الفصل الرابع
كان ك يودُّ أن يُسِرَّ إلى فريدا بحديث، ولكن المساعدَين — وكانت فريدا تمزح وتضحك معهما أحيانًا — كانا يعوقانه عن ذلك بوجودهما الذي يَفرضانه فرضًا. والحقيقة أنهما كانا يكتفيان بالقليل؛ فقد جلسا على جلبابين قديمين من جلابيب النساء في ركن من الحجرة على الأرض. وكان همُّهما، كما قالا لفريدا، ألا يقلقا السيد موظَّف المساحة، وألا يشغلا إلا أقل مكان ممكن، وكانا يقومان من أجل هذا الهدف — بطبيعة الحال وهما يهمسان ويضحكان ضحكًا مكتومًا — بمحاولات مختلفة لضم أذرعهما وسيقانهما، حتى تكورا معًا، ولم يكن ك يرى إلا كرةً كبيرة في ظلام أحد الأركان. ومع ذلك فقد كان ك يعلم من خبراته في وضح النهار، أنهما يُجيدان الملاحظة، وأنهما دائمًا يحملقان في ك، فيصطنعان عبث الصبية، وينظران من خلال أيديهما وكأنها منظار مقرب أو ما شابه ذلك من العبث، أو يحملقان فيه ويلوحان كأنهما يصلحان من لحيتَيهما وكانا يهتمان بهما اهتمامًا كبيرًا ويُقارنان بينهما مرات لا حصر لها من حيث الطول والكثافة، ويحتكمان إلى فريدا.
وكثيرًا ما كان ك ينظر من سريره إلى ما يفعله الثلاثة ولا يحفل به مطلقًا.
فلمَّا أحس بأنه أوتي من القوة ما يُمكِّنه من مغادرة الفراش، أسرع الجميع إليه لخدمته. ولكنه لم يكن قد بلغ من القوة ما يمكنه من رفض خدماتهم، ولاحظ أنه انتهى بهذا إلى نوعٍ ما من التبعية إليهم، يُمكن أن تؤدِّي إلى عواقب وخيمة، ولكنه كان مضطرًّا إلى ترك الأمور تسير سَيرها. ولم يكن من المستقبَح على أيَّة حال أن يجلس إلى مائدة ويتناول قهوة جيدة أحضرتها فريدا، ولا أن يتدفَّأ إلى المدفأة التي حمتْها فريدا، ولا أن يرسل المساعدَين المتحمِّسَين المُتعثِّرَين صاعدَين نازلَين الدرج ليُحضِرا الماء والصابون والمشط والمرآة، ثم ليُحضرا كأسًا صغيرة من خمر الروم طلبها ك بصوت مُنخفِض ولكنه مفهوم.
وقال ك في غمرة هذه الأوامر والخدمات، يحفزه المزاج المعتدل أكثر مما يحفزه الأمل في النجاح: اذهبا الآن، اذهبا كلاكما، لم أَعُد الآن في حاجة إليكما، وأريد أن أتكلم وحدي مع الآنسة فريدا.
فلمَّا لم يرَ على وجهيهما مقاومة واضحة، قال لهما على سبيل التعويض: وسنذهب نحن الثلاثة بعد ذلك لرئيس مجلس القرية، فانتظراني تحت في القاعة. ومن الغريب أنها انصاعا لأمره، وإن قالا قبل أن ينصرفا: من الممكن أن ننتظر هنا.
وأجاب ك: أنا أعرف هذا، ولكني لا أريد.
وتضايَق ك — أو لعله استحسن على نحو ما — عندما جلست فريدا على حِجره بعد خروج المساعدَين مباشرةً، وقالت له: فيمَ غضبك يا حبيبي من المساعدَين؟ لا ينبغي أن يكون لنا أسرار تخفيها عليهما. إنهما مخلصان.
فقال ك: آه. مخلصان! إنهما يُحملقان فيَّ دائمًا، وهذا شيء سخيف، ولكنه شيء بشع.
فقالت: أظن أنني أفهمك.
