الفصل الثاني والثلاثون

عملية البحث والتفتيش

قال جونزاليس: «احذروا؛ إنها فِخاخ بشرية.»

كشف الضوء الأبيض لمصباحه عن هذا الشيء البغيض. ضرَب الفخَّ بعصاه، فانغلق بعنف.

قال: «بهذا نكون قد تخلَّصنا من أحدها»، وفحص أسنان الفخ. ثم أضاف قائلًا: «ولكن يبدو أنه قد التقط صيدًا أيضًا! فهناك آثار دماء.»

كان مانفريد وديجبي يُفتِّشان في الأرض بحذر. ثم توقَّف مانفريد لالتقاط أنفاسه المتسارعة، وانحنى مرة أخرى، والتقط قطعة من القماش المجدول.

وقال: «إنها لرجل»، وغالبَ ارتياحُه شعورَه بالخوف. وتابع: «إنه شخص يرتدي ثياب سهرة، حدث ذلك للتو.» ونظر إلى إصبَعه. وقال: «الدماء لا تزال لزجة.»

أراه ديجبي مروحةَ التهوية التي شمَّ عبرها رائحةَ البَخور، وعندما انحنى ليون، كانت الرائحة الضعيفة لا تزال باقية.

«سنُفتش المصنع أولًا. وإن كان خاويًا، سنطلب من الدكتور أوبيرزون أن يُرشدنا، وإن لم يفعل ذلك طوعًا فسوف أقنعه.» وفي انعكاس ضوء المصباح رأى جورج مانفريد ملامح ليون القاسية التي يعرفها منذ زمن. وتابع ليون: «هذه المرة لا يمكنني أن أعدَك: سيكون تهديدي أكثرَ انضباطًا من أفعالي.»

وصلوا إلى مدخل المصنع المعتم، واستعان مانفريد بضوء مصباحه في الداخل.

قال: «عليكم أن تخطوا بحذرٍ هنا.»

تقدَّموا ببطء؛ لأنهم لم يعلموا بوجود مسار محدَّد بين الحواف الحادة للحديد والحطام. توقف ليون مرة أو مرتين ليضربَ فوق الأرض بقدمه؛ وأتاه صوتٌ أجوف.

استمر البحث طويلًا وببطء شديد، مضت ربع ساعة قبل أن يوجِّه ليون مصباحه نحو البلاطة المقلوبة، والمدخل الواسع للقبو. كان أول مَن نزل، وعندما وصل إلى الأرضية، رأى ظلًّا في الضوء المنبعث داخل الغرفة، كان رجلًا، كما ظن، جاثمًا أمام المدخل، ويحجبه.

قال: «ارفع يدَيك!»

لم يَصدر عن الشخص أيُّ استجابة، وركض مانفريد باتجاه الجسم. كان وجهُه في الظل، ولكنه خفَض مصباحه وتعرَّف على ابتسامة الرجل الميت.

جيرتر!

وافَتْه المنيَّة على هذا الحال، في محاولةٍ أخيرة للخروج طلبًا للمساعدة.

قال مانفريد باقتضاب: «الأفعى». وتابع: «لا توجد علاماتٌ على وجهه حسبما أرى.»

«هل لاحظتَ معصمه، يا جورج؟»

ثم نظر جونزاليس خلف الجثة، ورأى الفتاة مستلقيةً على الفراش، وتعرَّف إلى جوان قبل أن يرى وجهها. وفي منتصف الغرفة تعثَّر في شيء. وأدرك غريزيًّا أنها أفعى فقفز سريعًا، ممسكًا مسدسه باتِّزان.

«يا إله السموات! انظروا إلى هذا!»

وأخذ يُحدق من أفعى لأخرى.

وقال: «إنها ميتة!» وأضاف: «هذا يُفسِّر ما أصاب جيرتر.»

