الفصل السادس والعشرون

في الأَسر

طلع نهار اليوم الثاني من الأَسْر دون أن تشهَده ميرابيل ليستر، في عالم خارج حدود سقف القرميد والجدران البيضاء اللامعة لمكان احتجازها. وقد ازدادت قوة ميرابيل وشجاعتها، بخلاف رفيقتها جوان، التي بدأت سهرتها المرهقة ببهجة شديدة، ولكن بمرور الوقت انخرطت في حالة من الاكتئاب شيئًا فشيئًا، ثم استيقظت ميرابيل على صوتِ نحيبِ امرأة، لتجدَ الفتاة جالسةً بجانب فراشها، ورأسها مدفونٌ بين يديها المبللتَين بالدموع.

تنهَّدَت قائلة: «كم أكرهُ هذا المكان! لماذا يحتجزُني هنا؟ يا إلهي! لو كنت أعلم أن هذا الكلب سيخونني …! سأُجنُّ إن طال بقائي هنا أكثرَ من ذلك.» ثم صرخت قائلة: «سأجن، يا ليستر!»

قالت ميرابيل، وهي تنهض من الفراش باحثةً عن شبشبها: «سأُعدُّ لك كوبًا من الشاي.»

في تلك الأثناء، كانت الفتاة تجلس منزويةً على نفسها في حالةٍ مُزرية، وبعد برهةٍ أثار نشيجُها المتكرر أعصابَ ميرابيل.

وخاطبتها قائلةً: «لا أعلم سببَ تعاستك. فهم لا يسعَون وراء الحصول على أموالك!»

تنهَّدت الفتاة، وهي تمدُّ يدَيها المرتعشتين لتُمسك بكوب الشاي، وأجابتها قائلةً: «أتضحكين؟! وكيف يمكنك ذلك، لا أعلم! أعلم أنني حمقاء، ولكنني لم أُسجن قطُّ على هذا النحوِ من قبل. لم أتخيَّل أنه سيُخلف وعده. لقد أقسم إنه سيأتي بالأمس. كم الوقت الآن؟»

أجابتها ميرابيل: «الساعة السادسة.»

ربما كانت الثامنة أو منتصف النهار؛ لأن كلَّ ما لاحظته يقول عكس ذلك.

قالت الفتاة المضطربة: «إنه مكان قذر». وتابعت: «أظن أنهم سيُغرقوننا جميعًا … أو أن هذا الشيء سوف ينفجر» أشارت نحو الصندوق المغطَّى باللباد الأخضر، وأضافت: «أنا أعلم ذلك! أشعر به يَسْري في عُروقي. إن جيرتر المتوحِّش موجودٌ بالقرب من هنا، أليس كذلك؟ إنه كالأفعى اللزجة. هل رأيته من قبل؟»

«جيرتر؟ هل تقصدين الرجل الذي رقص معي؟»

قالت جوان بنفاد صبر: «إنه هو. هذا ما أحاول إخبارك إياه. أتمنى أن نخرج من هنا.»

قفزت فجأةً من مكانها.

«تعالَي لنرى إن كان بإمكانك مساعدتي في رفع السحارة.»

كانت ميرابيل تُدرك أنه لا جدوى من ذلك قبل محاولتها لنيل حريتها. وفشلت جهودُهما المجتمعة في إزاحة الحجَر، وكانت جوان على شفا الانهيار عند عودتهما إلى غرفة نومهما.

وعندما صارت أهدأ، قالت: «أتمنى ألا يعلم جيرتر أن هؤلاء الرجالَ أصدقاؤك.»

