أمام الحزب سبع سنوات لينتصر أو يتلاشى

حين رجعت إلى بيروت في نيسان ١٩٤٨ كان بين الأحلام التي حققتها الحياة اجتماعي برفيق في الدراسة، كان ولا يزال من أحب الناس إليَّ، وكنت كأي مغترب عائد هدفًا لنصائح يتطوع بإسدائها كل زائر، غير أن هذا الصديق كانت لكلماته نبرة الود الأصيل، وفيها اختبارات الحياة، قال لي: «البلاد ليست كما تركتها، وأنت عائد من جهنم حرب، اسمع مني وتعالَ نقضي سائر الحياة مفتشين عن أحسن مقهى وأفخم مطعم وأطيب أركيلة وأجمل امرأة، تعال نضرب هذه الدنيا بصرمة.» أجبت: «إن فعلنا كل ذلك ألا تكون الدنيا قد ضربتنا بصرمة؟»

هذا الصديق أجتمع إليه مرات متقطعة، نعيش خلالها في واحة من الود الطاهر والأخوة الصحيحة، غير أني في الشهرين الأخيرين لم أجتمع إليه، وقد تلفن إليَّ مساء يقول: إنه قادم لزيارتي، فسألته ألا يفعل؛ إذ إنه في تلك الليلة وفي الليلة التي سبقتها حدثت حول بيتي حوادث عدة، منها: القبض على جاسوس للمكتب الثاني كان يراقب بيتي، ومنها أن «جيب» وفيه بعض رجال المكتب الثاني، كان يدور حول بيتي ويقف بالقرب منه؛ فيستفهم السائق عن محلات الآ. ب. ث. مثلًا، ومن هذه الحوادث أن بعض قوى الأمن طاردت شيوعيين كانوا تحت إشراف الأستاذ حسيب نمر مرابطين حول بيتي، وتأتي أنباء المعذبين في دمشق، فإذا بالبرابرة يسألون الكثير عن سعيد تقي الدين وعن بيته والتحصينات التي فيه والحرس المرابط حوله وعن المختبئين في البيت.

أسائل نفسي ما الذي فعلت حتى أستحق كل هذا التكريم؟ ولا أستعمل لفظة «التكريم» بروح العبث أو السخرية أو الدعابة، لقد اجتمعت مؤخرًا بمسئول كبير في هذه الدولة، فقال لي في معرض النصح: «كل الناس أصدقاؤك، كلهم يودونك ويحترمونك. لماذا لا تنسحب من الحزب السوري القومي الاجتماعي، فترجع صديقًا للجميع؟ إن انسحبت أنت من الحزب، فما الذي يبقى فيه؟» هذا السؤال هو الذي كان يعذبني كثيرًا، فإني كثيرًا ما أحاسب نفسي أن كتاباتي ضخمت شأني في الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأن مساهمتي لا تستحق هذا التكريم لا من الرفقاء ولا من الأعداء. الحزب هو يوسف قائد بيه، وخليل الطويل خلف قضبان السجن، الحزب هو ناظر التدريب في منفذية، النبي عثمان يترك بستانه وينطلق في جرود بعلبك مبشرًا، الحزب هو خالدة صالح الفتاة الأديبة تتطوع للمخاطر، الحزب هو «أدونيس» الشاعر تتلوى نفسه من الظلمات، الحزب هو ألف «جميل عريان» يتطوع بمهمة تنتهي به للتعذيب أو للموت، أما الذين تضج بهم الصحف، فهم أقل من في الحزب أهمية، لو أن هذا الحزب كان كتابة وخطابة وفصاحة وبيانًا، لكان انتهى أمره من زمن بعيد؛ إذن وقوة الحزب هي غير منظورة وغير ملحوظة وغير ضجاجة، فما هي بعض مواطن الضعف فيه؟ في اللغة الفرنجية لفظة: Atavism لا أدري إن كانوا قد نقلوها إلى العربية بلفظة تؤدي المعنى، لعل أقرب الإصلاحات لترجمتها هي: «الردة الوراثية»، وهي التي تظهر بالوليد مزايا من: جسدية ونفسية ترجع إلى جد بعيد بعيد.
في صفوف الحزب القومي الاجتماعي بين أعضائه تظهر هذه الردة، هذه اﻟ Atavism في كثير من الحالات؛ لأن الحركة القومية الاجتماعية نهضة تربوية، تثقف المواطن بما كان يجب على المدرسة وعلى البيت وعلى الأبوين أن يثقفوه بها؛ فهذه التربية وقد جاءت أعضاء الحزب على «كبر»، وابتنت على غير أساس متين بنته العائلة أو المدرسة، هي أبدًا معرضة لردات في النفس إلى مفاسد وضعف سيطر على هذه النفس قبل اعتناقها القومية الاجتماعية. في صفوف الحزب وبين أعضاء معنيين كثير من الوشوشة والثرثرة، من تحليل لحوادث ١٩٤٩ أجد أن أكثر الخيانات التي سرى أمرها بين الناس هي غير صحيحة سببها الوشوشة والثرثرة. لقد كان في الحزب خونة، ولكن عددهم كان أقل بكثير مما ينتظر في مؤسسة كذا عدد أعضائها. للحزب شهرة بالنظامية، ولكنني أعتقد أن الإيمان في الأعضاء هو أشد من نظاميتهم، هو هتفة في النفس لا تحتاج إلى ترويض، والنظام هو تدريب أكثر منه عاطفة. منذ أسبوعين دخل عليَّ في البيت أحد الأعضاء، وتاريخه الحزبي ناصع مشرق فوجدني، كما يجدني كل زوار بيتي في الصيف، مرتديًا القميص والكلسون؛ فاغتاظ وظن أن استقبالي له في هذه الحالة تحقير له؛ ذلك لأن هذا الرفيق نشأ كما نشأنا جميعًا على أن إظهار بعض أجزاء الجسد هو «عيب»؛ لذلك نحن نقول: «رجلي، أنت أكبر قدر»، ونحن لو فقهنا لعرفنا أن القدم، كالأذن وكالقلب والعين، لا تستحق التحقير.

