الفصل الأول
كان الوقت ليلًا عندما وصل ك. كانت القرية غارقةً في ثلوج كثيفة، ولم يكن الناظر إلى التلِّ الذي يقوم عليه القصر يرى شيئًا؛ فقد كان الضباب والظلام يحيطان به كل الإحاطة، ولم يكن هناك شعاعٌ من نور، ولو خافت، يُظهر شيئًا من ملامح القصر الكبير. ووقف ك طويلًا على الجسر الخشبي الذي يصل من الطريق الزراعية إلى القرية، ورفع بصره إلى أعلى ناظرًا إلى فراغٍ ما هو بفراغ.
ثم سار يبحث عن مكان يَأوي إليه في الليل. لم يكن الناس في الحان قد انصرفوا للنوم بعدُ. ولم يكن لدى صاحب الحان حجرة يُؤجره إيَّاها، ولكنه قد دهش واضطرب لمقدم الضيف في هذا الوقت المتأخِّر، عرض على ك أن ينام على جوال قش في قاعة الحان. ووافق ك. كان هناك بعض الفلاحين يحتسون البيرة، ولكن ك لم يشأ أن يذهب ليتسامَرَ معهم، وأحضر بنفسه جوال القشِّ من حجرة الخزين فوق السطح، وتمدَّد عليها قرب المدفأة. كان الجو دافئًا، وكان الفلاحون ساكنين، فتفحَّصهم قليلًا بعينيه المُتعبتين، ثم نام.
وكان ك قد همَّ بالقعود، ومسح على شعره ليُسوِّيَه، ونظر إلى الرجلَين من أسفل إلى أعلى وقال: ما هي هذه القرية التي ضللتُ السبيل إليها؟ وهل هنا قصر؟
فقال الشاب ببطءٍ بينما أخذ الرجال يهزُّون رءوسهم دهشةً لما فعله ك: طبعًا هنا قصر، قصر السيد الجراف فيستفيست.
وسأل ك وكأنما أراد أن يتأكَّد من أن المعلومات السابقة ليست أضغاث أحلام: وعلى الإنسان أن يحصل على تصريح بقضاء الليلة؟
وكانت الإجابة: لا بد من الحصول على التصريح.
وانصبَّت السخرية على ك شديدة عندما مدَّ الشاب ذراعه وسأل صاحب الحان والجالسين هناك: أم هل ينبغي ألَّا يحصل الإنسان على التصريح؟
وقال ك مُتثائبًا يُبعد الغطاء عن جسمه وكأنه يريد أن يقف: إذن سيكون عليَّ أن أحصل على التصريح.
فسأل الشاب: وممَّن يا تُرَى؟
فقال ك: من السيد الجراف. فلم يَعُد هناك مفرٌّ من ذلك.
فصاح الشابُّ وتراجع إلى الوراء خطوة: الآن، عند مُنتصف الليل، تريد أن تحصل على التصريح من السيد الجراف؟
فسأل ك بفتور: أليس هذا ممكنًا؟ فلماذا أيقظتني إذن؟
وهنا ثار الشاب ثورةً فقد فيها التحكم في أعصابه: يا لها من أخلاق الرعاع! إنني أُطالبك باحترام حكومة الجراف. لقد أيقظتك لأبلغك بأنه ينبغي عليك أن تغادر أراضي الجراف على الفور.
وقال ك بصوتٍ منخفضٍ انخفاضًا واضحًا: كفى مهازل!
ورقد وسحب الغطاء على جسمه وأضاف: إنك أيها الشاب تُبالغ. وسيكون لي غدًا كلام في كيفية تصرُّفك حيالي. وصاحب الحان، والسادة هناك شهود، إذا كنت سأحتاج إلى شهود. ودعني أقول لك إنني مُوظَّف المساحة الذي استقدمه الجراف. وسيأتي مُساعداي غدًا بالعربة ومعهما الأجهزة. ولقد سبقتهما لأنني أحببت ألا تضيع مني فرصة السير في وسط الثلوج. ولكنَّني ضللت الطريق عدة مرات، ووصلت لهذا السبب متأخرًا. أما إن الوقت متأخِّر لا يُناسب الذهاب إلى القصر والإبلاغ بمُقدمي، فهو ما كنت أعرفه بمُفردي، ودون ما حاجة إلى تعليم منك. ولهذا اكتفَيت راضيًا بهذا المخدع، الذي أبَت عليك وقاحتك — وهذه أخفُّ عبارة يُمكنني استعمالها — إلا أن تقضَّه. وبهذا أختم بياناتي، تُصبحون على خير، يا حضرات السادة.
واتجه ك إلى المدفأة. وسمع وراءه من يتساءل في تردُّدٍ: موظَّف المساحة؟
ثم ساد سكون شامل. ولكن الشاب عاد فتمالك نفسه، وقال لصاحب الحان بصوتٍ مكتومٍ، يمكن القول بأنه كتمه مراعاةً ﻟ ك، مسموع لا يصعب عليه الإلمام به وفهمه: سأسأل تليفونيًّا.