وتعلَّقت برقبته، وأرادت أن تقول شيئًا ولكنها لم تستطع الاستمرار في الكلام. ولما كان الكرسي مجاورًا للسرير فقد مالا ناحيتَه وانقلَبا فيه. وها هما هذان يرقدان ولكنَّهما لم يكونا مُستسلمَين كما كان بالليل. كانت هي تبحث عن شيء، وكان هو يبحث عن شيء، في عنف، وكلٌّ منهما يعقص أساريره، ويدسُّ رأسه في صدر الآخر، كانا يبحثان، وكان عناقهما، وكان جسماهما المُضطربان لا يجعلانهما يَنسيان واجبهما، واجب البحث، بل يُذكرانهما به. كانا ينبشان في جسمَيهما، كما تنبش الكلاب اليائسة في الأرض. وكانا يمران بلسانَيهما كلٌّ على وجه الآخر التماسًا لسعادة أخرى في يأسهما وعجزهما. حتى أسكنهما التعب وجعلهما يحسَّان بالامتنان أحدهما حيال الآخر. وصعدت الخادمتان إليهما، وقالت إحداهما للأخرى: انظري كيف يرقدان!
وألقت عليهما ملاءة رأفةً منها بهما.
فلما تخلَّص فيما بعد من الملاءة، ونظر حواليه، وجد — ولم يدهش هو لما وجد — المساعدَين قد عادا إلى ركنهما، وكانا كل منهما يحضُّ صاحبه، وهو يشير بإصبع إلى ك، على الجد، وأداء التحية الواجبة. وكانت هناك كذلك، صاحبة الحان تجلس ملتصقة بالسرير، وترفي جوربًا، وهو عمل صغير لم يكن يتناسب إلا قليلًا مع جسمها الهائل الذي أوشك أن يُظلم الحجرة. وقالت وهي ترفع وجهها الذي ارتسمت فيه طيات الشيخوخة وإن ظل في مجموعه كتلة منبسطة، ولعله كان في زمانه وجهًا جميلًا: إنني أنتظر منذ وقت طويل.
كانت كلماتها تحمل نغمة اللوم، وكان لومًا في غير موضعه؛ لأن ك لم يطلب إليها أن تأتي. ولهذا فقد أكَّد كلماتها بهزة من رأسه فقط، ثم اعتدل في الجلسة. وكذلك نهضت فريدا، وتركت ك واستندت إلى كرسي صاحبة الحان. وقال ك وهو مهوش الفكر: ألا يمكن تأجيل هذا الذي تُريد السيدة صاحبة الحان قوله لي، حتى أعود من عند رئيس مجلس القرية؟ فهناك حديث هام أريد إجراءه هناك؟
فقالت صاحبت الحان: هذا الحديث أكثر أهمية، صدقني، يا سيادة موظف المساحة. ويبدو أن الأمر هناك أمر عملٍ، أما الأمر هنا فأمر إنسان أمر فريدا، خادمتي العزيزة.
فقال ك: آه! طبعًا! ولكني لا أعرف لماذا تترك هذه المسألة لنا نحن.
فقالت صاحبة الحان: السبب هو الحب، والاهتمام.
وجذبت رأس فريدا إليها، وكانت فريدا وهي واقفة، لا تصل إلا إلى كتف صاحبة الحان وهي جالسة. وقال ك: ما دامت فريدا تثق فيك هذه الثقة، فلا يُمكن إلا أن أقف منك نفس الموقف. ولما كانت فريدا قد قالت منذ قليل إن المساعدَين مخلصان، فنحن إذن أصدقاء فيما بيننا. ولهذا يمكنني أن أقول لك، يا سيدتي صاحبة الحان، إنني أعتقد أن أفضل شيء هو أن نتزوَّج، فريدا وأنا، وفي أقرب وقت. وأنا للأسف لن أستطيع أن أعوِّض فريدا عما فقدته بسببي، أعني وظيفتها في حان السادة، وصداقتها لكلم.
ورفعت فريدا وجهَها وكانت عيناها مليئتين بالدموع، ولم يكن فيهما أي تعبير عن الانتصار.
وقالت: لماذا أنا بالذات؟ لماذا وقع الاختيار عليَّ أنا بالذات؟
وسأل ك وصاحبة الحان معًا: ماذا تعنين؟
وقالت صاحبة الحان: إنها، الطفلة المسكينة، مُرتبكة! مرتبكة لالتقاء الكثير من السعادة مع كثير من التعاسة. وكأنما أرادت فريدا أن تؤكد هذه الكلمات فارتمَت على ك وقبلته بعنف وكأنما لم يكن في الحجرة غيرهما، ثم خرَّت أمامه تبكي، وتُعانقه، وهي راكعة. وبينما أخذ ك يداعب شَعر فريدا بيديه، سأل صاحبة الحان: يبدو أنك ترَين أنني على حقٍّ؟
فقالت صاحبة الحان: إنك رجل شريف.
