الفصل الثامن
كان ك في بداية الأمر مسرورًا لأنه تخلَّص من تزاحم الخادمتَين والمساعدَين في الحجرة الحارة. وكذلك كانت درجة حرارة الجو دون درجة التجمُّد، فكان الجليد أكثر صلابةً، وكان السير عليه أكثر سهولةً. وكان الظلام قد بدأ بطبيعة الحال في الحلول، فأسرع ك الخُطى.
وكان القصر، الذي بدأت خطوطه تتحلَّل، يقبع في السكون كحاله دائمًا، ولم يكن ك قد رأى قط أقلَّ إشارةٍ تدل على أن الحياة تتَّصل فيه، ولعلَّه لم يكن من الممكن أن يتبين الناظر من هذا البُعد شيئًا، ولكن العينين كانتا تلتمسان ذلك ولم تكونا تريدان الرضا بهذا السكون. وكان ك أحيانًا عندما يتطلع إلى القصر يحسُّ كأنه يتطلع إلى شخص يجلس هناك هادئًا ينظر أمامه لا غارقًا في التفكير مُنصرفًا عن كل شيء، بل حرًّا طليقًا غير عابئ، وكأنه وحدَه لا ينظر إليه أحد، وإن اضطرَّ إلى تبيُّن أن هناك مَن ينظر إليه، ولكن ذلك لم يكن يؤثر أدنى أثر في هدوئه، والحقيقة — ولم يكن أحد يعلم إن كان ذلك سببًا أو نتيجة — أن النظرات لم تكن تَثبت عليه بل كانت تنزلق من فوقه. ولقد اشتدَّ هذا الانطباع قوة نتيجة للظلام المبكر. كان ك كلَّما أطال النظر قلَّ ما يتبيَّنه، وازداد انغماس كل شيء في الظلام عمقًا.
وعندما وصل ك إلى حان السادة، وكان مُظلمًا لم يوقد به نور، انفتحت نافذة في الدور الأول وأطلَّ منها شابٌّ بدِينٌ حليق الوجه يَرتدي سترة من الفراء وظلَّ بالنافذة وحيَّاه ك، فلم يبدُ عليه أنه ردَّ التحية حتى ولا بأقل إيماءةٍ من رأسه. ولم يلتقِ ك لا في مدخل الحان ولا في قاعة الخمارة، وكانت رائحة البيرة المتروكة أقبح من المرة الماضية، وهذا شيء لم يعهد ك مثله في حان الجسر. وذهب ك من فوره إلى الباب الذي كان قد تطلَّع من خلاله مؤخرًا إلى كلم، وضغط باحتراس على المقبض، ولكن الباب كان مغلقًا. فحاول أن يتحسَّس الموضع الذي كان به الثقب، ولكن السدادة كانت مُحكمة الصنع بقدْر الثقب على ما يبدو، لدرجة أنه لم يستطع أن يتوصَّل إلى مكان الثقب، ولهذا أشعل عود ثقاب. وهنا أفزعته صيحة. وإذا ببنتٍ شابَّة تجلس مُتكوِّرة على نفسها في الركن بين الباب ومنضدة الشراب قريبًا من المدفأة، وكانت تحملق فيه في ضوء عود الثقاب بعينين ناعستين فتحتهما بجهد شديد. ويبدو أنها كانت خليفة فريدا. وما لبثت أن تماسكت نفسها، وأضاءت النور الكهربائي وبدأ تعبير وجهها غاضبًا، وهنا تعرفت على ك. وقالت مبتسمةً: آه، السيد موظف المساحة!
ومدَّت إليه يدها وقدَّمت نفسها بقولها: أنا اسمي بيبي.