كيف ذلك؟ هل هناك تليفون في الحان في هذه القرية؟ لقد كانوا مُجهَّزين تجهيزًا ممتازًا. كانت التفصيلات تُثير عجب ك ولكنه كان قد توقَّع بطبيعة الحال أن تكون الأمور في مجموعها على هذا النحو. وتبيَّن ك أن التليفون مركب فوق رأسه تقريبًا، ولعله لم يَلتفِت إلى ذلك من قبل لأنَّ النعاس كان يغلبه. وإذا كان على الشاب أن يتَّصل تليفونيًّا فإنه لن يستطيع ذلك دون أن يقلق نوم ك، وهكذا أصبح الأمر رهنًا ﺑ ك هل يتركه يستعمل التليفون أم يمنعه، وقرر ك أن يسمح بذلك. ولم يكن هناك، والحال هذه، معنى لتصنُّع النوم، ولهذا عاد يَرقُد على ظهره. ورأى الفلاحين يَنكمشُون في رهبة ويتناقشُون، فلم يكن وصول موظَّف المساحة بالشيء الهيِّن. وكان باب المطبخ قد انفتح وملأت زوجة صاحب الحان بجسمها الضخم فتحة الباب، واقترب منها صاحب الحان على أطراف أصابعه ليُبلِّغها. ثم بدأت المكالمة التليفونية. كان مُدير القصر نائمًا، ولكن وكيل القصر، أو على الأحرى أحد وكلائها، رجلٌ اسمه السيد فريتس، موجودًا. وحكى الشاب، الذي ذكر أن اسمه هو شفارتسر، كيف وجد ك، ووصفه بأنه في الثلاثينيات، وأنه يَرتدي الأسمال البالية، وينام على جوال قش، ويضع رأسه على حقيبة ضئيلة من النوع الذي يُحمَل على الظهر، ويضع عصًا ذات عقد على مقربة من يمناه حيث رقد. وقال إنه أثار الشُّبهة بطبيعة الحال، ولما كان صاحب الحان قد أهمل واجبه إهمالًا جليًّا، فإنه وجد أن من واجبه هو، أي واجب شفارتسر، أن يُحقِّق في الأمر تحقيقًا دقيقًا. وقال إن ك تلقى عملية الإيقاظ من النوم، والاستجواب، والتهديد الواجب بالطرد من أراضي الجراف، مغيظًا، ربما بحق، كما اتضح في النهاية، عندما ذكر أنه موظَّف المساحة الذي استقدمه السيد الجراف. وقال إن الواجب الشكلي يفرض بطبيعة الحال على الأقل التحقيق في هذا الادعاء، ولهذا فإن شفارتسر يرجو السيد فريتس أن يستعلم من الإدارة هل تنتظر بالفعل مَقدم موظَّف مساحة، وأن يبلغه بالإجابة على الفور تليفونيًّا.
ثم ساد سكون. كان فريتس يستعلم هناك، وكان من هنا في انتظار الإجابة. وبقي ك في الوضع الذي اتخذه، فلم يتحرَّك أدنى حركة، ولم يَبدُ عليه الفضول، بل كان ينظر أمامه. ولقد أعطته رواية شفارتسر، بما اختلَط فيها من شر وحيطة، صورة عن التكوين الديبلوماسي الذي أوتي إيَّاه حتى الصغار من أمثال شفارتسر في القصر. كذلك تبيَّن أن إدارة القصر لا تفتقر إلى النشاط، يدلُّ على ذلك أنها تعمل بالليل كذلك وتجيب على ما يبدو بسرعة. فها هو ذا فريتس يدقُّ التليفون. ويبدو أن كلامه كان قصيرًا جدًّا؛ لأن شفارتسر ألقى السماعة مغضبًا ثائرًا وصاح قائلًا: هذا هو ما قلته. ليس هناك أصل على الإطلاق لموضوع موظف مساحة، إنه صعلوك دنيء كذَّاب، ويبدو أنه أشد خطرًا.
وفكر ك لحظة، وتصور أن الجميع، شفارتسر، والفلاحين، وصاحب الحان، وزوجة صاحب الحان، سينقضُّون عليه. وزحف تحت الغطاء منكمشًا ليتفادَى الهجمة الأولى على الأقل. وعاد التليفون يدقُّ من جديد، ويدق — على ما لاح ﻟ ك — بقوة تفُوق المألوف. وأخرج ك رأسه ببطء. وعلى الرغم من أنه كان من المستبعد أن يكون لهذا الرنين علاقة بموضوع ك، فإنَّ الجميع تسمروا في أماكنهم، وعاد شفارتسر إلى التليفون. وسمع شفارتسر في التليفون بيانًا مُفصلًا مسهبًا قال بعده بصوتٍ منخفضٍ: إنه خطأ إذن؟ هذا شيء يُؤسفني جدًّا. تقول إن مدير المكتب اتصل بنفسه؟ شيء عجيب، شيء عجيب. وكيف يمكنني أن أشرح ذلك للسيد موظَّف المساحة؟
وأرهف ك السمع. إذن لقد عيَّنه القصر موظفًا للمساحة. ولقد كان هذا الخبر من ناحية في غير صالحه؛ لأنه يدل على أنهم في القصر يعرفون عنه كل ما ينبغي معرفته، وأنهم قدَّروا إمكانياته وبدءوا النضال باسِمين، ولكنه كان من ناحية أخرى في صالحه؛ لأنه يُؤكِّد، في رأيه، أنهم لا يحفلون به، وأنه سينعم من الحرية بأكثر مما كان يرجو في بادئ الأمر. وإذا كانوا قد ظنوا أنهم يستطيعون، بما يعرفونه عنه وعن عمله في المساحة — وهي معرفة تُعطيهم بكل تأكيد تفوقًا فكريًّا عليه — أن يُنزلوا الرعب به بصفة مستمرة، فإنهم واهمون، كل ما حدث أن شيئًا من الفزع حلَّ به بسهولة.
وأشار ك إلى شفارتسر الذي كان يقترب منه خجلًا أن يبتعد، ورفض الامتثال لإلحاحه عليه بأن ينتقل إلى حجرة صاحب الحان. ولكنه قَبِل شرابًا منوِّمًا من صاحب الحان، وقَبِلَ من صاحبة الحان طستًا وصابونًا ومنشفة، ولم تكن به حاجة إلى أن يُطالب بإخلاء المكان ممن فيه؛ لأن الرجال اندفعوا خارجين مشيحين بوجوههم حتى لا يكون في مقدورِه أن يتعرَّف عليهم في الغد. وأُطفئ المصباح، ونعم ك أخيرًا بالهدوء. ونام نومًا عميقًا حتى الصباح لم يعكر عليه راحته إلَّا حفيف بعض الفيران مرة أو مرتين على مقربة منه، ولكنه لم يكن أمرًا ذا بال.