فبعض مواطن الضعف في الحركة القومية الاجتماعية هي هذه الردة إلى خلايا في النفس، محتها هذه النهضة أو خلايا في النفس، تبعث في النفس بعض أو كل ما نشرته في النفس القومية الاجتماعية من فضائل. كانوا في ما مضى يغنون: «نعبد في الدنيا ربَّيْن — الله وأنطون سعادة»؛ ذلك لأن المقبلين على حركة أرادت أن تحررهم من عبودية شخص ثارت فيها الردة، فأرادت أن تعبد شخصًا آخر، هذه الأغنية بحث المسئولون في الانقطاع عنها بأمر حزبي، ولكن هذه الأغنية خرست إلى الأبد بفضل التربية، التي فعلت في نفوس القوميين ومن غير أمر.

هذه الردة ستظهر في المحاكمات التي ستجري في دمشق؛ فإن أكثر القوميين أظهروا جرأة وشجاعة وبطولة، ولكننا نترقب أن يكون بينهم في يوم المحاكمات من تثور في نفسه الردة — خلايا الضعف والفساد — التي خدرتها النهضة. بين الأمين معروف صعب وبين رئيس الحزب عداء أسبابه كثيرة، منها: أن جورج عبد المسيح قوي الجسد قوي الروح مقاتل، ومنها أن جورج عبد المسيح شديد القساوة في مقاييسه الحزبية، ومنها ذلك الطبع الإنساني الذي يبغض التفوق خصوصًا حين يتضح قوة جسدية، بسبب كل هذا كان الأمين معروف صعب قيد المحاكمة الحزبية، وكان عداؤه لرئيس الحزب جورج عبد المسيح سافرًا، ولن يكون متحجبًا في يوم المحاكمة.

يقول بعض علماء الاجتماع: إن كل نهضة لا تنتصر في الثلاثين سنة الأولى من حياتها تفنى وتتلاشى. والنهضة القومية الاجتماعية عمرها ثلاث وعشرون سنة. الملاحظات الاجتماعية ليست لها دقة العلم، على أننا لو سلمنا بهذه النظرية؛ فأمام الحزب السوري القومي الاجتماعي سبع سنوات ليحقق فيه النصر أو يتلاشى، برغم كل مواطن الضعف التي أوردناها، وبرغم الردة التي شرحناها؛ ففي يقيني أن هذه السنوات السبع المقبلة ستسجل النصر، وأكبر الظن أن لن يأتي في سبع سنوات، بل في سبعة شهور، وأنني أستمر في نشاطي؛ لأن خلايا نفسي لن تخضع للردة، فلن أفتش عن أطيب أركيلة وأفخم مطعم وأجمل امرأة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