كانت قصيرة القامة، حمراء البشرة، بادية الصحة، وكانت تضمُّ شَعرها الكثيف الفارع الأشقر المائل إلى الحمرة في ضفيرة قوية، وكان شَعرها علاوة على ذلك يتجعَّد حول وجهها، وكانت ترتدي فستانًا لا يناسبها، فستانًا مُسترسلًا مصنوعًا من قماش رمادي لامع، وكان بعضهم قد ضمَّهُ من أسفل على نحوٍ صبياني فجٍّ مُضطرب بشريط حريري ينتهي بحلقة، حتى ضاق الفستان عليها وعرقلَها. وسألت عن فريدا وهل ستعود عما قريب. لقد كان السؤال يوشك أن يصل إلى حدِّ الإيذاء ثم قالت: لقد استدعوني، بعد ذهاب فريدا، إلى هنا على عجلٍ، فليس من الممكن استخدام كل مَن هبَّ ودبَّ في هذا العمل، ولقد كنت حتى الآن خادمة خصوصية، وليس هذا تغييرًا طيبًا بالنسبة لي. فالعمل بالمساء والليل هنا مُتعب جدًّا، ولا أكاد أستطيع احتماله، ولستُ أدهش لترك فريدا إيَّاه.
فقال ك ليبين أخيرًا ما بين فريدا وبينهما من فرْقٍ تتغافَل عنه: لقد كانت فريدا هنا راضيةً جدًّا.
فقالت بيبي: لا تُصدِّق هذا، ولكن فريدا تستطيع أن تتحكَّم في نفسها على نحو لا يستطيع كل إنسان بسهولة. فهي إذا أرادت ألا تعترف بشيء، تستطيع أن تمتنع عن الاعتراف به، ولا يكون في مقدور إنسان أن يتبيَّن أن لدَيها شيئًا ينبغي أن تعترف به. ولقد خدمت هنا عدة سنوات معها، وكنَّا دائمًا ننام معًا في سرير واحد، ولكني لم أكن موضع سرِّها، ولا شك أنها لا تفكر الآن فيَّ. ولعل صديقتها الوحيدة هي العجوز صاحبة حان الجسر، وهذا شيء له مغزاه.
فقال ك وأخذ في الوقت نفسه يبحث عن مكان الثقب في الباب: فريدا خطيبتي.
فقالت بيبي: أنا أعرف هذا، ولذلك حكيت لك ما حكيت. ولو لم أكن أعرف هذا لمَا كان لكلامي معنًى.
فقال ك: لقد فهمت. إنك تُريدين أن تقولي إنه ينبغي عليَّ أن أفخر بأنني ربحت فتاةً كتومة إلى هذا الحد.
فقالت: نعم.
وضحكت راضيةً كأنما استمالها ك إلى اتِّفاق سريٍّ حول فريدا.
ولم تكن كلماتها في الحقيقة هي التي شغلت ك وألهَته قليلًا عن البحث، وإنما كان الذي شغل ك وألهاه عن البحث هو ظهورها ووجودها في هذا المكان. والحقيقة أنها كانت أصغر سنًّا كثيرًا من فريدا، تكاد ألا تكون قد تجاوَزَت سن الطفولة، وأن ثيابها كانت تُثير الضحك، ويبدو أنها اتخذتها لتُناسب تصورها المبالغ فيه عن أهمية خادمة الخمارة وكانت على حقٍّ في تصوُّرها هذا؛ لأن تلك الوظيفة — التي لم تكن مناسبة لها مُطلقًا — قد أعطيت لها، دون أن تتوقَّعها ودون أن تكون خليقة بها، بصفة مؤقَّتة فقط، فلم تحصل حتى على الحقيبة الجلدية الصغيرة التي كانت فريدا تحملها دائمًا في حزامها ولم يكن ما تدَّعيه من عدم الرضا بالوظيفة شيئًا آخر سوى التكبُّر. ومع ذلك فيبدو أنها، على الرغم من سذاجتها الصبيانية. كانت على علاقة بالقصر؛ فقد كانت — إن لم تكن قد كذبت — تعمل خادمة خصوصية. ولم تكن تعي ما تملك، بل كانت تضيع الأيام نائمةً هنا، ولو أن ك عانق هذا الجسم الصغير البدين ذا الظهر المستدير قليلًا، لما كان من المُمكن أن يُؤدي هذا إلى تجريدها مما تملك. كان ك يستطيع أن يمسَّ هذا الجسم فينشط للطريق الصعب. إذن فلعلَّ أمرها لا يختلف عن أمر فريدا؟ آه، لا، بل يختلف. وما على الإنسان أن يتذكر نظرة فريدا ليفهم هذا الاختلاف. وما كان ك ليقرب بيبي بحالٍ من الأحوال. ولكنه اضطر الآن إلى أن يغطي عينيه هنيهة لما استبد به من شره وهو ينظر إليها.