وبعد أن تناول ك إفطاره، الذي دفع القصر ثمنه، كما تكفَّل بطعامه كله — على نحو ما علم من صاحب الحان — أراد أن يذهب من فوره إلى القرية. ولكن صاحب الحان، الذي لم يكن ك — نتيجةً لتصرفه بالأمس — قد تكلَّم معه إلا أقل القليل، كان يحوم حوله برجاءٍ صامت، فأشفق عليه، وسمح له أن يجلس إليه هنيهة.
وقال ك: أنا لم أتعرَّف على الجراف بعد، ولقد سمعت أنه يدفع أجرًا جيدًا للعمل الجيد، فهل هذا صحيح؟ فإن الإنسان، مثلي، عندما يرحل بعيدًا عن الزوجة والولد، يرجو أن يعود بشيء إلى الدار.
وردَّ صاحب الحان قائلًا: ما ينبغي يا سيدي أن تخشى شيئًا من هذه الناحية، فلم نسمع من أحد شكاية من سوء الأجر.
فقال ك: ثم أنا لست من الذين يخجلون، ويمكنني أن أقول رأيي حتى للجراف، وإن كان من الأفضل بطبيعة الحال أن ينهي الإنسان أموره مع السادة وديًّا.
كان صاحب الحان يجلس في مواجهة ك على حافة مسطبة النافذة، فلم يجرؤ على الجلوس جلسة يرتاح فيها أكثر من ذلك، وكان ينظر إلى ك بعينَين واسعتين دَكناوَين خائفتين. وكان في بداية الأمر يقترب من ك اقترابًا شديدًا، وإذا به يبدو كأنه يرجو لو استطاع أن يجري. هل كان يخاف أن يسأله ك عن الجراف؟ هل كان يشكُّ في إخلاص السيد — فقد كان يعتبر ك سيدًا؟ وكان على ك أن يُسرِّي عنه وأن يُلهيه، فنظر إلى الساعة وقال: سيأتي مساعداي عما قريب، فهل سيكون في مقدورك أن تهيِّئ لهما مكانًا للنوم هنا؟
فقال: بكل تأكيد يا سيدي، ولكن ألن ينزلا معك في القصر؟
هل هكذا يُضيِّع بهذه السهولة، وبهذا الرضا، النزلاء الذين يعرضون له، وبخاصة ك الذي أكد له أن مكانه القصر لا محالة؟
وقال ك: لم يتأكَّد هذا حتى الآن، ولا بد أن أرى أولًا العمل الذي ينتظرني. فإذا كان عليَّ أن أعمل هنا أسفل التل، فسيكون الأصوب أن نُقيم هنا. هذا إلى أنني أخشى ألا تروق لي الحياة في القصر فوق التل. إنني أريد أن أكون دائمًا حرًّا.
فقال صاحب الحان بصوت مُنخفِض: أنت لا تعرف القصر.
فقال ك: هذا صحيح، وما ينبغي على الإنسان أن يتسرَّع في الحكم. وأنا لا أعرف حتى الآن عن القصر إلا أنَّ من به عرفوا كيف يختارون العليم بالمساحة. وربما كانت هناك ميزات أخرى.
ونهض ليَخلص منه صاحب الحان الذي كان يعض شفتيه من فرط القلق. لم يكن من السهل اكتساب ثِقة هذا الرجل.
وبينما ك يهم بالانصراف لفتت انتباهه صورة داكنة في إطار داكن معلَّقة على الحائط. وكان ك قد لمَحَها من مرقده، ولم يميز من البُعد تفصيلاتها، وظن أن الصورة قد نُزعت من الإطار، وأن ما تراه العين هو الظهر الأسود. ولكنها كانت، كما تبين الآن، صورة نصفية لرجل في نحو الخمسين من عمره. وكان الرجل يخفض رأسه على صدره على نحوٍ شديدٍ لم يكَد يكون من الممكن معه أن يرى الناظر شيئًا من عينيه، وبدا أن السبب الحاسم لخفض الرأس هو الجبهة المرتفعة الثقيلة والأنف الكبير المُلتوي لأسفل. وكانت اللحية الكثَّة، التي انضغطت في الذقن نتيجة لوضع الرأس، تبدو مُبتعدة إلى أسفل. وكانت اليد اليسرى تندسُّ، وقد تباعدت أصابعها، في شعره الكثيف، ولم يَعُد يستطيع أن يرفع رأسه.
وسأل ك: مَن هذا؟ هل هو الجراف؟
ووقف أمام الصورة ولم يَلتفت حوله لينظر إلى صاحب الحان.
وقال صاحب الحان: لا إنه ليس الجراف، إنه مدير القصر.
وقال ك: إن لكم لمديرًا جميلًا في القصر، هذه حقيقة. ولكن من المؤسف أن يكون له ابن سيِّئ الخلق.
فقال صاحب الحان: لا.
وجذب ك إلى أسفل قليلًا وهمس في أذنه: لقد كان شفارتسر بالأمس يبالغ، فليس أبوه سوى وكيل القصر، بل أحد صغار الوكلاء.
وفي هذه اللحظة ظن ك صاحب الحان طفلًا. وقال ك ضاحكًا: النذل!
ولكن صاحب الحان لم يشترك معه في الضحك، بل قال: ولكن أباه أيضًا ذو سلطان.
فقال ك: هكذا! إنك تظن أن كل شخص ذو سلطان! فهل تراك تظنني ذا سلطان؟
فقال في خجلٍ ولكن بجد: أنت، أنا لا أعتبرك ذا سلطان.
فقال ك: إذن فأنت تعرف كيف تُحسن الملاحظة. فالحقيقة — وهذا كلام بيني وبينك — إنني لستُ ذا سلطان. ويبدو أنني أُكِنُّ لذوي السلطان من الاحترام ما لا يقلُّ عما تكن أنت لهم، ولكنني لست صريحًا مثلك ولا أعترف بذلك دائمًا.