حلَّ وثاق معصمَي جوان بسرعة ورفع رأسها، وأنصت إلى نبضات قلبها الخافتة وهو يضغط بأذنه. كان وعاء الماء والإسفنج يروي ما حدث. ولكن أين ميرابيل؟

كانت هناك غرفة أخرى، وصفٌّ من الخزائن الكبيرة، لكنه لم يجد الفتاة في أي مكان بحث فيه.

قال مانفريد بهدوء: «لا بد أنها ذهبَت». وتابع: «وإلا لوَجدْنا السحارة مغلقةً. من الأفضل أن نُخرج هذه الفتاة المسكينة بعيدًا ونفتش في الفِناء حول المنزل. ديجبي اذهب إلى …»

ثم توقَّف عن متابعة حديثه.

لو أن أوبيرزون في المنزل، فلا يجب عليهم المخاطرةُ بتنبيهه.

ولكن حالة الفتاة كانت طارئة. حمَلها مانفريد ونقلها إلى الخارج، وعادوا، بينما ليون يُرشدهم، بعد جولة كادت أن تتسبَّب في كسر عنق ليون، على بُعد بِضع ياردات من المنزل.

قال جونزاليس: «أظن أن الحفرة التي كِدتُ أسقط فيها حُفرت لغرضٍ محدَّد، ولن أُفاجأ إذا علمت أن السيد جيرتر المتوفَّى كان سيتخذها مأوًى دائمًا. هل أحملها عنك؟»

أجابه مانفريد: «لا، لا، اذهب على الطريق. من المفترض أن يكون بويكارت هناك الآن بالسيارة.»

«إن معرفة بويكارت عن زراعة البصل تفوق معرفته عن قيادة السيارات.» صدر هذا التهكُّم بتلقائية؛ لأن قلب الرجل وعقله كانا يُفكران في ميرابيل ليستر.

كان عليهم الالتفافُ حول سياج الأسلاك النُّحاسية الصلبة المحيطة بالمنزل، وفي النهاية وصلوا إلى طريق هانجمان، وفي اللحظة ذاتِها ظهرَت أضواء المصابيح الأمامية للسيارة من طراز سبانز.

قال مانفريد: «سأصحبها إلى المشفى وأتصل بالشرطة». وتابع: «أظن أنه لا يوجد هاتفٌ قريب، أليس كذلك؟»

قال ليون بجدِّية: «سأُهاتفهم من المنزل على الأرجح.»

لم يستطِع تمييزَ ما إذا كان الباب مغلقًا أم مفتوحًا من مكانه. ولم تكن هناك نافذةٌ فوق الباب؛ لذا من المستحيل معرفةُ ما إذا كانت هناك أضواءٌ في هذا الرواق أم لا. حيث غرق المنزل في ظلمة حالكة.

كان مكتئبًا بشدةٍ للحدِّ الذي منعه من توجيه أيِّ تعليمات لبويكارت، الذي شعر بإحراج بالغ بسبب المهمَّة التي فُرضت عليه، وسلَّم عجلة القيادة بكل سرور إلى جورج.

حمَلوا الفتاة ووضعوها في المقعد الخلفي للسيارة، وتراجعوا باتجاه البوابة، واتجهوا نحو الطريق بحذر … لم ينتظر ليون مغادرتهم، بل عاد إلى الجهة الأمامية للمنزل.

كان المكان معتِمًا. فتح البوابة السلكية، وصعد السلَّم في صمت. وقبل أن يصل إلى الأعلى رأى الباب مفتوحًا على مِصراعَيه. هل كان فخًّا؟ مكَّنه مصباحُه من رؤية مفتاح الإنارة، فأنار المصابيح، وأغلق الباب خلفه، ومال برأسه مُنصتًا.

كان الباب الأول جهةَ اليمين هو غرفةَ أوبيرزون. ووجد الباب مواربًا، لكن المصابيح مضاءةٌ بالداخل. دفع الباب بطرَف حذائه، لكن كانت الغرفة خاوية.