«أمسِ قلتِ لي ذلك. ولكن هل سيُشكِّل هذا فارقًا؟»

أجابتها جوان باندفاع: «فارقٌ كبير!» وتابعت: «هذا الرجل يسري في عروقه دمٌ بارد! ويمكنه فعلُ أي شيء. لا بد من محاسبة مونتي على ترْكه لنا هنا تحت رحمته. أنا لا أخشى أوبيرزون؛ فهو رجل عجوز. أما الآخر فيتعاطى المخدرات، ويصير جامحًا، ويفقد عقله في بعض الأحيان. أخبرني مونتي ذاتَ ليلة أنه» اختلج صوتها، ثم تابعتْ قائلة: «أنه قاتل. وقال إن هؤلاء الألمان المجرمين لا يكتفون أبدًا بجريمةٍ واحدة؛ فهم يستمرون حتى يُنفِّذون عشرين أو ثلاثين جريمة! ويقول إن السجون الألمانية تعجُّ بالرجال معتادي القتل والإجرام.»

«ربما كان يُحاول إخافتَك.»

قالت الفتاة، بغضبٍ غير مبرر: «ولِمَ يفعل ذلك؟» وتابعت: «فلتترُكوه وشأنه! مونتي هو أفضل رجلٍ في العالم. وأنا أعشق التراب الذي يمشي عليه!»

بحِكمة شديدة، لم تحاول ميرابيل معارضتها.

لم يتسلَّل الخوف إلى نفس ميرابيل إلا عندما أُصيبت رفيقتها بتلك النوبات الهيستيرية. فقد كان اهتمامها موجَّهًا بالكامل ومنصبًّا على رجال العدالة الثلاثة — وبالأخص جونزاليس. تساءلت كم يبلغ من العمر. فتارةً كان يبدو في أوج شبابه، وتارة أخرى بدا وكأنه رجلٌ طاعن في السن. كان من الصعب تذكُّرُ ملامحه؛ لأن قسماته تَفيض بالتعبيرات؛ بدءًا من ابتسامة عينيه، وحتى الحماس الصِّبياني الغريب الذي يُميزه، وانتهاءً بالإيماءات والحركات التي صاحبت حديثَه. لم تتمكن من فهم نفسها؛ لماذا استمرت بالتفكير في جونزاليس وكأنها فتاةٌ تُفكر في حبيبها؟ تورَّد وجهُها خجلًا من هذه الفكرة. لقد بدا في منأًى عن ذلك، وبعيد جدًّا عن الوقوع أسيرًا لتأثير النساء المعتاد. لنفرض أنها ارتكبت جريمة شنيعة وفرَّت من يقظة العدالة، فهل سيُطاردها بالطريقة المندفعة ذاتها، التي لا تعرف الرحمة، وسيُخطِّط ليقطع عليها أيَّ طريق للهروب حتى يقودَها في النهاية إلى زنزانة السجن؟ كانت فكرةً مروِّعة، فأغلقت عينيها بشدة لمحو الصورة الذهنية التي تخيَّلتْها.

كان ليغمُرها شعورٌ بالرضا الشديد إذا علمَت عدد المرات التي ضلَّت فيها أفكار جونزاليس وقادته إلى الفتاة التي دخلت حياته بشكلٍ غريب. لقد أمضى جزءًا من وقته في ذلك الصباح داخلَ غرفة نومه، مثبِّتًا على الحائط خريطةً كبيرة للسكك الحديدية التي تضمُّ جنوب إنجلترا والجزء الأكبر من قارة أوروبا. كان هناك خطٌّ بالحبر الأحمر يُميِّز الطريق من لندن إلى لشبونة، وكان يُثبِّت عَلمًا صغيرًا أخضر اللون على الخط الموجود أسفل جنوب باريس مباشرة عندما دخل مانفريد الغرفة وفحص عمله.

قال مشيرًا إلى آخرِ الأعلام الخضراء: «قطار سود أكسبريس على وشك الوصول إلى هنا، وأعتقد أن صديقنا سيَحظى برحلةٍ ممتعة وهادئة حتى فالادوليد — حيث رتَّبت الأمر مع ميجيل جارسيا، وهو أحد أصدقائي القدامى، ليُرافقه ويُلازمه كظلِّه في الرحلة تجاه الغرب — ما لم نحظَ بطائرة. أنا أتوقَّع وصول برقية في أي لحظة. بالمناسبة، ألقت شرطةُ بلدية ديبي القبضَ على السيد الذي حاول إلقاءه من على متن السفينة في منتصف القناة، أما الرجل الذي انتزع حقيبته في جار سان لازار فلا يزال طليقًا.»