وربَّت ك على خَدِّ صاحب الحان برفق ليواسيه وليجتذب ميله إليه. فابتسم قليلًا. لقد كان فعلًا صبيًّا بوجهه الناعم الذي يوشك ألا يكون له لون. كيف تزوَّج بهذه المرأة العريضة، المُسنَّة التي يراها الإنسان وراء الطاقة المجاورة تعمل في المطبخ وقد تباعد مرفقاها عن جسمها؟ ولكن ك لم يشأ أن يستمر الآن في سبر أغواره، ولم يشأ أن يُضيِّع الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه في النهاية، واكتفى بأن أعطاه إشارة أن يفتح له الباب، وخرج إلى الصباح الشتوي الجميل.
ورأى فوق التلِّ المرتفِع القصرَ واضح المعالم في الجوِّ الصافي، يزيده وضوحًا ذلك الثلج الذي تراكَم في كل مكان وكوَّن طبقة رقيقة، وعكَس كل أشكالها. ولقد بدا أنَّ ما فوق التلِّ من ثلجٍ أقل بكثير مما في القرية، حيث وجَد ك صعوبة في السير لا تقلُّ عن الصعوبة التي لقيَها بالأمس على الطريق الزراعية. كان الثلج هنا يصل إلى نوافذ الأكواخ ويثقل فوق الأسطح المنخفِضة، أما فوق التل فكانت الأشياء كلها تبرز منطلقة وخفيفة، أو كانت على الأقل تبدو كذلك لمن يتطلَّع إليها من هنا.
وكان القصر — على قدر ما بدا من هنا — يُوافق في مجموعه ما توقعه ك ولم يكن بناءً جيدًا منيفًا، بل كان منشأة ممتدَّة الأطراف تتكون من مبانٍ قليلة من دورين وأخرى كثيرة متقاربة تقاربًا شديدًا. ولو لم يكن الإنسان يعرف من قبل أنها قصر لظنِّها مدينة صغيرة. ورأى ك برجًا واحدًا، ولم يتبيَّن هل هو برج كنيسة، أو برج مسكن. وكانت هناك أسراب من الغربان تحوم حوله.
وتقدَّم ك مُوجهًا عينَيه شطر القصر لا يهتم بشيء سواه. ولكنه عندما اقترب خيَّب القصر توقعاته، فلم يكن سوى مدينة صغيرة بائسة أشد البؤس، تتكوَّن من بيوت قروية، تتميز بميزة واحدة هي أنها تكاد تكون كلها من الحجر. ولكن الطلاء كان قد زال منذ زمنٍ بعيدٍ، وبدأ الحجر هنا يتفتَّت. وتذكر ك عابرًا مدينته الصغيرة، فلم تكن تقلُّ في شيء تقريبًا عن هذا القصر المزعوم. ولو كان ك قد أتى إلى هنا لمشاهَدة هذا القصر فحسب، لكانت رحلته جهدًا يُرثى له، ولكان الأصوب أن يزور وطنه القديم الذي طال غيابه عنه. وأخذ ك يقارن بين برج الكنيسة في بلده وبين البرج الذي فوق التل. كان ذلك البرج، يتجه بلا تردد إلى أعلى مستقيمًا مُتصابيًا، عريض السطح، منتهيًا بالقرميد الأحمر، بناءً دنونيًّا بكل تأكيد — وهل يُمكن أن يكون غير ذلك — ولكنه كان ذا هدف أسمى من عامة البيوت المنخفضة، وتعبيرًا أصفى من التعبير العادي العكر. كان البرج هنا فوق التل — البرج الوحيد الظاهر — برج مبنًى سكني كما اتَّضح ﻟ ك، ربما برج القصر الرئيسية — بناءً مستديرًا رتيبًا يُغطيه في بعض أجزائه اللبلاب حانيًا عليه، له نوافذ صغيرة، كانت في هذا الوقت تُرسل أشعة وضاحة، وكان في ذلك شيء من الجنون. وكان البناء ينتهي من أعلى بسطح جدرانه مُسنَّنة تندس بشكل مضطرب مرتبك مُفتَّت كأنما رسمتها يد طفل مُهملة أو مرتاعة، وكانت هذه الأطراف المسنَّنة تندسُّ في السماء الزرقاء. وكان الناظر يحسُّ كأنما أراد أحد السكان المُختلين أن يحبس نفسه في أبعد حجرة بالبيت، فخرق السطح، ونهض ليظهر أمام العالم.
ووقَف ك ساكنًا مرة أخرى، وكأنما كانت قدرته على الحكم تزداد عندما يقف. ولكن شيئًا عكَّر عليه سكونه. فقد كانت هناك مدرسة، خلف كنيسة القرية التي وقف بجانبها — والحقيقة أنها كانت كنيسة صغيرة وسَّعوها على هيئة الشونة لتتسع للجمهور الغفير. كانت تلك المدرسة بناءً طويلًا منخفضًا يجمع على نحوٍ عجيبٍ بين صفة البناء المؤقَّت والبناء القديم العتيق، وكانت تقع وراء حديقة مسوَّرة تحوَّلت الآن إلى مساحة من الثلوج. وفي هذا الوقت خرج منها الأولاد مع مُدرِّسهم. وكانوا يحيطون بالمدرِّس في مجموعة متزاحمة وكانت عيونهم مركزة عليه وكانوا يُثرثرون من كل ناحية فلا يكفُّون عن الثرثرة. ولم يفهم ك شيئًا من كلامهم السريع على الإطلاق. ولمح المدرس ك من بعيد، ولقد كان ك على أيَّة حال الإنسان الوحيد عدا مجموعة التلاميذ في تلك المنطقة الواسعة المترامية الأطراف، وكان المُدرِّس شابًّا في مُقتبل العمر قصيرًا، ضيق الكتفَين وإن لم يبدُ لذلك مشيرًا للضحك. وبدأ ك — لأنه كان غريبًا — بتحية الرجل القصير الذي كان يتصنَّع السلطان.