وقالت بيبي: ما ينبغي أن يظلَّ النور مضاء.
وأطفأت النور، ثم قالت: لقد أضأتُه لأنك أفزعتني أشد الفزع. ماذا تريد هنا؟ هل نسيَتْ فريدا شيئًا؟
فقال ك وهو يُشير إلى الباب: نعم، في هذه الحجرة المجاورة، نسيت مفرش منضدة، أبيض اللون مشغولًا.
فقالت بيبي: آه، مفرشها، إنني أذكره، لقد أحسنَت شغله، ولقد ساعدتُها أنا فيه، ولكنه لا يكاد يمكن أن يكون في هذه الحجرة على ما أظن.
فقال ك: ولكن فريدا تعوَّدت ذلك. ومَن الذي يسكن في هذه الحجرة؟
فقالت بيبي: لا أحد. إنها حجرة السادة. فيها يشرب السادة وفيها يأكلون، أعني أنها مخصصة لهذا الغرض ولكن غالبيتهم يبقون في حجراتهم في الدور العلوي.
فقال ك: لو علمتُ أنه ليس بالحجرة الآن أحد، لوددتُ جدًّا أن أدخل وأبحث عن المفرش. ولكنني غير متأكد من ذلك. فكلم على سبيل المثال اعتاد على أن يجلس فيها كثيرًا.
فقالت بيبي: كلم ليس فيها الآن بكل تأكيد، فهو يوشك على الانصراف، والزحافة تَنتظرُه في الفناء.
وغادر ك قاعة الشراب من فوره وبدون أن يُقدم أي تفسير، وكان وهو يسير في المدخل ينظر إلى داخل الدار بدلًا من أن ينظر إلى باب الخروج وما هي إلا خطوات حتى كان قد وصل إلى الفناء. يا لسكون وجمال هذا المكان! كان الفناء مربعًا يقوم المبنى على ثلاثةٍ من أضلاعه، وكان الضلع الآخر يطلُّ على شارعٍ — شارعٍ فرعي لم يكن ك يعرفه — يفصله عنه جدارٍ مرتفع أبيضَ وبوابة كبيرة ثقيلة كانت عند ذاك مفتوحة. وكان المبنى يبدو من ناحية الفناء أكثر ارتفاعًا مما يبدو من ناحية الواجهة. وكان الدور الأول على الأقل مكتمل البناء تمامًا، وكان مظهره عظيمًا؛ لأنه كان محاطًا ببهوٍ خشبي مُغلق إلى مستوى العينين إلا شقًّا صغيرًا. ورأى ك — وكان ينظر إلى الفناء من مكانه في الجناح الأوسط من المبنى، من الزاوية التي يتصل بها بالجناح الجانبي المقابل — مدخلًا للمبنى، مفتوحًا بلا باب. وكان هناك أمامه زحافة مُظلمة مُقفلة علق بها حصانان. ولم يكن هناك سوى الحوذي الذي توقَّع ك على البعدِ وجودَه في الظلام وإن لم يكد تبينه.