قال مانفريد بلطفٍ، ثم ضحك على ما يقوله: «لا بد أنه اعتاد الأمر.»

استدار ليون على الفور. وقال بلهجةٍ حاسمة: «إنه رجل صالح». وتابع: «لم يكن بإمكاننا اختيارُ مَن هو أفضلُ منه. والمرأة التي كانت على متن القطار كانت جيرتر بالطبع. إنه المجرم الوحيد الذي أعرفه يُجيد التنكر.»

أشعل مانفريد غليونه؛ فقد اعتاد تدخينَه مؤخرًا. وقال: «القضية تزداد صعوبةً وتعقيدًا يومًا بعد يوم. هل تدرك ذلك؟»

أومأ ليون برأسه. وقال: «وتزداد خطورة. فوفقًا لقانون الاحتمالات، سينال جيرتر من أحدنا في المرة القادمة التي يُحاول فيها. هل طالعت الصحف؟»

ابتسم مانفريد.

«إنهم يُطالبون بمحاسبة ميدوز، يا للمسكين! وهذا يدل على التناقض العجيب للعامة. لم يُشارك ميدوز إلا في قضية واحدة فقط من قضايا الأفعى. إنهم ينسبون إليه الفشلَ في جميعها.»

قال جونزاليس وهما يهبطان السلَّم معًا: «يبدو أن هناك إجماعًا تامًّا على أن قضايا الموت التي تسبَّبت فيها الأفعى تندرجُ تحت فئة القتل عمدًا.»

كان ميدوز يتحدث إلى المراسلين. في الواقع، كان هذا هو الجُرم الرئيسي من وجهة نظر المسئولين. فإن أول بند في مبادئ عمل أي شرطي منضبط ينص على «عدم التواصل مع الصحافة.»

كان ليون يتجول في أرجاء الغرفة بلا هدف. مرتديًا زيَّ السائق الخاصَّ به، وواضعًا يدَيه داخل جيوبه الخلفية. وقد رنَّ مانفريد الجرس، بعد أن فهم حالته، ليستدعيَ بويكارت، وصعد الرجل الهادئ من الطابق السفلي.

قال مانفريد بجفاء: «سيُصبح ليون غامضًا.»

احتجَّ ليون قائلًا: «ليس صحيحًا»، لكن وجهه احمرَّ خجلًا. كانت إحدى السمات الساحرة التي لم تُفارقه أبدًا هي تورُّدَ وجهه خجلًا. وأضاف: «كنت سأقترح فقط أن هناك مسرحيةً تُعرض في لندن يجب أن نُشاهدها. لم أعلم أن «الهارب» مسرحية إلا هذا الصباح، عندما رأيت أحدَ موظَّفي أوبيرزون الأرستقراطيِّين ذاهبًا إلى المسرح، وتبعته، بدافع الفضول الذي أتميَّز به.» وقال مؤكدًا: «إن المسرحية التي تُثير اهتمام أوبيرزون لا بد أن تُثير اهتمامي، ولا بد أن تُثير اهتمامك أنت أيضًا يا جورج، وبالتأكيد لا بد أن تُثير اهتمام ميدوز؛ فهي مليئة بالأحداث المثيرة! تدور أحداثها حول مجرم يهرب من دارتمور ويعود لقتل مَن خانه. وبها مشهد يُعرض في الظلام، سيُثير إعجابك — لقد كنتُ أطالع آراء نقادِ الدراما، ونظرًا إلى إجماعهم على أن هذا العمل لم يُحقِّق نجاحًا فنيًّا، علاوةً على أن أحداثه بعيدة الاحتمال إلى حدٍّ كبير، فهو يستحقُّ المشاهدة.» وأضاف بخُبث: «أنا أختار دائمًا عملًا ناجحًا فنيًّا عندما أعاني الأرق.»

«يحق لأوبيرزون الاستمتاعُ بما يُسلِّيه، مهما كان مبتذلًا.»