وكانت الدموع تحبس صوتها هي الأخرى، وكانت تبدو واهنة قليلًا وتتنفس بصعوبة. ومع ذلك فقد وجدت لديها القوة لتقول: لا بدَّ من التفكير الآن في الضمانات التي ينبغي أن تُقدمها إلى فريدا، فأنت، على الرغم من احترامي الكبير لك، رجل غريب، لا يُمكنك أن تستشهد بأحد، وظروفك العائلية غير معروفة هنا. ولهذا فإن الضمانات ضرورية، وهذا شيء لا شك في أنك تُقدره، يا سيادة موظَّف المساحة، ولقد أوضحت أنت نفسك ما تَفتقِده فريدا نتيجة لعلاقتها بك.
وقال ك: بكل تأكيد. ضمانات! بطبيعة الحال! والأفضل تقديمها أمام الموثق، وربما تدخلت كذلك إدارات رسمية أخرى. ولكن هناك شيء لا بدَّ أن أنهيَه قبل الزواج. لا بد أن أتكلم مع كلم.
فقالت فريدا: هذا محال!
ونهضَت قليلًا وضغطت نفسها قليلًا إلى ك ثم أضافت: يا لها من فكرة!
وقال ك: لا بد! وإذا استحال عليَّ أن أقوم أنا بهذا، فعليكِ أن تقومي لي به.
وقالت فريدا: أنا لا أستطيع، يا ك، أنا لا أستطيع. لن يتكلم كلم معك أبدًا.
وسأل ك: فهل يتكلم معك أنت؟
فقالت فريدا: لا! لا معك ولا معي، هذه أمور مستحيلة استحالة تامة.
والتفت إلى صاحبة الحان وقد بسطت ذراعيها وقالت: أترَين يا سيدتي صاحبة الحان ماذا يطلب؟!
وقالت صاحبة الحان وقد أصبحت هيئتها مفزعة بعد أن اعتدلت في جلستها وباعدت بين ساقيها وأبرزت ركبتيها الضخمتين من الثوب الرقيق: إنك لعجيب الشأن، يا سيادة موظَّف المساحة.
وسأل ك: ما هي علة الاستحالة؟
وقالت صاحبة الحان: سأشرح لك.
وكانت نبرة صوتها تدلُّ على أن هذا الشرح ليس آخر جميل تصنعه بل أول عقوبة تقدمها. قالت: سأشرح لك. حقيقةً أنني لا أنتمي إلى القصر، وأنني لست إلا امرأة، ولست إلا صاحبة حانٍ، حانٍ وضيع — وهو ليس وضيعًا، ولكنه يوشك أن يكون وضيعًا — ولعلك لهذا تُقلِّل من شأن شرحي، ولكنَّني كنتُ في حياتي يقظة مُفتَّحة العينين، ولقد خالطتُ الكثيرين، وحملتُ عبء الحان كله على كاهلي؛ لأن زوجي، وإن كان إنسانًا طيبًا، ليس صاحب حان، ولن يفهم أبدًا معنى المسئولية. وأنت على سبيل المثال مَدين لإهماله — فقد كنت وأنا في مساء ذلك اليوم خائرة القوى أكاد أقع من فرط الإجهاد — بأنك الآن في القرية. وبأنك تجلس في السرير هنا في سلام وأمان.
وسأل ك وقد استيقظ من نوع التشتُّت الذي كان قد تملَّكه وانفعل من فرط الفضول أكثر ممَّا انفعل من الغضب: كيف هذا؟
فصاحت صاحبة الحان مرة أخرى وهي ترفع السبابة في وجه ك: أنت مدين لإهماله وحدَه دون غيره.
