قفص الشعاع

بعد مائة سنة، أو خمسين، سيطبق تلميذ التاريخ كتابه ويقهقه، ثم يستعيد رصانته، ويتساءل بألم: «أكانت بلادنا من الجهل والضعف بحيث وجدت في الحركة القومية الاجتماعية شيئًا غريبًا؟»

ثم يتأمل رجاء أن يهتدي إلى سر بقاء هذا الحزب، وانتشاره وثبوته للصدمات وتغلبه عليها، ويبحر ليستقري سبب تهاوي غيره من المنظمات والهيئات والتشكيلات، ثم يعجب أن كيف يعقل، وكل هذه، كالحزب السوري القومي الاجتماعي، تعبئ قواها من خزان الأمة الواحد؛ فتندثر هي ويبقى هذا الحزب، لا ليركد بل ليثور ويتفولذ ويَقهر.

وقد يرتد دارس التاريخ إلى تحليل غير هذه الحركة من الحركات المنقذة في حياة سوانا من الأمم؛ فيكتشف أنها محاولة وثُوبٍ من هوة إلى قمة، ويلمس في جميعها العناصر الأساسية المشتركة الواحدة، ويجد في قادتها ومؤسسيها، كما يجد في أنطون سعادة الصفات الغلابة، التي تسم كل من بحق دُعي زعيمًا، ويجد في تلامذته من الصفات ما ميزت تلامذة سواه من أصحاب الدعوات. فيهم البطل، وفيهم الجاهل المهووس، وفيهم من سئم طول الطريق، وفيهم الخائن، وفيهم المرتد، وفيهم من يحاول أن يشرد ليتزعم فئة أخرى. ولكنه لن يكتشف — تلميذ التاريخ — واحدًا اعتنق عقيدة صاحب هذه الدعوة ولم تفعل في نفسه هذه الدعوة، فتسمها بطابع لا يمحى.

وسيجد تلميذ التاريخ أن جموع هؤلاء التلامذة هم أسمى أخلاقًا، وأرهف إحساسًا، وأشجع قلبًا، وأقل أنانية وفوضى منهم قبل أن يدخلوا هذه المدرسة، وسيجدهم فريقًا منظمًا، تسودهم روح الفريق لا جمهرة أشخاص، وسيتعلم إذ يواكبهم في طريق الصراع أن لا يستفهم عن عددهم ونسبته إلى عدد سائر المواطنين؛ فدارس التاريخ لا يطول به الأمر حتى يفقه أن العدد هو ضعف سلبي إن كان خلايا ميتة، ولا يصبح العدد من عناصر القوة حتى يكون كهارب حياة، اذكروا فلسطين.

فأحزاب بلادنا، إن استثنيت منها الحزب الشيوعي ساقت عددًا من المواطنين، وأكثرهم مخلصون بانفعالية مستعجلة نحو أهداف قريبة ومطالب ملحة، فتراكضوا وتفرقوا؛ ذلك لأن هذه الأحزاب — بقطع النظر عن خطأ حوافز بعضها، وجهل قادة البعض، وخداع متزعمي البعض — أُهْمِلتْ؛ لاستعجالها ترويض أفرادها قبل أن أدخلتهم في السباق. فالحزب السوري القومي الاجتماعي ثبت في الميدان؛ لأن أفراده مروضون، ولأنه في جوهره حركة تربوية ثقافية، تفعل في الذات أولًا قبل أن تحاول الذات أن تفعل فيما عداها؛ لذلك أبطأت انتصاراتها، وإن لم يكن لسعادة مؤسسها، من فضل يخلده، لكفاه أنه لم يخدع نفسه؛ فلم يرتضِ بنصر قريب فرعي عن النصر الكبير الشامل، والقرائن في كل يوم تتوفر على أنه كان موقنًا في نفسه على أنه سيكون وقود مرجل الحركة، فجاء موته شرطًا لانتصار قضيته.

وليس أدل على أن هذه الحركة الثقافية، قد روضت نفوس معتنقيها، وتوجهت تستهوي فضائلهم — ومن أبرز الفضائل المثابرة والاستمرار — من الظاهرة التي تثبت أن فاعلية الحزب هي على أشدها في الأزمات؛ فالتبرعات لا تكون ضخمة، والتضحيات لا تكون كُبْرَى، ولا التوتر النفسي على ذروته إلا حين يواجه الحزب، كما هو يواجه اليوم، محنة كبرى. فلو أن الحزب طغت عليه الملعنة المشرقية — ما شاع أنه ذكاء وسياسة — لانهزم أعضاؤه إلى ملاجئ التستر والحيل، وجنحوا عن القتال العلني في ساحات التحدي.