اعترض ليون قائلًا: «ولكن هذه المسرحية ليست بمبتذَلة، باستثناء أنها تحظى بشعبية. فقد عانيت كثيرًا لشراء التذاكر. حتى الممثلون يذهبون لمشاهدة عرض الجمهور.»

«ما هو رقم المقعد الذي اشترى تذكرته؟»

قال ليون على الفور: «الشرفة أ، ودفع ثمنًا باهظًا لشراء التذكرة. إنها الشُّرفة الأخيرة جهة الملقِّن — وقبل أن تسألني عن مصدر معرفتي المذهلة بفنِّ المسرح، فسأخبرك بأنه حتى الطفل الرضيع يعلم بأن جهة الملقن هي في الجانب الأيسر المواجِه للجمهور.»

«هل سيذهب الليلة؟»

أومأ ليون برأسه إيجابًا.

قال وهو يُخرِج التذاكر من جيبه: «لقد حجزت ثلاثة مقاعد». وتابع: «إن لم تستطِع الذَّهاب، فهل ستعطيها للطاهية؟ يبدو أنها امرأةٌ يُمكنها الاستمتاعُ بالبكاء على معاناة بطَلتِها المعذَّبة. المقاعد في الصف الأمامي، مما يعني أنه يمكنك الدخولُ والخروج بين المشاهد دون أن تخطوَ فوق أقدام الآخرين.»

سأل بويكارت بنبرةٍ حزينة: «هل يجب عليَّ الذَّهاب؟» وتابع: «أنا لا أحب المسرحيات البوليسية، وأكرهُ المسرحيات الغامضة. فأنا أستطيع معرفة القاتل الحقيقي قبل رفع الستار بعشر دقائق، وهذا يُفسد عليَّ أمسيتي.»

سأله ليون بلهجة عدائية: «ألا يُمكنك اصطحاب إحدى الفتيات؟ هل تعرف أيَّ فتاة قد ترغب بالذهاب؟»

اقترح مانفريد قائلًا: «لماذا لا تصطحب العمة ألما؟» وقبِل ليون الاسم بمرح.

أتت العمة ألما إلى المدينة بناءً على اقتراح الثلاثة، واستخدمَت شقة ساحة داوتي كورت.

«إنها بالفعل امرأةٌ رائعة، وأظهرَت ثباتًا وشجاعةً في مواجهة الموقف الرهيب الذي واجهَ صديقتنا الصغيرة المسكينة، وهو أمر تستحقُّ عليه الثناء الشديد. لا أظن أن ميرابيل ليستر تُواجه خطرًا عاجلًا. أظن أنني صرَّحتُ بذلك سلفًا. يرغب أوبيرزون في احتجازها فقط حتى انتهاءِ مدة التجديد. لا يسَعُني تخيُّلُ كيف سينجو من عواقب سجنه لها. قد لا يُحاول الهرب منهم، ولعله سيتقبَّل عقوبة السجن التي ستُوجَّه له بالتأكيد، كجزء من الثمن الذي يجب أن يدفعه مقابل ملايينه.»

سأله بويكارت: «وماذا إن قتلها؟»

امتُقع وجهُ ليون للحظة.

وقال بهدوء: «لن يقتلها. ولِمَ يفعل ذلك؟ إننا نعلم أنه يحتجزها، والشرطة تعلم. يختلف أمرها عن أمرِ باربرتون؛ فهو مجرد رجل مجهول لقي مصرعه، ولا أحد يعلم كيف حدث ذلك، في مكانٍ عام. لا، لا أعتقد أننا بحاجةٍ إلى القلق بشأن هذا الاحتمال، إلا إذا …» فرَك يدَيه بانفعال. واستدرك قائلًا: «ولكننا سنرى. في هذه الأثناء أنا أضَعُ ثقتي الكاملة في ديجبي، وهو رجل بارع يشعر بالتقصير وحاجته إلى التكفير عن أخطائه السابقة. لقد كنتَ حكيمًا بخصوص تلك النقطة، يا جورج.»

كان ينظر إلى الشارع عبر الستائر.