وحاولت فريدا أن تهدئها. فقالت صاحبت الحان بحركة سريعة من جسمها كله: ماذا تُريدين؟! لقد سألني السيد موظف المساحة ولا بد أن أجيب. وإلا كيف يفهم أمرًا بديهيًّا لدينا، وهو أن السيد كلم لن يكلمه أبدًا، وأنا أقول لن يكلمه وينبغي أن أقول لن يستطيع أن يكلمه أبدًا. أتسمع يا سيادة موظف المساحة؟! إن السيد كلم سيد من القصر، وهذا في حد ذاته يعني، بغض النظر عن وظيفة كلم الأخرى، أنه رفيع الرُّتبة. فمَن أنت يا مَن تطلب بتواضُع موافقتك على الزواج؟ أنتَ لستَ من القصر، وأنت لست من القرية، أنت لستَ شيئًا. ولكنك للأسف مع ذلك شيء، أنت غريب، أنت شخص زائد، شخص في الطريق، شخص تنشأ بسببِه المتاعب، شخص تخرُج الخادمتان بسببه من حجرتهما، شخص لا نعرف نواياه، شخص يُغوي صغيرتنا العزيزة الحبيبة فريدا ولا نستطيع أن نعطيه إيَّاها زوجة. وأنا لا أوجِّه إليك اللوم في الحقيقة بسبب هذا كله. أنت كما أنت. ولقد رأيت من قبل في حياتي الكثير؛ وأصبح في استطاعتي أن أحتمل مثل هذا المنظر. ولكن تصور ماذا تطلب! إنك تطلب أن يُكلمك رجل مثل كلم! لقد سمعتُ في ألم أن فريدا تركتكَ تنظر من ثقب الباب، إنك، عندما فعلَتْ هي ذلك، كنتَ أنت قد أغوَيتها. فقل لي كيف احتملتَ منظر كلم؟ لا ينبغي أن تجيب، فأنا أعرف، لقد احتملتَه جيدًا جدًّا. فليس في مقدورك أن ترى كلم فعلًا، وليس هذا غرورًا مني، فأنا نفسي لا أستطيع أن أراه. وأنت تقول إنك تُريد أن يتكلَّم كلم معك. إنه لا يتكلم مع أهل القرية، ولم يحدث قط أن تكلم مع أحد من القرية. ولقد نالت فريدا امتيازًا عظيمًا، امتيازًا سأظل أفخر به حتى مماتي، وهو أنه على الأقل اعتاد أن يُنادي اسمها، وأنها كانت تستطيع أن تُحدثه ما شاءت، وأنها تلقَّت التصريح بثقب الباب، ولكنه لم يتكلَّم معها. أما إنه كان أحيانًا ينادي فريدا، فلا يعني بالضرورة أنه كان يودُّ الحديث إليها، كل ما في الأمر أنه كان ينادي اسم فريدا — وأين هذا الذي يعرف نواياه؟ — وأما أن فريدا كانت تأتي مسرعة، فهذا شأنها — وإذا كان لا يعترض على دخولها، فما هذا إلا لطيبته، ولا يُمكن لإنسان أن يؤكد أنه كان يناديها بمعنى الكلمة. ولقد انتهى هذا الذي كان إلى الأبد، انتهى نهائيًّا بطبيعة الحال، وربما ظل كلم يهتف باسم فريدا، هذا مُمكن، ولكنها، البنت التي استسلمت لك، لن يسمح لها بكل تأكيد بأن تدخل إليه. وهناك شيء لا أستطيع أن أفهمه برأسي المسكين، وهو أن بنتًا، يقولون عنها إنها عشيقة كلم — وأنا شخصيًّا أعتبر هذه مبالغة شديدة — تدعك تلمسها مجرد اللمس.
فقال ك: هذا شيء عجيب عجيب بكل تأكيد!
وأجلس ك فريدا على حجره، فانصاعت لذلك على الفور وإن طأطأت رأسها. ثم راح يقول: ولكن هذا يُثبت، على ما أعتقد، أن الأمور لا تسير كلها على النحو الذي تعتقدين أنها تسير عليه. فأنتِ مثلًا على حق في قولك إنني بالقياس إلى كلم لا شيء، وإذا طلبت الآن أن أتكلَّم مع كلم، ولم أتراجع عن ذلك حتى رغم شروحك، فليس معنى ذلك أنني أستطيع أن أحتمل منظر كلم بدون باب يفصل بيننا، أو أنني لن أجري خارجًا من الحُجرة عند ظهوره، ولكن مثل هذا الخوف، وإن كان له ما يُبرره، لا يعتبر في نظري سببًا يمنعني من أن أجازف. فإذا تمكنت من أن أصمد له، فلن تكون هناك ضرورة لكي يتكلم معي، يكفيني أن أرى الانطباع الذي تحدثه فيه كلماتي، فإذا لم تحدث كلماتي انطباعًا، أو إذا لم يُصغِ إليها، فقد كسبت شيئًا وهو أنني تكلمت بحرية أمام واحد من أولي السلطان. أما أنتما — أنت يا سيدتي صاحبة الحان بمعرفتك العظيمة بالحياة والناس، وأنت يا فريدا يا مَن كنتِ حتى الأمس عشيقة كلم … ولست أرى سببًا في التخلي عن كلمة عشيقة — فيُمكنكما بكل تأكيد أن تُدبِّرا لي بسهولة فرصة الحديث مع كلم. وإذا لم تعرض طريقة أخرى لذلك إلا طريقة اللقاء في حان السادة، فلا بأس، ولعله لا يزال اليوم كذلك هناك.
