمًا على اقتراح أخذِ هذا المسار.»

قال ليون بصوت رقيق يشوبه شعورٌ بالندم: «تكمن المشكلة في ميدوز. أودُّ تسوية القضية بأي شكل، وأن يتنحَّى عنها ميدوز تمامًا. فلا رغبة لي في إحراجه. ولكن من الواضح أن الأمر لا يحتمل التأخير. كان من الممكن أن تسير الأمور بسلاسة بالغة. وهذا مستحيلٌ الآن حتى تصبح الفتاة بأمان. ولكن حتى يتحقَّق ذلك» وهز كتفَيه بلا مبالاة «سيشعرُ صديقنا أوبيرزون بالإرهاق بحلول الغد. لن يشعر بالألم — فقط إرهاق بسيط. سُبات، يتبعه غيبوبة … ثم الوفاة في اليوم الثالث. إنه رجل عجوز، ولا أحد يرغب في إيذاء كِبار السن. ولا ضررَ يُضاهي الشعور بالخوف. أما بالنسبة إلى جيرتر، فسنجد طريقةً أكثر عنفًا، ما لم يصل إليه أوبيرزون قبلنا. وأتمنى بصدقٍ أن يفعل.»

تساءل بويكارت: «لم أسمع بهذا الأمر من قبل. ماذا بشأن جيرتر؟»

أخبره مانفريد.

أومأ بويكارت برأسه قائلًا: «ليون مُحقٌّ فيما قاله الآن.» ونهض من الطاولة وفتح قُفل الباب. وقال: «إذا كان أحدكما يرغب في النوم فالغرفُ جاهزة؛ الستائر منسدلة، وسأوقظكما في أي وقت تُريدانه.»

لم يرغب أيٌّ منهما في النوم. حيث يجب على جورج لقاءُ أحد العملاء هذا الصباح؛ كان رجلًا لديه قصة مثيرة ليرويَها. وأراد ليون إصلاح كاربراتير السيارة. وأعلن الاثنان أنهما سينامان خلال وقتِ ما بعد الظهيرة.

وصل العميل بعد قليل. استقبله بويكارت وأجلسَه في غرفة الطعام لينتظرَ حتى يُخبر بقدومه.

قال: «أظن أن رجل عصر الأتراك قد وصل.» وذهب للأسفل ليرشد الزائر.

كان رجلًا ذا ملامحَ مألوفة، وله شاربٌ طويل مشذب ولحية خفيفة.

أشار قائلًا: «إنه إما خائرُ القُوى وإما عليل.»

وافقه مانفريد الرأيَ عندما أبلغه كبيرُ الخدم بقدومه، قائلًا: «لعله مزيجٌ من الاثنين.»

دخل الغرفة بعصبيةٍ وجلس أمام مانفريد.

وشكا إليه قائلًا: «لقد حاولت الوصولَ إليك عبر الهاتف في الليلة الماضية، لكنني لم أتلقَّ أيَّ رد.»

أجابه جورج بخفةِ ظل: «تمتد ساعاتُ عملي المكتبيةُ من العاشرة حتى الثانية!». وتابع: «والآن هلا تخبرني بقصة أختك مرة أخرى؟»

مال الرجل إلى الخلف واستراح في مقعده، وتشابكت يداه حول ركبتيه، وبدأ يتحدث بصوتٍ متناغم، وكأنه يتلو شيئًا حفظه عن ظهر قلب.