وعندما حاول فتح البابَين المجاورين في هذا الدور وجَدهما موصَدَين. هبط بحذرٍ إلى المطبخين وفتَّشهما. فوجدهما خاويَين. كان يعلم بوجود خادم أو اثنين في هذا المبنى، ولكنه كان يجهل أمرًا واحدًا، وهو ما اكتشفَه في أثناء جولته، وهو أن أوبيرزون ليس لديه غرفةُ نوم. ومن الواضح أن الخدم كانوا يَشغلون إحدى الغرفتَين بالأعلى. حيث وجد الباب مفتوحًا، والغرفة خاوية وفي حالة فوضى؛ ووجد رداءَ نومٍ خشنًا ملقًى على الفراش على عجل، وموضوعًا فوق أغطية الفراش المتهدِّلة. يبدو أن أوبيرزون صرَف خدمه على عجل، ولكن لماذا؟

وجد سيجارةً مدخَّنة جزئيًّا فوق حافة منضدة حوض غسل اليدَين. وكان رمادها ملقًى على الأرض. وفي المكتب كانت كل الأدراج مفتوحةً وخاوية، باستثناء دُرجٍ واحد، كان دُرجًا داخليًّا صغيرًا مملوءًا بقُصاصات قماش غريبة. لعل الطاهيَ أو الخادمة من المدخِّنين. ووجد علبة سجائر تحت إحدى الوسائد تؤيد فكرتَه، وخمَّن أنهما خلَدا إلى النوم على مهل، ولم يُخيَّل إليهما أنهما سيسرحان في الليل.

وعلِم لاحقًا أن أوبيرزون أعطى خدمه إشعارًا بالطرد قبل طردهم بعشر دقائق فقط، ودفع لهم راتبَ ستة أشهر تعويضًا للإساءة التي تعرَّضوا لها.

كانت غرفة فايفر مغلقةً، ولكنه صار الآن مقتنعًا بأن المنزل خاوٍ، فحطَّم المزلاج الضعيف، وفتَّش الغرفة لكنه لم يجد شيئًا. وكانت الفوضى تعمُّ أرجاء غرفة جيرتر. لا بد أنه بدَّل ثيابه على عجل. وتناثرت المساحيق واللحى، والشعر المستعار وزجاجات الكحول المبعثرة فوق منضدة التزيُّن. وتذكَّر منزعجًا أنه وعد بمهاتفة الشرطة، ولكنه حين حاول استخدام الهاتف وجده معطلًا، كان ظرفًا غريبًا، حتى اكتشف أنه في وقتٍ متأخر من تلك الأمسية، قرَّر ميدوز قطع جميع الاتصالات الهاتفية عن المنزل، وأعطى الأوامر بذلك.

كان المنزل مبنيًّا على طرازٍ غريب، ولم يلحظ أبدًا شكلَه الغريب حتى تمكَّن من تفتيشه بهذا القرب. كانت جدرانه سميكة بدرجة هائلة، وقد أدرك تلك الحقيقةَ عندما فتح النافذة الموجودة في غرفة الخادمة ليرى إن كان بإمكانه رؤيةُ ديجبي. كانت السلالم خرسانية، كما صُنعت واجهات شيش نوافذ غرفة مكتب أوبيرزون من الفولاذ. وقرَّر، بينما ينتظر وصول الشرطة، أن يُفتش الغرفتين المغلقتين. لم يجد صعوبةً في فتح أُولاهما. وهي غرفة كبيرة في الطابق الأرضي، يمكن الوصول إليها بنزول سلَّم من ستِّ درجات. وبها أريكة عريضة تحتلُّ الجوانب الثلاثة لهذه الغرفة الخاوية، ولا يقطعها سوى مدخلٍ إلى غرفة أخرى. كان الباب من الصُّلب وموصَدًا بإحكام.