فقال ك: صباح الخير، يا سيدي المدرس.
وسكت التلاميذ فجأة، ولعلَّ هذا السكون المفاجئ أعجب المدرس كتمهيده لكلماته. وسأل المدرس ك على نحو أكثر رقة مما كان يتوقع ولكن بنبرة تنم عن أنه لا يرضى عما فعل ك: أنت تتطلَّع إلى القصر؟
فأجاب ك: نعم. فأنا غريب على المكان لم أنزله إلا بالأمس.
فسأل المدرِّس مسرعًا: فالقصر لا يعجبك؟
فردَّ ك بسؤال وقد اندهش قليلًا: كيف هذا؟
ثم أعاد السؤال بصورةٍ مخفَّفةٍ: هل القصر يُعجبني؟ ولماذا تفترض أن القصر لا يعجبني؟
فقال المدرس: إنه لا يعجب الغرباء.
وحوَّل ك موضوع الحديث حتى لا يَنطق بشيء لا يلقى ترحيبًا، فسأل: لا شكَّ أنك تعرف الجراف؟
فقال المدرس: لا.
وأراد أن ينصرف. ولكن ك لم يتراجع وعاد يسأل: كيف هذا؟ ألا تعرف الجراف؟
فقال المدرس بصوتٍ مُنخفضٍ: وكيف لي أن أعرفه؟
ثم أضاف بصوتٍ مرتفعٍ باللغة الفرنسية: خذ في اعتبارك وجود أطفال أبرياء.
فاستقى ك من هذه العبارة حق توجيه هذا السؤال: هل يمكنني، يا سيدي المدرس أن أزورك؟ فسأبقى هنا مدة ليست بالقصيرة، ولقد بدأت منذ الآن أشعر بشيءٍ من العزلة، فأنا لا أنتمي إلى الفلاحين، ولا أنتمي بطبيعة الحال كذلك إلى القصر.
فقال المدرس: ليس هناك فرق كبير بين الفلاحين والقصر.
فقال ك: ربما. ولكن هذا لا يُغير من وضعي شيئًا. هل يمكنني أن أزورك؟
فردَّ المدرس: أنا أسكن في حارة البجع عند الجزار.
كانت هذه العبارة أقرب إلى بيان العنوان منها إلى الدعوة، ومع ذلك فقد قال ك: حسن. سآتي.
وهزَّ المدرس رأسه واستأنف طريقه مع التلاميذ الذين عادوا إلى التصايُح. واختفوا بعد وقتٍ قليلٍ في حارة صغيرة منحدرة انحدارًا شديدًا.
كان ك مشتَّت الفكر، وكان الحديث قد أغضبه. وأحسَّ لأول مرة منذ وصوله بتعبٍ حقيقيٍّ. لم يكن قد أحس حتى الآن بأن الطريق الطويل قد أتعبه، ولقد سار على قدمَيه أيامًا، هادئًا، خطوة، خطوة. أما الآن فقد ظهرت عواقب الإجهاد المفرط، في وقت غير ملائم بطبيعة الحال. وأحسَّ دافعًا، لا سبيل إلى التغلُّب عليه، إلى التعرف على الجديد، ولكن كل معرفة جديدة كانت تزيد من تعبِه. وهو إذا استطاع اليوم في هذه الحالة أن يُجبر نفسه على الوصول بمسيرته على الأقل إلى مدخل القصر. فقد فعل أكثر ممَّا يطيق.
وهكذا استأنف السير: ولكن الطريق كان طويلًا. ولم يكن الطريق الرئيسي للقرية، يُؤدي إلى تل القصر نفسه، بل كان يؤدي إلى مكانٍ قريبٍ منه، ثم كان يَنحني — وكأنما كان ذلك عن قصد — وإن لم يكن يَبتعِد عن القصر، فلم يكن على أيَّة حال يقترب منه. وظل ك يتوقَّع أن ينتهي به الطريق إلى القصر، وظل لهذا السبب يستمر في السير، ويبدو أنه، نتيجةً لتعبه، تردَّد في ترك الطريق، وتعجَّب في الوقت نفسه لطول القرية طولًا لا ينتهي إلى نهاية. وتوالَت عليه البيوت الصغيرة، والنوافذ التي تكوَّنت طبقة من الثلج على زجاجها، والجليد، ووحشة المكان — وأخيرًا انتزع نفسه من هذا الطريق الذي استبدَّ به، وتلقَّفَته حارة صغيرة ضيقة، كان الجليد بها أكثر كثافة، وكان إخراج الأقدام بعد غوصها فيه عملًا صعبًا، وتصبَّب ك عرقًا، وفجأة وقف، ولم يستطع الاستمرار في السير.
ولم يكن ك وحيدًا في مكان مهجور، كانت هناك عن يمينه وشماله أكواخ الفلاحين. وتناوَل شيئًا من الجليد وصنع منه كرة ألقاها على إحدى النوافذ. فانفتح على التوِّ باب — كان هو أول باب يَنفتح طوال سيره في شارع القرية — وظهر فيه فلاح مسن، ودود، ضعيف، يرتدي سترة من الفراء ويميل برأسه إلى ناحية. وقال ك: أتسمح لي بأن آتيَ إليكم قليلًا؟ إنني شديد التعب.
ولم يسمع ما قاله الرجل المسن، وتقبل شاكرًا اللوح الذي دفع به الرجل إليه وأنقَذَه به على الفور من الجليد، وما سار إلا بضع خطوات، حتى كان في الحجرة.
كانت تلك الحجرة حجرة واسعة خافتة الضوء، لا يُرَى الداخل فيها من الخارج في أول الأمر شيئًا. وترنَّح ك متعثرًا في إناء الغسيل، فامتدت إليه يد امرأة وسنَدته. وأتى من أحد الأركان صخبٌ شديدٌ يُصدره بعض الأولاد، وتصاعد من ركن آخر دخان يتلوَّى ويُحيل الضوء الخافت إلى ظلام دامس. ووقف ك وكأنه في وسط السحاب. وقال بعضهم: إنه سكران بطبيعة الحال.