«كنا نعيش في تركيا. وكان والدي تاجرًا في القسطنطينية، وكانت أختي، التي تدرس في إنجلترا، تُراودها أفكارٌ غريبة، وعادت وهي أشدُّ الموالين للأتراك. إنها فتاةٌ فائقة الجمال، واستطاعت التعرُّف على عددٍ من أفضل العائلات التركية، على الرغم من معارضتي الشديدة أنا وأبي لصِلتها بهؤلاء الأشخاص. وذات يوم ذهبَت لزيارة هايمر باشا، ولم تَعُد في تلك الليلة. ذهبنا إلى منزل الباشا وسألنا عنها، لكنه أخبرنا بأنها غادرَت في الساعة الرابعة. وبعدها لجأنا إلى الشرطة فأخبَرونا، بعد إجراء التحقيقات، أنها شُوهدت وهي تصعد على متن سفينةٍ غادرَت إلى أوديسا في الليلة ذاتها. ولم أرَها طيلة عشر سنوات، حتى ذهبتُ إلى نادي جرينجو كلوب، وهو مكانٌ متواضع في إيست إند — إنه لا ينتمي إلى الطِّراز الرفيع، هل تفهمني، ولكنه يُدار بشكل جيد للغاية. وكان هناك عرضٌ في الملهى بعد منتصف الليل، وبينما أنا جالسٌ أفكِّر في العودة إلى المنزل — لشعوري بالملل الشديد؛ لأنني لا يروقني هذا النوع من الأمور — رأيتُ فتاة تخرج من وراء ستار وترتدي كالنساء التركيات، وبدأت ترقص. كانت في منتصف تأديتها رقصتَها عندما انزلق حجابُها. كانت ماري! وقد عرَفَتني في الحال، واندفعَت عبر الستائر. حاولتُ أن أتبعها، لكنهم منَعوني.»

سأله مانفريد: «هل توجَّهت إلى الشرطة؟»

هزَّ الرجل رأسه نافيًا.

وتابع برتابةٍ قائلًا: «لا، وما فائدة الشرطة؟» ثم أضاف: «يكفيني ما وجَدتُه منهم في القسطنطينية؛ لذا عزَمت على الحصول على المساعدة بعيدًا عن الشرطة. ثم حدثَني أحدهم عنك، فأتيت إليك. أخبِرني يا سيد مانفريد، هل يستعصي عليك إنقاذُ أختي؟ أنا واثقٌ تمامًا من أنها محتجَزة رغمًا عنها.»

سأله مانفريد: «في نادي جرينجو كلوب؟»

أومأ قائلًا: «أجل.»

خاطبه جورج قائلًا: «سأرى ما يُمكنني فعله». وتابع: «لعلي أذهب ذاتَ مساء أنا وأصدقائي لاستطلاع الأمر. ولكن في تلك الأثناء، هلَّا عُدت إلى صديقك الدكتور أوبيرزون لتُخبره بأنك قد أدَّيت دورك؟ أما أنا فسأتكفَّل بالقيام بدوري. وبالنسبة إلى قصتك الهزيلة فسأضمُّها إلى مجموعة الاختراعات غير القابلة للتصديق!»

ضغط جرسًا، ودخل بويكارت.

«من فضلك، فلتُرافق السيد ليجينز إلى الخارج. لا تؤذِه؛ لعل لديه زوجةً وأولادًا، رغم أن هذا مستبعَد تمامًا.»

تسلَّل الزائر من الغرفة وكأنه تعرَّض للجلد.

وبمجرَّد أن أغلق الباب خلفه، نادى بويكارت على ليون ليأتيَ من غرفته.

قال: «يا بني، يريد جورج أن تتعقَّب أثر هذا الرجل.»

اختلس ليون نظرةً خاطفة على الضحية الناجية من الاستبداد التركي.

وقال: «ليست بالمهمة الصعبة. فلديه قدمٌ مسطحة!»

عاد بويكارت إلى غرفة الاجتماعات. وسأله: «مَن هذا؟»

«لا أعلم. إما أن يكون أوبيرزون هو مَن أرسله، وإما أن يكون صديقنا نيوتن، والغرض من إرساله هو جمْعُنا معًا في نادي جرينجو كلوب — في أمسية لطيفة — وهو مكانٌ أعرفه جيدًا. إنه ممثلٌ رديء! يفتقر إلى الأسلوب الجيد. لن أُفاجَأ إن اكتشف ليون أمرًا مثيرًا بشأنه.»

«لقد أتى هنا من قبل، أليس كذلك؟» أومأ مانفريد.

«أجل، كان هنا في اليوم التالي لمجيء باربرتون. على الأقل، تلقيتُ رسالته صباح اليوم التالي، ورأيته لحظاتٍ معدودةً ذلك اليوم. إن أوبيرزون هذا شيطانٌ خبيث! ومجتهد أيضًا». وأضاف: «إنه يُحرك الجميعَ في الوقت ذاتِه، وهو محقٌّ بالطبع. فالجنرال الجيد هو مَن يهاجم بجيش كامل، وليس بفصيلة واحدة، وبكامل قوَّته، مدرِكًا أنه إن فشل في اختراق ثغرة، فلا بد أنه سينجح في اختراق أخرى. يا لها من فكرة شائقة، هل تعلم يا ريموند، لعلَّ في هذه اللحظة نحو عشرين وكالة تحرٍّ منفصلة ومستقلة تعمل ضدَّنا. ويجهل أغلبُهم أن جهودهم مكرَّرة. إنه أسلوب أوبيرزون — ولطالما كان هذا أسلوبه. إنه الأسلوب الذي يُشعل به شرارة الثورات، والأسلوب الذي يُدير به الفتن الطائفية.»