وقالت صاحبة الحان: هذا محال! وإنني لأرى أنك تَفتقِر إلى القُدرة على الفهم. ولكن قل لي عمَّ تريد أن تتكلَّم معه؟
فقال ك: عن فريدا بطبيعة الحال.
وتساءلت صاحبة الحان: عن فريدا؟
اتجهت إلى فريدا وهي لا تُصيب فهمًا: أتسمعين يا فريدا، إنه ريد أن يتكلَّم عنك مع كلم! هو يتكلم مع كلم!
فقال ك: آه! إنك يا سيدتي صاحبة الحان امرأة حاذقة، تبعثين على الاحترام، ولكنَّك تفزعين لكل صغيرة. إنني أريد أن أتكلم معه عن فريدا، وهذا شيء ليس بالهائل، بل هو شيء بديهي. لأنك تُخطئين إذا اعتقدت أن فريدا أصبحت عديمة الأهمية في نظر كلم، منذ اللحظة التي ظهرتُ أنا فيها. إنك تُقللين من شأنه إذا ظننتِ هذا. إنني أحسُّ تمام الإحساس، بأنني أتجاوز الحدود إن أنا أردت أن أعلمك شيئًا في هذا الصدد، ولكنَّني مُضطرٌّ لذلك. لا يمكن أن تكون علاقة كلم بفريدا قد تغيرت بسببي. فإما أنه لم تكن هناك بينهما علاقة جوهرية — وهذا ما يقوله أولئك الذين يُشرِّفون فريدا باسم عشيقته — فهي اليوم ليست قائمة كذلك، وإما أنه كانت هناك علاقة، ولا يمكن في هذه الحالة أن تَضطرب بسببي؛ لأنني كما قلتِ، والصواب في جانبِكِ، لا شيء في نظر كلم. هذه أشياء يظنها الإنسان في اللحظة الأولى لفزعه ظنًّا، ولكنه عندما يُفكر أقل تفكير، لا يلبث أن يردها إلى الصواب. ولندع فريدا تقول رأيها في هذا.
وقالت فريدا وقد سبحت بنظرها إلى بعيد، ووضَعَت خدَّها على صدر ك.
– إنَّ الأمر بكل تأكيد كما قالت الأم، إن كلم لم يَعُد يريد أن يعرف عني شيئًا. وليس السبب في ذلك بطبيعة الحال هو أنك، يا حبيبي أتَيت، فهذا أمر لا يمكن أن يهزَّه. لكني أعتقد أن لقاءنا تحت منضدة الخدمة كان من عمله! تباركَتْ تلك الساعة ولا لُعنت!
كانت كلمات فريدا حلوة، فأغمض ك عينيه لحظات ليدع هذه الكلمات تتغلغل فيه، ثم قال ببطء: إذا كان الأمر كذلك، وإذا كان الأمر على هذا النحو، فهذا أدعى إلى ألا يكون هناك سبب للخوف من محادَثة كلم.
فقالت صاحبة الحان وهي تنظر إلى ك من أعلى إلى أسفل: حقًّا! إنك تُذكرني أحيانًا بزوجي! إنه عنيد وفجٌّ مثلك! لم يمضِ عليك في المكان إلا بضعة أيام، وتدَّعي أنك تعرف كل شيء أحسن من أهله، أحسن مني أنا المرأة المسنة، ومن فريدا التي رأت وسمعت الكثير في حان السادة! وأنا لا أنكر أن الإنسان يستطيع أحيانًا أن يحقِّق شيئًا ضد اللوائح وضد التقاليد القديمة، ولكنَّني لم أشهد شيئًا من هذا القبيل، هناك أمثلة على ذلك، هذا محتمل. ولكن الإنسان حتى في هذه الحالة، لا يمكن أن يصل عن هذا الطريق الذي تسلكه أنت إذ تقول دائمًا «لا» «لا»، ولا تعتمد إلا على مخِّك، وتضرب صفحًا عن النصائح التي تصدر عن أطيب نية. فهل تظنُّ أنني مهتمة بك؟ هل اهتممت بك عندما كنت بمفردك؟ ولو أنني فعلت ذلك لكان خيرًا ولجنَّبتك بعض الأشياء. الشيء الوحيد الذي قلته آنذاك بشأنك قلته لزوجي. لقد قلت له: «ابتعد عنه!» وكان الأحرى بي أن أفعل ذلك أنا الآن، ولكن فريدا جرَّتني الآن إلى مسألة يقوم عليها مصيرها. وأنت مدين لفريدا — سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك — بأنني أبدي لك اهتمامًا واحترامًا. وليس من حقك أن تطردني بكل بساطة؛ لأنك مسئول أمامي مسئولية قاسية؛ لأنني الوحيدة التي ترعى فريدا الصغيرة رعاية الأم لأولادها. من الممكن أن تكون فريدا على حقٍّ، من الممكن أن يكون كل ما جرى مشيئة كلم، ولكني لا أعرف عن كلم شيئًا الآن، وأنا لن أتكلم معه أبدًا، فوصولي إليه مُحال، أما أنت فتجلس هنا، وتحتجز عزيزتي فريدا، وأنا كذلك — ولماذا أخفي عليك هذا — أحتجزك. نعم، أنا أحتجزك. وما عليك إلا أن تُحاول، أيها الشاب، إذا أخرجتك من البيت، أن تجد سكنًا في أي مكان بالقرية، حتى ولو في عشة من عشش الكلاب.