غطَّى الغبار الغرفة ولكنها كانت مرتَّبة. حيث وُضع كل شيء في مكانه. وتفصل مسافةٌ كبيرة بين الأجهزة المختلفة. رأى في إحدى الزوايا محركًا يعمل بالبنزين ومولدًا كهربائيًّا يُغطيه الغبار. لم يجد شيئًا مفيدًا هنا. أما الآلةُ الأكثرُ إثارةً لاهتمامه فكانت آلةً يعلم عنها كلَّ شيء، ولكنه لم يعلم بوجود قوالبِ الجرافيت. وأثارت اهتمامَه من جديد محتوياتُ زجاجةٍ زرقاء صغيرة، مسدودةٍ بإحكام ويبدو أنها مملوءةٌ بمسحات من الصوف القطني. ألقى نظرةً في أرجاء المختبر، وخرج وحاول فتح ثاني الأبواب الموصدة.

ولكن كانت هذه الغرفة، تَحْظى بحمايةٍ فائقة، بالنظر إلى صلابة الباب وزيادة عدد الأقفال وتعقيداتها. حاول ليون استخدامَ جميع المفاتيح التي بحوزته، ثم استخدم ورقته الرابحة الأخيرة. كان يحتفظ بها داخل جرابٍ جِلدي صغير في الجيب الخلفي لسرواله، وهي ثلاث قطع فولاذية مثبَّتة معًا وتنتهي بمخلب لامع. وبينما يطرق طرَف العتَلة الصغيرة بقبضته، دفع المخلب بين الباب وعتبته، وفي أقلَّ من دقيقة انكسر القُفل، وأصبح في حضرة أغربِ رفقة يمكن العثور عليها داخل أي منزل.

حيث وجد أربعَ دفايات كهربائية قيد التشغيل. كانت الغرفة حارَّةً وهواؤها ثقيلًا، وشعر باختناق، كما حدث مع الخادم الدنماركي. أنار كل الأضواء، وكانت كثيرة، ثم بدأ جولته.

كان هناك صفَّان من الرفوف، متباعدان بشكلٍ كبير، ويحمل كلٌّ منها عددًا من الصناديق، بعضها مغلَّف باللباد الأخضر، ولكن كان بعضها مفتوحًا وتظهر محتوياته. جميعها بواجهات زجاجية، وأسطح فولاذية بها فتحاتٌ صغيرة للتهوية، وداخل كلٍّ منها، على فِراش من الصوف أو القش، تلتفُّ حول نفسها أفعى أو اثنتان. كانت هناك الكوبرا، والأفعى النفَّاثة، واثنتان من الأفعى الجرَسية، تبدو كأنها ميتة، ولكنها كما خمَّن، كانت نائمةً، وهناك أفعى الدساس التي تنتمي لأمريكا الجنوبية، وهي الأخطر بين جميع الأنواع؛ كانت هناك ثعابينُ مَرجانية صغيرة، ووجد في صندوق طويل عُشًّا كاملًا من الأشياء الصغيرة الغريبة التي تُشبه السلطعون الأصفر الصغير، ولكنه فهِم أنها عقارب.

كان يُزيح اللباد الأخضر عندما سمع مَن يقول:

«لا تتحرك، يا صديقي! أظن أنه يمكنني أن أعِدَك بتقديمك إلى عائلتنا الصغيرة على نحوٍ وثيق أكثر.»

استدار ليون ببطء، رافعًا يدَيه. كان الموت رابضًا خلفه، بلا رحمة ودون تردُّد. وإن أدخل يده في جيبه فستصبح نهايته — وكان يتمتَّع بحاسة غريزية تُمكنه من تمييز صدق التهديدات، فعندما أمره الدكتور أوبيرزون بعدم التحرك لم يُساوره أيُّ شك بأن تهديده كان مدعومًا بإرادة التنفيذ.