بعد أن استحمَّ وبدَّل ثيابه، أعلن عزمه زيارة تشيستر سكوير.

«أنا حريصٌ على مقابلة جوان نيوتن مرةً أخرى، حتى وإن عادت إلى هُويتها الأصلية بصفتها جين سميث.»

وعندما ذهب للزيارة، أخبرته الخادمةُ أن الآنسة نيوتن ليست بالمنزل. لعله يُقابل السيد مونتيجو نيوتن، ليس لأنه في المنزل فحسب؛ بل لأنه كان يترقَّب زيارته بلهفة، في حقيقة الأمر؛ لأنه كان يرى اقتراب عدوه.

غمغمَ مانفريد قائلًا: «يُسعدني ذلك»، ورافقه أحدهم إلى غرفة الاستقبال الرائعة الخاصة بالسيد نيوتن.

قال نيوتن بلهجة مطمئنة: «لدي خبر سيئ جدًّا بشأن جوان». وأضاف: «لقد سافرَت إلى أوروبا هذا الصباح.»

ابتسم مانفريد متسائلًا: «من دون جواز سفر؟»

كانت زلَّة بسيطةً من مونتي، ولكن كيف علم مانفريد برفض السلطات، قبل أسبوعٍ واحد فقط، تجديدَ جواز سفرها لحين الانتهاء من التقصِّي بشأن بعض المخالفات؟ فهناك اتهامٌ موجَّه إليها باستخدام آخَرين لهذه الوثيقة الشخصية للسفر إلى أوروبا والعودة منها.

واختلق كذبة على الفور: «أنت لا تحتاج إلى جواز سفرٍ للذَّهاب إلى بلجيكا». وتابع: «على أي حال، إن أمر جواز السفر مبالغٌ فيه إلى حدٍّ ما. فلسنا في حالة حرب الآن.»

قال مانفريد: «نحن في حالة حرب طَوال الوقت». وأضاف: «هلا تسمح لي بالجلوس؟»

«تفضَّل. هل ترغب في سيجارة؟»

قال مانفريد بحذر: «دعني أتأكَّد من العلامة التجارية أولًا قبل قَبولها»، ضحك الآخر بشدة وكأنه سمع مزحة طريفة.

رفض الزائر السيجارةَ المقدمةَ له من علبة السجائر والتقط واحدةً من صندوق على الطاولة.

وسأل بلطف: «هل تقوم جين بجولة كبرى؟»

«إن جين مجهدة وتريد أن تستريح.»

«وماذا بشأن أيلسبري؟»

لاحظ إجفالَ الرجل عند ذكْر مؤسسة النساء المُدانات، ولكنه تمالكَ نفسه سريعًا. «إنه ليس بعيدًا جدًّا، وعلمتُ أنه مأوًى لجميع أنواع الشخصيات الغريبة. لا، إنها ذاهبة إلى بروكسل ثم إلى إكس لا شابيل، وبعدها ربما تذهب إلى سبا — لا أتوقَّع أنني سأراها قبل شهر أو اثنين.»

قال مانفريد: «لقد كانت في مزرعة هيفيتري في الساعات الأولى من صباح اليوم، وكذلك أنت. لقد شاهدك صديقي — السيد ريموند بويكارت. لقد سافرتَ من مزرعة هيفيتري متجهًا إلى منزل أوبيرزون داخل شاحنة من طراز فورد.»

لم تطرِف عينا مونتي نيوتن رغم الفزع الذي أصابه.

وقال: «هذا خداع». وتابع: «أنا لم أغادر هذا المنزلَ ليلة أمس. ماذا حدث في مزرعة هيفيتري؟»

«اختُطِفت الآنسة ليستر. أرى أنك متفاجئ، أو قلقٌ تقريبًا.»