فقال ك: شكرًا، وهذه كلمات صريحة، وأنا أصدقك تمامًا. إذن فوضعي يفتقر إلى الاطمئنان كل الافتقار، ووضع فريدا مُرتبط كذلك بوضعي.
فقاطعته صاحبة الحان صائحة في غضب: لا، إن وضع فريدا لا علاقة له في هذه الناحية بوضعك. ففريدا تنتمي إلى بيتي، وليس لإنسان الحق في أن يقول إن وضعها يفتقر إلى الاطمئنان.
فقال ك: حسنًا، حسنًا. أنا أقرُّ لكِ بأنك على حق في هذا، خاصةً وأن فريدا، لأسباب لا أعلمها، تخاف منكِ خوفًا مفرطًا، على ما يبدو، ولا تستطيع أن تتدخَّل. لنَبقَ مؤقتًا عند موضوعي أنا. إن وضعي يفتقر إلى الاطمئنان إلى أقصى حد، هذا ما لا تُنكرينه، بل إنك تجتهدين في إثباته. وهذا الأمر مثله مثل كل ما تقولين، أمر ليس صحيحًا تمام الصحة، بل إلى حد كبير فقط. فأنا على سبيل المثال أعرف مكانًا طيبًا جدًّا للمبيت، وهو تحت تصرُّفي.
وصاحت فريدا وصاحبة الحان في وقت واحد وفي شغف شديد وكأنما كانت أسبابهما واحدة: أين؟ أين؟
فقال ك: عند برناباس.
وصاحت صاحبة الحان: الحثالة! الحثالة الأنذال! عند برناباس! أتسمعان!
واتجهت إلى الركن وكان المساعدان قد برزا منذ وقت طويل، ووقفا يتأبَّط أحدهما زراع الآخر وراء صاحبة الحان، التي بدت كأنها تحتاج إلى سند، وأمسكت بيد أحدهما وقالت: أتسمعان أين يعبث السيد! في بيت أسرة برناباس! إنه ينال هناك بطبيعة الحال مكانًا للمبيت! ليته بات هناك ولم يَبِت في حان السادة. ولكن أين كنتما؟
وقال ك قبل أن يشرع المساعدان في الإجابة: سيدتي صاحبة الحان، إنهما مساعداي، أنت تعاملينهما كأنما كانا مساعدَيك أنت، وحارسَين عليَّ. إنني مستعد لمناقشتك بكل أدب في كل آرائك، إلا في رأيك في مساعديَّ؛ لأن المسألة واضحة كل الوضوح. إنني لذلك أرجوك ألا تتكلَّمي مع مساعدي، وإذا لم يُجدِ رجائي نفعًا، فسأمنع مساعديَّ من الإجابة.
فقالت صاحبة الحان: إذن ليس لي أن أتحدث إليكما!
وضحك الثلاثة، ضحكت صاحبة الحانة ساخرة، ولكن أكثر رقة مما توقَّع ك، وضحك المساعدان بأسلوبهما المعهود الذي يعني الكثير ولا يعني شيئًا، ويرفض كل مسئولية.