– وصاح صوتٌ نبْرتُه نبرةُ أصوات السادة، والظاهر أنه كان موجهًا إلى الرجل المسن: مَن أنت؟ لماذا أدخلته هنا؟ أيصح أن يُدخِل الإنسان إلى هنا كلَّ شيء يجوس في الحواري؟
فقال ك: أنا موظَّف المساحة لدى الجراف.
وحاول على هذا النحو أن يدافع عن نفسه حيال أولئك الذين ظل حتى تلك اللحظة لا يراهم.
وقال صوت نسائي: آه، إنه موظَّف المساحة.
ثم أتت فترة سكون مُطبق. وسأل ك: أنت تعرفينني؟
وقال الصوت ملتزمًا بالإيجاز نفسه: مؤكَّد.
ولم يجد ك خيرًا في أن هناك من يعرفه.
وأخيرًا تبدَّد الدخان قليلًا، واستطاع ك أن يتبين الأمور شيئًا فشيئًا ويبدو أن اليوم كان يوم الغسيل المعتاد. فقد كان هناك بجوار الباب من يغسل. أما الدخان فكان يأتي من الركن الآخر، وكان فيه إناء خشبي كبير لم ير ك من قبل إناءً خشبيًّا في حجمه — كان في حجم سريرَين تقريبًا — يستحم في مائه الذي يتصاعَد بخاره رجلان. أما الركن الأيمن فكان أكثر مفاجأة، وإن لم يكن ك يعرف بدقة كُنهَ المفاجأة. كانت هناك فجوة كبيرة، هي الفجوة الوحيدة في الحائط الخلفي للحجرة، يدخل منها، على الأرجح من الفناء، ضوء جليدي باهت، يضفي على ثوب امرأة كانت تجلس في أقصى الركن على كرسي وثير مُرتفع، وواهنة وكأنها ترقُد، مسحة كأنها مسحة الحرير. وكانت المرأة تحمل رضيعًا إلى صدرها. وكان هناك بعض الأولاد، يدلُّ منظرهم على أنهم من أولاد الفلاحين، يلعبون حولها، أما هي فقد بدا عليها أنها ليسَت منهم؛ لأن المرض والضعف يُضفيان على الفلاحين بطبيعة الحال سمة الرقة.
وقال أحد الرجلين: اجلس.
كان هذا الرجل كث اللحية، وكان له علاوة على اللحية شارب، وكان يفتح من تحته فمه دائمًا لاهثًا ولا يقفله، وكان منظره يُثير الضحك، وأشار بيده من فوقه حافة الإناء الخشبي إلى خزانة هناك، ورشَّ في هذه الأثناء شيئًا من الماء الدافئ على وجه ك كله. وكان هناك من يجلس فوق الخزانة ناعسًا حالمًا، إنه الرجل المسن الذي أدخل ك. وكان ك راضيًا شاكرًا للسماح له بالجلوس. وها هو ذا يجلس ولا يهتمُّ به أحد. كانت المرأة المشتغلة بالغسيل، وهي امرأة شقراء الشعر، في ريعان الصبا، تُغني بصوت مُنخفِض أثناء العمل، وكان الرجلان في الحوض يضربان بأرجلهم ويتلويان، وكان الأولاد يريدون الاقتراب منهما، ولكنهما كانا يردانهم برش ماء كثيف عليهم، أما المرأة التي في الكرسي الوثير، فكانت ترقد كالميتة، ولم تكن حتى تنظر إلى الطفل الذي تحمله إلى صدرها، بل كانت تنظر نظرة غير محدَّدة إلى أعلى.
ولا بد أن ك تطلَّع طويلًا إليها، إلى هذه الصورة الجميلة الحزينة غير المتغيرة، ولا بد أنه استغرق بعد ذلك في النوم؛ لأنه عندما أفزعه صوت عالٍ من نومه، كان يركن رأسه على كتف الرجل العجوز بجواره. كان الرجلان قد فرغا من الاستحمام، وكان الأولاد. قد نزلوا في الحوض وأخذوا يعبثون فيه، والمرأة الشقراء تراقبهم. ووقف الرجلان يرتديان ملابسهما أمام ك. وتبيَّن أن الرجل ذا اللحية الكثة والصوت الصارخ هو أقل الرجلين شأنًا. ذلك أن الرجل الثاني، لم يكن أطول قامة من ذي اللحية الكثيفة، وكانت لحيته أخف بكثير من لحية الآخر، كان رجلًا هادئًا، ذا أناة في التفكير، وكان عريض البدن، عريض الوجه، وكان يُطأطئ رأسه. وقال: يا سيادة موظف المساحة، لا يمكن أن تبقى هنا. وأرجو ألا تؤاخذني على قلة الأدب هذه.
وقال ك: وأنا لا أريد أن أبقى، كل ما كنت أريده هو أن أرتاح. ولقد ارتحت، وسأنصرف الآن.
وقال الرجل: يبدو أنك تدهش لقلَّة إكرام الضيف، ولكن إكرام الضيف ليس من عادتنا، فنحن لسنا بحاجة إلى ضيوف.
وفرح ك بهذه الكلمات الصريحة، وكان النوم قد أنعشه قليلًا، وجعله أكثر قدرة على السمع من ذي قبل، وإذا هو الآن يتحرك بمزيد من الانطلاق، ويضع عصاه مرة هنا، ومرة هناك، ويقترب من المرأة في الكرسي الوثير، وكان ك أطول مَن بالحجرة قامةً.
وقال ك: مؤكَّد. فما حاجتكم إلى الضيف؟! ولكن الناس يحتاجون رغم ذلك من حين لآخر إلى ضيف، إلى، موظف المساحة. على سبيل المثال.