وسار ك واضعًا يدَيه في جيبيه، حريصًا يتلفَّت، قريبًا من الجدار، فقطع ضلعَي الفناء حتى وصل إلى الزحافة. وكان الحوذي — وهو أحد الفلَّاحين الذين كانوا مؤخرًا في قاعة الحان — قد رآه غارقًا في الفراء فاترًا وهو يَقترب ونظر إليه كما ينظر الإنسان إلى سير إحدى القطط. وكذلك عندما وقف ك عنده وحيَّاه، بل عندما اضطرب الحصانان قليلًا لظهور إنسان من وسط الظلام فجأة، ظلَّ الحوذي بليدًا لا يعبأ بشيء ألبتَّة. ولقي هذا المسلك من ك أشد ترحيبٍ. فلما وصَل إلى الجدار أخرج الطعام وذكر فريدا بالامتنان لحسن رعايتها إيَّاه، وأخذ في أثناء ذلك يختلس النظرات إلى داخل المبنى. كان هناك درج مربع مفتوح يؤدِّي إلى أسفل حيث يتعامد عليه ممرٌّ مُنخفِض يبدو أنه كان عميقًا. وكان كل شيء نظيفًا مطليًّا باللون الأبيض وكان كل شيء محدد المعالم واضح الخطوط.
واستمر الانتظار أكثر ممَّا اعتقد ك. كان قد فرغ منذ مدةٍ من طعامه، وأصبح البرد يُؤذيه، وكان الظلام قد استحال إلى حلكة دامسة، ولم يكن ك قد ظهر. وقال صوت خَشِن انطلق فجأة قريبًا من ك قُربًا شديدًا حتى ارتعدَت فرائصه: قد يطُول طولًا شديدًا!
كان المتحدث هو الحوذي الذي كان يتمطَّى ويتثاءب بصوت عال وكأنه صحا لتوه من النوم وسأله ك: ما هذا الذي قد يطول طولًا شديدًا؟
ولم يكن ك غاضبًا للانزعاج لأنَّ السكون المستمر والتوتر الدائم كانا قد ثقُلا عليه. وقال الحوذي: إلى أن تَنصرف.
ولم يفهم ك مقصده، ولكنه لم يسأله، واعتقد أنَّ هذه هي أفضل وسيلة لدفع هذا الرجل المتكبِّر إلى الكلام. لقد كان السكوت عن الإجابة هنا في الحُلكة الدامسة شيئًا يوشك أن يكون حافزًا على الكلام. وهذا هو بالفعل ما حدث؛ فقد سأل الحوذي بعد هنيهة: أتُريد شيئًا من الكونياك؟
فقال ك دون أن يُفكر فقد أغراه العرض إغراءً شديدًا وهو يرتعد: نعم.
فقال الحوذي: إذن فافتح الزحَّافة، وستجد في الحقيبة الجانبية بعض الزجاجات فتناول إحداها واشرب ثم ناولني إيَّاها. إن الفراء الذي أرتديه يَجعل من الصعب عليَّ أن أنزل.
وتضايَق ك لاضطراره إلى تأدية أعمال من هذا النوع، ولكنه، وقد تبسَّط مع الحوذي، أطاع على الرغم ممَّا كان في ذلك من خطرٍ، فقد كان من المُمكن أن يُفاجئه كلم عند الزحافة. وفتح الباب العريض، وكان يُمكنه أن يستخرج على الفور الزجاجة من الحقيبة المركَّبة على الناحية الداخلية من الباب، ولكن الباب المفتوح أغراه بالدخول في الزحافة، فلم يَستطِع أن يُقاوم الإغراء. وكان يريد أن يجلس بداخلها لحظةً. وتسلَّل إلى الداخل. كان الدفء في داخل الزحافة خارقًا للمألوف، وظلَّ على حالته لم يتغيَّر على الرغم من أن الباب ظلَّ مفتوحًا على سعته فلم يجرؤ ك على إغلاقه. ولم يعرف ك وقد جلس، هل كان هذا الذي جلس عليه مقعدًا، فقد غرق في أغطيةٍ ومخدات وفراء، وتبيَّن أن الجالس يستطيع أن يتحرَّك في كل الاتجاهات وأن يتمدَّد ما شاء، فما يزداد إلا تمتُّعًا بالنعومة والدِّفء. ومدَّ ك ذراعيه، وسند رأسه على المخدات التي كانت تعرض له في كل ناحية، ونظر من الزحافة إلى المبنى المُظلم. لماذا يتأخَّر قدوم كلم إلى هذا الحد؟ وتمنَّى ك، وكان الدفء قد خدره بعد طول وقوفه في الجليد، أن يأتي كلم بعد طول الانتظار. ولم يخطر بباله، أن الأفضل ألا يراه كلم في هذا الوضع، إلا على نحوٍ مبهم. ولقد ساعده على هذا النسيان مسلك الحوذي الذي كان يعرف أنه في الزحفة وتركه فيها، دون أن يطلب منه حتى الكونياك. كان هذا المسلك من الحوذي فيه تأدبٌ حيال ك، ولكن ك كان يريد أن يخدمه. ومدَّ ك يده في تثاقل، دون أن يُغيِّر وضعه، إلى الحقيبة الجانبية، ولكنه لم يمدها إلى الحقيبة المركبة في الباب المفتوح — فقد كان هذا الباب بعيدًا — بل مدَّها خلفه، إلى حقيبة الباب المقفل، ولم يغير هذا من الأمر شيئًا، فقد كانت هناك في هذه الحقيبة كذلك زجاجات. وأخرج منها واحدة وفتح السدادة وشمَّ ما بالزجاجة، فابتسم رغمًا عنه، لأنَّ الرائحة كانت حلوة، ناعمة أحسَّ حيالها بإحساس الإنسان عندما يسمع من شخص يُحبُّه حبًّا شديدًا مدحًا وكلمات طيبة دون أن يعلم الموضوع الذي تدور حوله ودون أن يُريد أن يعلم عنه شيئًا، سعيدًا بأن الذي يقوله هو هذا الشخص. وتساءل ك مُرتابًا:
أيُمكن أن يكون هذا كونياك؟
وتذوَّق بدافعٍ من الفضول. عجبًا! لقد كان كونياك، وكانت له حرارة وكان يَبعث دفئًا. ما أغرب تغيره. عندما يشرب الإنسان منه! إنه يتحوَّل من مشروب ذي رائحة شذية حُلوة، إلى مشروب لا يَليق إلا بالحوذية. وسأل ك نفسه وكأنَّما كان يلوم نفسه:
أيُمكن هذا؟
وشرب جرعة أخرى.
وهنا أضاء المكان — وكان ك في تلك اللحظة يتجرَّع جرعة طويلة — وظهر نور كهربائي في داخل الدرج والممرِّ والمدخل وفي الخارج فوق الباب. وتناهى إلى السمع صوت خُطًى تَنزِل الدَّرَج، فسقطت الزجاجة من يد ك وسال ما فيها على الفراء، فقفَز ك خارجًا من الزحَّافة، وتمكن في عُجالته من إغلاق بابها، فصدرت عن ذلك ضجَّة عالية، وخرج بعد قليل أحد السادة مِن المبنى وسار ببطء. وكان الشيء الوحيد الذي طابت له نفس ك هو أن هذا الرجل لم يكن كلم، أو هل كان هذا بالضبط هو الشيء الذي أسف ك له؟ كان القادم هو السيد الذي كان ك قد رآه في نافذة الدور الأول. كان رجلًا في مُقتبَل العمر، ذا حسنٍ مُفرط، وبشرة بيضاء مُشربة بحمرة، وكان يبدو جادًّا عابسًا. وكذلك تطلَّع ك إليه عبوسًا، ولكن ك كان يقصد نفسه بهذه النظرة العبوسة. كان الأحرى به أن يُرسل مساعديه إلى هنا، فهما أيضًا قادران على التصرف على النحو الذي تصرَّف هو عليه. وقف أمامه السيد صامتًا، وكأنما لم يكن يجد لما كان يريد أن يقوله نفَسًا كافيًا في صدره العريض المفرط في العرض. ثم قال السيد: هذا شيء بشعٌ.