وقف أوبيرزون، وخلفه بقليل، وقفت ميرابيل ليستر بوجهٍ شاحب وعينين تفيضان بالذعر.

ديجبي … أين هو الآن؟ لقد تركه في الفناء المحيط بالمبنى.

كان الدكتور يفحص الباب المُحطَّم وهو يتذمر منزعجًا.

قال: «أخشى أن خُطتي لم تَعُد صالحة؛ فقد كانت تقتضي حبْسك في هذه الغرفة وتحطيمَ كلِّ هذه الصناديق الزجاجية، حتى تتمكَّن من التعرف إلى هؤلاء القوم الهادئين. ولكن لن يحدث ذلك. فلتتحرَّك، بدلًا من ذلك!»

ماذا كانت نيته؟ خرج ليون دون اكتراث، ولكن أوبيرزون أبقى بينهما مسافةً، وثبتت عيناه على تلك الأيدي البالغةِ الخفَّة، التي يمكنها أن تتحرَّك بسرعة وتنتفضَ لتُطلق النار بحركةٍ واحدة.

«توقَّف!»

توقَّف ليون أمام البابِ الأماميِّ والسلَّم.

«سنيور جونزاليس، هل تتذكَّر أخي الشهيد، والخسارة الفادحة التي شهدها العالم عندما قُتل بقسوة؟»

وقف ليون بثبات. وكان الرجل بصددِ إطلاق النار عليه. ولعل الرصاصة تنطلق في أيِّ لحظة لتنفيذ مهمَّتها المهلِكة. كانت تلك طريقةً غريبة لإنهاء حياةٍ حافلة بالأحداث. كان يعلم أن الموت وشيك، ولم يشعر بالأسف إلا تجاهَ أمرٍ واحد؛ وهو أن تشهد هذه الفتاةُ المرتجفة مشهدًا وحشيًّا كهذا. أراد أن يودِّعها ولكنه خشي إخافتَها.

جاءه صوتُ أوبيرزون الغاضب: «هل تتذكَّر أخي الشهيد؟» ثم كشف الضوءَ عن وجه أحدهم.

صاح ليون محذرًا: «ديجبي! ابقَ حيث أنت!»

قفز إثر دويِّ الطلقات. ورأى تصدُّع البناء الطوبيِّ الموجود فوق المدخل، وسمع شجارًا خفيضًا، واستدار والمسدس في يده. كان أوبيرزون قد دفع بالفتاة أمامَه حتى تُصبح درعًا واقيًا له، وحمل مسدسَه أسفل ذراعها.

صرخَت قائلة: «اهرب!»

تردَّد لثانية، ومرةً أخرى انطلقت رصاصةٌ من المسدس وارتدَّت في الباب. لم يستطِع ليون إطلاقَ النار. كان أوبيرزون منكمشًا على نفسه للحدِّ الذي يجعل التسديدة البارعة فقط هي القادرة على إصابته هو وتُخطِئ إصابة الفتاة. وبعد ذلك أفلتَ الدكتور القبضة الملتفَّة حول مِعصمه، ونزل درجات السُّلم واختفى في الظلام. ومضت ثانيةٌ أخرى وانغلق الباب. سمع اندفاع المزاليج وصليلَ القضيب الحديدي وهو يسقط في مكانه. وراودَه شعورٌ كما لو أن باب قلعة قد أوصد في وجهه.

كان دكتور أوبيرزون قد عاد للمنزل دون أن يُلاحظه أحد، رغم أن سماء الليل كانت صافية. وعبر بوابة المياه المفتوحة، وربط الزورق إلى الرصيف الصغير، وأنزل الراكبة رغمًا عنها. كان ديجبي، وفقًا للتعليمات، يُجري جولةً حذرة حول المبنى، وفي هذه اللحظة كان أبعدَ ما يكون عن الصندل. ودون أن يستوقفه أحدٌ شقَّ الدكتور طريقه عائدًا إلى المنزل. حذَّره الضوء المضاء في القاعة من وجود شخصٍ ما. كم عددهم؟ لم يستطِع التخمين.