وهذه الحركة — ككل حركة سواها — تشكو وتنعم، وتضعف وتقوى بأن بين المبشر بها وتلامذته هذا الأوقيانوس الواسع من الفرق في عمق الإيمان، واتساع آفاق النظرة الشاملة، والمناقبية، والثقافة؛ فقوتها أن دستورها، وأقوال زعيمها هي المرجع الذي يضبط ويحفز، وضعفها أنها ما انبثقت من ذاتية جنودها؛ فأمست في خطر عبودية التقليد، والتردد والاتكالية، على ما قال معلمها وفعل وارتأى. ولكن من الواضح أنها نجت من هذا الخطر، ومن خطر تعبد البطولة، وتجاوزت بنجاح أدق مراحلها؛ إذ إنها بعد مصرع زعيمها، وخلال نقاهة من جراح خالها المجرمون مميتة، لملمت قواها وانبثقت فيها، فيما كانت تستشفي، قوة الإبداع متجسدة في كلمة خطابية أُلقيت، أو عبارة نثرية كتبت، أو أغنية من قصيدة نظمت، أو لحن جديد أنشد؛ فتقلصت آفاق أبعدت بين المعلم والتلميذ وضاق ذلك الأوقيانوس؛ ففي مجال البطولة الجسدية مثلًا، وهو أقصر أشواط الحياة وأصعبها، تساوى بعض التلامذة بمعلمهم؛ هكذا نرى أن الإيمان بنجاح هذه الحركة ليس مصدره طبيعة التفاؤل، بل إنه حقيقة، يراها كل من راقب زحف الصفوف جبهة متحدة نحو الأفق، الذي يبدو في كل يوم أقرب فأقرب.

كنت ذات يوم أتنزه وصديقي الدكتور فؤاد صروف ونحن نتحدث، وفجأة وقف صروف وبلهجة فيها هلع، وبقلق من يطلب تأكيدًا من صديق، يعكس ما به هو مقتنع، باح لي: «إنني أشعر بخيبة في الحياة؛ لأنني لم أبدع شيئًا؛ فأنا لم أنظم قصيدة، ولا خلقت قصة، وما اخترعت آلة.»

أجبت، وما كنت أحاول التعزية ولا الموعظة المِنْفَوقيَّة:

«إنك لم تستنبط شيئًا، وقد لا تكون مواهبك قمة أو قممًا، غير أن في مجموعة كفاءاتك، وقد لا تبدو غير عادية، ما يجب أن يطمئنك إلى أنها بَنَتْ لك عشًّا في السقف.»

في مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي وضوح وبساطة، ورتابة تستهوي الرجل العادي مثلي، الذي ليس له ولع بالنظريات والآراء المعقدة، والذي يرى أن ليس لبلاده أن تنغمس اليوم في هذا الترف العقلي، والذي كل همه أن يصح ويتوفر تطبيق هذه المبادئ حتى تمسي فعالية في الحياة، وجهاز نهضة تحررية. وفي هذه الجمهرة من المبادئ، وهي في ظاهرها عادية عظمةٌ، غير أن فيها كذلك من العمق، والفلسفة، وعلوم السياسة، والاقتصاد، والاجتماع ما يتحدى المفتونين بهذه المواضيع، ولكن هؤلاء المفتونين هم بعض نكبات أمتنا؛ إذ إنهم يختارون من نظريات العقيدة القومية الاجتماعية أهدافًا، يصوِّبون إليها مدفعية الكلام، ويتخذون من سفسطات المنطق ذريعة لتخلفهم عن موكب الحياة الفاعلة. «إنا فوق الأحزاب»، وإن بلادنا وهي على ما هي عليه من الضعف تقول لمن ليس هو في حزب «ما أنت فوق الأحزاب — تحتها بكيلو مترات».

•••

تاريخ هذه الحركة ما كُتِبَ ولن يكتب، قد يُدَوِّنُ البعض أحداثها وحوادثها، ولكن هذه الحركة تزوبع في صميم نفس المواطن؛ فيأتي تفاعلها بقدر عدد معتنقيها وأمزجتهم وأجهزتهم العقلية والجسدية والروحية، ويتجسد هذا التفاعل بمليون أثر وصورة وانفعال وعمل. فكيف لأيٍّ أن يسجل هذا أو يرويه. وإن اعتبرت كيف تحدت هذه القوة، بالإقناع والتبشير، تحجرنا وضعفنا وخوفنا، وأوهامنا سلبًا وإيجابًا، هدمًا وبناءً؛ تحققت أن المواطن حين ينضم إلى هذه الحركة يجترح عجيبة.

الصفحات التي تقرأ تدوِّن بطريقة عابرة تجاوب نفسي بعد أن تجندت، وإني لأشعر أنني أجني على الحقيقة؛ إذ أدون ما فعل الإيمان في نفسي، إذ أقفص هذا التجاوب بين دفتي كتاب أو ألف كتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