قال، وهو يُشير برأسه إلى سيارة الأجرة الوحيدة التي تقف في الصف: «إن الفأر الصغير لا يزال في مكانه، يا لكلب الصيد المتفاني! أتساءل إن كان يتوقَّع …»

لاحظ مانفريد البريقَ الذي تسلَّل إلى عينيه.

سأله ليون بسرعة: «هل ستُريدني خلال الساعتين المقبلتين؟» وغادر الغرفة بسرعة البرق.

وبعد مرور عشر دقائق، كان بويكارت وجورج يتحدثان معًا، عندما سمعا صوتَ انغلاق الباب الخارجي، وشاهدا ليون يتجوَّل فوق حافة الرصيف ملوِّحًا بمظلته. وفجأةً ارتجف سائق التاكسي من فرط الانفعال. وانحنى، وأدار محرِّك سيارته، وصعد إلى مقعده وسرعان ما استعدَّ بسيارته، أسرع من أيِّ سيارة أجرة.

قال ليون: «نيو سكوتلاند يارد»، وركب السيارة.

اجتازت السيارة بواباتِ المبنى التي من الممنوع اجتيازُها، وأنزلته عند مدخل الموظفين.

قال ليون: «انتظرني هنا»، وبدا الرجلُ مضطربًا.

فبدأ قائلًا: «لا بد لي من العودة مرةً أخرى إلى مرأبي.»

طمأنه ليون: «لن أستغرق أكثرَ من خمس دقائق.»

كان ميدوز في مكتبه، لحسن الحظ.

قال ليون: «أريد منك القبضَ على هذا الرجل، وأن تستجوبه باستخدام جرعةٍ من الدرجة الثالثة من أساليب الاستجواب التي يُسمح بها في هذا البلد. إنه يحمل مسدسًا؛ رأيته عندما اضطُرَّ إلى النزول لفحص ذراع موتور سيارته في ميدان بيكاديللي سيركس. حينما توقف المحرك.»

«ماذا تريد أن تعرف؟»

«كلُّ ما يمكن معرفته عن أوبيرزون. ربما فاتني أمرٌ أو اثنان. لقد رأيتُه خارج المنزل. أوبيرزون يستخدمه في مهامَّ غريبةٍ، وأحيانًا يعمل سائقًا خاصًّا للرجل العجوز. في الواقع، كان هو قائدَ السيارة في اليوم الذي تناولَت فيه الآنسة ليستر الغداءَ برفقة أوبيرزون في فندق ريتز كارلتون. لعله لا يحمل رخصةَ قيادة سيارة أجرة، وهذا سيُسهِّل عليك الأمر.»

بعد مرور دقائقَ قليلة، اقتِيدَ الرجل، مندهشًا وغاضبًا، إلى كانون رو، وفُتِّش بعناية. كان ليون مُحقًّا بشأن المسدس؛ فقد وجَدوه وتبيَّن أنه محشوٌّ، ولم يلقَ تذرُّعُه بأنه حمَل السلاح بغرض الحماية بعد مقتل سائق سيارة أجرة مؤخرًا، القَبولَ الذي يُغنيه عن حمل التصريح اللازم. بالإضافة إلى — وكانت هذه هي جريمتَه الأكثرَ خطورة — عدمِ امتلاكه أيَّ تصريح من سكوتلاند يارد، يُخوِّله قيادة سيارة أجرة في الشوارع، وكانت رخصه مِلكًا لشخص آخر.

قال ميدوز: «ضعه في الداخل»، وعاد ليبلغ ليون الذي ينتظره. «لقد أصبتَ الهدف من أول مرة. لا أعلم إن كان سيُصبح مفيدًا لنا أو لا، ولكنني لا أستهينُ بأي طُعم مهما صغر.»

في أثناء انتظاره، انخرط ليون في بعض الأفكار السريعة.

«كان الرجل في جرينتش مؤخرًا. رآه أحد رجالي هناك مرتين، ولا داعيَ لذكر أنه كان يقود سيارة أوبيرزون.»