همس في أذن ميرابيل قائلًا: «اخلَعي نعلَيك»، وأطاعته ميرابيل.

مهما حدث، يجب ألا يفقدَها، أو يمنحها فرصةً للهروب. وبينما يُمسك ذراعها بيد، ومسدسه الماوزر باليد الأخرى، صعد السُّلم برفق، ودخل الرَّدهة وأنصت، وحدَّد مكان الدخيل على الفور.

حدث كلُّ ذلك سريعًا فلم تتمكَّن ميرابيل من تذكُّر أي شيء سوى الدفعة اليائسة التي أقدمَت عليها لإبعاد المسدس الموجَّه لظهر ليون جونزاليس. وقفَت بصمت، تُراقب هذا العجوز البغيض وهو يوصِدُ البابَ الضخم، وسارت أمامه طوعًا من غرفة لأخرى. رأت الصناديق الطويلة في الغرفة الحارَّة وانكمشتْ متراجعة. وبعد ذلك بدأت جولة كاملة داخل المنزل. كان هناك مزاليجُ يجب تثبيتها، وعيون سحرية لا بد من فتحها. أغلق مصاريع غرفة الخدم، وبعدها وباستخدام المطرقة حطَّم مقبض الباب.

قال: «ستظلِّين هنا». وتابع: «أنا لا أعلم ماذا سيفعلون. لعلهم سيُطلقون النار. وأنا أيضًا سأُطلق النار!»

لم يطمئنَّ للقُفل الذي يوصِد بابها، فذهب إلى ورشته وعثر على رَزَّة وشنكل وقُفل، وقضى ما يقرب من ساعةٍ في تثبيت عامل الأمان الإضافيِّ هذا. وأخيرًا انتهى من ذلك، وأصبح بإمكانه عرض الوضع الراهن على الرجال الأربعة المعنيِّين جدًّا بالأمر.

فتح باب المبنى الخرساني الملحَق، واستدعى الرجال الأربعة المسلَّحين المحبطين، وشرح لهم الموقف والخطر الذي يحيق بهم بكلماتٍ قليلة.

وقال: «لقد أصدرَت الشرطة الإنجليزية أمرًا باعتقال كلِّ فرد منكم». وتابع: «أنا لا أقول هذا لأخدعَكم، بل أقوله عن علم. لقد زارني شرطيٌّ عصر اليوم. أقول لكم إنني لستُ بخادعِكم — إنهم لا يستطيعون المساس بي؛ لأنهم لا يعلمون شيئًا عني، ولا يمكنهم إثباتُ أي شيء ضدي. وفي أقصى الحالات سأقضي بضع سنوات في السجن، ولكن في حالتكم الأمر مختلف.»

سأل أحدُهم بارتياب: «هل ينتظرون بالخارج؟» وأضاف: «لأنهم إن كانوا كذلك، فمن الأفضل أن نتحرك بسرعة.»

قال أوبيرزون: «لن تتحرَّك، بسرعةٍ أو ببطء». وتابع: «فالخروج من هنا يضمن لكم جميعًا السجن، ولكن إن بقيتم هنا، واتبعتم خُطتي، فسيَعْني ذلك أن كل واحد منكم سيُصبح طليقًا وبحوزته المال.»

سأل كوتشيني: «ما الغرض؟» وأضاف: «هل ستُقاتلهم؟»

أومأ أوبيرزون قائلًا: «بالطبع سأقاتلهم». وتابع: «تلك هي خُطتي. فالفتاة بحوزتي في الأعلى؛ ولن يرغبوا في أن يمسَّها أيُّ سوء. أنوي الدفاع عن هذا المنزل.»