وقالت فريدا: لا ينبغي أن تغضب. بل عليك أن تفهم انفعالنا الفهم الصحيح. أما إننا ينتمي أحدنا إلى الآخر الآن، فأمر يرجع الفضل فيه، إن شئنا، إلى برناباس وحده، وأنا عندما رأيتك للمرة الأولى في الخمارة، وكنت داخلًا تتأبَّط ذراع أولجا، كنت لم تكن الشيء الوحيد الذي لا يُثير اهتمامي؛ فقد كانت كل الأشياء تقريبًا لا تُثير اهتمامي. ولقد كنت أنا آنذاك غير راضية على أشياء كثيرة، وكانت هناك أشياء تغضبني. ولكن أي نوع من عدم الرضا، وأي نوع من الغضب؟ لقد أهانني على سبيل المثال أحد الزبائن في الخمارة — وكان الزبائن دائمًا يتعقَّبونني — ولقد رأيت أنت الرجال هناك، وكان يأتي مَن هُم أقبح منهم، فليس خدم كلم بأقبح الرجال — قلت إن أحد الزبائن أهانني. فماذا كان معنى ذلك بالنسبة إليَّ؟ لقد أحسست كأن هذا الذي يحدث قد حدث قبل سنين عديدة، أو كأنه لم يحدث لي على الإطلاق، أو كأنَّني أسمع البعض يحكي لي عنه أو كأني قد نسيتُه. ولكنني لا أستطيع أن أُصوِّره، ولا أستطيع حتى أن أتصوره؛ فقد تغيَّر كل شيء منذ أن هجرني كلم.
وقطعت فريدا روايتها، ومالت برأسها حزينة، وعقدت يديها على حجرها.
وصاحت صاحبة الحان: أرأيت!
ولاح عليها كأنما لا تتكلَّم بلسانها بل بلسان فريدا، وتقدمت ناحيتها حتى أصبحت تجلس بجانبها، وراحت تقول: أرأيت يا حضرة موظَّف المساحة نتائج أفعالك عليَّ! وعلى مساعدَيك كذلك، ولم يَعُد لي أن أتكلم معهما، أن يروا هم أيضًا نتائج أفعالك ليتعظوا! لقد انتزعتَ فريدا من أسعد حالٍ أوتِيَتْه، ولقد تمكَّنتَ من ذلك؛ لأن فريدا لم تستطع، لرقتها الصبيانية المفرطة، أن تحتمل النظر إليك مُتأبطًا ذراع أولجا، وقد بدا عليك أنك وقعت في براثن العائلة البرناباسية. فأنقذتك وراحت هي ضحية ذلك. والآن وقد حدث هذا. بعد أن ضيعت فريدا كل ما كان لديها لقاء سعادة الجلوس على ركبتك، تأتي أنت وتمثل دور المنتصر، فقد عرضت لك إمكانية المبيت عند برناباس. ولعلك تريد أن تبرهن بذلك على أنك مستقلٌّ عني. ولو قد بت عند برناباس، لكنت قد أصبحت بكل تأكيد مستقلًّا عني، استقلالًا كان سيُحتِّم عليك أن تترك بيتي في الحال، بأقصى سرعة.
فقال ك: أنا لا أعرف خطايا أسرة برناباس.
وفي هذه الأثناء رفع فريدا بحذر، وكأنها شيء لا حياة فيه، وأجلسها ببطء على السرير، ونهض هو نفسه واقفًا، ثم قال: ولعلَّكِ على صواب في ذلك، ولكني كنتُ على صواب بكل تأكيد، عندما رجوتكِ أن تتركي مسائلنا، مسائلي ومسائل فريدا، لنا نحن وحدنا. لقد ذكرت من قبل شيئًا عن الحب والاهتمام، ولكني لم أتبيَّن منهما شيئًا، بل على العكس تبينت الكراهية والسخرية والطرد. فإذا كنتِ قد سعيت لفصلي عن فريدا، أو لفصل فريدا عني، فلقد أبديت مهارة كبيرة في ذلك، ولكنك، على ما أعتقد، لن تُوفَّقي في ذلك، وإذا حدث ونجحت في ذلك فسوف — واسمحي لي هنا بتهديد غامض — تندمين ندمًا مريرًا. أما فيما يختص بالمسكن الذي تَمنحينني إيَّاه — ولا بد أنك تعنين به هذا الجُحر البشع — فليس من المؤكد بحال من الأحوال أنك تفعلين ذلك بمحض إرادتك، ويبدو أن هناك أمرًا بهذا الخصوص من ديوان الجرافية. ولسوف أُبلغها بأنك أنذرتِني بالإخلاء، وإذا ما حصلت على مسكن آخر، فلعلك تتنفَّسين بارتياح، أما أنا فسأتنفَّس من أعماقي. وسأذهب الآن من أجل هذه المسألة وغيرها من المسائل إلى رئيس مجلس القرية، وأرجو على الأقل أن تهتمِّي بفريدا وقد آذيتِها بما فيه الكفاية بكلامك الذي تزعُمين أنه نابع من حنان الأم.