فقال الرجل بتُؤَدة: لا أعرف. وإذا كانوا قد استدعوك، فلا بد، على ما يبدو، أنهم يحتاجون إليك. وهذه حالة استثنائية. أما نحن، صغار الناس، فنتمسك بالقاعدة، وليس لك أن تؤاخذنا على ذلك.
فقال ك: لا. لا. بل أنا مدين لكم بالشكر، لكم وللجميع هنا.
واستدار ك فجأة، على غير انتظار من أي إنسان، وقفز قفزة فوقف أمام المرأة. ونظرت المرأة إلى ك بعينين واهنتين زرقاوين، وكان هناك منديل حريري شفاف يتدلى من فوق رأسها إلى منتصف جبينها، وكان الرضيع ينام على صدرها. وسأل ك: من أنت؟
وقالت وكأنها تقذف الإجابة قذفًا، ولم يكن واضحًا هل تصبُّ التحقير على ك أو على إجابتها هي: بنت من القصر.
حدث هذا كله في لحظة واحدة، وإذا بالرجلين يقفان، هذا إلى يمين ك وذاك إلى شماله، صامتَين، كأنَّما لم تكن هناك وسيلة أخرى للتفاهُم، وجراه بكل قوة إلى الباب. وفرح العجوز بشيء ما في هذا وصفَّق بيدَيه. وكذلك الغسالة ضحكت وهي عند الأولاد الذين أحدثوا فجأة صخبًا شديدًا كأنهم أصابهم جنون.
أما ك فكان قد وصل إلى الحارة، ووقف الرجلان بالباب يَرقُبانه. وكان الجليد قد عاد إلى السقوط، ومع ذلك فقد بدا كأن الضوء ازداد شيئًا من الوضوح. وصاح الرجل ذو اللحية الكثيفة وهو لا يُطيق صبرًا: إلى أين تريد الذهاب؟ هذا هو اتجاه القصر، وذاك اتجاه القرية.
ولم يُجِب ك عليه، بل اتجه إلى الآخر الذي لاحَ له على الرغم من تفوُّقه أسهل في المعاملة قائلًا: مَن أنت؟ إلى مَن أزجي شكري على الوقت الذي أمضيته هنا؟
وكانت الإجابة: أنا المعلِّم الدباغ لازيمان. وليس عليك أن تشكر أحدًا.
وقال ك: حسن. ولعلَّنا نلتقي مرة أخرى.
فقال الرجل: لا أظن.
وفي هذه اللحظة صاح الرجل ذو اللحية الكثيفة رافعًا يده: صباح الخير يا أرتور. صباح الخير يا يريمياس.
والتفَتَ ك خلفه. معنى هذا أنَّ هناك في هذه القرية أناس يظهرون في الحواري. كان هناك شابان يأتيان من ناحية القصر، كانا مُتوسِّطَي القامة، رشيقَين، يرتديان ملابس ضيقة، وكان وجهاهما كذلك مُتشابهين تشابهًا شديدًا. كانت بشرتهما بنية داكنة، وكانت لهما لحية مدبَّبة تبرز بسوادها الشديد فوق البشرة. وكانا يسيران على الرغم من أحوال الطريق بسرعة تُثير الدهشة، ويحركان ساقيهما الرشيقتين بإيقاعٍ منتظمٍ. وصاح الرجل ذو اللحية الكثة: ماذا وراءكما؟
ولم يكن من الممكن التفاهم معهما إلا بالصياح؛ لأنهما كانا يسرعان ولا يتوقَّفان. وردا صائحين وهما يضحكان: عمل.
– أين؟
– في الحان.
وصاح ك فجأة بصوت أعلى من أصوات الآخرين جميعًا، فقد كانت حاجته كبيرة إلى أن يأخذه الرجلان معهما: وأنا كذلك ذاهب إلى هناك.
ولم يكن ك ينتظر الكثير من وراء التعرف عليهما، ولكنهما لاحا له رفيقَين طيبين يبثان فيه النشاط في الطريق. ولقد سمعا كلمات ك، وأومآ برأسَيهما ولكنهما مرَّا دون توقف.
كان ك لا يزال واقفًا في الجليد، لا يجد رغبة في رفع قدمه من الجليد، ليدسَّها بعد قليل في أعماقه. أما المعلم الدباغ ورفيقه، وقد فرحا بالتخلص من ك، فقد دفعا بنفسيهما، وهما لا يزالان ينظران خلفهما إلى ك، من خلال الباب المردود إلى داخل البيت شيئًا فشيئًا، وإذا ك يقف وحيدًا يحيط به الجليد من كل جانب. وخطر بباله: لولا وقوفي هنا مصادفةً، وليس عن عمدٍ، لكان ذلك داعيًا لشيء من اليأس.
وهنا انفتح في الكوخ ناحية اليسار شباك صغير جدًّا، كان لونه وهو مقفول أزرق شديد الزرقة، ربما نتيجة لشدة بياض الجليد، وكان ضئيلًا حتى وقت فتحه، لم يظهر وجه المُطلَّة كله، بل عيناها الدكناوان الشائختان. وسمع ك صوتًا نسائيًّا مرتعشًا يقول: إنه يقف هنا.
وقال صوت رجالي: إنه موظَّف المساحة.
ثم أقبل الرجل إلى النافذة وسأل على نحو ليس بالغليظ، وإن نمَّ عن أن الرجل مهتمٌّ بأن يكون كل شيء في الشارع أمام بيته على ما ينبغي له أن يكون: مَن تنتظر؟
فقال ك: إنني أنتظر زحافة أستقلها.
فقال الرجل: ليس هذا طريق مواصلات.
فقال ك مستنكرًا: ولكن هذا هو الطريق المؤدِّي إلى القصر.
فقال الرجل بشيء من صلابة الرأي: ومع ذلك، ورغم ذلك، فليس هذا طريق مواصلات.