ثم دفع القبَّعة قليلًا عن جبهته. كيف هذا؟ يبدو أن السيد لم يكن يعلم شيئًا عن وجود ك في الزحافة، ولكنه مع ذلك كان يجد شيئًا ما بشعًا؟ هل يقصد يا ترى أن ك نفذ حتى الفناء؟ وسأل السيد بصوت أكثر انخفاضًا، مُطلقًا زفرة، مُستسلمًا لما لا سبيل إلى تغييره: كيف أتيت إلى هنا؟
يا لها من أسئلة! ويا لها من أجوبة! هل ينبغي يا ترى على ك أن يُعبِّر للسيد بنفسه تعبيرًا صريحًا يُؤكد به أن الطريق الذي بدأه بكثير من الأماني والآمال كان بلا جدوى؟ واتجه ك إلى الزحافة، بدلًا من أن يجيب، وفتحها وأخرج قبَّعته التي كان قد نسيَها بداخلها. ولاحظ أثناء ذلك أن الكونياك كان يتساقَط على سلَّم الزحافة.
ثم اتجه مرةً أخرى إلى السيد. لم يَعُد الآن يخشى أن يُبيِّن له أنه كان في الزحافة. ولم يكن هذا الأمر هو أسوأ الأمور. وكان يَنوي، إذا سئل، وإذا سئل فقط ألا يُخفي أن الحوذي هو نفسه الذي دفعه على الأقل إلى فتح الزحافة. أما أسوأ الأُمور حقًّا فقد كان مُفاجأة السيد له بحيث لم يكن لديه وقت ليَختبئ منه حتى يستطيع أن ينتظر مقدم كلم دون أن يشوِّش عليه مُشوِّش، أو لعلَّه كان افتقاره إلى أنَّ البديهة الحاضرة التي كان من شأنها أن تُملي عليه أن يظلَّ في الزحافة ويقفل الباب ويَنتظِر جالسًا على فراء كلم حتى يأتي أو يَنتظِر طالما كان هذا السيد قريبًا. ولكنه لم يكن بطبيعة الحال يعلم مَن الذي سيأتي، فربما كان القادم هو كلم نفسه، وفي هذه الحالة، كان من الأفضل بطبيعة الحال أن يَستقبِله وهو خارج الزحافة. نعم، كان هناك أشياء كثيرة كان لا بد من تدبرها ولم يعد هناك الآن معنى لتدبرها، لأن كل شيء قد انتهى.
وقال السيد: تعالَ معي.
ولم يكن يتكلَّم بأسلوب الأمر، ولكن الأمر، وإن لم تنطوِ عليه الكلمات، كان في حركة من اليد. أتى بها صغيرة مستهترة مقصودة صاحب بها كلماته. وقال ك: إنني أنتظِر هنا شخصًا.
ولم يكن بذلك يعبِّر عن أمل في نجاح، بل عن مجرَّد مبدأ. وعاد السيد يقول مُصممًا تمام التصميم، وكأنما أراد أن يُبين أنه لم يَشكَّ قط في أن ك ينتظر أحدًا: تعالَ.
وقال ك بانتفاضة من جسمِه كله: إنني إذا ذهبتُ معك فلن أقابل مَن انتظرته.
وكان ك على الرغم من كل ما حدث يحسُّ بأن ما توصَّل إليه حتى الآن نوع من الاستحواذ لا يتمسك به إلا تمسكًا ظاهريًّا، ولكنه لا يفرط فيه بناءً على أمرٍ أيِّ أمر. وقال السيد بطريقة فيها تعبير صارم عن رأيه، وفيها في الوقت نفسه انصياع واضح لتفكير ك: إنك لن تُقابله على أيَّة حال سواء انتظرت أو انصرفت.
فقال ك عنيدًا، فما كان بكلِّ تأكيد ليرضى بأن تصرُّفه من هنا مجرَّد كلمات نطق بها هذا الشاب: إذن فأنا أُفضِّل ألا أقابله بعد أن أكون قد انتظرته.
وهنا أغلق السيد عينَيه هنيهة مائلًا برأسه إلى الخلف على نحوٍ مُترفع، وكأنما أراد أن يعود من غباء ك إلى عقله هو، ومر بطرف لسانه على شفتيه وكان فمه مفتوحًا قليلًا، ثم قال للحوذي: فكَّ الحصانين.