سأله مونتي بثبات: «هل تظن أن لي أيَّ صلة بهذا الأمر؟»

«أجل، وتُشاركني الشرطة رأيي هذا. فقد صدر إذنٌ مؤقَّت بإلقاء القبض عليك هذا الصباح. رأيتُ أنه ينبغي إخبارك.»

تراجع الرجل في مقعده، وامتُقع وجهه ثم أصابه الشحوب، ثم امتُقع مرةً أخرى ليُصبح أكثر احمرارًا من ذي قبل. فابتسم مانفريد بهدوء.

قال: «إنك تشعر بتأنيب الضمير، يا نيوتن، ولا يفصل بينك وبين إلقاء القبض عليك إلا القليل، فأين جين؟»

«لقد أخبرتُك أنها سافرت إلى الخارج.»

أفقدَته تلك الحيلةُ الناجحة للغاية بعضًا من اتزانه، وبعضًا من رِباطة جأشه.

قال مانفريد: «إنها بصحبة ميرابيل ليستر؛ أنا واثقٌ من ذلك. لقد حذَّرتك مرتين، ولا داعي لتحذيرك مرةً ثالثة. أنا لا أعلم مدى تورُّطك في جرائم الأفعى؛ فهذا الأمر ستُقرره هيئة المحلَّفين عاجلًا أو آجلًا. ولكنك ستكون في عِداد الأموات خلال ستِّ ساعات فور علمي بأن الآنسة ليستر لاقت معاملةً قاسية. أنت تعلم أنني صادقٌ فيما أقول، أليس كذلك؟»

كان مانفريد يتحدَّث بجدية بالغة.

واستأنف حديثه قائلًا: «أنت تخشانا أكثرَ مما تخشى القانون، وأنت محقٌّ في ذلك؛ لأننا لا نترك رجالنا رَهْن ذكاء هيئة المحلَّفين. وسنمنحك الحكمَ ذاته الذي قد يمنحك إياه قاضٍ عليمٌ بكافة الحقائق. فلا يمكنك التغلبُ على قاضٍ إنجليزي، يا نيوتن.»

عاودتْه الابتسامة، وغادر الغرفة. كان فريد قريبًا جدًّا، ينتظر في الرواق، ولكن على مسافةٍ آمنة من الباب، ورافقه حتى خرج وهو يشعر ببعض الحماسة.

التفتَ مونتي نيوتن جانبًا، ولمح الرجل الذي كان يكرهه — ولعله كرهه أكثرَ مما كره جونزاليس — ثم استدعى خادمه بغِلظة.

نادى قائلًا: «فريد، تعالَ إلى هنا»، فأطاعه الخادم. ثم قال مونتي: «سيُرسلون مَن يُجري بعض التحقيقات، وأريدك أن تعيَ جيدًا ما ستقوله لهم. لقد سافرَت الآنسة جوان هذا الصباحَ إلى أوروبا، في نحو الساعة الثامنة وخمس عشرة دقيقة. وهي إمَّا في بروكسل أو في إكس لا شابيل. لستَ متأكدًا في أي فندق نزلت، ولكنك ستبحث في الأمر. هل هذا واضح؟»

«أجل، يا سيدي.»

كانت عينا فريد تتفحَّصان أرجاء الغرفة بلا هدف.

«ما خطبُك؟»

«كنت أتساءل أين الساعة؟»

«الساعة؟» الآن صار مونتي نيوتن يسمع صوتها بنفسه. دقات ساعة رخيصة، وشحب لونه. وقال بصوتٍ أجشَّ: «اعثُر عليها»، وفي أثناء حديثه وقعَت عيناه على الصندوق الأسود الصغير الملقى أسفل المكتب، وذهب إلى الباب وهو يصرخ في رعب.

شاهد المارَّة في تشيستر سكوير لحظةَ اندفاع الباب وفرار الرجلَين منه هربًا إلى الشارع. وظلَّت الساعة الأمريكية الصغيرة، التي اشتراها مانفريد قبل أيامٍ قليلة، تدقُّ وتشير للوقت، واستمرت تدقُّ بمرحٍ إلى أن أتى خبراء الشرطة وفتحوا الصندوق. كانت تلك أقدمَ حِيَل مانفريد الطريفة، التي لم تفشل أبدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