قال ميدوز: «سأتحدَّث معه لاحقًا، وسأُهاتفك»، وعاد ليون جونزاليس إلى كورزون ستريت، بابتسامةٍ واسعة.

قال جورج مانفريد: «إنك لم تفعل سوى استبدالِ جاسوسٍ تعرفه بآخرَ لا تعرفه، على الرغم من أنني لم أُشكِّك أبدًا في أفعالك الغريبة، يا ليون. ففي كثير من الأحيان تمتلك حيلةً تُمكِّنك من رفع الورقة الرابحة. بالمناسبة، ستُداهم الشرطةُ ناديَ جرينجو كلوب في طريق فيكتوريا دوك رود هذه الليلة، وربما يتمكنون من القبض على بعض الشباب الذين يعملون لصالح أوبيرزون ممن يتردَّدون على هذا المكان بانتظام.»

رنَّ جرس الهاتف بصوتٍ حادٍّ، ورفع ليون السماعة، وتعرف على صوت ميدوز.

قال المحقِّق على الفور: «لديَّ قصة غريبة لك.»

سأله ليون باهتمام: «هل تحدَّث؟»

«بعد مدة قصيرة. أخذنا بصمته، ووجدنا أنَّ لديه سِجلًّا إجراميًّا. بالإضافة إلى أنه قد حصل على وثيقة إعفاء مشروط. وبصفته محكومًا عليه سابقًا يُمكننا إعادته لاستكمال مدته غير المنتهية. لقد وعدته بأن أتوسَّط له، فاعترف بكلِّ شيء. والأمر الأكثر إثارةً هو أن أوبيرزون يُخطِّط للزواج.»

سأله مانفريد، في دهشة: «سيتزوَّج! مَن؟» ثم أضاف: «أوبيرزون؟!»

أومأ ليون برأسه.

سأل ليون: «ومَن هي السيدة التعيسة؟»

سادت لحظةُ صمت، ثم قال:

«الآنسة ليستر.»

لاحظ مانفريد وجه صديقه المحتقن، وخمَّن الأمر.

سأله ليون بنبرة متغيرة: «هل يعرف متى؟»

«لا. صدر تصريحُ الزواج منذ أكثرَ من أسبوع، وهذا يعني أن أوبيرزون يُمكنه أن يتزوج في أي يوم متى شاء إحضارَ عروسه. ماذا يدور في ذهنه، برأيك؟»

قال ليون: «تعالَ إلينا هذا المساء، وسأخبرك أنا أو جورج.»

وضع سماعة الهاتف ببطء شديد.

«هذا خطرٌ لم أتوقَّعه، رغم أنه من البديهي أن هذا هو المسار الوحيد الذي يُمكن لأوبيرزون أن يسلكه. إذا تزوَّجها فلن يمكن استدعاؤها للشهادة ضده. هل يمكنني رؤية الدفتر، يا جورج؟»

فتح مانفريد خزينة الحائط، وأخرج دفترًا صغيرًا. تصفَّحه جونزاليس بعناية.

سأله: «دنيس — لقد أدَّى عملًا جيدًا لصالحنا، أليس كذلك؟»

«أجل، إنه رجلٌ موثوق للغاية. إنه يَدين لنا، بحياته، من بين أمور أخرى. هل تتذكر، كانت زوجته …»

«أتذكَّر.» كتب ليون عُنوان الرجل الذي أثبت أنه أحدُ أكثر رجاله جدارةً بالثقة.

سأل مانفريد: «ماذا ستفعل؟»

«لقد وضعت دنيس للمراقبة أمام مكتب أمين توثيق جرينيتش من الساعة التاسعة صباحًا، وحتى الثالثة والنصف عصرًا، وسأمنحُه تعليماتٍ بأنه، فور رؤيته أوبيرزون وهو ينزل من العربة برفقة سيدة، عليه أن يدفعَه بقوة، ولكن برِفق، أسفلَ عجلات السيارة، ويطلب من السائق أن يتحرَّك للأمام خطوةً واحدة.»

كان ليون في أكثرِ لحظاته مزاحًا غالبًا ما يكون شديدَ الجدية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