ثم صمت الاثنان. ويبدو أن الرجل كان يُفكر في شيء؛ لأنه ظل فاتحًا الشباك الذي كان الدخان يتصاعد منه. وقال ك ليساعده: إنه طريق رديء.
فلم يَزِد عن أن قال: نعم، طبعًا.
ومع ذلك فقد قال بعد هنيهة: إن شئتَ أركبتُكَ زحافتي.
فقال ك فرحًا: أرجوك أن تفعل. ماذا تطلب ثمنًا لذلك؟
فقال الرجل: لا شيء.
وتعجَّب ك أشد التعجب. فأردف الرجل موضحًا: إنك موظف المساحة، وتنتمي إلى القصر. إلى أين تريد أن أنقلك بالزحافة؟
فقال ك على عجلٍ: إلى القصر.
فقال الرجل على الفور: إذن فلن أنقلك.
فقال ك معيدًا كلمات الرجل ذاتها: إنني أنتمي إلى القصر.
فقال الرجل في صدود.
– ربما.
فقال ك: إذن فخُذني إلى الحان.
فقال الرجل: حسن. سآتي حالًا بزحافتي.
ولم يكن كل هذا يحمل طابع الود، بل كان يبدو كنوع من السعي الأناني الخائف الذي يوشك أن يكون متزمِّتًا، لإبعاد ك عن المكان الذي وقف فيه أمام البيت.
وانفتح باب الفناء، وخرجت منه زحفة صغيرة لنقل الأحمال الصغيرة، زحافة مُنخفضة، بلا مقاعد، يجرها حصان ضعيف، وجاء خلفها رجل، مقوس الظهر، خائر القوة، يعرج، وكان وجهه نحيلًا، محتقنًا، مُصابًا بالبرد، وكان يبدو صغيرًا جدًّا من أثر الشال الصوفي الذي لفَّه الرجل لفًّا محكمًا حول رأسه. كان الرجل ظاهر المرض ولقد خرج خاصةً لينقل ك. وعبَّر ك عن هذا المعنى، ولكن الرجل ردَّه عن ذلك بإشارة من يده. ولم يعرف ك منه إلا أنه الحوزي جيرشتيكر، وأنه لم يختر هذه الزحافة المُتعِبة، إلا لأنها كانت جاهزة، ولو أراد أن يُخرج أخرى، لاحتاج إلى وقتٍ طويلٍ. وقال وهو يُشير بالسوط إلى مؤخر الزحافة: اجلس هنا.
فقال ك: بل سأجلس بجوارك.
فقال جيرشتيكر: سأسير أنا على قدماي.
فسأله ك: لماذا؟
فعاد جيرشتيكر يقول: سأسير أنا على قدماي.
وأصيب الرجل بنزلة سعال رجَّته رجًّا شديدًا اضطرَّ معه أن يثبت ساقَيه في الجليد وأن يعتمد بيدَيه على حافة الزحافة. فلم يقل ك شيئًا غير الذي قاله وجلس على مؤخر الزحافة، وهدأ ما أصاب الرجل من سعال شيئًا فشيئًا، وسارت الزحافة.
وها هو ذا القصر فوق التل، وقد احتواه في هذا الوقت المبكر ظلام عجيب، يَبتعِد مرة أخرى، وكان ك يرجو أن يصل إليه اليوم، فإذا هو الآن يُودعه، ويبدو أن الواجب كان يُحتِّم ألا يمر هذا الوداع المؤقَّت دون أية تضحية، فدوَّى هناك رنين ناقوس، يهتز ببهجة، ناقوس جعل القلب على الأقل للحظة ينتفض، وكأنما انتفض القلب لأنه يُهدده — ذلك أن هذا الرنين البهيج كان في الوقت نفسه رنينًا مؤلمًا — يُهدِّده بتحقيق ما كان يتوق إليه في غير اطمئنان. ثم سكت هذا الناقوس الكبير بعد قليل، وحلَّ محله ناقوس صغير ضعيف رتيب، لعله كان فوق التل، ولعله كان في القرية. وكان هذا الرنين يتَّفق على نحو أفضل بطبيعة الحال مع انزلاق الزحافة البطيء والحوزي الذي كان يثير الأسى ويمثل في الوقت نفسه الصلابة التي لا تلين.
وصاح ك فجأة: يا أنت!
كانا قد اقتربا من الكنيسة، ولم يَعُد الطريق إلى الحان بعيدًا، فسمح ك لنفسه بشيء من المخاطرة. وأردف ك يقول: إنَّني أدهش لأنك تجرؤ على السير بي هنا وهناك، على مسئوليتك فهل لك أن تفعل هذا؟
ولم يعبأ جيرشتيكر واستمر يخطو خطاه إلى جانب حصانه المسكين. وصاح ك: هيه.
وتناول شيئًا من الجليد من الزحافة وكوَّره وأصاب به جيرشتيكر في أذنه. وهنا وقف والتفَت خلفه، فلما رآه ك عن قربٍ شديدٍ — وكانت الزحافة قد تقدَّمت بعض الشيء — عندما رأى هذا الجسم المقوس، الذي حلَّ به الضُّر على نحو ما، وهذا الوجه الأحمر الواهن الناحل بخدَّيه اللذين يختلفان أحدهما عن الآخر على نحو ما، فهذا مُنبسِط وذاك أجوف، وفمه المفتوح الذي يعبر عن التنبُّه والإصغاء، والذي لم يَعُد به بضعة أسنان متفرقة، اضطر إلى أن يكرر العبارة التي قالها من قبل عن نية سيئة، ويُعيدها عن أسًى، متسائلًا هل يحتمل أن يعاقب جيرشتيكر لنقله ك بالزحافة. فسأله: ماذا تريد؟
سأل الرجل هذا السؤال على نحو ينمُّ عن عدم التفهم، ولم ينتظر تفسيرًا، بل صاح في الحصان أن يسير، واستأنفا طريقهما.