واضطرَّ الحوذي، مطيعًا للسيد، ناظرًا إلى ك من جانبٍ نظرة غاضبة، إلى أن ينزل برغم الفراء الذي كان يلبسه، وشرع، في تردُّد شديد — وكأنما كان يَنتظِر لا أن يُصدر السيد أمرًا مضادًّا، بل أن يُغير ك فكره — يقود الحصانَين بالزحافة إلى الخلف قريبًا من الجناح الجانبي الذي كان يَبدُو أن الإسطبل مُتَّخذ فيه وراء بوابة كبيرة. ورأى ك نفسه يبقى بمفرده، كانت الزحافة تبتعد من ناحية، ومن الناحية الأخرى كان السيد الشاب يبتعد سالكًا الطريق الذي كان ك قد أتى منه، وكان الاثنان يتحركان ببطء شديد، وكأنما كانا يريدان أن يَبينا ﻟ ك أنه ما زال يَحتكِم على سُلطة استرجاعهما.
وربما كانت له هذه السُّلطة. ولكنها لم تكن لتُفيده بشيء. إن استعادة الزحَّافة تعني أن يطرد نفسه بنفسِه من هنا. وهكذا بقي وحده ساكنًا، الوحيد الذي تمسَّك بالموقع، ولكن النصر الذي حقَّقه كان نصرًا لا فرح فيه. أخذ يَنقُل بصره بين السيد والحوذي على التوالي. كان السيد قد بلغ الباب الذي كان ك قد ولج إلى الفناء من خلاله، ونظر السيد خلفه مرةً أخرى، وظنَّ ك أنه رآه يهز رأسه من فرط العناد ثم التفت إلى الناحية الأخرى بحركة قصيرة حاسمة تَنطوي على التصميم واتجه إلى المدخل واختفى فيه. أما الحُوذي فقد بقيَ مدَّة أطول في الفناء؛ لأنَّ الزحافة كانت تتطلَّب الكثير من العمل، وكان عليه أن يفتح بوابة الإسطبل الثقيلة، وأن يُعيد الزحافة إلى مكانها سائرًا بها إلى الخلف، ثمَّ كان عليه أن يفكَّ الحصانَين وأن يسوقهما إلى الزريبة، وكان الحُوذي يقوم بهذه الأعمال كلها جادًّا، عاكفًا على نفسه تمامًا، دون أن يُراوِدَه أمل في خروج قريب بالزحافة. وكانت حركات الحوذي الصامتة التي لم تصحبها نظرة إلى هذه الناحية أو إلى تلك تلوح ﻟ ك تأنيبًا أكثر عنفًا من تصرف السيد حياله. فلما انتهى الحوذي من عمله في الإسطبل، وسار في خط مُنحرف خلال الفناء، بخطوات بطيئة مترنحة، وأقفل البوابة الكبيرة، ثم عاد — وكان يُؤدِّي هذا كله ببطء شديد دون أن يرفع بصره عن آثار أقدامه في الجليد — ثم أقفل على نفسه باب الإسطبل وأطفأ كل الأنوار الكهربائية فلَم تُضِئ، ولم يبقَ من النور سوى ما انبعث من الشق في البهو الخشبي وكان لا يفتأ يشدُّ إليه النظرة الزائغة، بدا ﻟ ك كأنهم جميعًا قطَعُوا جميع الروابط بينهم وبينه، وكأنه أصبح الآن بطبيعة الحال أكثر حريةً من أيِّ وقتٍ مضى، وكأنه يستطيع أن ينتظر في هذا المكان — وهو المكان المحرَّم — كما يحلو له وكأنه كسب هذه الحرية على نحو لا يكاد يستطيعه آخر، وكأنه لا يوجد إنسانٌ يحقُّ له أن يمسَّه أو يطرده أو حتى أن يُكلمه. ولكنه كان مُقتنعًا اقتناعًا لا يقلُّ قوة بأنه ليس هناك في الوقت نفسه شيء أكثر سخفًا ويأسًا من هذه الحرية، من هذا الانتظار، من هذه الحرمة.