ثم اتجه إلى المساعدين وقال: هيا بنا.
وتناول خطاب كلم من المسمار الذي كان قد علَّقه عليه وهمَّ بالذهاب. وكانت صاحبة الحان تنظر إليه صامتة، فلما وضع يده على مقبض الباب قالت: يا حضرة موظَّف المساحة. ما زال هناك شيء أحب أن أزودك به في طريقك، فأنت، مهما قلت من كلام، ومهما أهنتني أنا المرأة العجوز، زوج فريدا في المستقبل. وهذا هو السبب الوحيد الذي أقول من أجله إنك حيال الظروف القائمة هناك جاهل جهلًا بشعًا، وإن الإنسان ليفقد الوعي عندما يستمع إليك، وعندما يقارن في فكره ما تقوله وتراه بالوضع القائم فعلًا. وإن جهلك هذا الجهل لا يُمكن إصلاحه دفعة واحدة، بل ربما كان إصلاحه من المستحيل. ولكن هناك أشياء كثيرة يمكن أن تتحسَّن، إذا صدقتني وجعلت جهلك دائمًا نُصب عينيك. عند ذاك ستُصبح على سبيل المثال أكثر عدلًا حيالي، وستبدأ في الإحساس بالفزع الذي حلَّ بي — وما زالت نتائج هذا الفزع باقية — عندما تبينت أن صغيرتي الحبيبة قد تركت مَن يمكن تسميتُه بالنسر لتَعصِب عينيها بعصابة العمى، وإن العلاقة في حقيقتها لأشد سوءًا، وإني لأحاول أن أنساها وإلا لما استطعت أن أتكلَّم معك كلمة هادئة آه ها أنت ذا تغضب مرةً أخرى. لا، لا تنصرف الآن، اسمع هذا الرجاء قبل أن تَنصرِف: عليك، في كل مكان تذهب إليه، أن تعي دائمًا أنك أجهل الناس هنا، وعليك أن تأخذ نفسك بالحذر. إنك هنا عندنا، حيث يحميك وجود فريدا، تستطيع أن تثرثر بما يشغل قلبك؛ هنا يمكنك مثلًا أن تظهرنا على نيتك في التحدث إلى كلم، ولكني أرجوك، أرجوك، لا تفعل هذا في الواقع.
ونهضت وكانت تترنَّح من فرط الانفعال، وذهبت إلى ك وأمسكت يده ونظرت إليه متوسِّلة. فقال لها ك: إنني لا أفهم، يا سيدتي صاحبة الحان، لماذا تُذلِّين نفسك وتتوسَّلين إليَّ من أجل مثل هذا الموضوع. إذا كنت تقولين إنه من المستحيل عليَّ أن أتكلم مع كلم، فأنا لن أصل إلى ذلك، سواء رجوتني أم لا. أما إذا كان من الممكن أن أتكلم معه، فلماذا لا أفعل، خاصةً وأن سقوط اعتراضك الرئيسي سيجعل مخاوفك مشكوكًا فيه جدًّا. وأنا بطبيعة الحال جاهل، وهذه حقيقة ستظل قائمة، وفي هذا ما يحزنني أشد الحزن. ولكن الجهل له فائدته، فالجاهل يجرؤ على الكثير، ولهذا فإنني سأظل، إلى حين، وعن طيب خاطر، أحمل الجهل وتبعاته التي لا شكَّ في أنها سيئة، طالما كانت لديَّ القوة الكافية. وهذه التبعات لا تمس في جوهرها سواي، ولهذا فأنا لا أفهم لماذا تتوسَّلين. وليس هناك شك في أنك ستظلين ترعين فريدا، ولو اختفيت أنا كليةً من مجال أبصارها، فإن هذا لا يمكن في رأيك أن يعني إلا سعادتها. فلماذا تخافين؟ إنك لا تخافين!
– والجاهل يظن كل شيء ممكنًا.
وهنا فتح ك الباب، وأكمل: إنك لا تخافين على كلم؟
وتابعته صاحبة الحان بنظرها صامتة وهو ينزل الدرج مسرعًا ومن خلفه المساعدان.