سأله أحد الرجال المذهولين: «هل تقصد أنك تنوي البقاء هنا؟»

«سأبقى هنا حتى يُصيبهم الإعياء، ويجنَحوا إلى التفاوض.»

كان كوتشيني يقضم أظفاره بعصبيَّة.

وزمجَر قائلًا: «لعل الجُرم الكبير يتساوى بالصغير أيها الزعيم». وأضاف: «أظن أنك ورَّطتَنا في هذا.»

قاطعه أوبيرزون قائلًا: «يمكنك إنقاذ نفسك إذن! ها هو ذا الباب … يمكنك الانصرافُ إذا أردت. فالشرطة هناك بالخارج؛ تَفاوضْ أنت معها. لقد كنت في ورطة قبل أيام يا صديقي. ومَن الذي أنقذك؟ الدكتور أوبيرزون. يواجه كلٌّ منكم عقوبةً بالسجن مدى الحياة، ويمكنني الحفاظ على هذا المنزل وحدي. فلتبقَوا معي، وسأعطيكم ثروةً تفوق أيَّ ثروة حلمتم بها من قبل. والأكثر من ذلك أنكم ستُصبحون أحرارًا في النهاية.»

«أين جيرتر؟»

أجاب أوبيرزون وقد بدَت عليه علاماتُ الانزعاج: «لقد قُتل … بالخطأ». وأضاف: «مات بطريقةٍ غيرِ متوقَّعة.» وأخبرهم بالحقيقة دون أي محاولة لإقناعهم. وقال: «ليس أمامكم الآن سوى اتخاذِ القرار.»

تشاور كوتشيني ورفاقه همسًا.

سأله: «كم تبلغ حصتنا؟» وذكر أوبيرزون مبلغًا ماليًّا أصابهم بالذهول.

قال: «أنا صادقٌ فيما أقول». وأضاف: «ففي غضون يومين سأمتلك منجمًا للذهب يُقدَّر بالملايين.»

كان صريحًا للغاية، وروى لهم قصةَ التل الذهبي دون تحفُّظ. وأن وكلاءه في لشبونة قد حصلوا بالفعل من الوزارة على حق خيارٍ خاص بالأرض وحقوق مِلكية المعادن. وعندما تدق الساعة الثانية عشرة ليلة ١٤ يونيو، تنتقل مِلكية حقل ذهب بيسكارا تلقائيًّا إليه.

«ينتظرك عددٌ معيَّن من سنوات السجن من جهة، ولكن من جهة أخرى تنتظرك أموالٌ طائلة وسعادةٌ بالغة.»

سأله كوتشيني: «كم سيدوم بقاؤنا هنا؟»

«لديَّ طعامٌ يكفي لمدة شهر، وكذلك الحليب. لن يقطعوا الماء حرصًا على الفتاة. وللسبب ذاتِه لن يُفجِّروا الباب.»

من جديدٍ عقدوا جلسةَ تشاور سريعة، واتخذوا قرارهم.

«حسنًا، أيها الزعيم، سنبقى. لكننا نريد إثباتَ كتابي بحصتنا.»

أجابه أوبيرزون على الفور: «هلموا، إلى مكتبي!»

كاد ينتهي من كتابة الوثيقة، عندما أتته طرقةٌ مدوية على الباب فنهض واقفًا، وأشار إليهم بالتزام الصمت. وذهب باتجاه الباب، ماشيًا على أطراف أصابعه.

وسأل: «نعم … مَن بالباب؟»

أتاه الصوت قائلًا: «افتح، باسم القانون!» فميَّز صوتَ ميدوز. الذي تابع: «لديَّ أمرٌ بإلقاء القبض عليك، وسنقتحم الباب إذا لزم الأمر.»

قال أوبيرزون: «هكذا إذن!» وأخرج فوهة مسدسه حتى استقرَّ فوق حافة الشِّق الصغير الموجود في الباب الذي توضَع عبره الخطاباتُ الواردة وأطلق طلقتَين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